إن للفن فاعليته القصوى وأثره المهم في تخصيب الرؤية الشعرية عند شعراء الحداثة؛ خاصة إذا أدركنا أن الفن رؤية جمالية لحركة الأشياء؛ أو رؤية تنظيمية لعلاقة الأشياء مع بعضها بعضاً؛ ولهذا يعد فن الشعر- تحديداً- الفن الجمالي الذي يمتلك أنموذجه الخيالي الأبرز أو الأسمى في ربط الأشياء وإعلاء قيمتها الجمالية، بقدرته على التوليف الجمالي؛ وتخليق اللذة الجمالية في هذا العمل الفني أو ذاك؛ لأن الفن أولاً وأخيراً فاعلية جمالية، وقدرة إيحائية عالية لا يمكن إنكارها في كل فن إبداعي ممتع.
وأنا أعتقد أن الفاعلية الجمالية تمثل ذروة النضج الإبداعي لدى الشاعر، أو الفنان؛ لأن الفاعلية الجمالية تعد الأس الفني في الحكم على قيمة المنتج الإبداعي من حيث الحساسية، والعمق، والتأثير، والجمال، والقدرة الفنية على خلق الاستثارة والتأثير؛ ولهذا يمثل” العمل الفني- لدى المبدع-والمتأمل- تخليصاً من الطاقة المشاعرية العليلة التي كانت قد تراكمت لأقصى الحدود لديهما على اتجاهات معينة، نتيجة لكبتها، ولاستحالة التخلص منها إذ ذاك؛ومن هنا، نستطيع أن نفهم إلى أي حد يمكن أن يكون الفن تنفيساً”(1).
وهذا التنفيس لا يسم الفن الشعري فحسب؛ وإنما يسم الشخصية الإبداعية ككل في وعيها، وتوقها، واستعدادها الروحي، واحتدامها الشعوري؛ وتحريكها للطاقة المشاعرية التي تفجرها الشخصية المبدعة إزاء موقف ما، أو حدث معين يثير الذات الفنانة؛ ويحركها من الداخل؛ وتعد الفاعلية الجمالية في قمة المثيرات أو المحفزات الجمالية التي تشد المتلقي إلى جوهر العمل الفني؛ لأن المحفز الجمالي هو الذي يغزو القلوب؛ ويتملك العقول؛ ويبعث في النفوس المتألمة عذوبة وسكينة ونشوة روحية ما بعدها راحة، ولذة، ونشوة، وسكينة، ووفق هذا التصور والمفهوم الرؤيوي يرى الشاعر طالب هماش أن الصياغة الشعرية الراقية هي لذة، وانسجام، وسقسقة إيقاعية للحروف والكلمات بتناغم وانسجام ينشأ من تآلف الحروف وانسجامها وتناغمها؛ إذ يقول:”في كل جملة شعرية يجب أن تتلامس الحروف مع بعضها برقة، وتناغم كتلامس الأجراس، لتصدر دقات الموسيقى العذبة. يجب أن تلعب الحروف مع بعضها كما تلعب الأسماك في بركة الماء الصغيرة. يجب أن ترقص كما ترقص النافورة في صحن الدار. يجب أن تكون رشيقة في انتقالها بين السطور. فالكلمات الحية توشوش، وتزقزق وتسقسق وتهدهد؛ خصوصاً إذا كان موضعها جميلاً في الجملة الشعرية. فالكلمات الحية تتعانق، وتتعارف، وترقص، وتهزج، وتهدأ، وتغفو، وتأمر روح السامع بالاسترخاء والإغفاء بعد انفعال جميل لذيذ،.. وبهذا المعنى أحاول اكتشاف الانسجام بين الجمال الموسيقي( الصوتي) والجمال التعبيري؛ والذي ينتج من التلاقح الصحيح بين الحروف والكلمات، واكتشاف المخزون الانفعالي والإيقاعي؛ خصوصاً حين يسيطر حرف ما على النص؛ ويتكرر في دوامة الأحاسيس المستيقظة،والمنسابة في سهولة ويسر؛ حين تترقرق الحروف في الجملة دون نشاز؛ يسيطر إحساس متناغم على اللغة، ويجعلها طيعة تماماً كما يترقرق الماء في المجرى خالقا عالماً من التناغمات والسقسقات”(2).
وهذا يعني- في المحصلة- أن للفن عموماً والفن الشعري خصوصاً طقوسه الفنية، ومتطلباته الرؤيوية، ومقوماته الجمالية التي تجعله يستحوذ على قيمته الإبداعية، بوصفه فناً إبداعيا راقيا؛وتدخل في مفدمتها الفاعلية الجمالية التي هي أساس كل فنً والمنبع الذي تتجمهر فيه معظم الفاعليات الفنية جميعها ؛ وفي مقدمتها ما يلي:
1- الفاعلية التصويرية:
ونقصد ب( الفاعلية التصويرية) القدرة الجمالية التصويرية التي تنبع من مخيلة الفنان؛ ودهشة التـأمل – لديه- عبر الإنتاج الجمالي، والقريحة الإبداعة المنتجة.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن من محسنات الفنون الإبداعية الجمالية جميعها قدرتها التصويرية المثيرة التي تكسب الفن قيمته الجمالية؛ خاصة القول الشعري الذي يتخذ بعداً جمالياً بهذه القدرة، ويستعلي بهذه القيمة؛ولهذا؛” تعدّ الصورة الفنية جزءاً حيوياً في عملية الخلق الشعري؛ فهي من أهم خصائص التعبير الشعري، وأقوى أركان البناء الشعري. فمن خلال الصورة تتعمق دلالات النص الشعري وإيحاءاته، وتتجلى القوة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر؛ فإذا كان الإيقاع يحتسب عناصر اللغة كلها؛ فإن إيقاع الصورة يتجلى من خلال صلة الصورة بفاعلية اللغة، ونشاط التركيب، وقوة الشاعرية”(3).
