منذ ثمان سنوات اغتيل الشاعر الكبير محمود البريكان في داره في مدينة البصرة، ولم يكن اغتياله بالحدث الهين الا أن السلطة آنذاك وهيمنتها على كل ما له علاقة بالثقافة وتسييره باتجاهها لم تعط أهمية لأغتيال البريكان الذي يعد من اكبر الشعراء العرب وأهمهم في تلك الفترة.. اغتيل في أواخر شباط عام 2002 ودفن في مقبرة الزبير الى جوار صديقه الشاعر محمد علي الإسماعيل..
بصرياثا تستذكر الشاعر الراحل ، وتقتطف من كتابات الأخوة الأدباء ما يمكن أن نعطي حق هذا الأديب الكبير الذي عاش بعيداً عن الناس وعن الأضواء.. لكنه كان اقرب ما يكون الى الإبداع الأدبي..
وننوه الى أن عدد من الكتبات قد وصلتنا عبر البريد الالكتروني وبعضها اخترناها من كتابات سابقة لاصدقاء الشاعر.. واننا اذ نحيي ذكرى البريكان رحمه الله بهذا الملف البسيط ندعو حكومتنا الى تبني مشروع ثقافي خاص بالشاعر على غرار ملتقى السياب أو مهرجان الجواهري او المتنبي او مهرجان المربد، أو ان تسمي مؤسسة ثقافية باسمه وهذا اقل ما يمكن تقديمه لديب عراقي كبير مثل محمود البريكان.
مجلة بصرياثا الثقافية الادبية
ملاحظة: نشرت بصرياثا ملفاً عن الراحل البريكان في العام السابق تحت هذا الرابط اضغط هنا
—————————————————-
قصيدة تنشر لأول مرة
الوصية
• للشاعر الكبير الراحل محمود البريكان
على مدى السنوات الثلاثين الماضية حين كان الشعراء في العراق يتسابقون إلى المهرجانات الشعرية في المرابد المعروفة ، وفي غيرها ، وحين كان ضجيجهم وصخبهم يعلو في القاعات الباذخة وتحت الأضواء البرّاقة ، طلباً لمجد كاذب ، أو شهرة عارضة ، كان هو في معتزله في أحد بيوتات البصرة منشغلاً مع نفسه عن تلك الأستعراضات بشيء آخر .. بهدف أسمى وأعز : ابداع أعمال شعرية حقيقية باقية تعيد إلى الشعر العربي الحديث كرامته ، وتأخذه عن جدارة وأصالة إلى العالمية ، وكان يسرُّ إلى خاصته بأن ما يقدم في تلك المهرجانات بأسم الشعر والثقافة لا يمت بصلة إلى الشعر الحقيقي أو الثقافة الحقة . وعبر سنوات من الكد الشعري الصامت الدؤوب ، والولاء النادر لفنه الشعري نجح الشاعر في تحقيق طموحه أيما نجاح . وأنجز في الفترة الممتدة من العام 1969م وحتى العام 2000م أعمالاً شعرية فريدة لا تقدر بثمن .. عشرات القصائد المتميزة التي تذهب بعيداً في مديات الإبداع الشعري غير المسبوق ، والتي ستظل على مدار الزمن حية متوهجة في فردوس الشعر الإنساني . وأعرف بحكم صلتي بالراحل ، وما كنت أدونه عنه في أوراقي الخاصة أن أعمال الفترة المذكورة ضمّها ديوانه ( عوالم متداخلة ) وهو الديوان الأحدث والأكبر للشاعر حيث سجل فيه أخطر وأهم تجاربه الشعرية . والقصيدة التي اخترناها هنا للنشر مستلة من هذا الديوان ، وهي تقدم مثالاً واحداً من عشرات الأمثلة على قدرة الخلق الشعري عند هذا الشاعر الكوني . فهذه القطعة الشعرية الصغيرة ، البالغة الدلالة في بعدها الإنساني ، مثلما هي صالحة للقراءة الآن ، فأنها تصلح كذلك للقراءة بعد ألف عام من زمن كتابتها دون أن تفقد شيئاً من جمالها أو عمقها . كما أنها تتوجه في خطابها إلى الأجيال الشابة الصاعدة في هذا العالم ، والى الأجيال الآتية عبر امتداد المستقبل على حد سواء . وهذا هو سر الإبداع الشعري الذي يبقى مستعصياً على أي تصنيف أو تعريف . ولعل أجمل ما تطالعنا به ( الوصية ) هذا النداء المخلص الذي يطلقه الشاعر بحرارة من أجل أن ننفتح مجدداً على الأمل العريض : معانقة الحياة ، والأيمان بها رغم ما قد يعتريها أحياناً من آلام وخيبات . وهذه الدعوة إلى تعزيز أواصر الصداقة البشرية بين بني الإنسان من أجل أن يتوجه الجميع في هذا الكوكب المضطرب صوب معجزة حلمهم المشترك ( المستقبل ) هذا المستقبل الذي يأمل الشاعر بأن يكون أكثر عدلاً وإشراقاً ، وأوفر أمناً وحرية لعموم بني البشر .
عبد الله البريكان
القصيدة
لكم أن تكونوا صغاراً
وأن تنعموا بالشباب
وأن لا تشيبوا سريعاً
لكم كل شيءٍ : جمال العطاء
وكنز الصداقة
لكم كل هذا الوجود العريض
فلا تقنطوا
ولا تتبعوا الشعراء إلى الوهم .
لن تجدوا حكمة في البكاء .
تسيئون فهمي
إذا لم تروا غير حزني العميق
نشدتُ الفرح
ولكن حملي ثقيل
فكونوا أخفّ وأوفر حظاً .
لكم أبسط الكلمات
ستكفي .
لكم فسحة الوقت :
أن تصنعوا أجمل الذكريات
وأن تعرفوا للفصول مسراتها
وأن تتغنوا معاً .
ألا آمنوا بالحياة
ولا تفقدوا لون هذا الحضور :
عذوبة هذا الهواء
وحرية الأفق المترامي
ودفء اليد البشرية
ومعجزة الحلم المشترك .
19/10/1984
البصرة
مختارات من قصائد البريكان
(1)
فقدان ذاكرة
محمود البريكان
ضائعٌ في الزمان
ضائع في العوالم
فاقد للبصيص من الذاكرة
سادر في شوارع لا يتذكر أسماءها
تائه في زحام المدن
يتبعثر في حدقات العيون
عسى أن يرى ذات يوم صديقاً
قديماً سيعرفه
ويعرفه باسمه
ويساعده في الوصول إلى بيته
والى أهله الشاحبين
* * *
إلهي . إذا كان هذا عقابك
دعني اجتزْ عذاب الثواني سريعاً
إذا كان هذا اختبارك
هبني الشجاعة أن أتأمّل وجهي الغريب
أعنّي لكي أتنفّس ثانية في سمائي
لكي أستعيد روائح أرضي
أعِنّي لأعثر يوماً على روحيَ الضائعة
أعِنّي لكي أعبر الفاجعة
* * *
ضائعٌ في العراء
يتفرس في عري صحرائه ،
واختفاء المعالم
مقبرةٌ لا شواهدَ فيها
هنا يفقد الميّتون ملامحهم
ويُضِيعون في الريح أسماءهم
ضاربٌ في العراء الفسيح
الذي يتوهج في الشمس أو يتقلص تحت صقيع القمر
غائب في متاه العصور
يتعثر بالكائنات المهشمة الفاحمة
وشظايا النيازك
منزلقاً كشبح
في طريق الصخور
* * *
أكنتُ صديق الوحوش القديم ؟
ربيبَ الكهوف التي أغلقتها الزلازل
أو دفنتها الرياح ؟
أكنتُ الحكيم الغريب على ضفة الكنج
يأوي إلى عزلة في سكون الزمن ؟
أكنتُ الصغير النحيل الذي قاده
الجند وسْط الصخب
ليُلقى إلى حَلَبات الأسود
بملعب روما ؟
أكنتُ المغنّي الذي كان يُنشد أشعاره
لذئاب البوادي ؟
أكنتُ الأمير الذي
أحبّ الأميرة في مصرَ ؟ حتى تمدد في جوف تابوته
وهي ترقد في جوف تابوتها
إلى جنبه ؟
يتحول في غرفة الدفن ، ينتظر البعث
بعد ألوف السنين ؟
* * *
بازغاً في الضباب
مثقلاً بعصور من الحزن
يرنو طويلاً إلى وجهه في الماء
ويخطو إلى الأفق المنكسر
أينَ شاهدَ من قبلُ هذي العلامات ؟
أين تحسّسَ هذا الجمال وهذا الفزع ؟
يستديرُ إلى منزلٍ هادئ
ويُصيخ إلى ضجةٍ لصغارٍ بباحته يلعبون
ويشم روائح حقلٍ قريب
( هل رأى مثل هذا المكان
مرة في الحلم ؟ )
ويقاوم لهفته للبكاء
وهناك تخرُّ على خده
قطرةٌ واحدة
تتشتت في شعر لحيته الأبيض المنتثر .
( ايلول 1991 )
————————————————————–
(2)
البرق 1
يطلق البرق شحنته في عروق السماء
يكشف البرق هاوية الكون
يرسم في الليل وجه العدم
يخلف ظلاً من الخوف – أزرق
منتشراً كصدى
1989
————————————
(3)
الطارق
على الباب نقر خفيف
على الباب نقر بصوت خفيف ولكن شديد الوضوح
يعاود ليلاً . أراقبه ، أتوقعه ليلة بعد ليلة
أصيح إليه بإيقاعه المتماثل
يعلو قليلاً قليلاً
ويخفت
أفتح بابي
وليس هناك أحد
من الطارق المتخفي؟ تُرى؟
شبح عائد من ظلام المقابر؟
ضحيةُ ماضٍ مضى وحياة خلت
أنت تطلب النار؟
روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها
أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة
ومهراً لأجل الرحيل؟
1984
———————————–
(4)
الوجه
نفسه، مرة بعد أخرى، يحوم على النافذة
نفسه، ذلك الوجه، مرتسماً من وراء الزجاج
في الليالي المملة وقت هبوط القمر
نفسه ذلك الشبح المتخايل في هالة الضوء
مرتعش الشفتين يغمغم
أي ابتهال خفي
وأية حشرجة صامتة؟
نفسه، ذلك الوجه، حين تهب العواصف
يظهر متشحاً بالظلام الرصاصي
مضطرباً في اطار من الشعر المتطاير
يقذف عبر الزجاج
نظرة من عذاب ورعب
وتغيبه الريح ثانية
نفسه، ذلك الوجه، حين يسح المطر
عند منتصف الليل
يظهر ملتصقاً بالزجاج كوجه غريق
يتموج مشتعلاً بالبروق
وعلى وجنتيه تسيل
قطرات المطر
والدموع
1989
————————————————–
(5)
مدينة أخرى
وراء المدينة ذات الوجوه المائة
هناك مدينة أخرى
وراء المدينة حيث تشع العمارات
حيث تدور الميادين حيث تعج المتاجر
هناك مدينة أخرى
هناك مدينة الأشباح والأصداء
ساكنة تقلب ذكريات رجالها الموتى
وراء مدينة الألوان والأشكال
والضوضاء والحركة
هناك مدينة أخرى
تراقب خطو الغريب الذي هو أنت
1990
—————————————-
نصلٌ فوق الماء
محمد خضير
يقول الشاعر محمود البريكان في قصيدته ( حارس الفنار ) : كان اليوم عيد ، ومكبرات الصوت قالت : كل أنسان هنا ، هو مجرم حتى يُقام على براءته الدليل .
ونحن نقيم الطقوس المأتمية في ذكرى البريكان نشعر أننا كلنا مذنبون ، حتى نغسل أيدينا من دم الشاعر .
عندما تلقيت نبأ مقتله ، كان عقربا الساعة يشيران إلى التاسعة من ليلة شباطية مبتلة ، اكتريت سيارة أجرة ، سارت بي بلا كوابح ، في شوارع مقفرة ، متناثرة الأضواء . المدينة الحجرية غافلة ، والسماء مبللة صامتة ، والأحياء مدثرون خلف الجدران بلا اكتراث . كنت أقصد الوصول إلى مسرح الجريمة لأتمرن على دوري القادم في مسرحية ( العقاب الجماعي ) . يبدأ الدور بالسؤال : ( لماذا تركتم البريكان وحيداً في ليلة داجية مثل هذه ؟ ) . سؤال تافه ، لم يدفع بلاءً مبرماً كان قد تقدّم مثل ( نصل فوق الماء ) ليحصد برعماً ليلياً في حديقة العباقرة التي تصدح بين أفنانها ليليات ( شوبان ) . أُقفل المسرح ، وخُتم على الدور بسبعة أختام . نحن وحيدون ، وحيدون ، مثل غيتار غجري حزين .
بادرتُ بعد وفاته بأيام إلى استنساخ قصائده المنشورة ، استخرجتها من أكداس المجلات المحفوظة في مخزن الدار ، وكأني بهذا الأسترجاع الرمزي لآثار البريكان أبريء نفسي من لعنة ( وهم ) يطاردني ، كما يطارد أصحاب الشاعر في المدينة ، وأعلمُ أن أكثرهم يحتفظ بدفاتر نسخ فيها أشعار البريكان المتفرقة ، بأعتبارها ديواناً سرياً يجهر به مزهواً في كل مناسبة تسمح بالكلام عن شخصية الشاعر المعتزل .
لقد ناء الشاعر بآلام البشر ، وبكى دموعهم ، وزفر آهاتهم ، هكذا تقول قصائده ، لا عن انتماء طبقي ، أو عن تعصب عرقي ، ولكن عن فطرة وجدان صادق ، وشعور جمعي بالألم الإنساني الواحد ، هكذا قال صديقه رشيد ياسين . إلا أن الشاعر لا يلبث أن يستدرك على تعاضده مع الآلام الجماعية التي تتدفق نحوه من كل جانب ، بأقامة مرآة الوهم حاجزاً بين الوجود وعدمه ، بين الحقيقة وظلها ، فالبشر ( يموتون بداء الوهم ) على انفراد ، كما يموتون بفعل الحروب والمجازر الجماعية على مرّ العصور .
أين تكمن حقيقة الموت الفردي والجماعي حول ملجأ الشاعر غير الحصين ؟ إن إحصاءً كاملاً لمئات المفردات المتوارية في ظل مفردة ( الموت ) المتواترة في شعر البريكان ، ستصفّي لنا أبعاد ( الوهم ) التي يتأرجح خلالها رقاص ( الساعة السوداء ) المعلقة على الجدار بين ( البحر / الصحراء ) و ( التيه / الوجود ) و ( الماضي / الحاضر ) و ( الآن / الأبد ) و ( الماء / المرآة ) . والشاعر يحصي دقات الساعة : وهم .. وهم .. وهم ..
إن الموت يظهر في ( ظلمة الرؤيا ) مثل ( نصل فوق الماء ) كما يتقدم في الوجود الخارجي مثل ( مسخ من المسوخ المقنّعة ) في ( ظلال المرآة ) . وكلنا ينتظر موته مثل ( قوس مشدود ) ولكن لا علامة على الرحيل ، والرحلة لم تبدأ بعد . إن ( الانتظار ) واحد من مراكز المعنى القوية في شعر البريكان ، يمدده ويدوّره كما يمدّد خباز رغيفاً على لهب التنور أمام عيون الجياع المنتظرين عند بوابة الرحيل .
جاء الموت أخيراً ، الموت الذي انتظره الشاعر طويلاً ، بلا قناع ، في ليلة لا كأس فيها ولا نغم ، بل وحدة شديدة الوطأة ، وصمت ثقيل . جاء الموت مسخاً حقيقياً انتزع روح الشاعر ، غائصاً في ظلمة الليل . ولم يكن الموت وهماً .
انتظر البريكان الموت ، ولم يكن مستعداً بما فيه الكفاية لمواجهته ، فقد كان أوهى من أن يقاوم صخرة ثقيلة ، جهمة الملامح ، تدحرجت في الخفاء وسحقته على سفح الوجود الأملس . بل أن رعبه من الموت بلغ أقصاه عندما لمح في حدقتي القاتل ، الذي يشهر نصل العدم البارد أمامه ، بريق الألم الإنساني المتموجة مثل ضوء فنار بعيد . غاص الخنجر بين الأضلاع النحيلة ، حينئذٍ جاء الشاعر يقين بابتداء الرحلة المنتظرة ، مع طعنة الألم الحقيقي .
لم ينتظر البريكان موته كما انتظره القدريون والدهريون ، ولم يخادعه بارتداء الأقنعة ، أو يستمهله عمراً اضافياً ، إذ لما واجه مصيره على ساعة الوجود المتحركة إقداماً وإدباراً ، يساراً ويميناً ، تخلّى عن ( حقيقته واسمه ) لـ ( الرياح التاريخية ) وانتمى إلى زمن الفكرة الجميلة ، زمن الحرية . لقد رأى في مخادعة الموت عبودية للحياة واستزادة من أثقال الوجود ، فاعتزل المصير الجماعي وواجه مصيره بمفرده . زودته موسيقى العزلة بأجمل الأفكار ، وساعدته حرية الشعر على مقاومة العدم . إنّ الحرية – وقرينها الجمال ، جمال الأفكار – أقوى اختراعات البريكان الشعرية . سار خارج الزمن لكي يتفادى ساعة الموت الحقيرة ، واتخذ الشعر سبيلاً دائرياً حول قبور الماضي . كان الشعر درعاً صنعه البريكان من عيار الأفكار الخالدة . لكن الشاعر الذي ابتكر نوعاً قيماً من مقاومة العدم ، فاجأه الموت بسلاح بدائي محمول بيد بشرية جاهلة ، عدوانية بالغريزة ، كان موته من عيار تافه لا يأبه بقلوب الشعراء وأغنياتهم الفطرية ، ولو أن قاتله انتبه عند الطعنة الأولى لقيمة الشاعر لأمسك يده عن أن تتوالى على الجسد المتهاوي بخمس عشرة طعنة أخرى ، بينما كانت غريزة العدم المجردة من الرحمة قد اسقطت كل تبرير عقلي عند القاتل الذي أمعن في انتزاع روح الشاعر .
يقال أن سائق السيارة الأهوج الذي دهس المفكر الفرنسي ( رولان بارت ) ندم ندماً شديداً على فعلته عندما وعى غفلته بحق رجل شهير . إن القتلة مصنوعون بمعايير لا يتصورها المغدورون . فلا بارت ولا منعم فرات ولا البريكان ولا غيرهم من أبرياء الحياة ( السائرين في نومهم ) قادرون على تجميد اللحظة المميتة التي تتقدم نحوهم مثل ( نصل فوق الماء ) . إنها لحظة متماهية خارج الزمن والوجود في المرايا المنصوبة على الطرق غير المألوفة ، ولا ينفع معها أي ندم . لقد أعدم قاتل البريكان خطط الشعراء لموت غير مألوف .
يقول ( بورخس ) في أحد أحاديثه : ( الخلود الشخصي ، مثل الموت الشخصي ، أمر لا يصدق ) . لكننا ونحن الذين لم نشترك مع البريكان في حياته الشخصية التي صممها مثل ثوبٍ على مقاسه ، نجد في موته خرقاً واسعاً في ثوب حياتنا . نحن الذين لم نصدّق ( موته الشخصي ) صرنا نتعزّى ببقاء قصائده شاهداً على ( خلوده الشخصي ) .
———————————————
شعر البريكان : أقاويل الجملة الشعرية وتأويلها
حاتم الصكر
من بين منجزات الحداثة غير المنظورة ، أو المحتسبة إيجاباً لها ، إعادتها هيبة علامات الترقيم داخل الملفوظ الشعري ، وإستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة ، وبالمغيّب أو المسكوت عنه خارج النص ، من جهة أخرى .
إذ لم يكن لهذه العلامات قبل التحديث الشعري الذي بدأ بشعر الرواد – النصف الثاني من أربعينيات قرننا تحديداً – أي وجود . فقد إختصت بالنثر ، وهمست شعرياً لصالح سياق القصيدة البيتي . أي المنبني على أساس وحدة البيت واستقلاله . فليس من مكان لوقف أو استفهام أو تفصيل أو فاصل صمت أو تعجب . إلا ضمن وقفة البيت العروضية والتقفوية التي جلبت معها – لتقوية كيانها البيتي المستقل – وقفة معنوية . بمعنى أن جرس القافية إيذان بانتهاء وحدة شعرية مستقلة وزناً وإيقاعاً ومعنى . وما يظل من تدوير أو ترابط في بعض التصنيفات الموسيقية التقليدية ليس إلا خطأ فادحاً يدل على عجز الشاعر أو غفلته أو خروجه على المألوف ، لما يمثله اعتداؤه على استقلالية بنية البيت الشعري من تجاوز للذائقة . وهي ذائقة تكونت في ظل حاضنة شفاهية ، كان مبرراً تماماً وفق نظامها السمعي على مستوى التلقي ، والألقائي على مستوى الإرسال والبث ، أن تحتاج لما يسوّر وحدة البيت ويصونها كي يصبح استيعاب المعنى والألفاظ ممكناً ، ومتفقاً مع الوظيفة العضوية لعاملي الأرسال والأستقبال ( اللسان – والأذن ) .
