رحمن خضير عباس :
كل شيء يتراقص كحلم عابر في هذه المدينة التي تنقطع أنفاسك حتى تصل اليها. كأنها حجر مقذوف في التيه .
لماذا يتدفق عليها الغرباء والعابرون ، ومن تقطعت بهم السبل ؟
هي وجدة . مدينة الألف مسجد ، مسكونة بالغرابة والأضداد . فهي التي اوقفت المد الفرنسي الذي إجتاح جارتها الجزائر ، واصبحت مسمرة على وهج زناد النار دفاعا عن ( الخاوة) الذين كانوا يجعلونها ملاذا ضد الفرنسيين . تنام على رائحة العشب في سهل (أنكاد )الفسيح ، منذ اسسها زيري بن عطية ذات رجب قبل ألف عام ، كي يحمي ظهره من غزوات المناطق الشرقية للحواضر الممتدة من فاس حتى تلمسان ، تمّ ذلك في عمق الأزمان المتتالية بين المد والجزر في حروب بين قبائل يباغتها حد السيف كفيصل للتفاهم والجوار.
هذا ما حدثتني به آسية، التي دقت باب بيتي بغتةً ذات صباح خريفي موّشح بالمطر، مدعية أنها تبحث عن معارف لها وقدأخطأت العنوان ، ثم طلبت مني ماءأ لتشرب، مما جعلني أصرّ على دعوتها لدخول داري المتواضعة . كانت خطواتها غيرالمترددة تنبيء عن كونها ذات تجربة , تجاذبنا أطراف الحديث وشربنا قهوة بالحليب أعددتُها بشكل رديء ، مما أثار تعليقاتها الضاحكة . ومن تلك اللحظة اصبح ظلها يطل عليّ كل يوم.
آسية، أجابت عن سؤال ظل يراودني عن اصل تسمية المدينة .
” وجدوه هنا في هذه البقعة من العالم . سليمان الشماخ الذي دسّ السم لمولاي إدريس الأول الذي أسس إمارة مستقلة عن الحكم العباسي ..هرب الشماخ فاقتفى أثره المغاربة ووجدوه قرب هذه المدينة ، فقتلوه وظلوا يصرخون وجدوه .. وجدوه ..فسميت المدينة وجدهْ ”
تشاغلت مع نفسي وانا التقط ضباب الحكاية التي حملتني بعيدا في وهم اللحظة التي إنكسرت وتشظت كقدح من الزجاج .
كان يطل من النافذة وهو ينظر اليّ من شقتنا المطلة على منطقة البجاري في البصرة . إنه صديقي كاكا عبد الرحمن ، وهو يقرأ ديوان الأخضر ابن يوسف ( آه وجدَهُ…وجدَهُ)
هممت بصعود الدرج المتآكل وكأنني أقبض عليه متلبسا بالخطأ اللغوي !
– كاكا عبد الرحمن ( آه وجدة وليس وجدَهُ ).
ضحك بعد ان رشني بسلسلة من شتائمه الجميلة .الآن تذكرت كم كان الكاكا محقا وانا استمع الى شرح آسية.
قلت لها ذات يوم
” وآسيةُ الجميلةُ ..كحّلَ الأحداقَ منها الوجدُ والسهرُ ”
إبتسمت بكبرياء ، وقالت هل انت شاعر؟ قلت لا , هذا البيت لشاعرنا السياب . ومنذ تلك اللحظة أصبحتْ آسية مفتونة بشعر السياب، وهي ترهقني بإسماعها المزيد من أشعاره.
(زوج بغال) هي النقطة الحدودية ما بين الأخوة الذين وجدوا نفسهم أعداءا. نقطة خاوية لايتسرب عبرها الأ من ضاقت بهم أوطانهم , من عراقيين يبحثون عن سقف يؤيهم . بعد أنْ اصبح الوطن في قبضة الموت والدمار , أو تونسيين ، يتاجرون بالبضائع مابين الدول المغاربية المتجاورة والمقفلة المنافذ !