ووفق هذا المنظور؛ فإن الفاعلية التصويرية هي التي تحدد درجة الشعرية في بنية النص الشعري؛ وهي أساسية في تكوين الرؤية الجمالية للقول الشعري ؛ شريطة أن تدخل في تكوين الصورة الكلية للقصيدة؛ وهذا ما ألمح إليه الشاعر المبدع فؤاد كحل بقوله:”الصورة أساسية في بناء الشعر على أن تكون جزءاً لا يتجزأ من تكوين الصورة الكلية للقصيدة؛ والتي –بدورها- توحي بتصور شامل للحالة الإبداعية التي انبجست عنها القصيدة؛ وإلا فقد تكون أقرب للمجانية”(4).
ولهذا؛ تعد الفاعلية التصويرية من مثيرات الفنون جميعها على حد سواء؛ من حيث الإثارة، والتحفيز، والجمال؛ خاصة فن الشعر الذي يستمد طاقته ونبضه الروحي، وحساسيته الجمالية من إيقاع الصورة ومدها العاطفي، وتيارها الشعوري الافق،وفضائها التأملي المفتوح على آفاق رؤيوية ودلالية خصبة؛ ومن هذا المنطلق؛ تعد الفاعلية التصويرية الإجراء الجمالي الذي تتخذه القصيدة في تعضيد رؤيتها، وموقفها الشعوري؛ وتحقيق إثارتها، وتعميق مكنونها الرؤيوي؛ ومغزاها الفني؛ وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الشعري التالي لخالد أبو خالد؛ كما في قوله:
” آه ” يمه”
أغيب وصوتي يغيب
وتغرق في بهجة الحزن أمي
وأغرقُ..
تغرق في حفنةٍ من ترابْ
والعتابا دمٌ والشبابَ..
يغطون وجه اليبابْ
العتابا دمٌ والشبابْ
سفنٌ من ورق
والرجالُ علقْ
إنه المفترق”(5)
تكمن شعرية الأسطر بالفاعلية التصويرية التي تتمثل في الصور الدهشة ذات الإسنادات المباغتة، والمعنى العميق؛ كما في الصور التالية:[العتابا دمٌ/ والشباب سفنٌ من ورقْ/ والرجال علق]؛ فالشاعر يعاني غربة داخلية مؤلمة تتمثل في الاصطراع، والقلق الوجودي،والإحساس بالنفي، والوجاعة الداخلية؛ وكأن صوته ناي حزين وعتابا جارحة ،ومواويل اغترابية مريرة؛ وهذا ما جعل إيقاع الصور جارحاً يرشح عن حزن وألم وغربة حارقة؛ ومن هنا، يلحظ القارئ أن الشاعر يعي أن الشعرية إثارة تصويرية، وفاعلية رؤيوية تتمثل في بث الشعور، وقلقلة الرؤية السطحية بالمعنى العميق، والصور المباغتة التي تدلل على مرجعية فنية، وإحساس جمالي، وشعور اغترابي مأزوم، وإحساس يفيض أنساً وشاعرية.
ومن الشعراء من يحاول التفنن في تحريك الصورة مدللآً على فاعليته التصويرية في إصابة الصورة الدهشة، والمعنى العميق الجارح، كما في المقطع التالي لفايز خضور:
“آه يا وهمنا، أننا بالمياه المُحلّات نُصلِي أُوارَ الفتيلْ..!!
آهِ يا وهمنا بانبعاثِ النقاءِ القتيل!!
آه يا آهنا الجارحة..!!”(6).
إن القارئ، هنا، يدرك الفاعلية التصويرية التي يمتلكها الشاعر؛ وهذه الفاعلية ترتكز على رؤية اصطراعية عميقة، واغتراب شعوري جارح؛ ودليلنا على ذلك قوله:” آه يا آهنا الجارحة../ آهِ يا وهمنا بانبعاثِ النقاءِ القتيل!!”؛ وهكذا تعد الفاعلية التصويرية الأس الجمالي في التعبير، وخلق الاستثارة والتأثير؛ومن هنا تكمن قيمة الفن بوصفه فناً مؤثراً بالاعتماد على هذه الفاعلية في إكساب الفن خصوصيته الفنية، ووقعه الإيحائي المركز.فالفاعلية التصويرية ليست قيمة جمالية في فن الشعر فحسب ؛ وإنما قيمة جمالية في مختلف الفنون، فكما أن الموسيقى قيمة جمالية في فن الغناء فإنها قيمة عظمى في كل الفنون الشعرية وغير الشعرية.
2- الفاعلية الرؤيوية:
ونفصد ب[ الفاعلية الرؤيوية]: فاعلية الكشف التي تولد الرؤية الجمالية والمغزى الجمالي الإيحائي المؤثر؛ وهي حصيلة وعي الفنان؛ وإدراكه، وخبرته الجمالية؛ وهذا يعني أن” الرؤيا تكشف… هي فاعلية إيحاء وكشف.. إنها ضربة تزيح كل حاجز، أوهي نظرة تخترق الواقع إلى ما ورائه؛ والغموض هنا، ملازم الكشف إلا أنه غموض شفاف، لا يتجلى لمنطق التحليل العلمي، وإنما تنوع آخر من الكشف؛ وذلك باستسلام القارئ له فيما يشبه الرؤيا، فنحن لا ندرك الرؤيا إلا بالرؤيا”(7). والرؤيا – حسب أدونيس- فاعلية إيحاء وكشف دائم ؛ووفق هذا التصور؛ فإن الفاعلية التصويرية هي فاعلية كشفية تنفذ إلى عمق المعنى؛ وعمق الصورة، وعمق الشعور لدى الشاعر للكشف عن دخيلائه، وشعوره الباطني؛ وموقفه الوجودي، ومنظوره الكوني، وهذا يدل أن الرؤيا – حسب الناقد محيي الدين صبحي-“ربما تكون صورة، أو نظرة إلى العالم، أو تبصراً في مصير الإنسان؛ أو كل ما هو تعبير من الكاتب على قسم من فلسفته للحياة، في قصائد؛ وهي تجربة جمالية تعتمد على تنامي استبصار القارئ في هذه الرؤية بغية التماهي الجمالي مع وعي الشاعر”(8).