وبهبوب رياح التحديث ، تغير موقع المتلفظ والمتلقي معاً ، وصار للعين مسرح ضاج حافل بالموجودات المكتوبة على سطح الورق . وكان الأمتداد المعنوي بسبب سعة الدلالة ولا نسقيتها ومفاجأة القصيدة النامية بلا نظام صارم ، يفيض عن وحدة البيت ، ليقترح بناءً سطرياً جديداً ، يتطور لاحقاً إلى الجملة الشعرية بنوعيها : الكبرى ذات الهيمنة على البناء والدلالة والأيقاع والتركيب ، والصغرى ذات الوجود الفرعي الخادم لوجود الجملة الكبرى ، والمتنوع على وحدتها ، والمتعدد على مركزيتها أو بؤرتها المولّدة .
بهذا التراتب التاريخي الذي هو حصيلة تطور نوعي لا زمني ، وناتج عن وعي لا تقليد أو وراثة ، صار للشكل الشعري ثلاثة تشكلات رئيسة تتدرج كالآتي :
ما قبل الحداثة – الحداثة الأولى – ما بعدها
بيت مستقل سطر شعري جملة شعرية : أ – كبرى ب – صغرى
وصار لزاماً على القارئ المتعين كتابة لا مشافهة ، أن يجدد لا ذائقته حسب ، بل ذخيرته النصية . فيهجم على النصوص لأحتوائها واستيعابها بما يجهز به نفسه في عدة كتابية تناسب السطح الذي تطالعه عليه القصيدة . صار على هذا القارئ البصري أن يتأمل دلالات علامات الترقيم وأن يجدد نظرته إلى التقفية والتكرار ، والمطالع والخواتم وما بينها ، ليتسع أفقه كي يلتهم أبعاد النص ويتمثلها قراءة وفحصاً وإدراكاً .
وإذا كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد نقطة النظر إلى شعر البريكان ضمن سياق الحداثة التي ينتمي اليها في ذاكرة الشعر العراقي وخارطته ، فإن شعر محمود البريكان – وهذه مناسبة ثانية – هو شعر قراءة بصرية لا مشافهة وسماع . وعلى هذا الأساس سوف نتفحص عنايته بتوزيع الأسطر الشعرية لصالح الجملة الكبرى وتفريعاتها الصغرى ، ولكي لا نفترض التقاويل والتلفظات سنعمد إلى مسودة إحدى قصائده ( غياب الشاشة ) 1990- ونتأملها بخطّه لنرى وعيه بالمكتوب ومادية الورقة وصلتها بالعبارة الشعرية .
ما يتيحه ( غياب الشاشة ) إذن هو اتصال بصري بنص حديث لنرى قصائده وحبائله وملاحظاته ونكته وحكمته ونزقه .. لنرى وجوده كله مختبئاً وراء الصوغ الشعري المتقدم في جمل حية ذات فواصل ونهايات ومتن وبدايات واعتراضات واستطالات وقَطْعٍ بالغ الحدة ، واستئناف غريب المبتدأ .. غريب المنتهى .. غريب المسار .
في قصيدة ( غياب الشاشة ) لمحمود البريكان ، يطالعنا الوجه السطحي المقروء للنص ، أو هيئته الخطّية بثلاثة مقاطع تفصل بينها نقطتان سوداوان أراهما الشاعر علامتين على الأنتقال من المقطع الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الثالث . وهذا البناء المقطعي بعض أقاويل التحديث وفذلكاته سواء أجاء كما في هذه القصيدة من دون ترقيم ، أم جاء مرقماً بارقام أو مسلسلاً باحرف وما شابه . وليس البناء المقطعي هنا عبثياً . إن النقطة السوداء تعلن نهاية حركة وموقف يشملها المقطع ، وتمهد لحركة وموقف يليانه ، ولا بد أنهما متغايران على مستوى التركيب والدلالة . وهذا ما حققته قصيدة البريكان . فقد كان مقطعها الثاني تثبيتياً يقدم مشهداً حاضراً . بينما كان الأول ينقض كآلة تصوير على كِسْرةٍ مشهدية ليرينا المكان أو مسرح الأحداث بجملة صغرى تمتد على خمسة اسطر ، ثم يذهب إلى الماضي مسترجعاً ماضي القاعة كلها من خلال الشاشة ( التي كانت .. وسط هذا الجدار ) . أما المقطع الثالث فهو استعادة لفراغ الشاشة من المعروضات والخروج إلى الدلالة الصريحة ( انطوى مهرجان الحياة ) .
على هذا الأساس تنقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع ظاهرياً . لكن تقنية جملها الشعرية التي لا تلتزم بحدود السطر الشعري ترينا وجود أربعة انتظامات مقطعية واضحة التباين هي :
1- مقطع المكان – مسرح الأحداث والأستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية ويبدأ من ( مخزن ألأمتعة ) إلى ( كغبار ) .
2- مقطع الحضور الغيابي أي استحضار الشاشة الغائبة الآن ، لتحوّل القاعة السينمائية إلى مخزن عاديات قديمة . ( ها هنا كانت الشاشة الساطعة ) إلى ( والدموع ) .
3- مقطع تثبيتي يهدف إلى تكريس مقطع المكان ، لكنه يتنوع على فراغ فلسفي أو وجودي ( للمكان روحه الصامتة ) إلى ( متعلقة بالجدار ) .
4- مقطع السؤال المصيري الذي يبدأ دلالة من السطر الخامس ( من يرى يتذكر ؟ ) .. إلى حين ( تضاء المصابيح ثانية ) . فالشاعر قدّم اللحظة على السؤال بنائياً .
إن المقاطع الأربعة المستنبطة بالقراءة الثانية المدققة بالعلاقات والأرتباطات وكذلك بالأنقطاعات والفصل البنائي والدلالي ، تجسد كلها ثنائية ( الماضي / الحاضر ) التي هيمنت على النص كله . وسنرى أن الجملة الشعرية الكبرى وتفريعاتها موظفة هي الأخرى لتجسيد دلالات هذه الثنائية التي بهظت روح الشاعر ووجوده حتى جعلته يتخلى عن حيادية التصوير التي عرف بها وخروجه من المشهد الشعري وتغييب الأنا – أنا الشاعر – لصالح أنا النص ووجوده ، وهي اسلوبية خاصة بالبريكان لازمت تعبيراته الشعرية منذ البدء . فدوماً هناك راو أو سارد أو مصور مختلف وراء الروي والسرد والتصوير . إنه يعرض علينا ما يراه سينمائياً دون تعليق . وهذه الميزة جعلت البريكان متناسق الأداة والهدف في هذا النص ، مجافياً – كعادته – أية غنائية من لوازمها هيمنة الذات وعائدية الضمائر والأطفال لها .
لكنه في هذه القصيدة بالذات يتخلّى عن حياديته في الأسطر الشعرية الثلاثة الأخيرة حين تساءل خارج سياق الشاشة ووجوهها المضيئة ومشاهديها ، عن الناس هل غادروا ( أحلامهم ) لا مكان العرض وحده .. وفسّر ذلك بالسؤال أيضاً عن تلاشي مهرجان الحياة كتلاشي الظلال على شاشة خالية . وكأنه جاء بالمعادل الرمزي المساوي لخلو الشاشة وفراغ القاعة فصار :
تلاشي ظلال الشاشة الخالية = انطواء مهرجان الحياة ومغادرة الناس ..
إن هذا البوح الدلالي ربما أضرّ بإيقاع النص المعتمد على حيادية إيهامية . فالشاعر لا يقف محايداً إزاء الحياة والموت ، إمتلاء الشاشة وفراغ القاعة . لكنه اكتفى بالتستر وراء الموتيفات الذكية الحزينة والجارحة ، الحادة بفعل التذكّر ويقظة الذاكرة . أما النهاية فقد جاءت اقتحامية إقحامية . هجم الشاعر على المشهد وسأل سؤاله الحاد فأقحم وعيه في صمت الأشياء وغبارها ورمادها .
تعرفنا حتى الآن على ثنائية وثلاثة مقاطع ظاهرية وأربعة مقاطع دلالية . ونصل عند هذه النقطة إلى التعرف على الجمل الشعرية ، لنجد أن العنوان ( غياب الشاشة ) هو من النوع المباشر المعبر عن المحتوى . إنه عنوان استباقي أي أنه يحكي ما سيجري ويرشدنا إلى بؤرة الحدث فكل ما سنقرأ هو عن ( غياب الشاشة ) . وجمل النص الأخرى هي تفريعات تنويعية لهذا الغياب . إن الشاشة ذات وجود محيّر . فظلامها انتهاء ، وضوؤها إعلان عن بدئها وحياتها . لكنها لا تضيء إلا وسط ظلام القاعة . إن الظلام المطبق إشارة إلى بدء توهج الشاشة ، فهل أراد البريكان باستحضار هذه الثنائية أن يذكّرنا بخروج الحياة من العدم أو لزوم العدم لوجود الحياة وأنبثاقها ؟
لقد تسبب هذا الأزدواج بأزدواج دلالي محيّر . فالشاعر يعدّ الفراغ التالي لأنتهاء العرض مساوياً للأضاءة التي تعني النهاية . فخروج المشاهد مقترن بالضوء الذي ينتزعه من تماهيه بالمرئيات على الشاشة . فتحقق على مستوى الترميز شيء مزدوج هو :
– إضاءة القاعة = فراغ الشاشة + غيابها
بمقابل – عتمة القاعة = امتلاء الشاشة + حضورها
يترتب على ذلك سؤال يتصل بالتلقي : أيكون غياب الشاشة وفراغها بالضوء مساوياً لغبار القاعة وتحولها إلى رماد من الذكريات والأشياء العادية ؟
إن الجمل الشعرية التالية للعنوان كلها تجيب على هذا السؤال وتكرس الثنائية الكبرى أعني ثنائية الماضي / الحاضر أو الحياة / الموت أو الحضور / الغياب .
تعرفنا هنا على ثنائية كبرى إذن وتنويعاتها الداخلية الثانوية . كما تعرفنا على جملة كبرى يلخصها العنوان وتشتغل القصيدة كلها من أجل تكريسها منذ السطر الأول حتى علامة الأستفهام التي ختمت السطر الأخير من القصيدة . وصار المخطط التجريدي للنص واضحاً بتعيين الجمل الصغرى وهي بالتتابع :
– جملة ( مخزن الأمتعة …. )
– جملة ( للمكان روحه الصامته … )
– جملة ( ها هنا كانت الشاشة الساطعة )
– جملة ( من ترى يتذكّر ؟ لحظة تتصاعد … )
– جملة ( الختام – السؤال الذاتي الإقحامي : وهل غادر الناس .. وانتهوا وانطوى مهرجان الحياة ؟ )
تتخلها كلها وتخترقها وتعلوها جملة النص الكبرى ( = جملة العنوان ) : غياب الشاشة .
إن البناء الجملي الحقيقي ( = النحوي ) مؤسس على الإسمية . فالجمل لدى البريكان اسمية أي أنه يتخذ هيئة المخبر عن الأشياء لا الفاعل . وهذا يناسب مقام الدلالة . فالتلفظ بالإخبار يوافق تماماً موضع الشاعر كسارد للنهاية : نهاية الشاشة والقاعة والحياة والماضي . هنا لن تقوم الأطفال إلا بدور ثانوي . لذا نجدها مكملات لا أساسيات . أي أنها تستخدم لصوغ الخبر أو الحال أو الصفة لا لتترأس الصياغة وتقدمها لبناء الحدث .
حتى البناء الجملي الفعلي ياتي ناقصاً أي بالفعل ( كان ) . أما البناء الفعلي التام فهو تابع للأسم مثل :
1- الشعاع الذي يتراقص ….
يموج … { صلة الموصول + خبر }
2- السكون
وحده يتنفس { خبر }
3- الكائنات الخفية تكمن [ صلة الموصول ]
4- المهود التي صدئت [ صلة الموصول ]
5- لحظة تتصاعد …
حين تشع ..
حين تضاء [ إضافة للزمن – تكملة للحظة والحين ]
6- من ترى يتذكر [ خبر ]
7- التي أئتلقت – التي شاهدت [ صلة الموصول ]
8- هل غادر … [ تابع للسؤال ]
وانطوى .. [ تابع للسؤال ]
كما تتلاشى .. [ تابع للسؤال – تكملة بالوصف – التشبيه ]
إضافة إلى المطلع ( الأثاث القديم يتنفس فيه السكون / يتساقط ) [ خبر ]
إننا لن نجد بناءً فعلياً عدا هذه المواضع العشرة التي يمكن اختزالها إلى وظائف محددة هي :
1- الإخبار 2- صلة الموصول 3- تعلق بالزمن 4- بناء الأستفهام 5- التشبيه .
إن الشاعر ليس معنياً بالحدث وكيفية ما حدث بل الإخبار عمّا حدث ، والتفلسف حول مغزى هذا الحدث ، لذا جاءت الجمل الأسمية ذات هيمنة مطلقة على الجمل الشعرية كبراها وصغراها . وكان تصوير المكان والماضي والحاضر بالمفردات التي تبدو متناثرة منفصلة لا يجمعها إلا مونتاج شعري ذكي ، يسهم بربط مفرداته قارئ ذو خبرة سينمائية . لعله أحد الخارجين إلى النور من عتمة القاعة نفسها ، والعائدين اليها للسؤال عن مصير الشعر .
إذا شئنا تسمية الجمل الصغرى فسنجدها في :
1- مقطع المكان – مسرح الأحداث والإستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية . ويبدأ من ( مخزن الأمتعة .. ) إلى ( كغبار ) .
2- ها هنا كانت الشاشة .. والدموع
3- للمكان روحه … متعلقة بالجدار
4- من ترى يتذكر ؟ لحظة تتصاعد وشوشة الناس ..
5- وهل غادر الناس … على شاشة خالية .
إننا لا نحفل بطول الجمل لتعيين موقعها في النص – فجملة ( غياب الشاشة ) ليست جملة نحوية فهي مصدر ومضاف اليه . لكن تقدير الحذف : هذا غياب الشاشة . أو المروي هنا غياب الشاشة . أو لماذا غياب الشاشة ؟ يجعلنا نعطيها صفة جملة . بل نجعلها جملة النص الكبرى . ولهذا لم يكن الشاعر محتفياً بالبناء الجملي الداخلي بل يتجاوز وقفات العروض والقوافي والدلالة والتركيب ، ليصنع جُمله ُ من عبارة واحدة أو كلمة واحدة أحياناً :
كغبار
والدموع
السكون
بينما يحشد أكثر من جملة نحوية في سطر شعري واحد يفصلهما عامداً بنقطة ( = علامة الأنتهاء ) .
المهود التي صدئت ْ . السرّة ذات النقوش
ولتعمّد الفصل في غير مكانه النحوي يلجأ الشاعر إلى وسيلتين : 1- العطف الجملي بلا عاطف نحوي 2- الأنتهاء بالنقطة ثم ترك بياض أو فراغ قبل استئناف جملة جديدة . وإذا ما تأملنا مفردات السطر أعطينا الشاعر الحق في هذا الفصل . فالكلمة الأولى في السطر ( المهود ) ستؤول دلالياً بعد الكبر والزواج إلى ( الأسرّة ) . وذلك يلزم صمتاً مكانياً يهيء للأنتقالة الدلالية . فما بين صدأ المهود ونقش الأسرّة عمر نكبر به ونجتاز المسافة من المهد إلى السرير بمتعة ، سنرى أنها كاذبة حين يتساوى المهد والسرير في أرضية قاعة باهتة الروائح ، مظلمة ، فارغة .
إن الأختزال الرائع للعمر بـ ( المهود التي .. ) و ( الأسرّة ذات ) إنما يعتمد على مشاركة القارئ وسياق الدلالة المشترك . فالسرير مكان جنسي ورمز المضاجعة والنوم المشترك مع الزوجة أو المرأة عامة . أما المهود فهي حاضنة البراءة والنوم المحايد غير الموظف لمتعة .
ولنتأمل سطراً آخر يراكم مفردات المخزن المهجور الذي كان قاعة عرض صاخبة تضج بالوجوه والسفن والنساء والكنوز والبيوت والفرسان .
الأواني – المعاطف – الأغطية
أن هذه الموتيفات الثلاثة غير متشابهة رغم أن الشاعر وضع نقطة لبنها ليباعدها . فالأواني غريزية – طعامية . والمعاطف تدثرية طقسية ، والأغطية : تدثرية سريرية . لكنها تشترك في انسانيتها أولاً وكونها جموعاً تدل على ممارسة الحياة من خلالها .
النقطة إذن فاصل داخل السطر كما هي خاتمة في نهايته .
أما النقاط الثلاث التي تلي إضاءة المصابيح فلها دور امتدادي . إنها تقول للقاريء أن ثمة حدثاً سيجري . يخرج الناس من الأحلام والمتعة . من العدم المريح والتذكر لينغمسوا في التعب اليومي ، لذا صاغها الشاعر خطياً هكذا :
حين تضاء المصابيح ثانية ..
أما الأقواس التي تؤطر كلمة ( النهاية ) فهي استخدام حداثوي أيضاً . تلاعب الشاعر بكلمة النهاية فقوّسها ليصور ظهورها المكاني على الشاشة إيذاناً بانتهاء الفيلم المعروض ثم ليمزج ذلك بنهايتين : 1- نهاية النص نفسه 2- نهاية الحياة . وهما متولدتان من نهاية الفيلم التي تحملها حروف كلمة ( النهاية ) . وعلى المستوى الإيقاعي دوّر الشاعر الأسطر الثلاثة ليصل إلى النهاية . لأن قراءة كلمة ( حروف ) دون إضافة إلى النهاية يوقع في كسر إيقاعي سببه الخطأ العروضي . أما القراءة المتصلة فتظل فيها التفعيلة ضمن جو المتدارك ( = الخبب ) وتفعيلته ( فاعلن – فعلن ) والخارجة إلى ( فاعلان ) أحياناً .
حين تشع حروف ( النهاية )
إن الشاعر يرسمها ( النهاية ) بقوسين ، مستقلة على سطر لما لها من دور بنائي ودلالي ، جعله يغفل عن صلتها العروضية أو الإيقاعية بما حولها ، ويتجاوز إضافتها إلى كلمة ( حروف ) .
أما الأسئلة المتلاحقة في الخاتمة فقد جعلها الشاعر مختومة بعلامة الاستفهام التي لا نجدها في الاستفهام العمودي ( أي الشعر المنظوم تقليدياً ) .
إن هذه العلامة (؟) ذات وجود بصري يضاعف بنية السؤال ومعناه إذا ما غفل القارئ أو طال السؤال أو تجرأ أحياناً :
من ترى يتذكر ؟ أيبن الوجوه التي إئتلفت ؟
وللشاعر في التقنية الداخلية عدة أساليب منها : الاستطراد بالوصف وهو أكثر الأساليب ترداداً ( 20 صفة صريحة + صفات بالاسم الموصول ) . وهذا يناسب مقام الإخبار عن ( غياب ) الشاشة .
أما مجيء الحال بالصيغ التي أكثر منها شعراء الحداثة لتقوية بناء الجملة مثل ( البيوت رافلة ) أو ( السعادة خالصة ) فهناك ( أربعة أحوال ) .
( البيوت رافلة / السعادة خالصة / المناضد مكسورة / الخزانات مغلقة )
ويكون التتابع التركيبي حسب درجة ترداده اسلوبياً كالآتي :
1- الجملة الاسمية ( الأخبار الفعلية )
2- الموتيف المتراكم بالمفردة
3- بالوصف
4- بالحال
5- بالتشبيه ( 3 مواضع فقط : كرماد / كغبار / كما تتلاشى ..
ويلزمنا أخيراً تأمل موقع الإيقاع في البناء الجملي الجديد . فإذا كانت الدلالة ( = التحسر على ما آلت إليه الحياة والأحلام ) هي المهيمنة انبثاقاً من جملة النص ( = جملة العنوان : غياب الشاشة ) فإن الإيقاع بمستوييه العروضي والتقفوي يؤازر توزيع الجمل الشعرية .
