في مطالعة عامة لما كتب عن الرواية العراقية نقرأ أنها رواية لها خصائصها التي تميزها عن عموم الرواية العربية والعالمية رغم التحول الذي حدث لها بعد عام (2003) وانتقالها الى مرحلة جديدة اختلف النقاد في تسميتها وتصنيفها لكن يمكن أن نؤشر أنها كتبت بأقلام أصبحت تتمتع بحرية واسعة في التعبير عن نفسها وبيئتها … ومما يؤشر أيضا أن الكاتب الروائي العراقي هو ابن بيئته وشديد الالتصاق بها ومخلص لتفاصيلها وشخوصها وان اختلف الاسلوب الذي يكتب به روايته ومن نماذجها (فرانكشتاين في بغداد…لاحمد سعداوي .. وتوما هوك .. لصالح خلفاوي.. ووهن الحكايات…لاحمد ابراهيم السعد) وغيرها من النماذج التي تتميز كل منها باسلوبها الخاص لكنه يبقى الروائي العراقي حريص على تقديم صور ومفردات شديدة الواقعية وتكاد لاتخلو من( اللهجة العامية ) .. فنجد في الرواية العراقية انزياحية لا ارادية نحو الواقعية التي يمكن وصفها أحيانا بالمتزمتة لخصوصيتها فالعراقي بطبعه متعلق بالعراق بشكل عجيب حتى وان ولد في بلاد أخرى .
ومن هؤلاء الكتاب الكاتب احمد ابراهيم السعد صاحب رواية (وهن الحكايات) المطبوعة في عام 2014 الذي كان أكثر تعبيرا عن شخصية الروائي العراقي الذي أوجدها في روايته ليكشف لنا عن طبيعتها ومقدار تأثرها بما يدور حوله ووصف الحالات التي يمر بها لينتج لنا رواية عراقية تنال جوائز في مسابقات مختلفة ومهمة .
وفي استعراض لرواية (وهن الحكايات )
(لم أصدق أن روايتي تقودني ولا أقودها .. أقودها الى الكذب بخيالي وتقودني الى الصدق بحقيقته القاسية ) ص282
هذا ماكتبه المؤلف في السطور الأخيرة التي ختم بها روايته على لسان شخصية كاتب الرواية التي هي شخصيته ربما. وهو بذلك أجاب عن تساؤلات الدهشة التي تعتري القاريء وهو يتابع أكثر من حكاية داخل الرواية والتي ربطها الكاتب بخيوط خفية لاتلبث أن تظهر بسياقها وهويتنقل من حكاية الى أخرى وبمهارة تجعل القاريء يلهث وراءه يلاحق أحداثها ،لا ليصل الى معرفة النهاية كالعادة بل ليتعرف على تفاصيل أكثر عن شخصياته الغريبة رغم واقعيتها الشديدة فأن من عاش تلك الفتره الزمنية في حياة هذه الشخصيات يدرك تماما مقدار ضآلة الخيال فيها وانا منهم.. مع ذلك كنت اصاب بالصدمة من هول ما تعرضت له هذه الشخصيات في حياتها . لقد كان الكاتب يمسك بيد قارئ الرواية ويسحبه معه بقوة في متاهه التقصي عن حقائق جديدة ربما تبدو خيالية لمن لم يعش هذه الفترة الزمنية التي مر بها العراق وجارته ايران منذ اواخر السبعينيات وما بعدها فقد حفظ لنا الكاتب ارشيفا مهما لأحداث تلك الفترة يمكن الرجوع اليه من قبل اجيالنا القادمة .
لقد كشف لنا حكاياته التي وصفها بالوهن أو ربما قصد ما تركته هذه الحكايات من وهن على كاتبها أو قارئها فيما بعد وهذا ما سيحدث فعلا فاللاهث ورائها لابد ان يصاب بالوهن فهو يتنقل بين حكاية وأخرى منفصله لكنها تعود لتترابط بخيوط الغرابة واللامعقولية أحيانا حتى تبدو خيالا صنعه الكاتب وربما الحياة نفسها.
ان الأسلوب الذي اعتمده الكاتب في كتابه روايته على شكل حكايات ربما سببه أنها الرواية الأولى التي يكتبها بعد عده مجموعات قصصيه سابقه له وضع خبرته فيها في نسج رواية (وهن الحكايات) ( أصبح لكل منا حكاية.. لكن القارئ سيقرأ كل حكاياتنا, وأنا الكاتب معني بذلك الجمع حتى تصبح روايتي مقنعه) ص287 وهو ليس أسلوبا غريبا في كتابة الرواية حيث اعتمد في الكثير من الروايات المعروفة. .