والرؤيا ليست موقفاً فحسب؛ وإنما هي رصد لتحولات الذات في علاقتها بالكون والوجود؛ وهي تكشف مرجعية الشاعر المعرفية، وخبرته الجمالية، ومستوى تفاعله مع الوسط المحيط،ومستوى تعايشه مع مؤثرات الواقع ؛ ومتغيرات الوجود؛ والشعر الحقيقي المبدع شعر رؤيوي بامتياز، حسب ما أشار إلى ذلك الشاعر خليل حاوي في تعريفه الشعر الحقيقي قائلاً:” الشعر رؤيا، تنير تجربة، وفن قادر على تجسيدهما”(9). ولهذا؛ يرى الشاعر نذير العظمة أن” الرؤيا ليست أمراً مجانياً متاحاً للجميع؛ وإنما للخاصة الخاصة. إن فحول الشعراء مثلاً هم الذين يتمتعون بالقدرة على الرؤيا التي تتضمن الفكر الجديد، والصورة الجديدة”(10).
وهذا يعني وفق هذا المنظور، أن الشاعر الرؤيوي هو القادر على توليد الصورة الجديدة، والفكر الجديد؛ وهذا ما يميز الشاعر المبدع عما سواه، على مستوى الرؤيا، و حداثوية التجربة، وعمق المنظور؛ لهذا نلحظ أن الكثير من الشعراء القدامى يملكون الرؤيا وحداثوية المنظور؛ وهذا ما صرح به نذير العظمة قائلاً:” الرؤيا ليست حكراً على شعراء الرواد والحداثة، وإنما الرؤية ممكنة لأغلب الشعراء في معظم العصور؛ لنأخذ على سبيل المثال : طرفة، أو لبيد، أو امرئ القيس، شعراء المعلقات مثلاً قامت معلقاتهم على تجربة حياتية ورؤية. بهذا المعنى الحداثة ليست حكراً على عصر واحد، وإنما يمكن أن نكتشفها في كل العصور؛ وهي جوهر الشعر.. ومن لم يضف على موروثه الشعري يعيش عالة على الذاكرة؛ ومن لم تستبعده الذاكرة يقفز على النهضة”(11).
وتأسيساً على ما تقدم يمكن أن نعد [ الفاعلية الرؤيوية]ذروة الوعي الفني الإبداعي التي تميز الفنان المبدع عما سواه؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن الفاعلية الرؤيوية طاقة إبداعية كشفية تكشف نوازع الشاعر الإبداعية، وطاقته الجمالية في الخلق الفني؛ وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الشعري التالي لشوقي بزيع:
”
تأتي إلي الذكريات
كأنني نايٌ يبلله الصدى
بدموع شعرك
وهو يبكي مثل سنبلة
على طرف الوسادة
كل شيء فيك يزهر كالمرايا
في يديّ
ويستعيدك من دمي المهجور نملٌ
طافح بالشوق والقبلات”(12).
إن قارئ هذه الأسطر يلحظ “الفاعلية الرؤيوية” التي يمتلكها الشاعر في تشكيل الصورة الرومانسية الآسرة؛ كما في الصور التالية:” كأنني ناي يبلله الصدى بدموع شعرك”،” ويستعيدك من دمي المهجور نملٌ /طافح بالشوق والقبلات”؛فكل صورة تمثل درجة من الإيقاع اللغوي المنسجم مع النبض العاطفي والحس الغرامي؛ مما يدل على شعرية طافحة بالإبداع والكشف الجمالي؛ ولو دقق القارئ في سيرورة الصور جمالياً لأدرك أن سحر جمالها يعود إلى دهشة الإحساس الفني في تشكيل الصورة؛ وتخليقها فنياً لتعبر عن فيض إحساسه الغرامي؛ وتوقه العاطفي.
ومن الشعراء من تتجسد- لديه- ” الفاعلية الرؤيوية” – بوضوح عبر اللغة الإيحائية التي تشي بالشكوى، والبوح الداخلي، والكشف العميق؛ كما في قصيدة( الحبر في الشوارع)لعلي الجندي:
“… أيها الحبرُ الذي يأتلقُ
قلمي يحترقُ
كل ما ألمسهُ يحترقُ
شمسُ تشرين على قارعتي،
وعليها قمرٌ ينبثقُ
وضماداتٌ،ووجهٌ قلقُ
ودواةٌ مستباحهْ
وبيوتي الورقُ
وخطى عائدةٌ تنسرقُ”(13).