فكما إن الشاعر لم يراع = النظام البيتي أو السطري لصالح البناء أو الأنتظام الجملي الأعم ، فإنه لم يراع ، التوزيع العروضي رغم أن تفعيلة المتدارك تسمح بصلة أكثر حميمية لتقارب سكناتها وقصرها ( فاعلن – فعلن ) لكن الشاعر جعل منها امتداداً للدلالة والصوغ . فلم يلتزم بوقفاتها . هكذا نقرأ ( والأثاث القديم ) : فاعلن / فاعلان . ونقرأ كلمة الختام في المقطع الخطي الأول : ( والدموع ) : فاعلان . وكذلك ( للمكان ) : فاعلان …
أما التقفية فهي مهملة في شعر البريكان دائماً . وفي هذا النص جاءت القافية في المقطع الأول :
.. الشاشة الساطعة
………….
القاعة الواسعة …./ والمغامرة الرائعة
ثم تظهر غير مكتملة في كلمة ( والدعّة ) تفصل بينهما أسطر كثيرة بحيث لا يظل لجرس القافية من أثر في نفس المتلقي الذي يتسلم معاني لا أصواتاً في هذا النص الكتابي الحديث .
وفي المقطع الثاني : سطران مقفيان تتابعيان :
روحه الصامتة
.. روائحه الباهتة
سرعان ما تُنسى إذ نغرق في أسطر مرسلة دون تقفية . لكن مهيمنة صوتية أخرى تفاجئنا هي حروف المد الكثيرة في النص التي تتواتر لتصل إلى حد تصويت القافية أو الإيقاع مثل :
الناحلة / الشاحبة / الفارغة / خالية
وقبلها / الرائعة وقوافيها والباهتة وقوافيها ..
إن غياب الشاشة أو خلوها بالضياء والضجيج ثم بالفراغ والغبار لهي كناية بجملة واحدة طويلة عن النهاية : ذلك السؤال – اللغز الذي حيّر جلجامش وظل على صدور البشر الشعراء حتى يومنا هذا – فلقد غاب بغياب الشاشة المشهد والمشاهد ومكان المشاهدة معاً .
ملاحظات :
1- يلعب العنوان دور النواة أو الجملة الكبرى أو البؤرة المولّدة لخلايا النص .
2- القصيدة مصورة بخط الشاعر . لهذا تتحقق ( مقصديته ) في تعيين حدود الأسطر والجمل الشعرية . ودلالات علامات الترقيم التي نضع لها في القراءة { موضعاً خاصاً } .
3- يتلخص التجريد الخطي للنص بما يمكن عرضه هنا :
1) جملة كبرى : غياب الشاشة
2) جمل صغرى : خمس جمل
3) مقاطع خطية : 3 مقاطع
4) مقاطع داخلية : 4 مقاطع
5) تراكيب : أسماء / صفات / مفردات / أحوال / تشبيهات / فصل / وصل
6) ثنائيات : كبرى : الموت / الحياة
صغرى : الحاضر / الماضي / عتمة / إضاءة / غياب / حضور / مخزن قديم / قاعة / شاشة
7) تقنيات كتابية : نقطة النهاية / نقطة الفصل / العطف بلا عاطف / الأقواس / علامة الاستفهام / نقاط الأمتداد .
8) التقفية : 5 قواف
9) الإيقاع : فاعلن / فعلن / فاعلان + أحرف المد
غياب الشاشة (*)
• محمود البريكان
مخزن الأمتعة
والأثاث القديم
يتنفس فيه السكون
يتساقط فيه الزمن
كغبار
ها هنا كانت الشاشة الساطعة
وسط هذا الجدار
وهنا كانت القاعة الواسعة
قاعة العرض مكتظة في الظلام
والشعاعُ الذي يتراقص بين الظلال
يموج عوالم للحب والسحر والخوف والأنتصار
والمغامرة الرائعة
ورجال الفروسية الأولين
والنساء الجميلات . والسفن الخالدة
وبلاد الكنوز الخفية
والمدن الهائلة
والبيوت البسيطة رافلةً في الدعّة
والسعادة خالصة .
والدموع
* * *
للمكان
روحه الصامتة
للهواء روائحه الباهتة
كرماد حريق قديم
السكون
وحده يتنفس .
الكائنات الخفية تكمن داخل أشيائها
المهود التي صدئتْ . الأسرّة ذات النقوش
الكراسي باذرعها الناحلة .
المناضد مكسورة بعض أطرافها .
الخزانات مغلقةً .
الزهور الصناعية الشاحبة
الأواني . المعاطف . الأغطية
أُطر الصور الفارغة
متعلقة بالجدار
* * *
لحظة تتصاعد وشوشة الناس في قاعة العرض
حين تشع حروف
( النهاية )
حين تضاء المصابيح ثانية …
من تُرى يتذكّر ؟ أين الوجوه التي أئتلقت ؟
والعيون التي شاهدت كل شيء ؟
وهل غادر الناس أحلامهم وانتهو ؟
وانطوى مهرجان الحياة ، كما تتلاشى الظلال
على شاشة خالية ؟
(*) نموذج من شعر البريكان .
——————————————————————————————
د. رياض الأسدي
(1)
فنار العزلة /
قداس البريكان الكوني
على حافة العالم يتشكل عالم آخر ، بعد إن تطوى كل الأشرعة المكتظة ويستريح المسافر الدائم على بقعة من الثلج كونتها ريح قديمة آتية من لامكان غالباً ؛ في ذلك الموقع الذهني المحدد بعقلانية بياض البدء تتكون بناءات فوضى عالم متجدد زلق لتبدأ أولى خطوات المسافر بعد استراحة قصيرة من الرؤية المشحونة بالتأمل الداخلي العميق نسبياً ؛ هناك ؛ في ذلك المكان الافتراضي تُعلَنْ نهاية صفحة من رحلة العالم الشاقة وبداية قداس لروح شاعر كوني ، وقف بغرابة مطلقة على حافة العالم دون أن يغمض عينيه لحظة ، وحيث بدأت معه حداثته في سلسلة من العلاقات الكونية قبل أن ينشئ أي علاقة أخرى ممكنة .
حداثة الشاعر محمود البريكان من النوع الكاسح المدمّر Cataclysm تجوز بعنف تلك الأنواع من حداثات التقليعة البسيطة ، أو الحداثة الناتجة عن ردود أفعال بإزاء أحداث أو أوضاع بعينها ؛ إنها حداثة كامنة في ذاتها ولا تترك بنىً حضارية أو فكرية إلا وقوضتها ، كما أنها في الوقت نفسه لا تتوانى عن طرح بديل مشحون بالتساؤلات والرغبة في المعرفة من جديد لملء فراغ العدم بإشارات أشدّ قسوة من كينونته الخاصة ؛ ولتكون قاعدة مثمرة من الحدوس العالية بإزاء عالم يرفض التغيير إلا على نحو عاصف ! فيقترح البريكان نموذجه لنا ( = معادله الموضوعي ) آتياً من رحم الماضوية الميثولوجية ( على الثلج ريح قديمة / زفزفة الريح / تعيد ذكرى حلم غابر ) ( قداس لروح شاعر على حافة العالم – 1970 ) . فأثث البريكان قصيدته من مكونات درامية توراتية معروفة ، وترك المقطع الأول منها بلا عنوان – وكأنه يريد من المتلقي أن يبحث عنه في المعارف القديمة ، أو ربما يكون هو صوت الشاعر نفسه في آن أيضاً . أما المقطع الثاني / الصوت(2)( الدبّ الأكبر يظهر في أفق آخر ) فقد جاء من معارف فلكية أولية للمراقبة الإنسانية القديمة ليلحقها بالصوت (3)( بنات نعش تختفي في الفلك الأحمر ) وهي معلومة فلكية أيضاً . لقد استخدم الشاعر معارف الإنسان الفلكية الأساسية لرسم صورته الشعرية ، كما أكد على معارف فيزيائية تتعلق بالحياة في القطب كما في الصوت (2) ( الريح القطبية لا تنقل رجع الصوت / لا تنطلق الصرخة / لا يتذبذب في الريح سوى نفس الموت ) . ويتلاعب البريكان بين معنيي الريح والرياح على نحو دقيق فيتطلب من المتلقي دقة في التفكّر أيضاً .
تكمن حداثة البريكان الكونية في تأمل الحدث الخلقي السريع والمكثف الذي يتظافر بعمق مع التخطيط الفكري المسبق والقصدية الفائقة قبيل الكتابة ، فالبريكان هو الذي يكتب القصيدة ولا تكتبه هي في اندفاعاتها وفورانها فتأتي مرسومة على ورق هندسي نحتاج فيه إلى أدوات خاصة لفك تكويناتها الداخلية . وتتمظهر قصيدة ( قداس لروح شاعر على حافة العالم ) لتريَ حداثة كونية مبكرة في الشعر العربي الحديث ، في اعتبار العالم الخلقي / الآني محض دراما منظمة يمكن للشاعر وحده أن يرويها فقط من خلال مركزه الكوني / المعرفي . وقد أفاد البريكان في تأثيث قصيدته تلك من المعلومات المهمة والكثيفة التي ترجمت عن آينشتاين ونظريته النسبية وما أحدثته من إثارة في عقد السبعينيات من القرن المنصرم . وهكذا فقد فتحت تلك النظرية الباب للشاعر لكي يطل على حافة كوننا الأحدب من موقعه الأرضي لبث تساؤلات شعرية فلسفياً مرة أخرى ، وبدا الأمر جدّ واضح في موقف الجوقة ( عند خطوط الحدود / تندمج الأزمنة ) لقد راعى البريكان تحول الزمن إلى صفر عند حافة الكون !.
وفي القداس البريكاني ثمة إعلان عن إعلان المتخيل بالأرضي ( = الأحلام + الحوادث ) إذ يتمازج ذلك أو يتقاطع عند حدود الحياة والموت : بين الحقيقة والمطلق ؛ بيد أن البريكان حتى في لحظة الوقوف تلك يبدو غير عابئ بالمطلق ، اللهم ، إلا بتلك الإشارات الخفية الناتجة عن ابتسامات الأموات للأحياء ؛ تلك الملاحظات النهائية عن لا جدوى البداية وعبثية ما كان ، فلا يخبرنا بها إلا الأموات وحدهم لأنهم سبروا فداحة اللعبة من مكانهم . ثم أن الشاعر يأتي في تلك اللحظة المهيبة – وهو الآن بعد رحيله الاضطراري يكونها – ليسجل كل ما حدث في رحلة طويلة غامضة وفاقدة لمعناها . هاهو يشن هجوماً ضمنياً حتى على ما قدمه آينشتاين لنا من إمكانيات تفسيرية محضة إذ لا شيء مضافاً في لحظة ( ترتسم الطفولة البيضاء في صفحة النهاية ) وهي صفحة لو توقفنا بإزائها قليلاً لوجدنا إن كل معاني النقاء والطهر الطبيعيين الناتجين عن فلسفة ( ياسبرز ) تتحول إلى غموض لعين في النهاية .
أن حداثة البريكان المتعالية يمكن أن تجد لها معنىً من خلال تفتق الحزن الإنساني الدائم من جراء الخلق والوجود الإجباري فيه ، وربما يكون في الوقت نفسه متعة معقولية في شنّ ذلك الهجوم من التساؤلات حول السرّ من الوجود ؟ وقداس البريكان الجماعي الذي يبدأ بنا ينتهي فيه وحده ؛ لأنه الذات الشاعرة الوحيدة المعنية بفضّ السر على الأقل ، ولكن ، حتى البريكان المدجّج بآينشتاين يعجز عن الإجابة بسبب تلك الابتسامة الغامضة الإشارية التي يرسلها الأموات للأحياء دائماً . أنها الحدس نفسه عن البداية والنهاية عن الخلق والمصير والعالم والمطلق المنتظِر ( بكسر الظاء ) عند حافة الكون . وهكذا من فنار العزلة يمكننا مراقبة كل شيء مع صعوبة بالغة في إعطاء تفسيرات معقولة وممكنة فما بالك بتلك التفسيرات التي تقدم قناعات كاملة ؟!
لاشيء في ظل تلك الرحلة المجانية التي ألقينا فيها في لحظة ما وأجبرنا على الخوض فيها سوى الموت ( = نقطة التحول إلى معرفة أخرى ) فهو كامن فينا وفي الوجود أيضاً . ولذلك يعمد الشاعر الكبير محمود البريكان على وضع نهاية غير حتمية لدراما عالمه مثلما يراه هو حيث تتقاطع الحدود الفيزيائية وتنكفئ الأفكار على أعقابها في لعبة الخلق والإنسان ، وما قصيدة ( قداس لروح شاعر على حافة العالم ) إلا محاولة لإثارة التساؤلات دون تقديم أية إجابة ممكنة . ومن هنا فهي إعلان مبكر لولادة حداثة كونية نقلت الشعر العراقي الحديث إلى مرحلة متقدمة على زمانها في التطلع الشعري المستقبلي .
—————————————-
(2)
تمثال للبريكان
يشاع عن الشعب الروسي بأن من أراد أن يلتمس السعادة فإنه عليه أن يجلس بالقرب مــن تمثال الشاعر العظيم لروسيا بوشكين ، وهو قول ما أنفكّ الروس يتداولونه حتى أصبح واضحا بأن ليس ثمة حزانى في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ما دام الروس يواضبون على الجلوس عند تمثال بوشكين ! . وإذا كان الروس كانوا قد تخلصوا من براثن أعتى دكتاتورية في القرن العشرين فقد بقي لديهم باسترناك وشولوخوف وايزنشتاين وغيرهم من رواد الحرية واصحاب الكلمة النبيلة يباهون بهم الأمم الأخرى .
ومن الغريب أن الروس قد أطاحوا بتمثال لينين الذي يعدّ المؤسس لأمبراطورية السوفييت ، ومن قبله الرجل الحديدي الدكتاتور جوزيف ستالين إلا انهم ما يزالوا يحتفظون بتمثال بوشكين على الرغم من كلّ تلك التقلبات السياسية الكبرى والتحولات الاجتماعية الخطيرة ، وهذا يعني أن البقاء للكلمة الحقة دائما وأبدا ، فزبد البحر مهما كان كثيفا يذهب هباء وأما ما ينفع البشرية فهو يمكث في الأرض خالدا حتى يوم الساعة . ويبدو أن تقليد نصب التماثيل هو توكيد لدور صاحب التمثال وكذلك للذات الجمعية لكل شعب أو أمة . والأمة العراقية تحتاج في هذه المرحلة إلى اكتشاف الذات اكثر من أي وقت مضى ؛ ولذلك فاني أتوقع قيام العراقيين بإخراج رموزهم الوطنية على سطح الأرض إلى جانب رموزهم القائمة التي لم يستطع النظام الدكتاتوري السابق إزاحتها ولسوف نجد بعد حين ـ بإذن الله تعالى ـ إعدادا من النصب والتماثيل إلى جانب تمثال الحبوبي والمتنبي والسياب والجواهري الذي أقام له العراقيون الكورد تمثالا في السليمانية تقديرا منهم لمواقفه المشرفة بازاء قضايا الشعب العراقي إبان محنته الكبرى قي العهد المباد الثاني .
والشاعر العراقي الكبير محمود البريكان واحدا من رموز الوطنية العراقية عاش وقضى على قناعته بالكلمة ودورها في بناء الشخصية الإنسانية ، فهو لم يساوم عليها ـ كما فعل اخرون ـ وعدّها كهفه الذي يأوي إليه إذا ما اشتدت الخطوب وادلهمت ليالي العراق وحال ما بينه وبين الناس . ولا يختلف اثنان في الإنجاز الكبير الذي قدّمه الشاعر إلى أمته في ظرف هو أشدّ ما يكون على الشاعر الذي لم يغادر مدينته في اكثر أيامها قسوة ورهبة . كانت البصرة بالنسبة للبريكان الأم والعالم والوجود برمته . وكان من الصعب عليه أن يجد نفسه من دونها . ولذلك ومن باب الوفاء لذلك الشاعر الكبير أن يقام له تمثال إلى جانب زميله ومجايله بدر شاكر السياب .
ويجدر بكلية الآداب جامعة البصرة أن تراعي الإنجازات الإبداعية للأدباء البصريين الكبار من أمثال البريكان وغيره باعتبارها معنية أكثر من غيرها بالحياة الثقافية في المدينة فتقوم بالتعريف بالبريكان وغيره من مبدعين البصرة بأن تقيم الندوات الأدبية والمؤتمرات الثقافية والحلقات النقاشية ، وليس أن يمر مهرجان المربد عليها مرّ الكرام ـ ومن المفيد أن نذكر في هذا المجال بأن السيد رئيس الجامعة ومساعدوه لم يحضروا افتتاح مهرجان المربد الذي أقامته البصرة على عاتقها ، وكأن الأمر لا يعنيه والشعر ليس من اهتماماتها ـ والبصرة مدينة الكلم كله .. ؟؟! فعلام بعد ذلك نكتب عن ارتباط الجامعة بالمدينة ؟ وكيف يمكننا أن نغير الأوضاع الموروثة عن النظام السابق ما دامت الأمور تسير وفق السياقات السابقة ؟ إنه لأمر غريب أن لا تدري الجامعة بنشاطات الثقافة في المدينة وقد وجّهت لها دعوة رسمية ؟
لكننا نؤمن بأن الزمن القادم هو للثقافة قبل غيرها ، ومن هنا نطالب الجامعة في كلّ مناسبة أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية الثقافية المناطة بها وأن تغادر وبلا رجعة عوامل الكسل والتقليدية في النظر إلى دورها التربوي والاجتماعي والثقافي . ومن هنا أقترح على الجامعة أن تتولى مسؤولية تنفيذ التماثيل لمبدعينا بالتعاون مع كلية الفنون الجميلة التي تمتلك من الطاقات الخلاقة ما لم يتوفّر في مكان آخر . واودّ أن أذكر مرة أخرى بأن ما تبقى لنا هو هذه النخبة الطيبة من مبدعينا الذين بقوا في ذاكرة التاريخ وذاكرة الأمة التي لن تمحوها كل أنواع التقلبات الصغرى والكبرى على حدّ سواء .
———————————————–
(3)
آتون محمود البريكان
فصل من كتاب
مقدمة :
كتب الشاعر رشيد ياسين ذات مرة: إن أبداع البريكان يتقدمنا بمائة عام. وكتب بدر شاكر السياب: البريكان شاعر عظيم، ولكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر.. هذا الموضوع هو فصل من كتاب وضعته قبل اغتيال الشاعر الكبير محمود البريكان (1931- 2002) وكان قسم من هذا الكتاب قد قرأه الشاعر بنفسه، وعلق على بعض ما ورد فيه من آراء حينما تزاملنا في معهد أعداد المعلمين بالبصرة وقبل أن يحيل البريكان نفسه إلى التقاعد بعد مسيرة طويلة من العمل في التعليم.
وكنت قد نشرت في جريدة العراق عام 2000 مقالة أولية بعنوان (آتون محمود) قبل اغتيال البريكان، وقد ناقش الشاعر معي هذه المقالة بإسهاب على الرغم من أنها كانت أولية كما هي عادته في الاهتمام بما يكتب عنه. هذا الشاعر المهم الذي بقي محافظا على كينونته كانسان حرّ في عصر باع آخرون أنفسهم بأبخس الأثمان للدكتاتورية. بقي البريكان رمزا واضحا للإنسان الحر في كلّ وقت وعمل بقوة من اجل الاستقلال الشخصي مما أوقعه بطبيعة الحال في حزمة من التساؤلات المكثفة حول معظم مواقفه الخاصة. لم يكن البريكان بالطبع يستمريء هذه العزلة التي طبعته بطابعها ووشحته بغموضها الآسر، بمقدار ما هي كانت وسيلته للمقاومة في عصر قلّ فيه الرافضون وشحّ المقاومون للظلم والهمجية.
كان البريكان إنسان حرية بالدرجة الأساس وباحث غريب عن كلّ ما هو ممتع وشفيف وبدائي في هذه الحياة الصحراء القاحلة التي عاشها في البصرة، وفي هذا العصر المروع من الموت والتدمير للإنسان الذي بقي الهمّ الأكبر والوحيد للبريكان دائما. فعظمة البريكان الإنسان أقوى من عزلته التي فرضت عليه وفرضها هو أيضا على نفسه، وقوة روح البريكان لا تكمن في انطوائه ولا في استرساله بهذه المتعة اليومية في القوقعة المقيتة حيث تدور حوله الأبصار والآذان وتترى الأخبار تلو الأخبار وتنسج شبه أساطير حول شخصه قبل شعره طوال ما يقرب من خمسين عاما وهو يلوذ بكهف كلماته ويتحسس لوعة العالم كلّه. البريكان على أية حال يشبه أولئك (القديسين) المنقطعين وسط دير جبلي معزول. لكن هذه العزلة الآسرة ما كان ثمة يتوقع لها مثل هذه النهاية الغريبة حيث تلقى البريكان الموت – غريمه الأبدي – وجها لوجه وفي لحظات مروعات قلما عرفها شاعر من قبل.