في زنقة فاس وجدت بيتا ، أجرته وحاولت تأثيثه . وبمرور الوقت أصبح بيتي دار إستراحة لهؤلاء العابرين ,اشعر بالسعادة حالما يطرق بابي احدهم نجتر حكايات الوطن وآلامه ، ثم نذوب في البحث عن الذات التي بدأت تتشظى في المنافي . نقرأ الشعر، ونتبادل اقداح الشاي . ومع مرور الوقت ، بت اشعر بحاجتي الماسة الى هؤلاء الذين اضاعوا وطنهم مثلي ، ومازالوا يهيمون للبحث عن ملاذ في هذه التخوم النائية، وكأنني أشم فيهم ملح الأرض التي غادرتها ذات يوم , أقتات بسموم ضياعهم .
أتيت وجدة مهزوما بمرارتي ،فقد وصلت اليها بعد ايام من السير في سيارة قديمة كادت أنْ تفقد القدرة على ايصالي الى هذه المدينة ألتي أتيتها مثقلا بالهم والغبن واليأس ، وانا ابحث عن مأوى في هذه الأصقاع النائية ، بعد أنْ ناصبني مدير مدرستي العداء ، فاوصى معارفه في وزارة التعليم بالرباط بان يقذفونني باقصى الشرق المغربي .
حالما دخلت وجدة ،حتى تهت في شوارعها ، تستفزني رائحة الغبار الطافحة بالعابرين والنسوة المتبرجات , بحثت عن مقهى كولومبو التي يرتادها المشارقة , كان دلالو العملة يجْرون خلفي في دراجاتهم الهوائية ، وبائعو الكيف يعرضون بضاعتهم بشكل مجازي . وانا غارق في ضجري , اهتديت الى المقهى ،أشار النادل الى شخص صامت يتكأ على الجدار، اخرجته من عوالمه وانا امد يدي إليه. قدم نفسه . ياسين من سوريا. سألته عن عراقيين يسكنون وجدة ، فدلني على هشام الذي فتح باب شقته الى النصف ، بعد أنْ حدق بنا نحن القادمَيْن من خلال العين السحرية التي تتوسط الباب . رحب بي بشكل بغيض لايخلو من تعالي , بعد انْ انسحب دليلي ياسين، وبقيت وحيدا مقابل هذا الشاب ذي النظارة الملونة التي تجعل وجهه أكثر تجهما , كانت رائحة الشقة زنخة من خلال روائح الطبخ . دعاني مضطرا الى اشراكه في تناول الطعام . كنت جائعا ، لذا قبلت بماعون المرق الذي قدمه لي , سألته وانا منهمك في إزدراد اللقمة .كم فخذاً في دجاجتك ؟ استنكر سؤالي ، وأجاب بشكل متجهم ، إثنان طبعا .
قلت ضاحكا وانا أحدق في ماعونه : أهي صدفة أن يجتمع فخذا الدجاجة في ماعونك ، وماعون ضيفك خاو الا من الأجنحة !
لم أتوقع بأنّ ملاحظتي الساخرة ستذيب كل التوتر الذي اعترى لقاءنا ، فقد إنفجر في ضحكة داعرة أزالت كل العلامات غير الودية التي قابلني بها . ومنذ تلك اللحظة اصبح يرافقني في كل وقت ، ويحكي لي بدون إنقطاع وبصراحة عن الحياة في وجدة عن المدارس والنساء والأسعار، كما تحدث لي عن توجسه من الأصدقاء الطارئين ، وأنا منهم ولكنه اعطاني ( حسن سلوك) نتيجة لملاحظتي عن دجاجته ذات الفخذين السمينين ، والتي تحولت الى نكتة يحكيها في جلساتنا الليلية وهو مستغرق في قهقهات غيرمستساغة . حدثني عن كل أسرار الشرقيين الذين يعيشون في هذه المدينة الحدودية ، عن آياد السوري الذي وجدته في المقهى ، والذي دلني على شقته
– إنه يعشق إمرأة تُدعى مليكة. ولكنه يعيش صراعا عنيفا مع ذاته وبقية السوريين العاملين في وجدة.
أساله . لماذا؟ . لكنه يهمل أسألتي لأنه منهمك في حكاياته التي لاتنقطع .
– لأنه أحب مليكة بوله لكنه لايستطيع تركها او الزواج منها، ويضيف وهو يتلفت كي لايسمعه أحد ،لقد إلتقطها في شارع الدعارة ولكنه سقط صريعا في حبها، تعلق بها كطفل ، متذرعا لها ان تترك الدعارة . كان وجهها الطفولي الذي يوحي بالبراءة قد وافقت على اقتراحه في أنْ تكون له فقط ، فقد وفر لها ما تبحث عنه من حب ومأوى ومال .