بادئ ذي البدء نقول: إن الفاعلية الرؤيوية ليست وليدة لحظة شعورية آنية سرعان ماتزول أو تنقضي ؛ إنها حالة رؤيوية متشكلة في فكر المبدع من أزمنة بعيدة سرعان ماتتفجر لحظة تماسها مع عوالمه الشعورية فتتولد شرارة الإبداع وتحقق اللحظة المثيرة ينبوع القصيدة. ولعل أبرز ما يدلل على هذه الفاعلية المقطع الشعري السابق، إذ يعبر الشاعر فيه عن عمق معاناته، وجراحاته واحتراقاته الداخلية بالصور المأزومة التي تعبر عن انكساراته الداخلية، واغترابه الوجودي؛ ولعل ما يلحظه القارئ – على الصعيد الفني- الرؤيوي العميق- الفاعلية الرؤيوية التي يمتلكها الشاعر في تجسيد الصورة المأزومة المعبرة التي تحمل دفقها الشعوري الاغترابي وإحساسها المأزوم؛ فكل شيء أمام الشاعر يحترق، قلمه، حبره، بيوته، زمنه القديم ، أحلامه الوردية،وهذا دليل معاناته،وشدة وطأة الاغتراب ولياليه القاسية على روحه ؛ وهذا يدلنا أن الشاعر الرؤيوي بامتياز هو الشاعر الذي يمتلك الخيال الفني القادر على البوح، والتأمل، والكشف العميق.باختصار، إنه الشاعر الذي يخلق المعنى العميق من اللفظ اليسير، أو الصورة البسيطة.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن الشعرية – في أوجها وذروة تألقها تكمن في القدرة التصويرية العالية والفاعلية الرؤيوية المنفتحة التي تفتح أفق الكشف، والتأمل، لدى القارئ؛ وتستثير حساسيته الجمالية. ولا يمكن أن تثار الشعرية دون الطاقة الرؤيوية الخلاقة، والحس الجمالي الذي يترجم هذه الطاقة عملياً في نص إبداعي مميز.
3- الفاعلية الإيحائية:
ونقصد ب( الفاعلية الإيحائية): الطاقة الإيحائية التي يمتلكها المنتج الفني في تحقيق قيمته الفنية، ومنتوجه الفني؛ وهذه الفاعلية تكاد تشترك فيها الفنون جميعها في تحقيق إثارتها، ومنتوجها الجمالي؛ ولا غنى لأي فن عن هذه القيمة في تحقيق خاصيته الفنية وفرادته الإبداعية؛ وهذا يعني أن جدوى الفن يكمن في قدرته الإيحائية، ومتغيراته الدلالية، وفي شكله المتوازن، وإيقاعه الداخلي المتوهج؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن إثارة الفن تكمن في متغيراته، وطاقته الإيحائية، وأنموذجه المبتكر؛ ولاغرو إزاء
هذا التصور، أن تذهب الناقدة بشرى البستاني بعيداً في قولها:” إن جدوى الفن أنه يعبر عن القبح بما يحوله إلى جمال في التشكيل”(14)؛ والشاعر المبدع – بتصورنا- هو الذي يمتلك هذه الفاعلية التشكيلية في كسر الرتابة التشكيلية، وخلق الأنموذج الفني المبتكر الذي يراه مناسباً لنقل تجربته بخصوصيتها الفنية، و طزاجتها الشعورية، وطاقتها الإيحائية المكثفة.
فالفن- إذاً- هو محصلة عوامل فنية، في مقدمتها الفاعلية الإيحائية التي تكسبه قيمته العليا؛ وللتدليل على الفاعلية الإيحائية نأخذ القول الشعري التالي لصلاح عبد الصبور:
” صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمنْ
وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنت أننا
مفترقان
وأنني سوف أظل واقفاً بلا مكان
لو لم يعدني حبك الرقيق للطهارة
فنعرف الحب كغصني شجرة
كنجمتين جارتين
كموجتين توءمين
مثل جناحي نورسٍ رقيق
عندئذٍ لا نفترق
يضمنا معاً طريق
يضمنا معاً طريق”(15).
هنا؛ يحقق الشاعر- في قصيدته- رؤاه العاطفية التي تنبعث من قلب جريح يحدوه الأمل الممزوج باللقاء والمودة؛ حيث تظهر قدرة الشاعر الإيحائية في تحميل الصورة دلالات شتى تنم على إحساس عاطفي متوتر (مصطرع) بين شعورين متضادين، أو متقابلين؛ الأول : الإحساس بالأمل والتفاؤل؛ والثاني الإحساس بالفراق والأسى المرير؛ ولهذا؛ جاءت الصور كاشفة عمق هذا التوتر الدائر بين ما يظهره الشاعر وما يخفيه في باطنه من أحلام وآمال يائسة منكسرة أمام صخرة الواقع، وتساؤلاته المؤلمة.
ولو دقق القارئ في مغريات القصيدة لوجد فاعليتها الإيحائية من حيث دهشة الصورة ومحركها النفسي؛معتمداً التشبيه الرؤيوي العميق،والحساسية الجمالية، كما في قوله”( نجمتين جارتين= جناحي نورس”؛وهذا يدل على أن شعرية الصورة هي من مولدات الفاعلية الإيحائية والطاقة التعبيرية.
وما ينبغي التأكيد عليه: أن الفاعلية الإيحائية تظهر على أشدها من خلال الصورة المبتكرة التي تشي بالتوهج العاطفي والإحساس الجمالي؛ كما في المقطع الشعري التالي لعبد القادر الحصني:
” عليك السلامْ
على وجنتيك من الورس طيفُ حمامْ
وبين يديك هواءٌ صغيرٌ، تكوره مثل صلصالةٍ
ثم تنفخُ فيه ثمالةَ روحكَ
كي يحضرَ الغائبونَ
وكي تحضرَ الغائباتُ طقوسَ الظلامْ”(16).
هنا؛ نلحظ بداعة الصورة الرومانسية الشفيفة التي تظهر شعرية الإيحاء؛ وخصوبة المعنى؛فلو دققنا في سيرورة الأنساق التصويرية التالية:[طيف حمام- ثمالة روحك- طقوس الظلام] لأدركنا شعرية ما تبثه هذه الأنساق من دلالات وإيحاءات رومانسية؛ تدخل حقل التصوف؛ ومداليله الإيحائية العميقة كالوجد، والشغف، والهيمان الروحي العميق؛ وهنا،- على ما يبدو- يغرق الشاعر في طقوسه الصوفية، ومصطلحاته التي تبين حالته الصوفية، ومواجيده المحتدمة؛ وهذا دليل أن الفاعلية التصويرية الإيحائية هي نتاج التشكيل الجمالي، والنبض العاطفي، الذي يسمو بالتشكيل إلى مستوىً رائق من الإحساس والفن.