عصر السكين العسكرية
لحظة قفز القاتل سياج المنزل القديم المحكم الإغلاق، كان يعرف تماما كيفية الدخول إليه في تلك الليلة الصيفية الرطبة، ولحظة هوت تلك السكين العسكرية شبه الصدئة المزدانة بحزوز قاتلة لا محالة على الجسد الناحل الهرم مرات ومرات- قيل سبع عشر طعنة- كان اثر الطعنات الوحشية مهيبا على الجثة الهامدة الوحيدة التي جازت السبعين عاما. وكان الشعر القتيل في تلك الليلة مع الجثة التي لفت ببطانية عسكرية قديمة وعلى عجل ثمّ ألقيت وسط المنزل. الوجـه أصفر باهت، غريب، والعينان جاحظتان محملقتان بلا شيء العالم من جديد؛ اجل ليس ثمة ما يستحق التأمل لو تعلمون ها قد انتهت واحدة من اللعب الخاصة سريعا وكلّ ما هنالك أن النهاية كانت مفجعة وغريبة وغامضة؛ لا تبتئسوا ثمة نهايات أبشع منها قادمة؛ فقط أمهلوا نفوسكم قليلا من (الراحة الكاذبة) بعد لهاث سرمدي طويل من البحث عما كان وعما سيكون؛ كأنما العينين تختزنان سرا ما عـــن الخراب الإنساني المبهم، والشعر الثلجي المنفوش يذكر كرة أخرى بموت أحد حكماء بابل القديمـة. كان الدم السر الأزلي قد لطخ المكان كله تقريبا، وهاهي جثة الشاعر تسكن في وهدة من الزمـن مروعة، أخيرا، وسط المنزل.
كنت اعرف قاتلي كما أعرف أصابعي، نام على سريري، وأكل من زادي، وأعرف كل قتلتـي كلّهم أيضا، يا لها من فترة عجيبة؛ كان قاتلي يتجول بين كتبي وقصائدي وأحجاري وأسطواناتي، عبد الرحمن بن ملجم آخر، يصعب علي بعد ذلك أن أثق بكائن مخلوق لا ثقة إلا بما أخلق أنا. فأرى الدم المتدفق من جسدي لا يشبه الشعر فبم كنت أكتب إذن؟! قاتلي لم يهو عليّ بسكينه الآن، قاتلي قتلنـي منذ أن تهت في تلك الصحراء العميقة التي لا تعرف الخروج منها؛ فكنت أحد أولئك القادمين الغرباء من جوفها: قبائل المتوجسين والممسوسين والكهنة والعرافين والصعاليك والناجين؛ أولئك الأخيرون ممن أسهبوا في خداع ذواتهم أكثر من أية قبيلة معرفية أخرى؛ كل أولئك على حدّ سواء مني، وكنت معهم دائما كظلالهم، وماتوا ميتتي، وتاهوا معي وتهت معهم ولعبنا معا ألعاب التمويه بالمعرفة لكننا خرجنا جميعا بلا شيء في النهاية. وان لم يطعنوا بسكين عسكرية مثلي لكنهم كانوا معي لحظتها وشهدوا ما شهدت. يصعب إيقاف تدفق الدم الآن: هذا السائل الغريب الذي يبقي كلّ ما هو مفجع قائم دائما، ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ اهرق سرّ الحياة أمامي. هذا مـــا يشغلني الآن أكثر من أي سرّ أخر حملته معي ولم أبح به لأحد من المخلوقين. كان موتي أيها السادة قديما قديما منذ أن فكر قابيل بفعلته؛ ومنذ أن وقفت على حافة العالم، هنـاك، في زمن مبكر من حياتي، حيث صهلت خيول الخليقة ولأول مرة في وجهي؛ فبدأنــي الشعر.
هل يمكن أن تكون معارف العالم مكورة في لحظة واحدة فقط من تيه في حومة كاملة من ضياع؟ أم في عمى آخر يجلل العيون الهامدات.
القلق الأعمى
آتون البداية
الفوران الأزلي في البحث
عن الروح
عن العالم
هل يتوقف سيل الدم على توقف الشعر فيّ؟ أسئلة تؤرقني ليل نهار ولا إجابات تعتصرني كلما هوت على الجسد الذاوي لمسة حنان بشرية. ولماذا أفكر بعد أن جفّ كلّ شئ؟ يراعى للإنسان أن يرى كلّ ذلك دفعة واحدة: سرّ الحياة وسرّ العالم وسرّ الشعر. وللأخير سرّ الأسرار من وجهة نظري. فلتتعظ روحي من روحي لكن الوقت أزف. فلحظة رفع الجسد عن الأرض الباردة رفع الشعر إلى السماء العلى، كان جسدا خفيفا على أية حال مثل ريشة هاربة وسط ريح عابثة؛ كأنه جسد صبي في الثانية عشرة من عمره. قتل الشاعر محمود البريكان أخيرا وللمرة الأخيرة أيضا في الساعة العاشرة تقريبا مساء 28 شباط عام 2000 في داره الواقعة في حي الجزائر بالبصرة. وكان القاتل هو ابن أخت زوجته الثانية ويدعى (لؤي خضير باقر) إذ أقتحم دار الشاعر بعد أن فقز السياج الخارجي وشرع بطرق الباب الداخلي: طق طق طق! هاأنذا قادم من وجع عالم أخر ليس لك خبرة فيه قط. وكان من طبع الشاعر أن لا يفتح بابه إلا لمن أطمئن إليه أو له معرفة سابقة به، وربما أن القاتل كان من المعروفين لدى الشاعر ففتح له الباب ببساطة مما سهل عليه اقتراف جريمته.
أثير لغط كثيف حول الدوافع الكامنة وراء الجريمة ، لكنها في الواقع لا تخرج عن الخلافات الأسرية العادية بيد أن خطورتها الحقيقية في الطريقة البشعة التي صفي بها جسد الشاعر الذي جاز السبعين عاما ونيف . ويبدو من خلال سير التحقيقات الجنائية التي أجريت في البصرة وبغداد أن السرقة كانت هي الدافع الوحيد للجريمة ـ ولكن وراء الأكمة ما وراءها ! وربما سرّ الشعر لدى البريكان سوف يسحب معه سرّ مقتله أيضا .
ولد الشاعر الكبير محمود البريكان (أو البريجان كما هي في لهجة أهل الزبير) عام 1929 من أسرة متوسطة متعلمة تمتدّ أصولها القبلية – كما هو شأن العديد من الأسر الزبيريـة والبصرية – إلى نجد. وكان المثل لما يزل حيا: نجد ولادة والبصرة حاضنه. وكان والده داود البريكان ممن عملوا في إشاعة تعليم البنات في بدايات القرن العشرين في مدينة الزبير، وقد لقي الرجل وقتئذ عنتا ورفضا كبيرا من أهل المدينة بسبب ولعه بتعليم بني الإنسان عموما. ويذكر مجايلو الشاعر أنه كان (أنطوائيا) منذ صغره وهو يعاني من ضعف دائم في بصره، لكنه أظهر تفوقا ملحوظا في اهتمامه المبكر باللغة العربية نحوها وصرفها وآدابها، على الرغم من أن البريكان الشاعر كان قد درس القانون كما هي رغبة والده، واستطاع نيل البكالوريوس عام 1961من جامعة بغداد ودون أن يمارس المحاماة لحظة واحدة.
درّس البريكان في مدرسة النجاة الأهلية الابتدائية مدة ثماني سنوات، ثم سافر إلى الكويت عام 1953 وله من العمر ثلاثة وعشرون عاما فمارس التعليم خمس سنوات ونصف في مدرسة قتيبة. وبعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958عاد الشاعر إلى وطنه عام 1959 مثلما عاد العديد من العراقيين أملا بالأوضاع الجديدة التي هيأتها الثورة الوطنية آنذاك. ومن اجل أن يسهم في التغيير الكبير الذي شهده العراقيون كما كان متوقّعا لديهم لكن البريكان وكما حدثني في عام 1989 قال: بأن النظام الملكي في العراق على ما كان عليه من سؤ إلا إن النظام الجمهوري هو الأسوأ من حيث قضايا الحرية و الدستور والقانون.
ولعل ذلك الموقف يعدّ مدخلا لتفهم مواقف البريكان من السلطة السياسية ورغبته الدائمة في الابتعاد عنها ، بل أن ذلك الموقف انسحب على الحياة العامة أيضا ، وامتدّ ليطال الأحجام عن نشر شعره طوال أكثر من أربعين عاما؛ وهكذا أصبح شعر البريكان يتداول على نطاق شخصي باستثناء حالات قليلة أو نادرة سمح الشاعر بها بنشر نتاجه الإبداعي ، بل حدا به الأمر في المدة الأخيرة من حياته إلى أن يرسل تنويها إلى الصحف والمجلات العراقية ـ وربما بعض المجلات العربية ـ إلى عدم نشر أي نتاج له ما لم يكن مختوما بختمه الخاص حفاظا على استمرار طريقته في التواصل مع الآخر .
حينما حمل جسد البريكان إلى مقبرة الزبير التاريخية الشهيرة بات من الصعب معرفة مصير أشعار البريكان وعما إذا أمكن الحفاظ على كل شعره غير المنشور!. سار خلف النعش الحالم بعالم آخر أقل قسوة وأقل عنفا أناس قليلون إذ لم يجر أي تشييع للشاعر الذي يعد بحقّ واحدا من أكبر شعراء الحداثة في العالم العربي ، فهل كان البريكان يتوقّع لنفسه مثل هذا الموقف ؟ ثمّ دفن الشاعر في مقبرة الحسن البصري إلى جانب أكابر الشعراء والعلماء في تاريخ الأمة الإسلامية .
(مسحورا بنداء لا يفهمه
منتزعا من مملكة الأفراح الأرضية
مغتربا حتى عن نفسه
يخطو نحو الباب )
( المأخوذ 1992 )
إن الاغتراب الذي نشر أشرعته في شعر البريكان هي الغربة ذاتها التي عاشها الشاعر بين ظهرانينا، وقد عبّر عنها على نحو بليغ في وصف الشاعر ” مغتربا حتى عن نفسه ” وهو يخطو إلى باب عالم آخر أكثر غرابة عن عالمنا الأرضي . ويأمل البريكان أن يكون ذلك العالم الافتراضي : أكثر حرية واقل قسوة وعنفا .عاش الشاعر كتابته حياة ومماتا، ومن الصعب أن نفصل شعر البريكان عن سيرته . وامتدت الغربة البريكانية إلى حياته الاجتماعية
إذ حمل الصمت طاقة هائلة على مواجهة الذات / العالم وعبر عن ذلك في أدق التفاصيل اليومية ،فكتبت زوجه الثانية الشاعرة عدالة العيداني:
( فطوبى للحدود
لصبر الأنبياء
طوبى للبريكان
في صمته هزّ محافل الأدباء
لا شعراء
لا شعراء
الماء نصل
والمبتغى بغاء )
———————————————-
نوافذ البريكان … نوافذ للسكون واللابوح
رمضان مهلهل سدخان
ثماني نوافذ هي تلك التي فتحها البريكان في قصيدته ” نوافذ ” التي كتبها عام 1984 والتي بدأها بـ ” نافذة فتاة ” وأنهاها بـ ” نافذة الشاعر ” وما بينهما انفتحت نوافذ لكسيح، لعجوز، للطفولة، لعامل وافد، للحب، ولمحطة. هذه النوافذ لم تك تعج بالحركة بل غلب عليها طابع السكينة والهدوء والتأمل، أكساها الشاعر بشكل مقصود ببعضٍ من سكينته وهدوئه وتأمله المتأتي من انقطاعه التام إلى النظر إلى الكون وإلى كينوناته نظرةً فلسفيةً نأت به كثيراً عن دنيا الابتذال الشعري أو اجترار بعض القوالب التقليدية. وبذلك جاءت نوافذه، سواء تلك التي بدت مادية أم تلك التي شخصت مجردة، جاءت تلخص دنيا هذا الشاعر الذي آثر على أن لا يوسّع حدوده مع بقية خلق الله ونسج حوله جداراً من العتمة والضبابية يتعذر اختراقه بيسر. فضلاً عن أنها نوافذ تبدو طارئة وقتية تمثل مقاطع مستعرضة للحظات زائلة، لكن الشاعر جعلها تنحفر عميقاً في ذاكرة المتلقي من خلال رسمه بكلمات متأنية، ملمحاً بارزاً لكل نافذة من هذه النوافذ. إذن، زوال لحظة تلك النوافذ لم يلغِ سرمديتها وديمومتها التي اكتنزت بالرموز والإيحاءات التي جعلتها تنفتح إلى مختلف التأويلات وعلى مستويات عدة. ومن بين ما عكسته “نوافذ” تلك القصيدة هو نصف البوح أو اللابوح ربما، وكذلك حالات السكون والوحدة واللاحراك التي سكنت اغلب مفاصل تلك القصيدة.
في البداية لابد من التنويه بأن عنصر السكون الذي خيّم على هذه القصيدة عبر نوافذها الثماني لا يعني الشلل والمَوات بل هو نوع من الترقب المفلسَف الذي ولّدته اللحظة الآنية في جسد كل موقف – نافذة – من تلك المواقف – النوافذ – التي تشكّل بمجملها مجسات تقود إلى عوالم ذلك الشاعر الذي لم يفتح نافذة سوى ” للضوء والريح وعطر الأرض ” لكنه عندما هجم منها ” صخب العالم “، أغلقها و ” كأنه لآخر الزمان”. وبالرجوع إلى تمظهرات اللابوح والسكون في هذه القصيدة، يبرز واضحاً تَرافقُ سكون الموجودات الجامدة مع الموجودات المتحركة – العاقلة وغير العاقلة – باندماج ذكي بين الإنسان اللاعب الرئيس وبين هذه الموجودات التي تؤثث هذه القصيدة بشخوص هدّهم التعب وأنهكهم طول الانتظار والسأم.
إنهم شخوص شبحية أثيرية لم يتكلف الشاعر كثيراً بالبوح عن مكنوناتهم أو الإفصاح عن ملامحهم مما حرّك، بشكل عمدي، فضول المتلقي ليجعله يرسم هو بنفسه ملامح كل شخصية بالاستئناس بالموقف الذي حشرها فيه الشاعر. هذه التقنية، أي إشراك المتلقي برسم الجزء غير البارز وإكماله بمقتضى تلميحات الشاعر، ألقت على كاهل ذلك المتلقي عبء الغوص عميقاً بين تلافيف تلكم الشخوص والأمكنة التي وُجِدت فيها للخروج بشيء ربما ينطبق مع ما كان الشاعر يرمي إليه.. أي أن في القصيدة طلاسم ينبغي فك شفراتها، وإلاّ بدت القصيدة عادية تتحدث عن فتاة وكسيح وعامل وافد … وما إلى ذلك.
هذا البوح الناقص يتكشّف في جميع تلكم النوافذ الموصدة المتجلببة بستار الليل في معظمها، فتبدو الشخوص في الداخل أسرى هذه العتمة المادية والمعنوية والسجن القسري الذي بدا مزدوجاً في بعض المواقف ليحيل الشخصية إلى مجرد ظل ليس إلاّ:
ومرة أو مرتين في هزيع الليل
يلوح عبر شاشة الستار
ظل الفتاة المائل الأسود
وحتى إذا ما انفرجت تلك الضبابية، يكون البوح ناقصاً والحدث نصف مرئي، عندما يطالعنا ” كسيح ” وهو في مستوى الجبهة ” يبرز في كرسيه / يواجه الشارع / يحاور الفراغ “. نصف البوح هذا ما يلبث أن يضيع في غياهب الظلمة مرة أخرى شيئاً فشيئاً ” حتى يسود الليل “، فينتهي المشهد ويبقى ظل نافذة أو ربما لا نافذة. ويستمر نصف البوح عندما يفتح ” نافذة عجوز” من دون أن يخبرنا عن الزمان سوى أن تلك العجوز تنظر لترى إن كانت الشمس قد غابت أم لا، والتي عندما تقترب ” من حافة النافذة / تلوح في الإطار / كصوت لعالم يموت.”
ونفس الشيء ينطبق على ذلك “الولد” العابث الذي يحاول مراراً أن يتسلق قضبان النافذة لكن على حين غرة ” تمتد من ورائه يدان / يُسحب للداخل..” فيتلاشى ذلك المشهد كلياً فتظل النافذة شاخصة تبكي زمناً قد ضاع. وكذا ” العامل الوافد ” الذي يحجب شعره الأشعث مجال الضوء، وكل حاجياته ” حبل وثوب واحد مغسول / زاوية المنضدة / قنينة ” و ” عدة ملصقات / من ورق الصحف”. وإذا كان للحب نافذة، فهي نافذة ليست ككل النوافذ، لم يفتحها ليرى ما بداخلها، بل جعل ينصت إلى ما يرشح منها من قهقهات وغمغمات وأصداء من سكون، مكتفياً بتصويرها من الداخل:
نافذة مسدلة الستائر
يرشح منها الضوء
وظل موسيقى
وقهقهات
وغمغمات طفلة
وصوت أطباق
وأصداء من السكون
نافذة زرقاء
تضيء في وجه ظلام الكون
وتترى النوافذ، وتترى معها حالات اللابوح في مفاصل القصيدة لننصدم بعامل المحطة المتعب الذي ” يظهر نصف وجهه في الضوء ” وكأنه تلاشى بين جداول السفر وكشوفات القطارات. أما النافذة التي جاءت باسم ” نافذة الشاعر “، فهي بلاشك نافذة لشاعر هذه القصيدة، تنطوي على فعلين حركيين: احدهما خاص بـ “الفتح” المؤقت الزائل وثانيهما خاص بـ “الغلق” الأبدي السرمدي كانغلاق تابوت. وبفعل الانغلاق إنما أراد الشاعر أن يحصّن نفسه ويقلّص حدود تعاطيه مع موجودات هذا الكون إلى الصفر. وهكذا فإن نافذة الشاعر:
يفتحها للنور والريح وعطر الأرض
ويهجم منها صخب العالم
يغلقها كأنما لآخر الزمان
ومثلما يُُغْلَََََََََََََََََََََََََََق تابوت إلى الأبد
هذا وقد امتزج نصف البوح أو اللابوح بسكون فرضَه الموقف المؤسَّس عليه الخط العام للقصيدة سواء بشخوصها أو بأشيائها. فالفتاة تُرى مرة أو مرتين، وبرغم هداة الليل، لاتني بشيء في هذا المرور الأثيري. والكسيح يحاور الفراغ، وأخاله حواراً بصرياً ترقبياً لحين انسدال الليل ومن ثم الضياع في غياهب الظلام. والعجوز لا تقوى على الاقتراب من نافذتها إلاّ لمعرفة الوقت لتغطّ بعد ذلك في غيبوبة دائمية لتجسد عالماً يموت. وبرغم عبث الطفولة، تخمد شقاوة “الولد” الذي يتسلق القضبان عندما ” تمتد من ورائه يدان” تسحبانه للداخل لينتهي كل شيء إلى لاحراك. وكذا العامل الوافد وعامل المحطة والشاعر، كلهم مشتركون بديدن واحد وهو التدرّع بالسكينة الجمّة وافتعال الهدوء.
أما أشياء هذه القصيدة فهي الأخرى تشي بالسكون الذي يكاد يكون مطبقاً: أصيص، زهرة واحدة، كرسي، ملصقات، ورق الصحف، قنينة… الخ. ومما عزّز ثيمة السكون أيضاً الأفعال المستخدمة التي تبعث أصواتها على الهدوء والبعد عن الصمت: تبزغ منه زهرة، تراقص الهواء، يلوح عبر شاشة الستار، يبرز في كرسيه، يحاور الفراغ، تمتد أحياناً يدٌ معروقة، تنظر العجوز، يحجب أحياناً مجال الضوء، … باستثناء الفعل يهجم في ” يهجم منها صخب العالم ” الذي جاء بصيغته الحاضرة إنما ليتساوق مع “صخب العالم” وكذلك ليعطي تبريراً على إغلاق الشاعر تلك النافذة مرة والى الأبد.
