حسين السنيد :
توافد عديد من العلماء والاساتذة والاكاديميين والصحافيين والاعلاميين الى قاعة الاجتماعات المركزية في فندق فخم وسط المدينة .
دنت الساعة العاشرة صباحا وكان الحضور شبه مكتملا , و الكل جلسوا في الاماكن المخصصة لهم , حول طاولة كبيرة مستديرة الاطراف , احتل علماء الارض والتربة والفلك المقاعد الامامية ,و جلسوا في الخلف الصحافيين و اعضاء المنظمات المهتمة بالبيئة و الفضاء . و كانت الحيرة بادية على الوجوه , البعض منهم اكتفى بالجلوس و قراءة ورقة اوالكتابة , وآخرون اندمجوا في نقاشات عميقة حتى على صوتهم عن حده الطبيعي .
- نفتتح الندوة المتخصصة ببحث بعض الحالات الغير مألوفة في البيئة , وبحضور عدد من العلماء والاساتذة .
افتتحت الندوة , عريفة الحفل وهي تقف خلف المنصة , مرتدية فستانا نيليا باكمام قصيرة .
- سنناقش في الجزء الاول من الندوة , ظهور قوس قزح عملاق , امتد من العاصمة الشمالية الى العاصمة الجنوبية , لثوان معدودة.و يذكر ان لاول مرة في التاريخ يسجل ظهور قوس قزح بهذا الحجم ,حيث امتد من بلد الى آخر.
غط الحضار في ذهول عجيب حين ظهرت على شاشة عملاقة, صور عالية الدقة لقوس قزح عملاق امتد لمئات الكيلومترات .
- و يكون موضوع الجزء الثاني من الندوة مخصصا لبحث اسباب الانطفاء المفاجئ للبركان العظيم , الذي بقى مشتعلا لمئات السنين و يذكر ان هذه المرة اضطرت لجان الطوارئ الى افراغ القرى المجاورة للبركان من اهاليها , ولكنه انطفئ فجأة و كل الصور الجوية والفحوصات الجيولوجية تشير الى عدم وجود اي حرارة في جوف البركان مما يدل على انطفاءه بشكل تام.
بدأ الكلام رئيس مركز البحوث تغييرات الطقس :
- دراساتنا تشير الى وجود كتلة هوائية كبيرة غطت المسافة بين العاصمتين , في المسافة نفسها التي ظهر فيها قوس قزح عملاق , ولكنها كانت عالية جدا , ونرجح انها كانت سبب ظهوره .
قاطعته استاذة جامعية ,سبق وان عملت معه في لجان علمية مختلفة , والتي كانت ترى نفسها اكثر ذكاء منه ..
- كيف يمكن لكتلة هوائية عالية جدا ان تؤثر هكذا ؟ نسبة الرطوبة التي سجلت في لحظة ظهور القوس كانت ضئيلة جدا , مما يبطل كل النظريات التي تتكلم عن وجود كتلة هوائية عابرة .
نظر رئيس مركز بحوث تغييرات الطقس من خلف نظارته الرفيعة الى الاستاذة الجامعية و شعر بنوع من الحرج .
تكلمت دكتورة ,في الثلاثينيات من عمرها و كانت رفعت شعرها الذهبي عاليا حتى ظهرت رقبتها المنحوتة من المرمر الابيض , عن بعض الاحتماليات بتاثير اشعة الشمس في ذلك اليوم و تأثير دخان الطائرات و الصورايخ والبارود على الفضاء ,اذ كانت العاصمتان في حالة حرب منذ سنتين تقريبا , ورجحت ان زيادة نسبة المواد المنبعثة من الانفجارات في الفضاء قد تؤدي الى انكسارات ضوئية .
و كان يجلس بجنب الدكتورة ,احد الصحافيين ,ممثلا عن مجلة علمية مهمة , و كان يسترق النظرات الى التفاحتين الراجفتين خلف المشد الاسود , وسال لعابه شيئا فشئا حتى فاجأته عريفة الحفل بقرائة اسمه , وحين رفع رأسه رأى العيون كلها تبحلق فيه , فتلعثم و بلع ريقه بعدما شبع من التهام التفاح.