تتابع الأحداث وتنوعها لم يترك مجالاَ للكاتب ليستغرق في الوصف النثري لشخصياته والمشاعر التي تنتابها لكنه في نفس الوقت لم يهمله تماما بل جاء محددا مبهرا ببساطته واحساسه العالي وقربه من القارئ بمختلف مستوياته ,لم يكن يحمل من الفلسفة المعقدة بل كانت فلسفته بسيطة وعميقة كشخصياته تماما (يخال لي أحيانا بأنه ينظر لي عبر المرآة بعينيه الناعستين الكحيلتين.. يبتسم فأبتسم له .. رحت أتحكم بطبيعة نظرته حسب احتياجي لها.. عندما أكون حزينة أراه يحدق بي بنظرة الترقب الودودة الحانية , وفي أوقات فرحي النادرة تتسع ابتسامته ويعرض جبينه وتتورد خداه حتى كدت اسمع صوته داخل روحي يقول أنتِ جميلة جدا) هذا حوارداخلي لشخصية أم حسن وهي تنظرلصورة على حائط غرفتها .. أم حسن أنموذج للمرأة المظلومة منذ تكون نطفتها في رحم أمها التي تملكها الخوف الشديد من أن تكون أنثى حتى نهايتها الدراماتيكية في حضن تمثال لولدها المغدور.. وبين النطفة والنهاية أحداث مرعبة لن يتحملها مخلوق الا اذا خلق من طينه خاصة.
اما شخصية هديل فهي نتاج الحرب العراقية الايرانية التي تركتها بساق واحدة اثر قذيفة على منزلها والانفتاح الفكري والثقافي الذي اتسمت به تلك الفترة ما قبل وأثناء الحرب والذي كان يتناقض مع العادات والتقاليد فكانت بين مطرقة وسندان أثمرت عن طفل جاء من علاقة غير شرعية مع الصحفي علاء الذي هجرها وغادر البلاد ليتركها تواجه مصيرها وحيدة .. هذا الصحفي كان رمزا لطبيعة الصحافة التي تميزت بها تلك الفترة .
أما حسن أبن أم حسن الشخصية الميتة التي تعيش في جمجمته التي عادت بها أمه الى بيتها لتطلب من نحات فيما بعد أن يصنع منها تمثالا يشبه ابنها حسن، جعلها الكاتب تسرد الحكاية ما بعد الموت.. صانع التمثال وخلوقي ونساءه وغيرهم . رواية ازدحمت بلا ضجيج بشخصيات متنوعة حملت صفات مختلفة لكنها في بيئة تكاد تكون واحدة تنحصر في جنوب ايران والعراق وهي بيئة الكاتب نفسه التي استوحى منها تفاصيل روايته الدقيقة تبتسم أحيانا وانت تقرأ ما عشته وعرفته منها في حياتك.
أما شخصية الكاتب وهو صاحب الرواية وأظنه حشر نفسه ضمن شخصيات روايته لشعوره بالقلق الشديد وربما رعب كتابة الرواية وهل ستحظى بالنجاح والقبول أو الفشل . زوجته التي تتمنى أن يتوقف عن كتابة الرواية ليلتفت لها ولمتطلبات حياته العائلية . والده الميت الذي يظهر في حلمه المسرحي (دخل أبي الغرفة ورمقني بنظره احتقار) ص278 (أشعرني حلمي المسرحي بكراهية عجيبة اتجاه شخوص روايتي )ص279.
ربما كان يحاول أن يبرر للقارئ شخوص وأحداث روايته وأسلوب كتابته .ان هذا القلق والرعب لم يكن الا مصدر للابداع لانجاز رواية استحقت أخيرا أن تنال جائزة الدولة للرواية..رغم أنها كانت روايته الأولى.
ولابد أخيراً من الإشارة إلى أمر مهم جداً وهو انسانية الكاتب رغم تمتعه بكل هذه الخصوصية العراقية فهو وريث حضارة كانت للإنسانية جميعاً. .
لقد حملت الرواية بين ثناياها هاجساً مهماً لايمكن اهماله وهو العلاقة الانسانية التي ربطت بين شخوص الرواية الإيرانية والعراقية رغم حرب الثمان سنوات وبشاعتها وابتعاد الكاتب عن التعصب القومي والانحياز لجهة على حساب أخرى وتناول الأحداث كما هي دون الدس لأي أفكار تثير الحنق أو الحقد ولم يتخذ موقفاً منها بل ترك للقاريء التعامل معها وفق منظوره وزاويته التي يرى منها. . لقد كان موفقا في تجريد قلمه من المواقف المؤدلجة على حساب الانسانية. .
—