أخيراً، يمكن القول بأن تلكم النوافذ إنما جمعت بين المادي والمعنوي الذين اقترنا معاً في اندماج مثير لتشكيل رؤية واضحة تؤطّر لموضوع كبير، على المتلقي الانشغال بفهم أجزائه غير المصرّح بها. إذ أن جلّ هذه النوافذ جاءت موصدة محصّنة بأستار أو جاءت صغيرة بحيث أن رأساً أشعثاً ربما ” يحجب أحياناً مجال الضوء” من الوصول إلى الداخل الذي يحيل القاريء إلى عوالم فضّل الشاعر أن لا يهتك أسرارها أمام قارئه. وهكذا سرعان ما ترتسم صورة كولاجية سريالية اندمجَ فيها المادي مع المجازي، والداخل مع الخارج، والموت مع الحياة، والضياء مع الظلام، والأحدية مع التعددية. وفضلاً عن هذا كله، تبقى نوافذ البريكان نوافذ للأسى الشفيف وليس نوافذ للفرح الغامر، نوافذ للكتمان وليس نوافذ للبوح المباشر، نوافذ صُوِّرت من الداخل، لكنها رغم ذلك تنتظر مَن يفك شفرات شخوصها وأشيائها الموجودة هناك.
————————————————————
الشخصية الدرامية والقناع
قراءة في قصيدة ( هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة ) لمحمود البريكان
عبد الرزاق صالح
تشير الموسوعة البريطانية إلى أن مصطلح ( القناع ) يرتبط بمصطلح ( الشخصية الدرامية ) ولذا غالباً ما يكون التعامل مع المصطلحين كمترادفين ، ولكن هذا التعامل ربما أدى إلى خلق نوع من الحواجز بين مصطلح ( القناع ) ومصطلح ( الشخصية Personal ) . إن الكلمات أقنعة ، وأن الحقيقة سرٌّ ، وقد يحق لنا أن نتساءل ، لماذا أهتم الشعراء بهذه المبادئ ، ونقبوا من جانب آخر في الأساطير ، ففي الأساطير هذه الفائدة الأولى ، وهي انه علينا أن نبحث لا أن نترك عقلنا خاملاً .
إن الشعر داخلية تخاطب داخلية ، وهذا الخطاب لابد أن يتحاشى كل غاية خارجية غريبة عن الفن وعن المتعة الجمالية الخالصة وإلا لهبط الأثر الشعري من علوّه الحر وبارح المنطقة الشاهقة والتي لا وجود له فيها إلا لذاته ، وسقط في مضمار النسبي والنثري ، ومع ذلك لا يملك الشعر أن يدعي لنفسه موقفاً منعزلاً في قلب الواقع العيني ، فما دام حياً لا مناص له من المشاركة النشطة في الحياة . يقول البروفسور بورا : ( أن الرغبة في التعبير عن التجربة بدقة متناهية تحتل المكان الأول عند الشعراء المحدثين ، وهم يدركون متطلبات ذلك ، وهم ابعد ما يكونون عن اللامبالاة والتهور ، فالبراعة والدقة مثلهم الأعلى . ) .
انطلاقاً من هذا المبدأ ومن الإحساس بضرورة الاعتماد على أقنعة ذات دلالات مُعاصرة تكون قادرة على التحول تبعاً لنظام العصر ، راح الشاعر العربي الحديث ينحت شخصيات ذهنية يشحنها بالدلالات الجديدة والفاعلة . وقد تكون تجربة محمود البريكان في قصيدته ( هواجس عيسى بن ازرق في الطريق إلى الشغال الشاقة ) هي التجربة الأولى في الشعر العربي الحديث على مستوى القناع الذهني ، تتمتع هذه القصيدة بخصوصية تجربة محمود البريكان الشعرية ( حاول البريكان بقوة الأفكار وشجاعة الشاعر ، أن يستأنف دعواه خارج السرب ، وحين كان الشعراء من جيله ينتقلون إلى أساليب جديدة بمكانزم عام ، استطاع البريكان أن يتأكد من تفرده )(*). ولقد جاءت القصيدة تحمل تاريخ 1958 وهو تاريخ متقدم على مستوى قصيدة القناع الناضجة والقناع الذهني بصورة خاصة في الشعر العربي الحديث :
( يخفي المسافرون
وجوههم في صفرة الظل ويحلمون
بالغدِ ، الرجال متعبون يحلمون
بالبيع والشراء ، والفاقة والثراء
والأهل والبنين ، والوداع واللقاء )
إن استخدام ( البريكان ) لشخصية ( عيسى بن ازرق ) كقناع ، وكانت من خير أقنعة الشاعر الدرامية ، وتكمن أهمية هذا القناع في رؤية هذه الشخصية لخبرات شتى ولأناس مختلفي المستويات ، يدورون في حلقة الحياة الرتيبة ، وهو الشاهد على تلك الأوضاع في الوقت نفسه في هذه القصيدة ، يطور محمود البريكان ، بنية متميزة للقصيدة ، يمكن أن تسمى بنية (ثنائية) المركز .- وهذا الصوت أو هذه الصرخة مقطع من قصيدة الشاعر – هكذا تكون لحظة الحضور هي ذاتها لحظة الغياب تماماً ، كما كانت عبر القصيدة كلها ، في كل موضع تتجلى فيه هذه الهواجس ، سواء كان التجلي حقيقياً أو شبحياً ، وبهذا يكون ( البريكان ) قد استخدم هذه الشخصية – القناع – استخداماً واقعياً مجسداً حركة الحياة الفعلية ، حتى لو كانت على مستوى الشخصية الدرامية ، لأنه اتخذ من هذه الشخصية شاهداً على الحياة ، متحدثاً عبر هذه الهواجس ، ينطق بالرأي السديد وسط الفوضى والتناقض . أن هذا التجلي الداخلي يتوضح من خلال العلاقة بين بنية العمل الفني – أي البنية الداخلية للقصيدة – وذات الشاعر الذي رفع صوته ورأسه – من خلال القصيدة – كمن يريد أن ينفخ بالبوق ، محذراً من وقوع الكارثة ، وعلى مستوى الواقع العيني ، وفي قلب الأحداث في تلك الفترة ، تاريخ كتابة القصيدة ، والمسار الذي تتخذه الحالة بعد ذلك .
(*) الصوت في قصيدة القناع – فصل من رسالة الماجستير ( القناع في القصيدة العربية )/ ضياء الثامري / جامعة البصرة .
——————————————————————————-
الرائي .. وعظمة الروح الإنسانية
خضر حسن خلف
لقد أصبح معروفاً ، وبديهياً لدى الجميع : إن الشاعر هو الذي يستطيع أن يأسر السماء والأرض في قفص الشكل . وهذه خصوصية تجسدت بتركيبته المختلفة عن باقي الناس فهو بينهم يمارس دوره بحيادية تامة ، ولكنه يؤشر ويسلط الأضواء باهرة على ما يجري . وهو توأم ذلك الجمال في سحر اللغة . ومهما يكن من أمر التحديد ، فأن ( البريكان ) الشاعر ، قد حوّل كل ذلك إلى مغزى ، تمثّل في رجل عاش ومات لفنّه وللأنسان . وعلى الرغم من عزلته ( الجسدية وليست الروحية ) فقد وجدناه ( قصيدة ) لا حاجز بينها وبين المتلقي . تغترف من الحياة ، وتبتنى شؤونها وشجونها بشفافية الخصوصية الشعرية .
لم أعرفه عن قرب ، ولم أصدق كل ما قيل عنه ، وما نسج حوله من أوهام وحكايات . لأنني قرأته شاعراً وأنساناً غير بعيد عن هموم ما حوله وما يحدث . فها هو يطلّ على العالم مشاركاً ، ومشخصاً في أقتناصات هي من صميم خصوصية الإنسان وخباياه ، وفي اتجاهات ذات أطياف مختلفة في سيكولوجية الناس . وهذا يعني أن لا غربة مرضية تعتوره ، وتبعده عن القضايا الصغيرة والكبيرة . وبعين المصور ، والرسام الحاذق ، يرصد ويصل الينا مباشرة من ( نوافذ ) تؤطره كل واحدة منها مشهداً شعورياً من تلك التي تلم بنا بأستمرار .. نافذة فتاة .. نافذة كسيح .. نافذة عجوز .. نافذة للطفولة .. نافذة للحب .. نافذة محطة .. نافذة الشاعر التي يقول فيها :
( يفتحها للنور والريح وعطر الأرض
يهجم منها صخب العالم
يغلفها كأنما لآخر الزمان
ومثلما يُغلق تابوتٌ إلى الأبد )
والشعر عنده ليس استعادة حسب ، بل تحليلاً ، ليصل إلى الوشيحة الغامضة بين الألم والسعادة بمظهر من يقول شيئاً بصعوبة ، وهو شيء بسيط يمكن قوله بسهولة في شكل مقارب ، وذلك عذاب ليس بوسع طريقته اللغوية تجنبه ؛ ولكنه يظلّ يلجها ، مستبطناً حالتها بالأسئلة فمن قصيدته ( خلف الزجاج ) :
( وحينَ يضع الرجل يده على كتفه
يجفلُ ويطلقً نظرةً كنظرةِ فزع
الرجلُ يتكلم ويتكلم بطريقةٍ يائسة
أهو اعترافٌ بخطأ ؟ والتماس مغفرة ؟
توضيحٌ لموقف لا يفهمة الصغار ؟
محاولة اقناع تصطدم بحاجز الغضب ؟
استنطاق لأنتزاع يسرّ حرج ؟ )
إن الغاءه الزمان والمكان ، ليتواصل مع الإنسان . وبحرية لا يملكها غيره . يلفت النظر في قصيدة ( البدوي الذي لم يرَ وجهه أحد ) . القصيدة التي تتحرك في اتجاه الحالة والمصير . وغرابة ذلك ( المشخصن ) فيها . فكأنما يتحدث عن ( ملك ) على الرغم من نسبته اليه :
( الذي كتب الله أن لا يموت
وأن لا يرى وجهه أحد )
يصعب علينا أن نتبين أي نقطة من الزمن يجب أن ننظر اليها أو منها :
( نمت طبقات الزمان
على جلده . فهو لا يتذكر صورته
صورة البدء )
كما أن المتلقي صعوبة في في تحديد الموقع الذي نفذ منه وتطور فيه :
( أنا البدوي الذي نسخته التجارب
واستعبدت روحه المعرفة
وشلّت يديه الأعنّة ،
واخترمت صهوات الجيادِ إرادته
في الرحيل الطويل . )
إنها أصوات داخلية ، وهواجس تشير إلى أشياء قد ضاعت ودفنت الماضي وأشياء ما تزال تهيمن . فهي قصيدة هويات مستمرة بوجهةِ نظرٍ متغيرة . ننظر منها في أماكن متباينة في سياقٍ منسابٍ خلال القصيدة .
لاشك أن البريكان مستبطن فذ لكل التجارب الحياتية . فمن خلال القراءات والتثقيف الذاتي استطاع أن يجسد شواخص سمعنا بها ولم نرها ، فهو ملتقطٌ ، ومتمثلٌ للموضوعة بأحاسيس شاعر كبير .
والظاهر أنه تعلم في صومعته تلك اتقان كل شيء ، وأجبر نفسه على الصبر والمطاولة في (يوغا ) الصمت . يصغي إلى موسيقى الروح . وينفذ إلى أعماق الشعراء .. اليوت .. ريلكه .. طاغور .. خمنيث .. فروست .. أراغون .. يفتشنكو .. باوند .. ييتس .. ويفلح في معرفة خصوصية كل منهم . ويميل إلى الذين يمثلون ( عظمة الروح الإنسانية ) كما قالها للشاعر حسين عبد اللطيف في مقابلته الفريدة .
إن ( البريكان ) جهد نفسه في أن يكون التقاطاته الإنسانية من الحياة ، عوالم يصوغ من خلالها عاطفته ورهافة حسّه في شعر يتمترس في كل صورة من صورهِ الشعرية .
ذاك هو العارف الذي يدعو إلى استشراف المستقبل دون الألتفات إلى الوراء لأن ذلك يعرقل الخطى ، من خلال استعادة عالم فطري جديد غير ملوّث :
( إنسَ ما تعرف
وأبدأ كآدم
يخطو على الأرضِ التي أخصبتها البراكين )
– استعادة العالم 1997 –
—————————————————————————————
محمود البريكان : اغتيال القصيدة وسقوط قناع المثقف
عبداللطيف الحرز
(( في البصرة ينطق النورس
لغة الرصاص
يعطي للاحجار
والاصداف والقواقاع
كورسات المعركه
…. يسامرالبندقيه
تقرأ له الياذة الموت
وهو يغني لها
الدارمي والبوذية
والعتابا
وخضرار العشب
حتى فوق قبر الصنم
…….
كل شيء هنا
يعرف لغة السلاح
ينظم فيها
كتاباً جديداً
اكبر من كتاب سيبويه ….
كل شيء هنا
يعرف لغة السلاح
حتى الميناء
وحقول النفط والصفصاف
والريح البحرية الحارة
والندى والنخيل
وبالرصاص
يستبدل دوره المطر
………
البصرة بركة الوان
والسلاح فرشاة
لوحة الموت
واصباغ ذاكرة الالم ))
نص بعنوان : (( اسوار بصر ياثا -1 )) من ديوان : (( حصار طرواده , نصوص لوجه الحرب ))
عبداللطيف الحرز
(1)
يا بن الزبير الصاخب بالصمت .. يا محمود البريكان … يا حارس الفنار الاخير … سنوات ذهبت ثم جائت .. وسنوات لن تتكرر سرعان ماستذهب … ايها البريكان .. ايها (( البدوي الذي لم يرى وجهه احد )) .. سنوات مضت على اغتيالك , وهاهم الناس الان , بما أبقى الشِعر منك, وبما ابقيت انتَ للشعر , يحاولون تلمس خريطة وجهك , وكأنهم يتلمسون ببقايا كأس حبرك الباقي بعض (( اغنية حسب معقل المنسيين )) .. فليس الموت سوى شطب الوان شخبطت على وجه طينة الاشياء … هل للشاعر وجه آخر غير الشعر .. وما قيمة شعر يكون قناعا كاذبا حتى على صاحبه …. ابيات بدل ان تفضح لصاحبها الحياة , تتركه يعيش في جحور اللغة .. فاذا به عوض ان يتحدى فضحية الوجود بشجاعة وجدية الكتابه , يتركه شعره لوهم حركات الاعِراب ليعيش فضيحة الحياة ببؤس الكتابه!!
… لقد تداخل موتك بحياتك وحياتك بموتك يامحمود .. فاذا كانت (( عوالم متداخله)) جزء منك بموتك , فانك كنتَ مسبقا جزءا منها بحياتك .. ففي حياتك كنتَ (( اسطورة السائر في نومه )) وفي مماتك كنتَ :اسطورة الشاعر في اغتياله … مالفرق بين النوم والموت اوليس الاغتيال شعر والشعر اغتيالا ؟! … فهل تراك يا محمود البريكان ضعتَ اذ قلتَ شعرا , فالانسان لايكتب الشعر الا حينما يجد نفسه تاءها … او متعبا يحتاج الى اقراص منوم .. ولس للفقراء دواء سوى الشعر… ستقول لي افتح نفاذة ودوما تذكر .. تذكر (( ما أكل المشيب من النواحي في سجونك وجيمع ماشرب التراب وما تبخر في الهواء في السحق والتعذيب .
يالذكاء قلبك في جفونك كان انبعاث الرعب أكمل ماتطور في فنونك , لكن اي براءة ترنو الى القمر المضاء في الليل حيث يضلل الغزل الرقيق على جفونك ,ويدور وجهك في السماء ))
… اسمعك تصيح بالسكين الذي طعنك تقلب بوجه الموت (( الرياح التاريخية )) وتقول لمن يتجسس على موتك خلف النافذة : (( ياضياع حقيقتي واسمي )) … حتى في الموت حرنا فيك .. قل لي يابن البصرة السكرى بخمر الشِعر المعتق.. يا بن الزبير المتلفع بعباءة فلسفة الصمت والوحدة والتأمل … يا بن الزبير الملتهب بشهوة الصحراء التي تعاند الا ان تدوم عذراء لايفظ بكارتها زرع او حرب … قل لي ياشريكي باسوار الطين العابسة والميناء الضحوك والوحدة القاتلة المؤنسه … قل لي يا محمود الى اين قادتك بوصلة الحروف .. وكيف لم تنطق حروف القصيدة الا حينما ُنقطّت بدمك ؟! … اسمعك تفرك راحتيك بحناء صفصاف الزبير وتبستم للرمل البعيد القريب , وتقول لي : سوف تدرك المعنى يا بن الزبير (( عندما يصبح عالمنا حكايه )) … ستقول لي يابن الزبير الحفيد , عليك ان تتأمل هذا السقوط الاجتماعي فمن هنا يخرج المغول دوما .. اسمعك تقول لي : يابن الزبير الحفيد .. ياعبيد اللطيف (( واذ يرتجف الانسان في لحظة تفكير يكون الامر قد تم , وهل للموت تبرير ؟)) … لكن ايها البريكان كم في الحكاية من حكايه .. فكليم الشعر والافكار اكثر من جرح وورطه … ستقول لي اعشق تتوحد جراحك ويكون الحرف ضمادك , فدواءك دائك اذ (( ليس الحب مستحيلا ولا الجمال خدعه )) .. آااه يا محمود ياليت كان الحب مستحيل والجمال خدعه .. فلولا ذلك ماكانت احلامنا محض حكاية واعمارنا محض منفى .
(2)
عن حق تعتبر مدينة البصرة العراقية , اشبه بمدينة سحرية في حكاية اسطورية . فهذا المزيج العملاق والهائل بين قوميات شتى واديان شتى وطوائف شتى و .. و …و .. الخ .. لامثيل له في تاريخ المدن , ولم يحصل في بعض الاقطار الغربية الا في عصورنا المتأخرة بفضل سهولة المواصلات من جهة , وانفتاح علاقات التجارة واللجوء السياسي والمادي . مشكلة البصرة هي مشكلة توتر بؤرة القوة فيها بكونها بؤرة الضعف ايضا , فمدينة البصرة العراقية مدينة تمتلك الكثير من وسائل الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات الاقتصادية او غيرها, فكانت عن جدارة بدون مجاز (( اثينا العرب )) فلو شطبت تاريخ العرب ما تظررت هذه المدينة بشيء ,. لكن هذا التاريخ العربي والاسلامي سوف يكون مجرد سراب فيما لوحذفت هذه المدينة فجميع المذاهب السياسية والفكرية والادبية هي فرع مدرسة البصرة (= توافقا معها او من باب ردة الفعل ضدها ) . الامر الذي كان يعني باستمرار ان هذه البلدة هي دولة في داخل الدولة , وعليه كانت ترى الحكومات ضرورة زيادة وسائل القمع عليها من اجل شد وثاقها الى المركز (= عاصمة الدولة ) , فكون المدينة مترعة بجميع الخيرات , ولها باب مفتوح الى العالم الخارجي فلا يحتاج بحرها وشطآنها الى اذن من سلطة المكز , وبما ان كثرة الناس الكمية والنوعية كفيلة بانجاب الخبراء دوما نتيجة لألتقاء اطراف مختلفة وتجارب متنوعه , كان معناه ان البصرة قناة رأيسية لسد احتياجات خزانة سلطة المكز , لكنها ايضا قناة للشر فهي تنجب من يفكر بنظريات جديدة تهد النظريات السائدة التي اعتمدتها سلطة المكرز كشرعية لقوامها , من جانب آخر يستحيل انصاف هذه البلدة .. فحيث انها ليست هي المركز لذا كان يجب توزيع خيرات البصرة على مناطق اخرى فاهل العاصمة يجب ان يكونوا اكثر ترفا من غيرهم ومدينتهم هي الاجمل لكونها تمثل واجهة السلطة السياسية , لكن هذا المركز لايملك خيرات البصرة , وهنا كانت عملية غمط حق ابناء هذه المنطقة قدرا لازما لتاريخهم .
هناك مشكلتين اضافيتين هنا تسببها البصرة اللعينة واهلها المارقين :
1 – فهذه التشكيلة السحرية للناس المختلفين في كل شيء من جهه الشبيهة بطخة طعام تستخدم فيها كافة انواع المطيبات (= البهارات ) , ووجود قناة اتصال مع دول وشعوب اخرى هي قناة البحر ومجاورة دول لاتفصال بينها الا شبر واحد من التراب او قل .. جعل ابناء هذه المنطقة يتبنون نظرية السلم والتعايش والحوار مع الاخر بالفطرة , لأن هذا هو معنى وجودهم مختلفين بهذا الشكل الهادئ .. وهذا الهدوئ ليس مطلب فكري فقط , وانما هو مطلب اقتصادي ومعيشي ايضا … فلو قامت حرب طائفية ودينية هنا فلا تعطل حياتهم بينهم فقط .. وانما تعطلت تجارتهم وموينائهم ولهرب التجار الاجانب من هنا من غير رجعه .