- لا تعليق لدي …
انتهى الجزء الاول بعدما تكلم المختصين و بعد تقديم الضيافة الصباحية و تناول الشاي والقهوة بكل انواعها و تدخين السكائر الفاخرة , تعارف الحضور فيمابينهم و تصافحوا و عرفوا عن عناوينهم الرسمية وقدموا بطاقاتهم التعريفية لبعضهم بعضا , ابتدأ الجزء الثاني المخصص لبحث اسباب الانطفاء المفاجئ للبركان العظيم.
- تشير نتائج فحوصاتنا للعينة المأخوذة من سفح البركان الى وجود نسبة رطوبة عالية جدا , مما يفسر سبب الانطفاء فالماء عدو النار كما تعلمون.
قالها بروفسور عث الشعر بلحية بيضاء .
رفع يده رئيس قسم الجيولوجيا في الجامعة و تقدم بهذا السؤال :
- كيف يمكن للتربة ان تكون رطبة و احصائيات الامطار تشير الى وجود انخفاض كبير في نسبة الامطار في المنطقة خلال العقد المنصرم و نسبة المياه الجوفية تكاد تكون صفر؟
- نحن نبحث الامر ولم نجد جوابا بعد ..
اجابه البروفسور , فيما ابتسم ابتسامة خبيثة رئيس قسم الجيولوجيا , بعد ان احرج استاذه السابق ,والذي كان لايحبه بسبب الدرجات الضعيفة الذي كان يحصل عليها في درسه.
و بعد ساعة من النقاشات وطرح الاراء في كل الجوانب والتي كانت غالبا ما تدحض بسؤال او معلومة او احصائية اخرى , اعلنت عريفة الحفل انتهاء الندوة و ان كل الافكار والآراء سترفع للجهات العلمية المختصة لبحثها . وانصرف الحضور لفترة الغداء الفاخرة و المزدانة بكل انواع المشويات و الرز والسلطات .
و بعدها راح الحضوريتسرب شيئا فشيئ, الى التقاط الصور التذكارية التي سينشرونها على مواقعهم الخاصة , و منهم من خرج و منهم من استأجر في نفس الفندق غرفة لساعة اخرى ,ليرتاح قليلا مع زميلته بعد ان انهكتهم الندوة المطولة و المليئة بالافكار العلمية الرائعة .
اما انا , فلم يكن لي حصة لا من الكلام , ولا من الغداء الفاخر , ولا من الاستراحات المؤقتة , فانا ليس عالما و لاباحثا مهما ولم اكن في قائمة المدعويين اصلا, فانا طالب جامعي بسيط ,استطاع ان يحشرني في الدقائق الاخيرة ,احد اصدقائي من العاملين في الفندق بعدما شهد اصراري الكبير عليه , فوجد لي مكانا قريبا من الباب , و اجلسني . توجهت نحو عريفة الحفل التي كانت تجمع كل الآراء و الافكار بشكل مكتوب , وقدمت لها ورقتي التي كتبتها على فور , على ظهر ورقة الترحيب وجدول اعمال الندوة . و انصرفت بهدوء .
المكان : العاصمة الشمالية / في يوم عادي من ايام الحرب مع العاصمة الجنوبية
3..2..1
– انطلاق ..
اصدر الامر الضابط المسؤول عن منصة اطلاق الصواريخ , فانطلق الصاروخ بثقل في بادئ الامر , وسط ثورة لدخان ابيض راح يملئ الفضاء حتى ابتلع الصاروخ نفسه لثوان عديدة , ثم صارت حركته اخف و كأنه يسبح في السماء بمهارة غواص متمرس . الان ارتفع كثيرا و لكن كان يمكن ان ترى شعلة النار المتوهجة اسفله , والتي كانت تلفح نارها الاحمر بوجه مطلق الصاروخ قبل ضحاياه . انحنى الصاروخ شيئا فشيئا مخلفا خلفه خطا ابيضا مقوسا في الافق .