ومالمشكلة ؟ اسأله. أجاب هشام بصوت غير مسموع,إنه يعيش حالة بدائية تتغلغل فيه ، بين ماضيها الذي يطارده . والأنكى من ذلك انه سيعود الى بلده بعد انتهاء عقد عمله ، فلايستطيع البقاء معها ولايطيق تركها.
كنت ألهث وراء أحاديث هشام المملة احيانا والممتعة أحيانا أخرى ، وكنت أجد صعوبة في غربلة الساخر من الجاد في أحاديثه التي لاتنقطع .
ضقت ذرعا بمقهى كولومبو التي تجمعنا كل صباح، بالأحاديث المملة التي نلوكها كل يوم ونحن نعيش على حافة اوجاع الوطن . سئمت من بعض العابرين الذين عاشوا معي اياما وليال ، والذين يحمل البعض منهم كل أمراض الحنين والتشتت والضياع ,
مرة إعتكفت في بيتي وحيدا . قلت للجميع : أنا متعب واريد أنْ أخلو الى نفسي.
وضعت بضاعتي من الشاي الأسود الذي أرسله الأهل في المطبخ ، ووزعت الكتب التي لاأملك غيرها في المكتبة المصنوعة من القصب , نمت بعمق تلك الليلة ،بينما كنت افكر بالذهاب غدا الى المدرسة التي نقلت اليها ، والتي تُعَد بمثابة مكب للنفايات المدرسية ، فحينما يفشل التلاميذ في الحصول على معدل فانهم يتوجهون – بكل مهاراتهم في المشاغبة- الى هذه المدرسة . هذا ما همس البعض في أذني .قيل لي : ستواجهك أهوال من تلامذة لاهمّ لهم سوى العنف والمشاكسة ،فقبلت التحدي . ولم يكن لدي سوى أن أواجههم بشراسة مماثلة على قاعدة ” عالج البرد بأدواته”ورغم شحة الوسيلة فقد إستطعت أنْ أصد استهتار البعض منهم بواسطة إغراقهم بحوارات ساخنة عن الحياة والشعر والفقر والحرمان والقسوة ، فلانت شكيمتهم وتحولوا الى أصدقاء .
مرة كنت مستغرقا في شرح الدرس, جاء الحارس العام وهمس في أذني : قريب لك جاء من ( البلاد) . حالما انتهيت من إنجاز الدرس فذهبت الى غرفة المدرسين ، متلهفا لمعرفة القريب ولكني فوجئت بوجه ، يتفرس فيّ ، ثم عانقني . وحينما كنا في طريقنا الى بيتي، قال انا فلسطيني عينت في جامعة وجدة كأستاذ، ومحتاج لبعض المال ريثما أستلم مرتبي بعد عدة أيام،ومع أني كنت متوجسا من صدق قصته ولكنني سحبت له من البنك ما يكفيني شهرا، ووعدني ان يزورني غدا ، ولكنه اختفى الى الأبد وأختفت معه نقودي.علمت بعد حين انه نصاب يتقصى أخبار العراقيين ويوهمهم بحاجاته الماسة الى المال.
وجدة مسلك للعابرين ، تغفو وتستيقظ على وقع أقدامهم ،حالما يتسلل شعاع الشمس على سقوف مساجدها حتى تبدا بالضجيج ،وكأنها تعلن عن نفسها وهي تتوسط سهوب (أنكاد ) الطافحة بالشجر . لايفصل بينها وبين البحر المتوسط سوى مرتفع الكربوز الئي يحرمها من عليل هواء البحر .
