سعد عباس :
للتذكّرِ الآفةُ ذاتُها
أيّها النسيان.
(1)
وفي “ذكرى عاهراتي الحزيناتِ”، أتَرْجِمُ نفسي
نكايةً بالرُواةِ
أتَرْجِمُ السُورَ
والقبورَ
وتأليهَ الخرافاتِ.
سمعتُ صديقيَ البابا يُدندنُ هكذا
وغيمةٌ من سوادِ حمولتِها تُلاحِقُهُ
يعبرُهُ الجسرُ، تُلاحِقُهُ
فإذا اقتربتْ أكثرَ منهُ، اختفيا
أقصدُ: الغيمةَ والجسرَ
وعادَ صديقي يُدندنُ:
لا الحبُّ حينَ يُحرقُ الروحَ
ممكنٌ
ولا التشبثُّ بالأملِ المستحيلِ
مستحيلْ.
…..
لعلَّ التذكّرَ يفتحُ نافذةً على الجسرِ
أعودُ الى ظهيرتِهِ البعيدةِ
وأشدُّ الزحامَ من ياقتِهِ
أبحثُ في اللحنِ المجاورِ عن علاقةٍ عابرةٍ، على ما أظنًّ.
لشارعِ الرشيدِ أنْ يُخمِّنَ، على راحتِهِ،
موعداً لنهايةِ الحربِ.
(2)
على بابِ مرحاضٍ في سينما الخيامِ
قرأتُ الحكمةَ التاليةْ :
الطريقُ المستقيمُ
أشدُّ مكراً من أنوثةِ الشتاء.
لم يكنْ ذلكَ كلَّ شيءٍ. رَسمَ الزبائنُ أشكالاً مقزِّزةً لأعضاء الـ ….،
نكايةً، ربّما، برقيبٍ حذفَ القبلةَ من شفةِ البطلِ الوسيمِ
أقسِمُ، قبلَها، لم أرَ البابا شديدَ الوضوح
مثلَما رأيْتُهُ في “ساعةِ نحسٍ”
أبالغُ بعضَ الشيءِ، ربّما
لكنّها الحربُ
ربمّا كان من الأفضلِ ألا يكونَ لي أصدقاءُ
لئلا أحزنَ حينَ أفقدُهم.
أقارِنُ، عبثاً، بين الفنادقِ الرخيصةِ
والقسمِ الداخليِّ. أفضّلُ الأخيرَ بالطبعِ لو لم أكنْ وقتَها ألجأُ للعلاقاتِ العابرةِ
كلَّ ليلةٍ يخونُني فيها الغموضُ.
أبالغُ بعضَ الشيءِ، ربّما
لكنّما الزمنُ الثمينُ في المشهدِ المحذوفِ عادةً
والزمنُ الطويلُ ليسَ زمناً
هكذا اختلفْنا.
أراهنُ أنّه أساءَ الفهمَ
أقصدُ: البابا
فلقد كان طويلاً، بمعطفِهِ الطويلِ، كذلكَ
هنالكَ، في سوقِ السرايْ.
(3)
عبثاً، نؤرشفُ كلَّ وعدٍ قطعتْهُ الفراشةُ على نفسِها
قبلَما يُحرقُها الضوءُ
ثُمَّ ننسى في تفاصيلِ الحكايةِ
أنّ للنسيانِ رائحةَ التذكّرِ ذاتَها.
بدأ الحفلُ متأخِّراً ساعتيْنِ عن موعدِهِ
قرأْنا “قصةُ حبٍّ في زمنِ الكوليرا” على ضوءِ شمعةٍ
في الصباحِ، لم أجدْ أحداً من أصدقائي.
ما الذي حدثَ البارحةَ، بالضبط؟
تنفّسَ البابا الصعداءَ خارجاً من رحمِ المعطفِ
فالطبيعةٌ أجّلتْ للتوِّ عرضَها الصامتَ في معهدِ الفنونِ، رأفةً بسلالمِ الخطيئةِ.