وضعت الفتاة التي كانت اكملت للتو عامها السادس يدهاعلى زجاج النافذة , و مررت اصبعها على الخط المنحني البيض المرسوم في الافق والبادي من خلف الزجاج .
اغمضت عينها اليمنى و فتحت اليسرى اكثر .
- ما هذا الخط ماما ؟
رفعت الام رأسها و تأوهت بعمق ..
- انه قوس قزح يا امي
مررت الفتاة اصبعها على الزجاج ,
- قوس … قزح …قو …س …ق ….زح …واين الوانه ؟
مررت اصبعها مرات و مرات على الخط الابيض المنحني الذي تركه الصاروخ المنطلق نحو العاصمة الجنوبية , و لم تكن تلك الفتاة ,الفتاة الوحيدة التي سألت ذلك السؤال ,ولم تكن تلك الام ,الام الوحيدة التي اجابت بنفس الاجابة . بل الاف الاطفال سألو نفس السؤال , مستفسرين عن الخط المنحني الابيض الذي اخترق سماءهم .و الاف الاصابع الطفولية مررت على زجاج النوافذ او في الهواء الطلق ,في محاولة للوصول الى القوس او اقتفاء اثره . وسرعان ما طارت الاف الكفوف الطفولية ,رافعة اصبعها السبابة, محاولة الوصول لقوس قزح الابيض ..و تسابقت الكفوف الطائفة في السماء والسابحة نحو الهدف , و ما لبث ان غطى طابور من الاكف الطفولية الخط الابيض المنحني في الافق , رافعين اصابع السبابة نحو العاصمة الجنوبية .
المكان :العاصمة الجنوبية / في يوم اعتيادي من ايام الحرب مع العاصمة الشمالية
رفع الطفل ذو الاعوام الثمانية اصبعه نحو السماء , و كان يقف في باحة البيت , اغلق عينه اليمنى وابقى على اليسرى وهو يلمح الخط الابيض الذي ظهر فجأة في السماء , و كرة النار التي كانت ترسم الخط المنحني الابيض.
- ماما ..ماما ..انظري لقوس قزح الابيض .
هرعت الام نحو ابنها , نظرة واحدة للسماء كانت كافية لها , ان تحتضن ابنها و تهرع الى الملجأ .. و في الطريق ازدحم الطريق بالمئات من الاباء والامهات ,الحاملين فلذات اكبادهم و الراكضين نحو الملجأ .و كانت عيون الاطفال كلها تعانق الخط الابيض ,قوس قزحهم الابيض.
حين هز دوي الانفجار الملجأ .. و انحبست الانفاس في الصدور لدقائق. خرجت الام مرتجفة بوجه مصفر, حاملة ابنها الذي كان يبحث عن القوس قزح . و لمعت عيناه حين رأه , وكان مايزال يجلس على اكتاف السماء بثقل , فرفع اصبع السبابة و اغمض عينه اليسرى , مرر اصبعه على القوس قزح , و كان كل طفل يخرج محمولا بين يدي امه او ابيه ,يكرر نفس الحركة .
ارتفعت اكف الاطفال الخارجين من الملجأ , نحو القوس الابيض , بنفس الوتيرة , كسرب من الطيور المهاجرة . كل الاكف رافعة اصابع السبابة . و غطت اكف الاطفال كل القوس . و في الجانب الاخر كانت اكف اطفال العاصمة الشمالية تغطي النصف الاخر . و كانت على رأس اكف الاطفال من العاصمة الشمالية ,كف الفتاة ..و تقدم سرب اكف اطفال العاصمة الجنوبية كف الطفل , ولامست رؤوس اصابعهم على اعلى نقطة في القوس قزح بالضبط ..و مع تلامس رؤوس الاصابع ,تفجرت قشعريرة في كل الايادي وتولدت الوان حقيقية..و تسربت لكل الاكف ..الالاف منها , و صار القوس الابيض , قوس قزحا بالوان حقيقية ..