4- الفاعلية المشهدية:
ونقصد ب( الفاعلية المشهدية): القدرة المشهدية على إثارة الرؤية الشعرية في القصيدة من خلال تحريك القدرة البصرية في المتلقي؛ بأبعاد وأشكال مرئية، أو مجسدة بصرياً؛ وهذا يعني أن الفاعلية المشهدية تظهر القيمة الجمالية للمنتج الفني، ومقدار تحريكه لهذه القيمة، ومستوى انجذاب المتلقي إلى هذا المنتج أو ذاك.
وتعد ( الفاعلية المشهدية)- في النصوص الشعرية- محفزاً بصرياً يسهم في تكثيف الإيحاء؛ وتنويع المعنى؛ خاصة عندما تتراكم الصور واللقطات وتتنوع المشاهد على شاكلة المقطع الشعري التالي لسعدي يوسف:”
“من غرفتي أسمعُ أصواتي تئنُّ خلفَ البابْ
زمجرةَ البحر؛ وهمسَ النورسِ الآتي
والصمتَ، والحانة، والخندقَ، والأنهارْ
والموتَ،والمنديلَ، والقمةَ
والثلجَ والأهواءَ
والساحةَ الحمراء، والنخلَ
وأوليانوفَ، والعتمةْ
والدم َ في مدريدَ والعتمةْ
وخطوكَ الغامضَ، إذ ينبتُ
في الأحزانْ
غصناً من الأحلامْ”(17).
هنا؛ نلحظ قدرة الشاعر على توليف اللقطات؛ لتشكيل المشهد الكلي؛ إذ يعتمد الشاعر مراكمة اللقطات والمسميات لرصد المشهد الكلي بتفاصيله الجزئية؛ وهذا يعني أن الشاعر يراكم الصور واللقطات؛ لإبراز الرجرجة الشعورية، والاهتزاز المشهدي؛ للتعبير عن حالة القلق، والتوتر التي يعيشها في اغترابه، تدليلاً على قلقله، وتوتره، وشعوره المأزوم بالاغتراب.
وتظهر الفاعلية المشهدية على أشدها في القصائد الغزلية التي تتطلب رصد اللقطات، وتكثيفها؛ لإبراز حالة التوق العاطفي، والانفعال الشعوري على شاكلة المقطع الشعري لعلي الجندي:
“.. من أجل ” كلك الحبيب” يا يمامتي
يا قمري المسكي؛ يامرفئي الحافل باللؤلؤ والمرجان
أذيبُ أيامي بخمرتي أغان
تهترئ الأبعادُ كلها
ساعة يبدو وجهك الصبوحُ
عندما أراه يستسلمُ لي
أنسى وجود العالم المغللِ
أتيهُ في رياضِ جسمكِ المدلل
أعبُّ منه ثملي”(18).
هنا، يراكم الشاعر اللقطات والمشاهد لرصد إحساسه الداخلي المصطهج بالتوق، والاشتياق، إذ تأتي كل صورة، أو لقطة منسجمة مع ما يليها في النسق الشعري المشهدي؛ لإبراز الدفق الشعوري والمشاهد المترامية أمام ناظريه، بحراك مشهدي مكثف وإحساس شعوري متوتر:[ أذيبُ أيامي بخمرتي أغان= أتيه في رياض جسمكِ المدلل]؛ إن هذه اللقطات هي ارتدادات شعورية مصطهجة في أعماقه الداخلية؛ عبر عنها الشاعر مشهدياً بالصورة المتحركة والإحساس الدافق؛ لإبراز حراكها الداخلي وارتدادها الشعوري المشهدي؛ وهذا دليل أن “الفاعلية المشهدية” هي ارتدادات شعورية تظهر مشهدياً عبر الصورة الحركة/ أو الصورة التي تستدعي الحركة، لرصد المشهد بتمام حراكه البصري، وتوتره الشعوري؛ ولهذا، نجد أن أغلب الفنون تعتمد” الفاعلية المشهدية” في تكثيف الرؤية؛ وتنويع الإيحاء.
5- الفاعلية البصرية:
ونقصد ب[ الفاعلية البصرية] قدرة المنتجات الفنية على جذب المتلقي بصرياً إلى دائرتها الإبداعية، أو طيفها الجمالي ؛ لتخلق التأثير الفني، أو الأثر الجمالي المطلوب في المتلقي.
وتعد( الفاعلية البصرية) من مؤسسات المنتجات الفنية؛ بوصفها الأكثر قيمة على تحفيز المنتجات الفنية واستثارتها؛ نظراً إلى القيمة التجسيدية العليا التي تجعل الفن يأخذ شكلاً ما؛ وقيمة مادية معينة؛ وهذا يعني أن( الفاعلية البصرية) تعد جزءاً من استثارة الفنون؛ ومحفزاً جمالياً من محفزاتها؛ خاصة فن الشعر في نمطه الأسلوبي الحديث الذي يعتمد الإيقاعات البصرية مثيرات أيقونية فاعلة تسهم في إنتاج الدلالة وتحفيزها؛ لأن لتوزيع الكلمات على بياض الصفحة الشعرية قيمتها في تعميق الرؤية وتحفيزها؛وخلق استثارتها؛ وبهذا المقترب الرؤيوي تقول الناقدة(خلود ترمانيني) فيما يخص الشعر العربي الحديث:” لقد اعتمد الشاعر العربي الحديث على كثير من الخصائص الكتابية في إنتاج النص الشعري الحديث؛ وهذا ما لم يكن معروفاً لدى الشاعر القديم الذي لم يهتم بالخصائص الكتابية بقدر اهتمامه بالخصائص الشفاهية؛ فكان يُعنى بالفصل والوصل؛ والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار؛لإحداث الصوتي من خلال الإلقاء الشعري. ومع ظهور شعر التفعيلة وتراجع دور الإنشاد والسماع فيه صارت الحاجة ماسة إلى التعويل على الخصائص الكتابية المتمثلة في تشكيل المفردات والجمل الشعرية على الصفحة تشكيلاً خاصاً يعتمد على علامات الترقيم في تحديد نقاط الوقف والحركة في الجمل الشعرية”(19).