غيرَ مكترثٍ لضغينةِ الوقتِ
تنفّسَ البابا الصعداءَ، ثانيةً، حين رأى المرآةَ في امرأةٍ تُحاولُهُ شفةُ ترفو المسافةَ بينَ الجيوبِ الخاويةِ
والنهمِ الشديدِ لابتلاعِ ما تكدّسَ في المكتباتِ
كمْ كانَ طويلاً!، أقصدُ: الكابوسَ الذي لمْ ينتهِ بعدُ.
(4)
مرّةً، وكانَ “خريفُ البطريرك” قد اندسَّ في جيبِ معطفِهِ
توقفَ البابا أمام تمثالِ الرصافيِّ؟. كنتُ جائعاً فشبعتُ من الضحكِ
ما الذي سيحدثُ للعالمِ لو أخرجتَ من الجيبِ كفّكَ؟
كانَ ذلكَ قبل “مائةِ عامٍ من العزلةِ”
نعبرُ الجسرَ. نفترقُ
للكوابيسِ أسماؤها. تقولُ سيّدةٌ من نساءِ عالمِنا القديمِ
وللحماقاتِ، أيضاً. أقولُ، ثمّ نفترقُ
كم كنتُ أحمقَ حينَ أقفلتُ قلبي عليها
ولا زلتُ.
(5)
نُحدِّقُ في بريدِ الكراجِ الأردنيِّ على مبعدةِ بضعةِ أكشاكٍ من المدرجِ الرومانيِّ
تشمُّنا روائحُ الرسائلِ المهرّبةِ من البابا
يرانا في السطورِ شديدةِ الغموضِ. ثَمَّ متّسعٌ في جيبِ سائقِ الجي أم سي لرسالةٍ تكتبُنا.
في الحانةِ الصغيرةِ، مثلَ علبةٍ كبريتٍ، نتكدّسُ لنعاينَ أضرارَ سنواتٍ من الأنينِ.
علينا أن ننتظرَ البابا. يقولُ أحدُنا
تُعيدُنا اللحظةُ الى حيثُ افترشْنا الرصيفَ المحاذيَ لمقهى البرلمان
يُوزّعُ البابا غنائمَهُ. ثمَّ ينعسُ
تاركاً ظلّهُ
يسقطُ خلفَ معطفِهِ
لا يلبثُ الظلُّ أن يتسلّلَ خلسةً
فتُهرّبُهُ “الأوراقُ الذابلةُ”
أراهنُ أنَ الظهيرةَ لم تكنْ شُرفةً في السرايِ القديمِ حين استضافتْ على ذلكَ الرصيفِ ظهيرةً أخرى تترجمُ صمتَنا
“وقائعَ موتٍ معلنٍ عنهُ”
أراهنُ. لغةٌ، تلكَ البدائيةُ في احتساءِ الهمسِ
ومحوِ شهيقِ السؤال.
(6)
يعبرُنا الجسرُ ليستريح.
تلكَ أغنيةٌ. هنالكَ حيثُ بائعةُ الشايِ
لها ما يُشبِهُ الأمنياتِ
ننعسُ حينَ نُحصيها
نُنقِّبُ عنّا في تجاعيدِ كفّيْها
فنُبْصِرُ “الجنرالَ في متاهتِهِ”
يتآكلُ شيئاً فشيئاً
نُنقِّبُ عنّا في الشتاتِ فلا نرى البابا. نُحدِّقُ في بريدِ القصائدِ مجهولةِ النسبِ/ مجهولةِ الهويّةِ، لا فرقَ. توقِظُني فراشةٌ مشاكسةٌ في لندنَ
تهمسُ في أذني بعدَ قبلتينِ:
“ليسَ لدى الكولونيلِ مِنْ يُراسِلُهُ”
(7)
لا التذكّرُ خطيئتُنا
ولا النسيانُ. أهمسُ في أذنِ الربِّ
وأشيرُ الى معهدِ الفنونِ بسبّابةٍ نحتْتها الظهيراتُ إيّاها
أنا لم أفْشِ سرَّ البابا، أبداً
قصيدتي ….. فعلتْ.
سعيداً، ربّما، بفعلتِها
يخلعُ معطفَهُ
يرصُّ الكتبَ مثلَ سبائكِ ذهبٍ
يتوسّدُها. وينامْ
اقصدُ: البابا
بابا عمادْ.
—