2- وهذا انتج نتيجة خطيرة امام ذهنية العقل العربي اعتبرها ((خيانة)) على الصعيد السياسي لكون اهل البصرة لايتورعون عن معاشرة الاخر الاجنبي (= ولعل تصرف البصرة امام الاحتلال البريطاني الاول اقديم والثاني اليوم غير محتاج الى تعليق ) , خصوصا وان العقل العربي قائم على التوحد في كل شيء بان الزعيم واحد والرب واحد .. وهولاء لديهم اكثر من زعيم واكثر من رب . اي ان ذهنية العقل العربي اعتبرة تصرف البصرة هذا خيانة دينية فجاءت وصمة (( النفاق )) لهم , فهم اذ ليس هنالك شيء اقوى حجة من واقعهم وخبراتهم وخيراتهم يربطهم بسلطة المكرز , كان من الطبيعي ان توافق البصرة مرة عاصمة الحكم ومرة تفارقه بل وتعاديه حتى .. فهي لاتهتم مثلا الى الطبقية التي قامت عليها الدولة الاسلامية , اعني تقسيم الناس الى (( موالي )) وعرب .. اذ طبيعة البصرة هذه اقتضت الانتفاح الى طبيعة المخلوق البشري اياً كان نوعه . ومن هنا كانت البصرة مؤا حقيقا للعبيد والفقراء والمنبوذين والموالي , حتى ان البصرة في سنة 50 للهجره كان ثلث سكانها من هولاء المساكين تحديدا . ومن هنا كانت البصرة عائقا مستمرا امام ذهنية العقل العربي القائمة على العنصر الواحد والرب الواحد .. فخرجت مدرسة المعتزلة الفلسفية القائمة على ان التفاضل هو بالعقل وليس الايمان , ونظرية المنزلة بين المنزلتين التي لاتتملق للاخر بانه مؤمن لكنها لاتقول انه كافر يحل قتله .. ومدرسة التصوف والدراويش القائمة على ان القرب الالهي ورقي الانسان هو بامتلاك صفات الخير الوجودية وليس التعلق بمعجم الفضائل في النص الديني .. وعليه كان مثقف البصرة هو الوحيد في رقعة خارطة الحضارة العربية والاسلامية من يكتب نصاً انسانيا فلا يذكر المسجد الا ويذكر معه المعابد والكنائس (= لاحظ مثلا كتابات ابن الهيثم ) .. وبهذا كانت البصرة مدينة علمانية بالفطره , ومدينة سلمية بالضرورة , وهذا انجب لها سخط المثقفين الاخرين وسخط الحكام … فبقية النخبة من المسلمين كانوا ينظرون الى فقهاء البصرة ومفسريها وادبائها وفلاسفتها بانهم فسقة , او حسب تعبير ارباب التاريخ: ((ان هلها متهاونين باحكام الدين )) بينما الحكّام السياسيين كانوايرمون اهلها بحب السلم والجبن وترك القتال وهي حيلة سياسية فبالحرب تتغذى سلطة المكرز وتتجدد هيبة السلطة فيها , بينما السلم هو مصدر الرزق والتجارة للبصرة .
هذا الامر كانت له تشعباته الكثيرة التي كانت تصدم ذهنية العقل العربي والتي كان منها تزعم المرأة وقيادتها السياسية فقد سار اهل البصرة تحت امرة زوجة نبي الاسلام عائشه , فكان يعاب عليهم كيف رضا الرجل بتنصيب امرأة .. كما كان الامر سخيفا لدى العقل العربي , فان الامر كان سخيفا عند اهل البصرة فالمرأة ( والى اليوم في الاهوار وغيرها ) مخلوق عامل يكدح مثل الرجل , ويحمل السلاح بجنب اذا مادرات معركة ما , فليس هنالك مضارب خيام للحريم خاصة بهن . هذا يعني ان البصرة كانت تمشي بالمقلوب وبالاتجاه المعاكس لتاريخ العقل العربي وسياسته , وعليه كان من الطبيعي ان يكون اهل البصرة وحدهم من يخرج لنصرة الامام الحسين بن علي في حين ان الناس الذين كانوا برقب هذا الرجل كانوا يتفرجون عليه ويقولون له (( قلوبنا معك وسيوفنا عليك )) .
طبعا هذا لايعني عدم وجود عناصر من البصرة اسست للفكر العنصري, او عدم وجود شخصيات قذرة جدا , وكما اشرنا اعلاه ان بؤرة قوة البصرة هي مصدر الضعف فيها ايضا , ومن هنا كما توجد صفات ايجابية تولد بشكل مستمر هنالك صفات سلبية ايضا لم تكن لتوجد بهذه الضخامة لو لم توجد تلك لمكونات ذاتها , فمثلا ان هذا الانفتاح سبب شيوعية المثلية الجنسية وشذوذها فكانت سمة بارزة طويلة العمر في تاريخ هذه البصرة فمنذ زمن الفقيه الكبير الحسن البصري كان يشير اليها , طبعا ذات هذا الاعتراف والتكلم المكشوف من قبل فقيه بهذا الحجم على مسئلة كهذه هي صفة لاتجدها عند الفقهاء الاخرين . ان هذا التنوع الاجتماعي الايجابي هو سبب لتضخم الكثير من السيئات الاجتماعية ايضا .. فالتقاء اكثر من جنس واحد من البشر كما هو التقاء اكبر للخبرات والايجابيات , فهو ايضا التقاء لعدد اكبر من السيئات والمثالب .
لا اريد ان اعيد تفكيك تاريخ هذه المدينة حتى لاننساق خلف عقدة حب العاصمة ومدينةالتلزف نحو المجتمع الغني ومركز القرار السياسي , او ننساق وراء ردة الفعل فنجعل مدينتنا وكأنها معبد مقدس تجتمع فيه علوم الاخرين والاولين , كل الذي ارتدته هو توضيح لماذا لدينا كل هذه النصوص المختلفة ووجود حركة مستمرة في انجاب نوع مختلف من المثقف , فالمثقف هو نبات يخرج من الارض وليس نيزك يسقط من السماء , لذا لمعرفة نصه المختلف نحن بحاجة لمعرفة تكوينه الاجتماعي والتاريخي المختلف , فمثلا لايعقل ان السياب الذي ادخل الاساطير اليونانية والعالمية الى الشعر كان يجهل تاريخ مدينته , عليه كان من الطبيعي ان نجد (( الشناشيل)) و (( بويب )) و (( جيكور )) مثلا بجنب ادونيس وايوب .. اي ان هذه الخلفية التاريخية والاجتماعية هي احد اسباب ان يقرأ السياب العالم من خلال نهر بويب , فيما محمود البريكان يقرأ العالم من خلال رمل الزبير وبدوي الصحراء , اي كما توجد اسباب ذاتية للابداع تغظي عبقرية المبدع , فان هنالك اسباب موضوعية ايضا يجب دوما ان لاننساها فنقطع صلة المثقف بارضه التي كونته فننصبه تمثالا وصنما فوق رأس كل شيء , عليه كان النص الخلافي لمحمود البريكان هو جزء من ارضه ومدينته الخلافية ايضا , اي ان النص الاخلافي المكتوب هو انعكاس للنص الواقعي المعاش كما سبق ان اوضحنا ذلك في مقال لنا سابق (= راجع : اسير وخطوتي وحدي ) .
(3)
متى وكيف يتم اغتيال القصيدة ؟! …. هنالك موارد وطرق عديدة لكن مايهمني منها في رؤيتي هنا هي خمسة اساسية , فالقصيدة يتم اغتيالها :
1- من خلال اخضاعها للمباشرة الكاملة او الغموض الكامل .
2- الانشغال بالشخصانية من قبيل المدح او الذم , بمافي ذلك الندوات الاحتفالية والتأبينية للمثقف .
3- التكسب والارتزاق بالشعر عموما , الامر الذي يجعل النص سلعة تروجية لهذا الحزب او تلك الفئة او تلكم النظرية .
4- من خلال ترك الفردة الدالة بذاتها واعتماد حشو النص باسماء المشاهير العالميين او اسماء التراث .. او .. الخ , الامر يحول النص الادبي الى تسطير صحفي وعمال ادعائي بان الكاتب لديه اطلاع واسع , فينقلب النص من مهمة الكشف والفهم والسجال المعرفي و واكتشاف ناطق جديدة للتعبير الفني , الى تسطير صحفي واعلامي .
5 – من خلال ادخال العمل الفني والادبي في فعاليات ونشاطات وحاضرات لاعلاقة لها بالثقافة كثقافة والنص كعمل فني , كما هو حال استخدام قراءة النصوص في الحسينيات والمساجد والاحتفالات الداعئية لفلان وفلان .
ومن الواضح اننا نستخدم هذه الطرق جميعا ومرة واحدة بحق المبدعين من المثقفين , وتطبيق هذه الامور الخمسة غني عن الشرح والبيان للقارئ المدقق . وعليه كانت غالبية مشاريع اعادة قراءة المثقف الراحل او الاحتفال به , او غير ذلك من اعمال تسطح اعمال المثقف الراحل باسم تكديس نصوص باكائية ترثيه , او تكديس تسطير يضخم البعد الشخصي للمثقف وليس لنصه من خلال المدح , فكانت غالبية هذه المشاريع هي بمثابة قتل آخر ومتجدد للمثقف الراحل , ليصبح بالتالي لدينا كم هائل من النصوص التي كتُبت على هامش نصوص ذلك المثقف , الى درجة ان هذه النصوص الجديدة تضيع وتعتم نصوص ذلك المثقف نفسه , وعليه فاول اعادة بناء لرؤيتنا الثقافية تقتضي فرز مشروع المثقف بين ماقاله هو وبين ماتم مراكمته عليه .. تماما مثلما نرفع الرماد كي نتيح للجمر المختفي اعادة التنفس , فبذلك فقط يمكن اتاحت لنصوص المثقف اعادة التوقد واالانارة مرة اخرى .
(4 )
هنا بودي ان اسجل شيئا ارجو حسن التأمل فيه بدون حساسيات شخصية كي لانغمط حق البريكان وتكون عملية القراءة عملية جناية وتجني او نوعا من المدح والذم . فلا شك ان جان دومو لايرقى لمرتبة محمود البريكان سواء على مستوى النص الثقافي او المنهج اليومي الحياتي والاتزان النقدي والكتابي وطريقة التعايش مع الاخرين , لكن مع ذلك انا اعتقد ان محمود البريكان والشاعر العراقي الاخر جان دومو ( من احد زوايا النظر ) وجهان لعملة واحدة , اي انهما يمثلان (( الانسان _ القصيده)) .
فهنا الدلالة ليست للنص المكتوب الصامت , وانما لصاحبه الذي بات نصا ناطق , اذ ان هذا الانسان تشكل حياته وتصرفاته نصا آخر يوازي نصه الاول , او قل : بان تصرفاته الخارجية كانت هامش توضيحي لنصه ( كما هو حال البريكان ) او العكس بان يكون النص المكتوب هو هامش توضيحي لحياته ( كماهو شأن جان دومو) , كلاهما , البريكان وجان دومو , شكل بنصه الناطق ونصه الصامت شيء استطيع ان اسميه : قصيدة (( احتجاج )) ورفض , هنالك احتجاج ورفض زاوله البريكان بصمته وجان دومو بعبثيته وبوهيميته . لكن هذا الاحتجاج وهذا الرفض , ليس ضد السلطة السياسية , كما جرت ربابة المثقفين العراقيين ( والعرب والشرقيين ) عزف عودها ووترها الاوحد , وانما هو احتجاج ضد المثقفين ذاتهم .
فقد اعتاد المثقف لدينا ان يضع لنفسه ساترا عازلا يبرئه عن الجرائم المتلاحقة في الواقع الخارجي و التخلف المستمر , فكان المثقف يجدول نفسه بان له خندق مغاير عن السياسي والديني والاجتماعي , وبهذا النوع من الجدولة المثقف لنفسه الهروب والظهور بثياب مرفرفة البياض وانه وحده العري الوجه عن الجريمه والخطيئه . هنا بالذات( اعتمادا على مقارنة تاريخ مدينتهما و طريقة حياتهما وماتعرضا له وما تعارض لهما نصا وحياتا, حسب طريقتنا في القراءة ) شكل البريكان وجان دومو صرخة سقوط القناع عن المثقف . واذ دون الاخر ذلك بجنونه وتشرده وطول وكثرة هذيانه , فان الاول دون صرخته بصمته وبمقته وطريقة تجنبه سجلات المثقفين من حوله , وبابعاد نصوصه الكثيرة عن هذا الواقع المزري للمثقفين وسلطتهم , لجيئ موت البريكان بتلك الطريقة عملا متتما يمد من طول وعمق هذه الصرخة الاحتجاجية ذاتها .
كان يفترض باصدقاء ومعارف جان دومو القيام بمساعدته للخروج عن صَدفة جنونه الاختياري واعادة ترميم حياته وشخصيته بعرض على اخصائيين نفسيين او ترميم اشلاء حياته اليومية , بيد ان شيئا من ذلك لم يقع ( لستُ اقصد محاولات فرديه من هذا او ذاك فقط فتأمل ) بل انك تجد العكس وكأن هولاء الملتفين حوله كانوا يجدون فيه الملاذ والنفق الذي يفجرون هلوساتهم به ومن خلاله , وقناعا يستر فشلهم في التفاعل مع كيمياء الحياة من جهة , ومن جهة اخرى كان هولاء يتخذون من صديقهم هذا وسيلة لتدوين صرختهم ضد سلطة المثقفين والمتربعين على سدة دوائرها ومؤسساتها .
وقل الامر ذاته بشأن محمود البريكان , حيث كان يفترض ان يجري عمل لائق يخرجه من صمته , ويجعله ينشر نصوصه الكثيرة المتراكمة في كوخه , فيستحيل ان يجد الكاتب سجالا حقيقيا حول نصوصه ولا ينشرها … لكن شيئا له مستوى (وليس مقولة هذا الفرد او ذاك ) لائق لم يحدث ولم يقع , وكأن هذا الصمت من قبل الاخرين كان يريد لصمت البريكان ان يستمر !!
( 5)
الحجر الاول في بركة الثقافة العراقية ( والعربية ) اعني ابن البصرة الاخر , بدر شاكر السياب كان ينبه على ان امثال هذه النصوص التي يتم التطبيل والتزمير لها يجب مراجعتها على ضوء ماذا كنى نريد من النص الثقافي الجديد ان يقول , وليس نقرأها ومفقا على تحليل كم اسم او فعل .. او مضاف اليه في الجملة, فهذه النصوص التي تم نفخها والمبالغة فيها لم نصت السؤال الاول للنص الثقافي الجديد لذا يمكن حذف اي سطر منها بدون حدث اي خلل فني او معرفي (= كما هو حال نقد السياب لنصوص الشاعر ادونيس ) , وعليه كان من الطبيعي ان تكون هذه النصوص الى لافتات اعلانية وعناوين صحف اقرب ( = كما هو حال نقد السياب لنصوص البياتي ) . ان نسيان( او تناسي ) السؤال الاول للنص الثقافي الجديد حول النص الثقافي الى كيس منتفخ بالانشاء والسرد اللغوي , خصوصا بعدما نسى الشاعر العربي مفهوم القصيدة ذاته بانه (( قصد )) فو عملية وعي وليس عملية ذهان نفسي كي نجتر كلاما خال المعنى لا اول له ولا اخر .
واذ يصبح العاقل صامتاً منتفعا بمايجري على الواقع من هذر وخطأ , فان الحكمة ستكون حكرا في افواه المجانين , فيقول جان دومو للبياتي علناً : (( بابا , انتَ اضحكني )) . اما بشأن علاقة المثقف بالسلطة وتكسبه بالكتابة , فسيقول جان دومو لسامي مهدي : (( لا اصدق ان قصيدة جميلة تخرج من هذه الصلعة )) , فيما البريكان قاطع نشاط المثقف في بلاط السياسيين من خلال انقطاعه في العمل في تدريس اللغة العربية بطريقة محايدة , فيما وقف مستخفا من تبجحات المثقف العراقي ( والعربي ) ورؤيته الثقافية التي تعتمد على الشاعر وهذا الشاعر مقسم الى شاعر كبير وشاعر صغير , فكان البريكان يقف متعجبا ومستخفا بان اي معنى لاضافة صفة (( كبير )) و (( صغير )) عندما مجاورتها لكلمة شاعر , فالشاعر اما شاعر واما لا .. وكأن البريكان كان يريد القول لؤلائك المثقفين المتسلطين والمتثيقفين المتجرين انكم اما مثقفين او لا , وهذه ال ((لا )) تعني انكم مجرد متكسبين بالكتابة او رجلات احزاب تسلقوا رقبة الثقافة بسلم السياسة .
عليه شكل محمود البريكان علامة وجود ثقافة مغايرة , او قل انه شكل تحديا لواقعه العراقي( الاجتماعي والثقافي ) وتمرد ورفض له , ونستطيع ان نضيف هنا ارقاما توضح هذا المدعى اكثر :
1- اختار محمود مزاولة مادة حيادية ( = تدريس مادة اللغة العربية ) فلم تستطع السلطة السياسية شرائه ولم تستطع السلطة الثقافية اختراقه .
2- في بدايته اختار طريقة الكتابة باسم مستعار ( فكان يكتب باسم ((برق)) في جريدة اليقظه ) , ومن هنا فالبريكان منذ البداية لديه نزعة ايجاد عازل بينه وبين مايحيطه , فكان يخالط هذا الغير ويطلع عليه بلا عكس .
3- في عمق واقع من مترد يزداد تشوها بفعل حروب حكومة حزب البعث , وتزايد ارتفاع جثة الواقع الاجتماعي وتخلفه المتصبب بكل ماهو قبيح , كان البريكان مهتما بضرورة العودة الى تحسس موضوع الجمال قائلا : (( ليس الحب مستحيلا ولا الجمال خدعه )) وهو مطلب يعاكس تيار الثقافة العراقية المتلاطم بالبكاء والحزن وحالات الاختناق النفسي والسلوكي .
4 – اتخاذ الثقافة كفعل يومي وليس حبرا على ورق وهي مسئلة لها عدة افتراقات ومفارقات في حياة ورؤية المثقف العراقي خصوصا والعربي والشرقي عموما , حيث يطالب المثقف فصل نصوصه عن حياته الشخصية سترا لتناقضاته وجرائمه . وبالتأكيد ان مزاولة الثقافة كفعل يومي فيه نكاية وتحد كبير لبقية دكاكين المثقفين والمتثيقفين .
5 – تحاشى محمود البريكان تهريجات وهذيانات المثقفين وقاطع ندواتهم ومهرجاناتهم , ثم اختار الصمت وعدم النشر , ثم طرح نصوصه هكذا وبلا مقدمات او معقبات بانه رائد شِعر جديد او انه شاعر كبير .. او نبي حداثة .. او .. الخ , وهو سلوك له نكاية كبيرة بكل هذه الادعاءات من هذا الطرف او ذاك .
6- العودة الى كون القصيدة قصد وان لامعنى لان نقول ان فلان شاعر معنى في حين انه يسلك الغموض والتعتيم اللفظي منهجا , فكان البريكان احد محاولات قطع حالة الهذيان والذهان النفسي التي ابتلى بها الشعر العراقي والعربي في مراحله الزمنية الاخيرة
(6)
ان كان يمكن تصوير وجود اسباب تبرر امكانية حصول اعتداء ( محتمل ) على جان دومو , بكونه كان دائم الشتيمة بلا استثناء , وكونه دائم الخرق للعادات الاجتماعية حد التبول والاستمناء العلني .. فبماذا يمكن تبرير اعتداء وصل حد القتل ( حصل فعلا ) بالنسبة لمحمود البريكان ؟!!
في العراق ( وعموم بلدان العرب والشرق ) لايثير غرابة منظر رجل يثقل رأسه بعمامة وكومة ملابس وهو في عز الصيف وقيض الحر .. لايثير اي غرابة .. منظر رجل يرتدي الزيتوني والزي العسكري طيلة ايام السنه لا ينزعج من استخدام لون واحد .. وهو يحمل مسدسه حتى ساعة تناول الطعام … لكن المثير للدهشة والتعجب هو منظر رجل يحمل قلما ودفتر ويتجول مسجلا ملاحظاته … هذا الرجل فقط في مجتمعاتنا من يستحق ان نتندر عليه ونرميه بالغرابة والجنون والسخافة .لذا كانت هنالك حماية شعبية للمعمم وحماية حكومية للموظف .. المهمل الوحيد هو المثقف المستقل , لذا كانت عملية اغتياله عملية سهلة وبسيطة ولاتثير مظاهرات بمثل مظاهرات موت فقيه ومرجع دين , ولا مظهارات موت رئيس او زير .. ولا مظهارات موت مغنيه او مطربه او رحيل حيوان او فصيلة نادره من الكلاب او الضفادع او الحشرات … المثقف يتعامل مع الحياة بضجه لكنها تتعامل معه بصمت , والفقيه يتعامل معها بسكوت مطبق , والسياسي يتعامل معها بسرية ومؤامرات خلف الكواليس لايُسمع لها صوت , لكن الحياة تتعامل معهما بضجة … بصخب !!