تتداخل اسواقها وتلتف على بعضها ، فتضيق أحيانا وتتسع أحيانا أخرى. التماع محلات الذهب والنقرة ، وباعة القطيفة والملابس التقليدية ، والنقاشون الذين يبيعون القفاطين الأنيقة والصباغون وباعة الملابس الجاهزة , اصوات غناء الراي تنبعث من كل زاوية وموسيقى الركادة التي تبهر الآذان وتنقلك الى سيدي يحيى حيث فرسان الخيول يسابقون الريح , والحركات الراقصة للعلاوي الذين يرتدون ألعمائم الخضراء ويتسربلون بالصايات والقندريس وهم يحملون عصياتهم المعقوفة الأطراف. هؤلاء الذين ترتكز حركاتهم الراقصة على عصا تلتصق في الجسم وتنظم خطواتهم وحركاتهم ، التي تعتمد على تماوج الأكتاف والتفاتات الراس في موسيقى تعتمد على الطبول والمزامير التي ترافق اهتزاز الأجساد في هارموني متقن . انها رقصة الركادة التي عبرت الحدود المستحيلة مابين شعبين وجدا نفسيهما يتناحران دون جدوى, لكن هذه الرقصة أصرّت على إختراق الحدود وصهرت المزاج المغاربي ،وردمت آبار الكراهية المصطنعة ، من وهران الى وجدة .
تستهويني أماسي وجدة المشبعة بالغبار ، بعد إنطفاء الشمس التي تتسلق الأسوار عند بوابة الشريف سيدي عبد الوهاب , بينما كان الزحام البشري يستغرق تشعباتها وشوارعها الضيقة ليودي بي نحو الشارع الكبير .
– عليّ أنْ أتماسك . قلت لنفسي وانا ابحث عن طاولة فارغة في مقهى كولومبو. شعرت بأني أخوض حربأ مع اشياء حادة ، بدأت تقطّع خيوط قدرتي على التصدي ، في هذه المدينة التي إنزوت على نفسها في أقصى الشرق لتكون إمتدادا لصحراء لانهائية تتغلغل في العمق الإفريقي عبر مدينة فكيك والراشدية بواحاتها الوارفة . كما انغمست في تمازج هرموني جميل في المأكل والملبس والغناء والعادات والتقاليد مع اخواتها من مدن الغرب الجزائري , حينما دخلتها أول مرة غمرتني بحفيف الذكرى التي وثبت عليّ وانا أنغمر في بحر أسواقها.
قصدت سوق مليلية ، حيث تجار العملة وباعة الخمور المهربة . اشتريت الريكارد الفرنسي . وحينما دخلت بيتي الصغير، إنشغلت بتحضير المزة . كان هشام الذي انتظرته في المقهى اول الوافدين ثم كمل النصاب . ثملنا ونحن نلوك الاحاديث والأشجان المكررة . كنا نتحدث عن وطن،إختطفته اياد شريرة فاستغنى عنّا . بغداد في الذاكرة وحكايات الوجع وأغاني ياس خضر ودخان السجائر التي ذبُلت على طاولات الشجن .
إنسحب الجميع وبقيت وحيدا , شممت رائحة وحشية تتسلقني . هي رائحة الوحدة والسام . في تلك اللحظة سمعت طرقة على الباب . فتحته كانت أسية في كل بهائها ، متأنقة زاهية ، دخلتْ الى الغرفة بينما كان وجهها مسكونا بخوف يتموج على كحلة عينيها الواسعتين , إرتمت على الأريكة.
مالذي أتى بك في هذا الليل؟
أجابت وهي تخلع جلابيتها. تذكرت موسم الهجرة الى الشمال !
ضحكنا ونحن نحاول ان نسرق من الزمن بعض جمراته. وبصوت واهن مطعون أغلقتُ باب الغرفة . كانت رائحتها تطفو على الجدران.