ولم يكتفِ الشاعر بذلك؛ وإنما قام بتوزيع الأسطر الشعرية توزيعاً فضائياً يشي بالإيحاءات والدلالات الكثيرة؛ وهذا الأسلوب جعل لكل نص شعري مداميكه الخاصة المميزة، وتشكيله البنائي الخاص،وتوجهاته البصرية والرؤيوية الخاصة به.
وبتقديرنا:
إن الاحتفاء بالشكل البصري في تشكيل القصيدة الجديدة كان له دوره البارز في تشكيل المعنى وإتمام المغزى؛ إذ إن” القصيدة الجديدة فرضت على النقاد اعتماد مفاهيم جديدة؛ وإعطاءها نعوتاً تعادل نعوت مفاهيم أخرى رافقت القصيدة القديمة؛ فقد غاب الامتلاء، وحل الفراغ؛ ونظفت صفحات الدواوين من سواد الكتابة؛ ليحل البياض بديلاً عن السواد(الاتساخ)ظن نظافة استحقت عند الكثيرين أن تسمى شعرية”(20).
وهذه الشعرية اختلفت من نص لآخر؛ تبعاً لفاعلية التكثيف البصري، واقتضائه المتمم لتشكيل المعنى؛ وهذا –بالضرورة- يتبع الفاعلية البصرية أو الطيف البصري الذي تتركه النصوص الشعرية في تحفيز رؤيتها ومسارها الدلالي؛ وهذا ما نلحظه في القول الشعري التالي لحميد سعيد:
” يا أنتِ يا من كنتِ مملكتي.. وكنت مليكتي… اقتربي..
عسى أن تنقلي وجعي إلى شوك الفيافي
كنت انتظرتك في مسرات الكتابة..
في قراءاتي.. وفي ألقِ اعترافاتي”(21).
هنا، يعتمد الشاعر التشكيل البصري في تكثيف رؤيته الغزلية؛ حيث ترك الشاعر مساحات من البياض بين الكلمات ليترك المجال الرؤيوي مفتوحاً أمام الكلمات ودلالاتها؛ لتعبر عن إحساسه الغزلي؛ ووجعه الداخلي، وشوقه العارم؛ كما في المساحات الفراغية بين [ مليكتي] و[اقتربي]، و[مسرات الكتابة]، وبين[ قراءاتي.. وألق اعترافاتي]؛ وهذا دليل قدرة الشاعر على استثمار الشكل البصري أو إثارة الفاعلية البصرية في تحفيز رؤيته الشعرية وتناميها الجمالي.
وقد يوحي التشكيل البصري في بعض النصوص الشعرية، بدلالات مفتوحة لا متناهية، تعبر عن معانِ شتى ودلالات متعددة كما في المقطع الشعري التالي لنزيه أبو عفش:”
“حيثُ مشيتُ.. لي قبرٌ
حيثُ مشيتُ.. لي حارسُ موتٍ لا يغفلُ.
حيثُ مشيتُ..
لي أمٌّ تبكي، وأبٌ يندبُ فوق سريري في الليلِ كأني ميتٌ
(وأنا لستُ بميتْ)
فيفيضُ سوادي فوقي
وتخورُ من اليأسِ قوايْ
فأقومُ إلى نفسي
أشغلها بكلامٍ ما
أو أخدعها بغناءٍ مرٍّ”(22).
هنا؛ يعاني الشاعر من إحساس جنائزي يائس؛ مصدره القلق الوجودي؛ والخوف من المصير المؤلم الذي ينتظره، وهو(الموت) ، الذي يعده الشبح المؤلم الذي يفقد الإنسان قوته، وحيويته، ووجوده الكينوني الدائب بالتغير، والتحول، والحركة، لدرجة أن هاجس الموت يغلف رؤية الشاعر؛ ويسدل عليها ضبابة يائسة؛ تعكس إحساسه السوداوي؛ونظرته اليائسة؛ القاتمة لهذا الواقع المؤلم؛ لهذا؛ وضع الشاعر فراغات من النقط بين الكلمات… ليترك المجال مفتوحاً أمام المتلقي على دلالات لا متناهية من اليأس، والأسى، والحزن، والقلق الوجودي المستمر والوحشة القاتمة التي يعيشها؛ فالشاعر يخشى موت الروح، وليس فقط تلاشي الجسد، وتفسخه، وانحلاله إلى ذرات ترابية تذروها الرياح لا قيمة لها؛ ولهذا ترك المجال مفتوحاً بعد قوله:( حيثُ مشيت) ليدلل على أن هواجسه الداخلية ممتدة إلى مالا نهاية، وإحساساته المصطرعة اليائسة( اللامتناهية) وقلقه المستمر من هاجس الموت المرعب مازال يغلف رؤيته بإحساسات متتالية محتدمة في قرارة ذاته الداخلية الجريحه وسوادها القاتم؛ امتدت على شكل فراغات، ونقط متتالية بين الكلمات؛ تدليلاً عما يعانيه من توتر، واضطراب بالاستعانة بالشكل البصري الذي يساعد على ترسيم الحالة بوضوح ومصداقية؛ وهذا دليل أن للفاعلية البصرية- في النصوص الشعرية- أثرها البالغ في تكثيف رؤيتها، وإيحاءاتها العميقة ، والكشف عما يستبطنه الشاعر من رؤى ودلالات باطنية (مسكوت عنها) في قرارة ذاته الداخلية.