(7)
بذلك كان البريكان بمثابة شاهد ماثل لفضيحة المجتمع العراقي ومثقفه في آن . وان مأساة المجتمع العراقي ( والعربي والشرقي ) ليست في السياسة كما يُدعى ويتباكى اهل الشرق على انفسهم , المأساة هو قاعه الاجتماعي النتن وما السياسة وجرائمها الا بعض روائح ذالك القاع وجثثه الطافحة ليس الا .
طبعا لم يكن محمود البريكان اول ضحية لهذا القاع الاجتماعي ولا هو الاخير , فاذا اردنا تناسي تاريخ المثقفين القديم فانا سنجد امامنا مأساة الرصافي والذي هو الفاتح لمشروع نقد المقدس في الثقافة العربية المعاصرة , لكن هذا المشروع لم يستطع صاحبه الا ان يطبعه خارج وطنه ومع ذلك لحقه ومالحقه من ظلم واعتداء واجحاف وتسخيف وتشهير . .. نجد السياب المستجدي علبة حليب لطفله فيما كانت مؤتمرات المثقفين وندواتهم مشغولة بشتمه … نجد علي الوردي الذي اظطر لترك الكتابة وهو في اوج اختمار افكاره واوآن ساعة حصاد تراكمات كتاباته … نجد هادي العلوي الذي لم يستطع حتى بعد مغادرة العراق النوم على سطح الدار لكونه تعرض له مسوخ القاع الاجتماعي لقتله .. هولاء وغيرهم ارقام ماثلة بان مشكلتنا الحقيقة الاولى ليست في السياسة وانما في هذا القاع الاجتماعي نفسه … اي شاهد توضيحي اقوى على تردي هذا المجتمع من اغتيال شخص لايمتلك سوى قرطاس وقلم ويتحدث عن عموميات الاشياء فلم يشأ لنفسه التصادم مع احد ؟! … اي ادانة اوضح على تريدي واقع الثقافة العراقية و المثقف العراقي , من اهمال المثثف لزميله ف يذكره الا بعد ان يرحل فيطمأن ان دكانه استراح من منافس له .. وكأن المرتزقين بالثقافة من العراقيين ينتظرون دوما موت او اغتيال مثقفهم المبدع كي يكتبوا عنه تأبيناً , ويكون مادة جديدة لصب مرازيب الانشاء والاسهال اللغوي .. ليتم تقطيع جسده وتراثه ويتم تعليبه بوضع يافطات فلان وفلان .. ليتحول المثقف المستقل صاحب النص الجاد والمجدد الى ترِكة يعتاش عليها مترتزقة الكتابة المتباكين عليه اليوم المحاربين الطاعنين له في الامس !! .
وكأن البريكان كان يريد ان يصرخ من خلال سيرته اليومية ومن خلال موته بهذا الشكل بوجه هولاء الورثة المحتلقين بالمثقف المسجى العادين لانفاسه الاخيرة , فاستطاع ابن الزبير توليد سجالية كتابية لها توترها الخاص بمثل السجالية الزبير التكوينية , بان تكون الثقافة العراقية لاتستطيع استذكار البريكان والاحتفال به الا من خلال المزيد من نشر غسيلها الرطب المتعفن , مرتكبة هذه الثقافة وهذا المجتمع العراقي مزيدا من الفضيحة , وبذلك كان البريكان قصيدة ناطقة , قرائتها لاتتأتى الا من خلال نزع قناع المثقف والمجتمع . وعليه فاذا ماوجدتَ ان هنالك اشكالية جديدة تم فضحها فاعلم بان ثمة مثقف عراقي او عربي قد قُتل !!
alnemer_1980@hotmail.com
( سدني – استراليا )
——————————————————–
محمود البريكان 1929-2002
الشاعر القتيل
ياسين النصير
قد أعيد في هذه المقالة القصيرة عن الشاعر القتيل محمود البريكان شيئا من البصرة، فمثل هذا لا يحدث دائما، أن يستدعي الشاعر مدينته أو أن تستدعي المدينة مثقفيها: فاقتران شاعر العزلة والصمت الخلاق، بمدينة الميناء واللغة والتراث هو اقتران الجغرافيا الخلاقة بالمبدعين. وحيث الغربة التي تلغي فيك: بيتك، ومدينتك، وناسك، و مرابع صباك. تضيف إليك وجعا آخرا لم نكن نعرفه نحن العراقيين، ألا وهو الحنين المشبع بمأساوية حين تعيد صورة مدينة مطمورة في الزمن، فكيف وأنت تفقد صديقا مبدعا وخلاقا مثل البريكان الذي لم تلتق به إلا بضع مرات بين البصرة وبغداد، داخل الدرس وخارجه، في مقهى وفي شارع!.وكانت كافيه لمعرفة ما يجول في فكر هذا الشاعر المبدع. فقد تكون الكتابة عن موضوع كهذا هي نوع من استرجاع الذاكرة لما يذهب منها . هكذا نحن نفقد بفقدان الأصدقاء الكبار أجزاء من وجودنا وهويتنا. أي تاريخنا الشخصي.
لا يذكر السياب والبريكان وسعدي يوسف ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير ومهدي عيسى الصقر ومحمد سعيد الصكار وغيرهم إلا ذكرت البصرة. هذا الكيان السماوي الذي حط على الأرض العراقية ثم ولّد مدنا وبلدانا بلغة عربية، وبعمارة عربية، وبعادات وتقاليد عربية، المدينة التي جمعت بين نخيل مثمر، ومياه مرتحلة، بين مد يسقي وجزر يسحب أوساخ المدينة، مدينة على ضفاف نهر كبير هو جمع بين دجلة والفرات. يجاورها بحر كبير ، هو الآخر جمع بحار. فالنخل فيها جوار السدر، والشناشيل جوار بئر النفط. وأهوار مانحة جوار شجرة آدم. هي البصرة، أقدامها مياه، وسماؤها مياه، وعثوق نخيلها ثمار. وأنت تتلو آيات العطاء ما بين ثمر ومطر، نخيل وسباخ القرامطة والزنج تجدها مدينة لم تخلق إلا لتبقى.
البريكان حصيلة هذه الثمار كلها ، شاعر ولدّ لغته من صمت نخيلها وصبره، من لغة الفراهيدي وعتبة بن غزوان والجاحظ ، ومن كل ما يمكن أن يبقى شاخصا للغد.ولكن البصرة كغيرها من مدن العراق انتزع عنها ثوبها القديم الحديث وبقت عارية من أبنائها وتاريخها. لذا ليس مستغربا أن يقتل شاعر أو أديب فيها، فالقتل سمة أصبحت مع الأسف الشديد حالة مرادفة لكل من يقول لا لعهود الظلم والتعسف والموت. والبريكان بصمته وعدم انخراطه في جوقة المادحين، قال لا. اللصوص هذه الثيمة المبهمة ، يصبحون قتلة وهم بالتأكيد قتلة، لكنهم وهم المبهمون وغير المعروفين يختفون عن الأنظار، ولم يلق القبض عليهم رغم أنهم يمشون على أطوال قاماتهم وأمام أعين الرقباء. بيان صحفي صدر في بغداد عن أن قتلة الشاعر محمود البريكان هم لصوص سُرّاق . وهذا بالنسبة لهم يكفي لإبعاد التهمة، ورغم أننا لا نقول غير ما يقولون، وقد يكون صحيحا ما لم يثبت عكس ذلك. فلماذا يقتل شاعر هو أفقر من حصاة في برية العراق؟. وهل أن ثروته المادية كانت مغرية للصوص وكلها موسيقى دأب على جمعها منذ كان في دمشق وبيروت والكويت في خمسينات القرن الماضي واستمر يجمعها حتى أخر نفس من حياته عندما كان يأتي بغداد ليتسوق الموسيقى الأجنبية من أورزدي باك. الموسيقى هي كل ما يملك من ثروة في هذا العالم، وهل أن هذه الثروة الفنية نافعة للص في مرحلة القحط الثقافي؟ لا أعتقد أن لصا معنيا بالموسيقى يكون معنيا بالقتل أيضاً؟
مرة أخرى لا نقول غير ما تقول إعلانات الصحافة الرسمية، عن موت ومقتل متنبي العراق الحديث وصاحب القصيدة المبكرة في تثبيت جوهر الحداثة.الشاعر محمود البريكان .ولكنه كما يبدو القدر الذي دفع بلص إلى قتل شاعر الصمت وشاعر الرفض والموقف، الذي مثل موقفه الرافض شرفا لكل الأدباء في الداخل وفي الخارج. فقد رفض قبل سنتين أن يلتقي طاغية العراق، لتكريمه فكان رفضه هزة لأجهزة الثقافة لم ينفع معها قبول الآخرين الذين أجبروا على توقيع ورقة يعترفون بها بفضل حاكم العراق على الثقافة والمثقفين. إن ما جعل البريكان يوغل في عزلته هو هذا التهاون لدى المثقفين في لعب أدوار ليست أدوارهم، وليتحولوا إلى جوقة مشروخة الصوت في مسيرة الحروب الدموية.
في الثقافة العربية يعرف البريكان بأنه صاحب القصيدة المتماسكة والغنية بالصور الحديثة، فالحداثة لدية ليست لعبة فنية أو شكلية بل هي موقف وجودي من الحياة. وموقف نقدي من الحداثة غير المنهجية أيضا. فهو يعيد ثورة الحداثة في الشعر إلى طابعها العربي المعاصر عندما يربطها نقديا وينائيا بحركة الشعر الرومانسي العربي. وليس كما يفعل نقدنا عندما يعيد تكوينها إلى تلك القصائد القليلة التي ترجمت من الشعر الإنكليزي أو الأوربي . ففي جوهر الحداثة عند السياب وغيره تقرأ شعراء مدرسة الديوان وأبوللو والمهجر والموروث العربي القديم .
الشعر الحديث كما يفهمه البريكان هو ” نفاذ لأعماق إنسان العصر، يتجاوز مظهر العاطفة، ولابد أن يصدر عن ألذات الحقيقية للإنسان، لاعن شخصيته المصنوعة المطبوعة بطابع البيئة والتقاليد. ويتسم الشعر الحديث بطابع الحرية والتوتر، فهو ابن عصره، وهو يعتمد الإيحاء لا العرض،واقتناص اللمحات لا تجميع التفاصيل، وأود أن أضيف إن تراكم الصور وهو ما يظنه كثير من الشعراء آية حداثة – ليس إلا طريقة متخلفة- فليس أمام الشعر الحديث إلا أن يتجه إلى التركيز، واستقطاب اقل عدد من الصور حول بؤرة ما.والواقع – يقول البريكان- لم يتمثل فعليا هذه الحقيقة إلا في حالات قليلة، وذلك مع مرور كل هذه السنوات على الحركة الشعرية الجديدة.ويهمني أن أؤكد أن الحداثة يقول البريكان ليست سمات مظهرية. بل هي التحسس العميق لوضع الإنسان الحديث متبلورا في صيغة فنية مناسبة.فالأصالة إذن تأتي أولاً، وخارج نطاقها تصبح غير ذات موضوع.
في اللقاء المهم الذي أجراه معه الشاعر حسين عبد اللطيف وهو من طلابه أيضا والذي نشر عام 1969، ونشرته جريدة ثقافة 11 في عددها السادس عام 1998 التي تصدر في هولندا يكشف البريكان فيه عن حس شمولي لمفهوم الحداثة لم نجده عند أي شاعر حديث في زمنه. فهو ينطلق بالحداثة من موقف فلسفي عميق لمفهوم متأصل في تكوين الإنسان المسئول نفسه، وليس الإنسان العادي. فالشعر عنده مسؤولية كونية. وقائله يرتقي إلى مصاف الخلاق الكبار. فيقول عن ذلك” أن الشعر فن لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة، ليس الشعر وسيلة لتحقيق إي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي. وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية. لأن منطقته ، منطقة ألذات العميقة، فالشعر هو أبن النزوع الإنساني، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثل خاص لواقع التغيّر في الزمن، وقلق المصير والتأرجح بين الراهن والمنشود. إن شاعرا يفهم الحداثة مثل هذا الفهم العميق لا يمكنه أن يكون شائعا بين أقرانه ولا في مجتمعه، شاعر مادته الحداثة لا يمكنه إلا يرافق العزلة ولعله الموقف الذي دفع به لأن يرفض أن يكون في جوقة المداحين للأنظمة، مما جلب عليه غضب الساسة والمريدين.
ومن خلال تشخيصه لحركة الشعر العالمية نجد البريكان ينخرط في إطارها العالمي ليس من خلال ما يقرأه من شعر لشعراء عالميين مثل طاغور، الذي يقول عنه أنه شاعر حقيقي أو ازرا باوند وريلكه وأليوت ونيرودا وناظم حكمت وخيمنت وباسترناك وغيرهم بل من خلال ميله الشخصي والحداثوي إلى الشعراء الذين يكون نتاجهم نوعا من عظمة الروح الإنسانية.فهو لا يبهره التأنق والاصطناع، فعلى الشاعر أن يتبع طريقه الخاص ، واستعارة لهجة الآخرين هي طريقة سيئة في الاعجاب.
ليس مهمة المقالة هذه الحديث عن شاعرية محمود البريكان فثمة أقوال لمجايليه
* كان محمود البريكان شاعرا كيانياً، إلا أن متوالياته الصامتة لا تؤكد نهوضاً بصحة الرأي إلى المنتهى..ربما صمته البنائي هذا كان تجربة كيانية لابد من استقرائها يوما ما.أحترم هذا الشاعر فؤاد رفقة ملحق الثورة الأسبوعي 1981
* شاعر عراقي ممتاز ومثل هذا الشاعر لا يحظى بالدراسات لأنه لا يركض وراءها، وربما تأتي الدراسات عنه بعد سنين من مغادرته هذا العالم. نجيب المانع الشرق الأوسط 1990
* حاول محمود البريكان، بقوة الأفكار وشجاعة المشاعر، أن يستأنف دعواه خارج السرب، وحين عاد الشعراء من جيله ينتقلون إلى أساليب جديدة بمكانكزم عام، استطاع البريكان أن يتأكد من تفرده، ووصل إلى إيقاع آخر غير مشترك في ط حوض السبيل” حيث تسرع التناظر والتكرار إلى زملائه. عبد الرحمن طهمازي
الآداب1989
* ومن مقتضيات الأمانة للتاريخ ألاّ نغفل الرواد الحقيقيين، كالشاعر الكبير محمود البريكان، الذي كان من أوائل من طوروا القصيدة الحديثة في العراق. وإذا كان البريكان مجهولاً عند عامة القراء لعزوفه عن النشر، فأنه معروف عند أبناء جيله من الشعراء الذين تأثروا به بدرجات متفاوتة. رشيد ياسين مجلة بيروت المساء 1974
*محمود البريكان: شاعر عظيم ولكنه مغمور بسبب نفوره من النشر وسأحاول بذل كل جهد لإخراجه من صمته ليتبوا المكانة اللائقة به. بدر شاكر السياب جريدة الشعب 1957
*محمود البريكان كما لا يخفى شاعر كبير وإنسان طيب ومتواضع غير أنه لا يريد أن يحيط نفسه بالهالة التي يضعها بعض الشعراء حول أنفسهم. رشدي العامل جريدة القادسية 1978
* شاعر ذو أصالة عظيمة ونظرة كونية، نادرا ما ينشر نتاجه ولا يعرف له ديوان مطبوع، مما حرم العالم الأدبي من ثيماته ” موضوعاته” المتعددة.. ومن النبرة، والنظرة، وطريقة التمثل،المتميزة تماماً، والتي يمكن أن تكون ذات فائدة عظيمة للجيل الطالع من الشعراء في العالم العربي. سلمى الخضراء الجيوسي. كتاب الشعر العربي الحديث / بالإنكليزية.
هذا قليل مما قيل بحق الشاعر محمود البريكان فثمة مقالات وأحاديث كانت مادة للعد 22 من جريدة ” ثقافة 11″ التي تصدر هنا في هولندا وفي هذا العدد نشرنا عددا من قصائده المتفرقة المأخوذة من مجلة الأقلام العراقية ، ومقالات لنقاد وقصاصين وأدباء،رغم أن هذه الأقوال والمقالات لا تسلط إلا الضوء القليل على تجربته. ولكن قوله هو عن شعره يكفينا في تمثل حقيقة واضحة وهي أن الحداثة الشعرية ظهرت في العراق وتطورت فيه. وهذا ليس من متطلبات القول المجاني عن أسبقية الثقافة العراقية في إنضاج تجارب الحداثة، إنما في القول أن الثقافة العراقية وهي تنمي مظاهر الحداثة تتكئ على أرث قديم يمتد من بابل وأشور وحتى اليوم ولا ننسى ونحن نؤكد هذه الظاهر أن أول شاعرة حديثة في العالم القديم كانت من أرض العراق. . إن حداثة الشعر المعاصر نضجت على التربة العراقية الساخنة. وهذا يذكرنا بما نحن فيه اليوم، فالتجارب الشعرية والقصصية والتشكيلية والنقدية العراقية الشابة التي يكتبها أدباء العراق الشباب تنبئ عن مخاض كبير ومهم في إنضاج تجارب ثقافية جديدة ستكون – وهذا ليس قولا مجانيا- بميزات حداثوية تجر خلفها الثقافة العربية كما جرت تجارب الشعراء الرواد الثقافة العربية كلها.
وبعد ونحن نستذكر مثقفنا الكبير البريكان مقتولا بأيد مجرمة، نستذكر ثقافتنا المقتولة أيضاً. ومهما تكن نتائج التحقيق بقضية موته، فالمسئولية كل المسئولية تقع على عاتق مجرمي الثقافة في العراق.
yne.alnasayyir@wanadoo.nl
———————————–
النقاد العرب مدعوون الى تصحيح خطأ حداثي عراقي: محمود البريكان الشاعر القتيل “رائد” منسيّ
عبده وازن
كان قدر الشاعر محمود البريكان أن يُقتل حتى يذيع اسمه ويخرج من عزلته الطويلة, ولكن الى عزلة أشد هولاً هي عزلة الموت. هذا الشاعر الذي مات طعناً بخنجر احد لصوص بغداد كان ينتمي الى جيل بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري مع انه يصغرهم نحو خمس سنوات ويكبر سعدي يوسف ويوسف الصائغ بضع سنوات. لكنّ انتماءه الى جيل الرواد زمنياً وشعرياً لم يعن يوماً – على الأقل عربياً – انه واحد من كبار هذا الجيل وربما أكبر من البياتي والحيدري ناهيك ببعض الرواد العرب الذين احتلوا مرتبة الصدارة. فمزاجه الشعري ومسلكه دفعاه الى الانسحاب من المعترك الحداثي المتجلي حينذاك في ثورة التفعيلة والشعر “الحر”. علاوة على أنفته من الظهور و”نفوره من النشر” بحسب عبارة السيّاب الذي وصفه قبل عقود وتحديداً في العام 1957 بـ” الشاعر العظيم” ولكن “المغمور”. وأضاف قائلاً: “سأحاول بذل كل جهد لاخراجه من صمته ليتبوّأ المكانة اللائقة به”. هكذا انسحب البريكان من السجال الحداثي أو “التفعيلي” بالأحرى وراح يصنع شعريته الحديثة شبه وحيد, بعيداً من أي همّ جماعي أو تيار حزبي أو هاجس “بطولي”. رفض طيلة حياته أن ينشر دواوين وكتباً مكتفياً ببعض الاطلالات الصحافية ومعظمها داخل العراق ولا سيما في المراحل الأخيرة. وقيل ان ديوانه صدر في بغداد ولكن لم يشر اليه أحد من الذين جمعوا مختارات من شعره. وقد يتضح مثل هذا الأمر عندما يتصدى أحدهم الى كتابة سيرته, ان كان له من سيرة. فهذا الشاعر “الزاهد” والمنسحب تكاد قصائده تختصر سيرته الشبيهة بسيرة شاعر “غريب” (كما يصف نفسه مراراً) عبر من هنا من دون أن يترك إلا أثراً واحداً هو الأثر الشعري.