في تلك الأيام الهائمة على خط النسيان . سكنتني تلك المرأة . اشعر أني وإياها نعبث في تجاويف الليل ، نبحث عن اقصى ما يبعدنا عن ضجر اللحظة العابرة الموشاة بفحيح افعى تتلصص من بين شرخ الجدران. كان ابهامي يلامس شفتيها المتوثبتين والمضرجتين بحمرة قرمزية فاقعة . شعرت باسنانها تنغرز برفق في ابهام يدي الذي لامس صفحة خدها المتوهج كالعاج . لم أشعربالألم دفعة واحدة والذي كان يتسرب الي من خلال لعابها الحار الذي تسلل بين أصابعي ولفحني بجحيم من الألم . في تلك اللحظات المسعورة ، كنت مسمرا على صليب الرغبات المتعطشة ، ارمق آسية بدهشة وانا اتطلع الى الحيطان الفارغة ، متأملا عينيها المغمضتين . واسنانها البلورية . بعد جهد ، انتشلت أصابعي برفق من فكها العذب ، وانا أشهد اللعاب الدبق الذي بلل عطشي وأثار في ذلك التردد الذي يداهمني فجأة . كان الزمن ثقيلا حادا ،ووجهها ساكن عذب ، يستحم بشموس بعيدة، شعرها الذي تسلق وسادتي يرتدي زرقة البحر وطراوة العشب ، و دمعها الحار يسيل على لحيتي ، وحفيف شفتيها يئن على مرمى انفاسي اللاهثة. وحالما تبعثر قميصها البنفسجي حتى انحسر نهداها النافران ، واغرقاني بين امواجهما . كنت أحلم في تلك الحظة بجزر هادئة تتسع للرغباتي المجنونة . تساءلت وانا اشم جسدها الطري العابق برائحة متوحشة عن سر القسوة التي تتفجر فينا أحيانا؟ كانت آسية صغيرة ، حينما هُجرت وعائلتها من مغنية الجزائرية ، حيث اهلها يعيشون . طردت من مسقط رأسها في ليل دامس بحجة أنّ اهلها مغاربة ! ومنذ تلك اللحظة ترافقها هواجس النفي والوطن والقسوة . كانت تدافع عن نفسها ضد عالم متوحش عن طريق فكيها . هذا ما باحت لي به وهي تعتذر عن عض أبهامي . لم تكن تشعر الا برغبة جامحة ان تؤذيني بشكل متوحش . لكنها بكت متأسفة على فعلها وهي تداوي زرقة الجرح التي تركته أنيابها .
أدركت أنها وجهي الآخر وحزني وألقي وغربتي ومتاعبي . لذا قررت أن اهرب منها الى الأبد . فكرت بطردها . أو مصارحتها بانني لااصلح لها . ولكنها وفرتْ عليّ كل مخططاتي . فقد إختفت فجأة . وحالما شعرت بغيابها حتى أصبحت مجنونا في البحث عنها في كل مكان . في زحام الأسواق ومحطات الحافلات وفي فراغ الأزقة وبوابات المساجد وبين ابواب المدينة المهملة وفي اضرحة الأولياء . بحثت عنها في الحمامات الشعبية وفي ملاجيء الأيتام وأقسام الشرطة , وبعد أنْ عجزت عن القبض على حفيف خيالها عدت مهزوما ، وامضيت وقتي معتكفا بقراءة رواية الطيب صالح والتي اعارتني اياها . قرأت بشغف موسم الهجرة الى الشمال ،ودبت بي نفس الرغبات المجنونة للتوغل ابعد وأبعد نحوالشمال مادام جنوبنا غارقا في وحل الحقد والتعصب . لم أكن متفقا مع موقف بطل قصة الطيب صالح الذي إختار العودة الى قريته الأولى ، تاركا فتنة المهجر وتوهجه ومجاهيله .
إنطفأ بريق وجدة فجأة حينما ألغيت عقود عملنا . فحينما ذهبت الى المدرسة اليوم , إختلى بي مدير المدرسة ، وسلمني كتاب إلغاء عقد عملنا السنوي مع وزارة التعليم المغربية ، معلنا أسفه وهو يرى حيرتي وحزني وأنا أتأمل القرار دون أنبس بكلمة. كنت في تلك اللحظة عاجزا عن الفعل . أفكر في لعاب اسيا المترسب في ذاكرتي ، احلم بهجرة اخرى ، احلم بشواطيء خالية الا من الرمل والماء وشلال الشموس التي تنهمر مع أصوات الأمواج . كان كوب القهوة أمامي باردا ، فايقظني من ذهولي صوت صاحبي الذي لاأدري كيف إلتقيته في مقهى كولومبو، ويبدو أنه استلم نفس قرارالإلغاء عن العمل. كان غاضبا على السفارة العراقية التي هددتنا بالتأثير على الحكومة المغربية من أجل إلغاء عقودنا.
لم أكن مصغيا لقاموس الشتائم الذي كانت تنطلق من فمه على النظام الذي يطارد أبناءه في الشتات ، بينما يستقبل الملايين من الأجانب . هونت عليه قليلا لأمتص بعض غضبه مذكرا اياه بفخذي الدجاجة الذي ازدردهما ذات ظهيرة دون ان يقدم واحدا لي . ضحكنا معا ونحن نرتشف بقايا القهوة الباردة .ونفكر بهجرة اخرى.
—