وتأكيداً على ما سبق- تعد الفاعلية البصرية من متحولات القصيدة الحداثية التي غامرت في شكلها الفني والبصري لتحقق تأثيرها الكامل في المتلقي؛ وإحداث اللذة الجمالية في شكل النص ومساحاته الفراغية، مدلاً بالشكل البصري كما الشكل الفني في التحفيز و المغنطة الجمالية التي تمثل طيف النص الإبداعي على الدوام.
6- الفاعلية التشكيلية:
ونقصد ب[ الفاعلية التشكيلية]: كيفية تموضع المنتج الفني واستحواذه على شكل هندسي ما يشي بإيحاءات ودلالات مفتوحة؛ مبعثها الفاعلية التشكيلية ، أو المظهر الشكلي للمنتج ؛ ولهذا ؛ نعد ( الفاعلية التشكيلية) جزءاً لا يتجزأ من شعرية القصيدة؛ إذا كان للمظهر الشكلي قيمته في توليد الدلالة؛ وإنتاج المعنى.
ووفق هذا التصور؛ فإن لتشكيل القصيدة دوراً مهماً في تحفيز رؤيتها، وإنتاج دلالاتها؛ ولا يقتصر الأمر على ذلك فإن للتشكيل الطباعي أثره كذلك في تكثيف المعنى، وإنتاج الدلالة؛ وبهذا المقترب الرؤيوي تقول الناقدة خلود ترمانيني ما يلي:”إذا كان التشكيل الطباعي للغة الشعرية يمتلك أهمية في دعم المسار الإيقاعي من خلال إنتاج دلالات تتماشى مع التجربة الشعرية؛ فإن حجم الخط يسهم في انبثاق تلك الدلالات، وبناء المعنى الذي يوجه المسار الإيقاعي في النص الشعري؛ وذلك لأن الفضاء البصري للنص الشعري يعد عنصراً فعالاً في إحداث التناغم بين التشكيل اللغوي والتشكيل البصري”(23).
وما ينبغي التأكيد عليه : أن الفاعلية البصرية تعد خاصية بنائية مهمة في تشعير القصيدة من خلال الدور الذي تؤديه على مستوى الفضاء البصري للقصيدة؛ والشكل الذي تظهره في سياقها من خلال تموضع الكلمات في نسق معين، وفق آلية رؤيوية شعورية دقيقة تمس خلجات الشاعر، وأحاسيسه الداخلية؛ وهذا يعني ارتباط الشكل بالرؤية مباشرة دون أن تحيد عنها؛ مما يدل على تناغم التشكيل اللغوي والتشكيل البصري في تخليق شعرية القصيدة، وتحفيزها؛ وللتدليل على الفاعلية التشكيلية في تحفيز الرؤية الشعرية نأخذ المقطع الشعري التالي لعز الدين المناصرة:
”
أُحفروا لي هناكْ
قرب ديرِ الملاكْ
حفرةً.. و أملاؤها نبيذاً،وتمراً، وقات
تحت دراقة، صوتها في العروقْ
وادفنوا جثتي في طريق البنات
قبل شمس الشروق
…………
أحفروا لي هناك
حفرة في البقيعْ
ثم غطوا ضلوعي، لئلا أموتَ من البردِ تحت الصقيعْ
ثم لا ترفعوا ساعديّْ
ستحنّ الجنادبُ يوماً عليّ”(24).
تؤدي الفاعلية التشكيلية دوراً مهماً في تحفيز الدلالة؛ وإنتاج المعنى؛ فالشاعر يريد أن يدفن في موطنه الأصلي بعدما أنهكت قواه براثن الغربة، والتشرد، والضياع؛ ولذلك جاء قوله محملاً بمجموعة رغبات وأمنيات قبل الدفن؛ إذْ إن مرارة الوحشة والوحدة قد أرهقته في سنوات جراحاته واغتراباته المأساوية المريرة؛ ولهذا؛ يريد أن يبقى محط إعجاب البنات ومحط الإشادة والتقدير ، ومحط الدفء والعيش الرغيد كما كان يحلم؛ وهو يعاني شظف العيش و قساوته المؤلمة؛ فجاءت التشكيلات السطرية متفاوتة بين الطول /والقصر، لتعبر عن رغباته المتعددة،وأمنياته الكثيرة التي لم يحقق منها إلا القليل؛ في ظل اغتراب جارح؛ وإحساس يائس بالعودة للوطن، والموت على ترابه الطاهرة المقدسة؛ ومن يدقق في الموجات السطرية سيلحظ تفاوت الأسطر بين الطول /والقصر تدليلاً على حالته اليائسة وإحساسه الاغترابي المأزوم. وهذا يعني أن الشكل الكتابي يلعب دوراً مهماً في تحفيز الدلالة وإنتاجها؛ مما يدل على قيمة الشكل البصري في إثارة الدلالة، وتعميقها في النص الشعري.
وهكذا ؛ تمكن الشاعر عبر الشكل البصري أو الفاعلية التشكيلية من إثارة القارئ جمالياً؛ وتنويع الدلالة، بما يواءم الحالة الشعورية والنبض العاطفي؛ وهذا يعني أن الشاعر المبدع يملك الفاعلية التشكيلية المثيرة التي تحقق الإثارة والتناغم الفني بالشكل الأسلوبي الجذاب والرؤية المركزة والحساسية الشعرية النادرة؛ فالشعرية أولاً وأخيراً بداعة رؤيا، وفاعلية تشكيلية نادرة، وحساسية جمالية يترجم ذلك كله النص المبدع والرؤية الإبداعية الخلاقة.
وما ينبغي التأكيد عليه في تيار الحداثة الشعرية أن فاعلية الكثير من النصوص الحداثية تنزع إلى المقامرة بالشكل البصري؛ رغبة في جذب المتلقي إلى الشكل الخطي أو البناء الهندسي المعماري لفضاء القصيدة الحداثية على شاكلة قصيدة(تفاحة الغياب) لشوقي بزيع:
“تأتي على عجلِ
…………………..