المكان : البركان العظيم في فورته النارية التي لم يشهد لها مثيل
فتحت عيونها الناعسة , وكانت لاول مرة تفتح عيونها منذ ولادتها , انسلت ببطئ من رحم امها الغيمة , و شعرت بنفسها تسقط بخفة وانتابها خوف من ان تفتح عيونها فورا , بل تمهلت . والان نظرت للاعلى فرأت امها الغيمة اصبحت بعيدة بعيدة , و بدت كقطعة قطن صغيرة تعانق الشمس , ولكن قبل عناقها الاخير , ولدت قطيرات صغيرات , آخر ما انتجها رحمها الخصب , و كانت متذمرة من ان المطر هو نتاج مخاضها الطويل ,ولكن اقلام الشعراء لم تكتب لها شيئا و كتبت كل مايمكن لقطرات المطر فقط.
نظرت للاسفل , فهال لها ما رأت , حوض كبير من الحمم البركانية الحمراء , والغاضبة , والتي كانت فاغرة فمها الكبير الاسود الممزوج بالاحمرار ,للاعلى .
رعشت القطرة .. نظرت مرة اخرى للاعلى ,فلم تجد امها الغيمة . وجدت نفسها وحيدة في مواجهة فوهة البركان العظيم .
شعرت القطرة بالعدم يقترب منها , فانها لن تصل للبركان ابدا , كانت في طريقها لمعانقة الموت وهي ماتزال وليدة جديدة , انه سوء الحظ , كان يمكن ان تنزل على ورقة وردة شفافة , او شجرة, او على نافذة فتاة عاشقة . او على نهر جار فتتولد ولادة جديدة على هيئة النهر ,كل هذه الامور التي حلمت بها قبل الولادة و حين كانت تنضج في رحم الغيمة .
كانت تهبط بسرعة هائلة و بدأ حجمها يصغر اثر الحرارة المنبعثة من البركان العظيم , حين واجهت قطرة اخرى في الطريق . كانت القطرة الاخرى في هدوء وراحة عجيبة , بسعادة قطرة تنزل مع الفجر , على غابة من اشجار السنديان.
نظرت القطرة الاولى باغتباط للقطرة الثانية , و تسرب شيئ من الراحة الى ذراتها التي كانت تتطاير شيئا فشيئ .
القطرتان اقتربتا من البركان , وصار حجمهما اصغر بكثير , و القطرة الثانية كانت تطلق ضحكتها المبهجة والساحرة دون انقطاع.
مدت القطرة الاولى ماتبقى منها للثانية , جذبتها بكل ما تبقى من قوة , والتقمت شفاه القطرة الثانية , انطبقت الشفاه على الشفاه , و استمر الجذب من القطرة الاولى فيما كانت الثانية تسلم نفسها ذرة ذرة .
التفتا القطرتان على نفسيهما , تلوتا , تعانقتا , رقصتا اجمل رقصة قطرية على سماء البركان العظيم. وكان صوت كصوت قبرة يملاء المكان بأسره.
نقلت وسائل الاعلام خبر انطفاء البركان العظيم بعد يوم .
ضحكت سكرتيرة اللجنة التي كانت تقرأ الآراء والدراسات المقدمة اثناء انعقاد الندوة , و قدمت كتابات كانت مكتوبة على ظهر ورقة برنامج الندوة الى رئيس اللجنة :
- اقرأ ما كتب لنا ؟؟ و نسي ان يدون اسمه
اخذ رئيس اللجنة والذي كان احد العلماء المعروفين ,الورقة . و صمت لدقائق فيما كان يقرأ ما كتب بدقة . و عند الانتهاء من القراءة اعاد قراءتها ثلاث مرات .
نزع نظارته السميكة المؤطرة باطار اسود, مسح يده على وجهه وبعدها شعل سيكارة.
قال بابتسامة :
- هناك اشياء ,ليس لها تفسير
—–