وحيدة كحمامةٍ تبيضُ فوق بحيرةِ النسيانِ
دون سفينةٍ،
وبعيدة
حتى يكادُ الثلجُ يهطلُ فوق سرتها
وتنأى تحت كوكبها المضيء
لكي تعري جسمها من آخرِ الشهواتِ
والقبلِ اليتيمة والثيابْ
لكأنها روحان في ريحٍ
أو امرأتان لا مرئيتان تمزقان القلب،
ثم تغيبُ خلفَ غمامةٍ سوداءّ
تاركةً ضفائرها لريحِ لا مهب لها
وذابحةٍ بنصلِ بياضها الثلجي أكثر
من غرابْ”(25).
هنا؛ تؤدي الفاعلية التشكيلية دورها البصري في تحفيز الدلالة؛ بوساطة التشكيل الذي تتخذه الأسطر في نسقها الشعري المتماوج؛ وهذا ما يمنحها طاقة إيحائية مضاعفة عبر التوزيع السطري المتفاوت من جهة؛ والمد الإيحائي بوساطة حركة الصور وتماوج القوافي من جهة ثانية؛ فالشاعر يرسم الحالة العاطفية لمحبوبته شكلاً بصرياً يفرغ فيه أحاسيسه الغزلية المتقدة؛ بهدف الوصول إلى أقصى درجات التآلف، والانسجام بين الشكل البصري الذي تتخذه القصيدة أو الشكل الذي تظهره الأنساق السطرية بتفاوتها الموجي من جهة ثانية، لتحقيق شعريتها؛ وتناغمها النصي.
وهكذا؛ استطاع الشاعر أن يثير المتلقي بوساطة الفاعلية التشكيلية للقصيدة؛ محققاً أقصى درجات التفاعل بين الشكل اللغوي لها؛ والمد البصري؛ مولداً لذة بصرية مشهدية في تتابع الأنساق وتمفصلها النصي.
نتائج أخيرة
1-إن للفاعلية الجمالية أسسها في النصوص الحداثية ؛ وهذه الأسس تجمعها الصورة المؤثرة والرؤية العميقة؛ والمخزون الرؤيوي والجمالي الذي يحرك فضاءاتها النصية، تبعاً لحساسية الشاعر الجمالية وخبرته الفنية وطاقته الإبداعية الخلاقة التي تتنامى بالتدريج مع كل قصيدة أو رؤية شعرية جديدة تتفتق من رحم المعاناة والحراك الشعوري المتقد.
2- إن القيم الجمالية التي تثيرها النصوص الشعرية في متحولاتها النصية الكثيرة تعود في مرجعها إلى قوة الضاغط الجمالي أو المثير الجمالي الذي تثيره رؤية الشاعر الخاصة وموقفه الوجودي وحساسيته الجمالية؛ وما غنى الكثير من النصوص الحداثية إلا لمرجعها الرؤيوي والفني ، وتخليقها الإيحائي المؤثر.
3- إن ذروة الإثارة الجمالية في بنية النصوص الحداثية تعود إلى تكاملها الجمالي شكلاً بصرياً ومظهراً لغوياً مؤثراً، وهذا- بالتأكيد- لا تحققه إلا النصوص الإبداعية الجمالية السامقة، في شكلها وأسلوبها الفني الخاص. وقد وقفنا على بعضها منها في هذه الرقعة البحثية الضيقة؛ متمنين أن يصل إلى القارئ بوعي ومقصدية واضحة.
———————
الحواشي:
(1) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال؛ ص101.
(2) شرتح، عصام ،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة)؛ دار الأمل الجديدة،ط1، ص216.
(3) ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص258.
(4) شرتح،عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص177.
(5) أبو خالد،خالد،2008- الأفعال الشعرية(العوديسا الفلسطينية)، بيت الشعر، رام الله، فلسطين، ج2/ ص197- 198.
(6) خضور، فايز،2003- ديوان فايز خضور؛وزارة الثقافة، دمشق، ص555.
(7) العبدو،زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر؛ مج(بحوث جامعة تشرين) سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، مج29،ع2، ص37.
(8) صبحي، محيي الدين، 1986- الرؤيا في شعر البياتي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص46.
(9) عوض، ريتا،1993- مقدمة ديوان خليل حاوي، بيروت، ص 10.
(10) شرتح ، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!)،ص76.
(11) المصدر نفسه،ص76.
(12) بزيع، شوقي،2005-الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت، ط1،ج2/ص566.
(13) الجندي ،علي(د.ت)- قصائد موقوتة،دار النديم، بيروت، ص76-78.
(14) شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة؟!)،ص376.
(15) عبد الصبور، صلاح،1988- ديوان صلاح عبد الصبور،دار العودة، بيروت،مج1/ص248.
(16) الحصني، عبد القادر،1998- ماء الياقوت، مركز الإنماء الحضاري،حلب، ط2، ص41.
(17) يوسف، سعدي،1979- الأعمال الشعرية،دار الفارابي، بيروت،ط1،ص 310.
(18) الجندي، علي،1969- الحمى الترابية، ص167-168.
(19) ترمانيني ،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص 203.
(20) عدناني، محمد،2006- بنية اللغة في المشهد المغربي الجديد(1990- 2003)، مج عالم الفكر، ع3، مج 34، يناير- مارس،ص111.
(21) سعيد،حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، دار أزمنة، الأردن،ط1،ص57.
(22) أبو عفش، نزيه،2003- الأعمال الشعرية، دار المدى، دمشق، ج2/ص158.
(23) ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص193.
(24) المناصرة،عز الدين،2006- الأعمال الشعرية،دار مجدلاوي، الأردن، ط1،ج1/ ص383.
(25) بزيع، شوقي،2005- الأعمال الشعرية،ج1/ص384-385.
—