عندما قتل محمود البريكان مرّ خبر مقتله البشع من غير اهتمام لافت. فما كُتب عنه كان قليلاً جداً ومعظم الذين كتبوا هم من العراقيين الذين عرفوه وقرأوا له. كان اسمه شبه مجهول وخصوصاً في ذاكرة الجيل الجديد, وشعره شبه مفقود ومبعثر ووقفاً على “مختارات” يتيمة (عربياً) كان وضعها الشاعر العراقي عبدالرحمن طهمازي وصدرت لدى دار “الآداب” في بيروت عام 1989. وكان يجب فعلاً بُعيد وفاته تسليط الضوء عليه, هو الشاعر الذي يقال عنه كبيراً بلا تردد وبخاصة في جيل الرواد العراقيين الذي انتمى اليه ولم ينتم اليه في الحين عينه. ولعل هذا ما فعلته دار الجمل في إصدارها مختارات جديدة له في عنوان “متاهة الفراشة” أنجزها اختياراً وتقديماً الشاعر العراقي باسم المرعبي.
الاحساس الأول الذي يخامر قارئ محمود البريكان للمرة الأولى هو فرادة هذا الشاعر في صوته الخفيض وجوّه السوداوي ونزعته الميتافيزيقية وطابعه “السكوني”. ويلحظ القارئ ان الشعر الذي يقرأه بعيد كلّ البعد عن الهمّ السياسي والبعد الايديولوجي اللذين طالما شغلا الكثير من الشعر العربي الحديث ولا سيما في المراحل الحاسمة, ثوراتٍ وهزائم. كأن الشاعر عاش في عزلة عن الواقع السياسي وعن الحياة الحزبية التي جذبت معظم الشعراء العراقيين وكذلك عن الحركات الجماعية. وفي هذا المنحى يقول البريكان في أحد أحاديثه النادرة: “لم اتلاءم مع مطالب الوسط الأدبي لا سابقاً ولا لاحقاً…”. وإن كان البريكان من الشعراء الذين لا يؤثرون “التنظير” ولا الكتابة عن الشعر فهو يختصر “شعريته” في حوار (ربما يتيم) أجراه معه الشاعر حسين عبداللطيف ونشر في مجلة “المثقف العربي” عام 1970 ويقول فيه: “يبدو لي الشعر فناً لا يقبل التسخير ولا يحيا مع الحذلقة. ليس الشعر وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر, ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجّة, ومن ثمّ فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي وقلّما يعكس رغبات الشاعر اليومية, لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة”. قد يمثل هذا المقطع الصغير ما يشبه “البيان” الشعري المقتضب الذي يختصر شعرية البريكان “نظرياً”. وفي هذا البيان ما يذكّر بـ”المجانية” التي تبناها شعراء قصيدة النثر في فرنسا وبعض السورياليين, وهي تعني ان لا غاية للشعر سوى نفسه. غير ان البريكان لن يقترب من الشعر السوريالي مقدار اقترابه من الشعر الوجودي والميتافيزيقي الذي يصعب أسره ضمن ثوابت أو معايير جاهزة, حداثية كانت أم قديمة. وقد لا يستغرب ذكر البريكان الشاعر الألماني ريلكه ضمن الشعراء الذين يقرأهم, فهو يشبه هذا الشاعر الكبير – الذي يصعب تصنيفه – بعض الشيء, في نزعته الميتافيزيقية ومعاناته الروحية ورمزيته “المطلقة” وهدوئه… وقد يذكر جمع البريكان في قصيدته “فقدان ذاكرة” بين الجمال والفزع بجمع ريلكه نفسه بين الجمال (يرمز اليه الملاك) والرهبة في مطلع “المراثي”. وتذكّر قصيدة “حضور الأموات” بالكثير من القصائد التي يخاطب ريلكه فيها الأموات ويعدّ لهم “المائدة”.
الشاعر المتفرّد
لم يقلد محمود البريكان أحداً حتى في بداياته الرومانطيقية التي بدا واضحاً فيها أثر الياس ابو شبكة (النقمة على القدر) ومحمود علي طه (النغمة الآسية) وسواهما. أما في مرحلته اللاحقة – الحداثية – فكان فعلاً “نسيج وحده”, صاحب صوت فريد ولغة تبدو بسيطة فيما هي على قدر من الصعوبة, وصاحب أسلوب يدرك القارئ للفور انه اسلوب محمود البريكان المتمرد على المفهوم الاسلوبي. وان كان البريكان سعى باكراً الى التجريب الموسيقي في الشعر العمودي مازجاً بين البحور في القصيدة الواحدة فهو سيتخفف لاحقاً, في شعره الحر والتفعيلي من سطوة الموسيقى ولكن مع الحفاظ دائماً على الايقاع. والايقاع لديه لا يقتصر على الوزن والقوافي, أي على الموسيقى الخارجية, بل يشمل أيضاً الموسيقى الداخلية القائمة على التثقفية الداخلية, والأمثلة في هذا الصدد كثيرة جداً (الموت/ الصوت, الأشباح/ الرياح, الموعود/ الرعود…), عطفاً على تمرسه “التفعيلي” وعلى تحسسه ايقاع الحروف والمفردات. لكن المفاجئ في شعره الحر (التفعيلي) هو خفوت نبرته أولاً ثم سعيه الدائم الى التخفف من القوافي والتخلص منها في أحيان. وثمة قصائد كثيرة لديه تبدو ذات طموح نثري وقد يظنها القارئ أقرب الى قصيدة النثر (أو شعر النثر) منهاالى الشعر الحر أو التفعيلي: “نفسه, مرة بعد أخرى, يحوم على النافذة/ نفسه ذلك الوجه, مرتسماً من وراء الزجاج…”, أو:”لو كان لي أن أطلق استغاثة واحدة/ عبر سماء الجليد…”, أو: “الموسيقى تصدح/ الجمهور يصفّق لدخول ملوك السيرك…”. وقد تكمن قدرة البريكان الايقاعية في ابتعاده عن الايقاعات الخارجية وجعله الموسيقى الشعرية موسيقى ايحائية, تماماً مثل الكثير من صوره الشعرية وتعابيره. قوة الايقاع هنا تكمن في خفوته لا في ارتفاعه, مثلما تكمن أيضاً قوة اللغة في كثافتها ونثريتها لا في فيضها الانشائي ونزوعها اللفظي. ويقول البريكان في هذا الصدد: “لا أحب اللغة الفضفاضة, المتميّعة العائمة… ولا أغتفر اللعب بالكلمات”. ويتحدّث أيضاً عن “التركيز الذي ينصبّ على اللغة”, معرباً عن خوفه من “سيطرة اللغة على الشاعر”. و”التركيز” الذي يقول به هو ما يمنح لغته قوتها و”موضوعيتها” وابتعادها عن ضروب الفصاحة والبلاغة وإغراقها في المحسوس والجليّ والبيّن.
لعلّ الشاعر الذي ابتعد عن الموقف السياسي المباشر والنبرة الخطابية العالية استطاع أن “يجد” لغته الخاصة جداً, اللغة “الموضوعية” في المعنى الشعري, اللغة الملموسة والحسية ولكن المشرعة على الذات الانسانية وعلى الماوراء, تشهد وتصف وتروي وتشف وتتوتر ولا تقع في شرك الكلام المطلق والهذر اللغوي والاطناب والوهم… ومما يزيد من الواقعية الشعرية لهذه اللغة ابتعاد الشعر عن اغراء “الأنا” المتضخمة التي تمسي لدى بعض الشعراء محور الوجود والكون. “الأنا” لدى محمود البريكان هي “الأنا” المنفعلة لا الفاعلة, المسلوبة لا السالبة, إنها “أنا” الشاعر الواقعي والرائي, الرومانطيقي والرمزي, “الأنا” الناهضة في عالم على قيد الانتهاء والسقوط: “أنا في انتظار سفينة الأشباح…” يقول الشاعر, أو يقول: “أنا البدوي الغريب… أنا البدوي الذي لفظته الصحارى…”, أو: “لا أرى في المرايا سوى/ شبحي المتغيّر… أغادر هذا البصيص الذي هو روحي…”.
هامشي و”مخول”
كان من الصعب على محمود البريكان ان يكتب قصيدة سياسية أو وطنية وأن يكون من شعراء “البعث”. وساعدته عزلته (وفرادته أيضاً) على أن يكون شاعراً هامشياً في زمن الشعراء “الفحول”. ولا غرابة أن يسلك هذا المسلك شاعر أعلن في مطلع حياته الشعرية: “أنا من سلالة الأرواح” أو شاعر يعتبر أن ولاءه هو “للأجمل والأبعد” وأن وطنه “عالم من ظلال/ يتفكّك في الريح/ ها هوذا/ وطني الأول/ وطني المنسي”. غير أن الشاعر لن يغفل عن مآسي شعبه والمكابدات الطويلة التي عاناها, لكنه يستبطن هذه المآسي والمكابدات جاعلاً منها رؤيا مأسوية متحدثاً عن “الارث الأسود”, مثلما تحدث بدر شاكر السياب عن الجفاف والجوع اللذين كثيراً ما أنهكا العراق في معانيهما المختلفة. واللافت ان الشاعر الذي لم يدخل السجن مرة في حياته من جراء ابتعاده عن النضال الحزبي والسياسي وتخليه عن الفعل “البطولي” – هو الذي ينتمي الى صفوف الضحايا – لم يتوان عن كتابة قصائد عدة عن السجون متمثلاً شخصية السجين ومعبّراً عن تجربة السجن تعبيراً عميقاً, روحياً وجسدياً: “في أقبية المنسيين/ لا صوت هناك. وما في الليل سوى الحزن…” يقول في إحدى قصائده. وفي قصيدة عنوانها “رقم 96” يقول على لسان أحد السجناء: “الرجل السادس والتسعون/ لا اسم لي الآن: أنا السادس والتسعون”. وكما كتب عن السجن (السياسي طبعاً) كتب أيضاً عن مشهد “سياسي” آخر طالما عرفته المدن التي يحكمها المتسلطون والقتلة: “كالكلب كانا لميت المجهول يُسحب باحتقار…”. أما قصيدته التي تنتمي الى مثل هذا الجو المشهدي وعنوانها “حادثة في المرفأ” فهي تذكّر بجو يانيس ريتسوس (الذي لم يقرأه البريكان حتماً في مطلع الخمسينات) وفيها يصف عالم المرفأ المفعم سفناً و”صناديق ثقيلة” و”رافعات” ويروي حادثة مقتل أحد العمال: “مَن يعرف الآن القتيل؟/ لا يعرفون/ إلا اسمه. حتى اسمه بتمامه لا يعرفون”.
القصائد المشهدية ليست قليلة في نتاج البريكان وهي تدل على تداخل اللامرئي بالمرئي في شعره, وعلى امتزاج الواقعي بالداخلي (ولن أقول باللاواقعي), والحقيقي بالحلمي. فالمشهدية التي تركز على تفاصيل واقعية لا تقع في أسر الواقع والوصف والتقرير بل هي تغدو مرآة للذات التي تتفاعل مع عناصر الخارج أو العالم. هكذا يوظف الشاعر البعد المشهدي لمصلحة القصيدة وما تخفي من عمق ورؤيا. وقد تكون قصيدة “إرتسام” خير معبر عن هذا البعد المشهدي وكذلك قصيدة “نوافذ” التي يقسّمها الى ثماني “نوافذ”: نافذة فتاة, نافذة عجوز, نافذة كسيح… أما في قصيدة “ارتسام” فيتحدث عن وجه ظلَّ مرتسماً على زجاج المقهى بعدما غادر صاحبه وهو كما توحي به القصيدة مجرد متسول عابر.
تستدعي القصائد المشهدية لدى البريكان الخارج أو العالم بالأحرى, جاعلة منه قماشة شفيفة ترتسم عليها المآسي الشخصية, الصغيرة والكبيرة. يصبح العالم في أشيائه وتفاصيله مادة تتشكل منها القصيدة وتتشكل فيها. ولا شك في أن توالي المفردات اليومية أو المعجم اليومي في هذه القصائد دليل على ارتباطها بالحياة والعالم وابتعادها عن “المطلقيات” اللغوية والشعرية. ها هو البريكان يكتب عن “عقارب الساعة” التي “توقفت” مزاوجاً بين توقفها وتحول “العالم السيّال” الى “جسم من حجر”. وها هو في قصيدة “أسد في السيرك” يرسم مشهداً واقعياً يخفي وراءه معنى حزيناً. وفي قصيدة “الغرفة خلف المسرح” يلقي ضوءاً على الوجه الآخر للمسرحية, الوجه الخفي الكامن في ما يسمى “الكواليس”. وفي قصيدة “غياب الشاشة” تحضر اجواء السينما في بعض تفاصيلها. وفي قصيدة أخرى يعبّر عن مفهوم المشهدية خير تعبير قائلاً: “أجمل ما في العالم/ مشهده العابر/ ومباهجه الصغرى…” ثم يتحدث فيها عن “ايقاع الدأب اليومي” و”سعادة ما هو زائل”. حتى الأيدي يكتب عنها قصيدة تحمل عنوان “الأيدي” وفيها يصف الفضاء الذي تشكّله هذه الأيدي في حركاتها وتعابيرها. ولو أن البريكان كتب هذه القصائد المشهدية نثراً لكان حتماً واحداً من شعراء “قصيدة النثر” الحقيقيين, علماً أن قصائد كثيرة له تقترب جداً من شعر النثر ليس عبر تخففها من التقفية فقط بل في اعتمادها فعل التداعي والجمل الاسمية التي تتبدى بوضوح, مؤكدة الحال “السكونية” التي تصبو اليها شعرية البريكان. وتتخلل هذه الحال “السكونية” مقامات من الرثاء والوداع وكأن العالم هنا هو على حافة النهاية. انها “النهاية” التي تؤول اليها الحياة كي تكتمل, “النهاية” التي تحل قبل الأوان, “النهاية” المنبثقة من العدم الذي تصطخب به روح الشاعر: “جميع الأغاني ستنسى/ وكل المسرّات تثوي محنطة في الظلام”. وتتجلى هذه الحال في قصائد عدة مثل “مدينة خالية” وفيها ترتسم صورة مدينة “خالية من أثر الأحياء” وتطلّ منها “حواء” غريبة لا تفهم أي لغة. وكذلك في قصيدة “التصحّر” و”مصائر” و”الغرفة خلف المسرح” وسواها.
عالم رحب
تستحيل الاحاطة بعالم محمود البريكان منذ القراءة الأولى. هذا شاعر كبير حقاً ويفترض شعره قراءة تلو أخرى, نظراً الى ما يضمّ من قصائد جميلة وعميقة و”حديثة” تجمع بين الاختلاج الميتافيزيقي والنزعة العدمية والهمّ اليومي و”الموضوعية” الشعرية والنفس الغنائي. لكن غنائية البريكان هي غنائية داخلية, خافتة وخفيضة الصوت ونابعة من الجرح الأزلي الذي يعانيه الشاعر, كائناً وجودياً وإنساناً غريباً في العالم وعنه: “صوت لا يشبهه صوت/ يأتي من أقصى البرية/ كتناوح ريح / ليست من هذا العالم…” يقول البريكان. أو يقول: “وحيداً أنتمي… الى البرق الذي يكشف وجه الدهر في لحظة…/ الى جزء من الانسان في الظلمة مفقود…/ الى ما يسقط الضوء على منطقة المعنى…”. قد يبدو البريكان في أحيان ذا نزعة صوفية وفلسفية مثالية (أو أفلاطونية) لكنه لا يقع في التجريد اللفظي والمعنوي ولا في جفاف السؤال الفلسفي: “أنا في انتظار الغامض الموعود…” أو: “لأن للنار وراء رقصها العنيف/ جسماً من الرماد, أو روحاً من الدخان”, “أدخل لحظة/ في مجرى الأبدية”.
كم يحتاج محمود البريكان الى قراءة حقيقية, تعيد اليه حقه المفقود وتصحح الخطأ التاريخي الذي اقترفه النقاد العرب في حق شعره وتجربته الكبيرة. فهذا الشاعر المجدد والمحدث ظل شعره وقفاً على الساحة العراقية ونادراً ما كسر حال الحصار الذي وقع فيه على خلاف الكثيرين من الشعراء العراقيين. وقد ساهمت عزلته و”اغترابه” الداخلي وبعده عن الأضواء في إبعاده أكثر فأكثر عن معترك الحداثة الشعرية, هو الشاعر الحديث بامتياز والطليعي بامتياز والرائد بامتياز. وقد كان فعلاً سبّاقاً في حداثته هو الذي جايل السيّاب والبياتي والحيدري مثلما جايل سعدي يوسف ويوسف الصائغ وسواهما. شاعر رائد لا أحد يدري كيف سقط اسمه عن “قائمة” الرواد هو الذي ينتمي الى المستقبل أكثر من الكثيرين من الشعراء الذين جايلوه أو جاؤوا من بعده. ولكن لا يهم ان يظل البريكان “معزولاً” عربياً ومهضوم الحق, فهو يكفيه أن يكتب ما كتب من قصائد كي يدخل ملكوت الشعر. بل يكفيه ان الشعر كان عزاءه الوحيد في عالم ملؤه الأسى والألم واليأس: “أحاول أن أقهر الموت عبر القصائد؟ أدحر بالشعر هذا الظلام…/ أحاول أن أجعل الفقد أجمل حين أصوغ المراثي” يقول الشاعر. وفي قصيدة أخرى يقول: “أكتب حتى تجفّ العروق وأبصر هاوية/ الصفحات الأخيرة فاغرة, وأمامي/ يمتد فيه البياض السحيق”. ترى هل كتب محمود البريكان ما كتب كي يكون شاهداً على صمته وعزلته ووحشته بعيداً من أي مجدٍ أو سؤدد باطل؟ هل كتب ليبلور “قلب الصمت” الذي “يدق كساعة خفية” وليرى الأرض “بحراً من الزرقة الساطعة”؟
ما أكبر هذا الشاعر حقاً.
————————————–
كتبوا في البريكان
هذه بعض الكتابات التي قيلت في الشاعر الراحل الكبير محمود البريكان بعد اغتياله وهي كتابات قليلة بحق شاعر اعتزل الناس ولم يعتزل الكتابة حتى لحظة اغتياله..
(الفيحاء)
(1)
ملتقى البريكان الأبداعي الثالث في البصرة
جاسم العايف
على مدى يومين احيى ادباء البصرة الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر (محمود البريكان) ، اذ كرس اتحاد الادباء والكتاب في البصرة طاقات شبابه واندافاعهم لهذا الملتقى متجاوزين في ذلك المشهد العراقي الدموي اليومي ، مؤكدين قدرات العراقين على صنع ايامهم التي تكشف قدراتهم في الابداع المقترن بالوفاء والانتماء لروح الوطنية العراقية التي تسامى بها الراحل البريكان الى آفاق الابداع والتحضر بعيدا عن المهادنة التي حاولت الانظمة الفاشية المتعابقة وشم المثقف العراقي بها وجعله تابعا لمشاريعها في وأد الحرية التي انزلها البريكان مكانا لم يهادن فيه قط, ولازال البريكان ونتاجه وشخصه يمثل روح التطلع العراقي الراقي والانبثاق الحداثوي المدني المتحضر في نسيج الثقافة والروح الوطنية العراقية وظل ينقب في صبوات وتضاريس الروح العراقية واصالتها وتراثها الانساني عن بذرة خلودها التاريخي وفرادتها في رفض مخاتلات الواقع والتباساته والتاريخ في انحيازات كتابه الرسمية السلطوية وكان البريكان يسمو من خلال بحثه في الوجه المغيب للتاريخ محتفيا بعظمة الكائن في صبواته ,انينه , فرادة احلامه الخفية الممنوعة قهرا, نائيا بروحه عن المكرور الباهت, ماسكا جمر المصائر بيديه ملتحفا بشقاء وعيه الحاد وملاحظاته بدقة عين النسر ,ومتمسكا بـإرادته وروحه الحرة متجاوزا الاطناب والبهرجة والتزويق ,متحصنا بعزلته الخلاقة التي لم تكن نتاج النرجسية اوالنوستاليجيا بقدر ماكانت موقفا احتجاجيا ضد الاستلاب وتزوير الحقيقة وتأبيد الذل والمهانة لاعطاب الروح العراقية او تشويهها ومحاصرة الجمال والحقيقة وظل ينظر بأشمئزاز واستنكاف لمآدب السلاطين وزمر الطبالين المداحين,مؤثثا حياته بالاحلام الانسانية المشروعة البسيطة,محلقا بالشعر العراقي نحو المستوى الكوني من اجل خلاص الكائن في نزوعه للحرية والحياة الانسانية اللائقة وعلى هامش الملتقى احتفى الاتحاد بالشاعر (عادل مردان)في صباح الجمعة 10 /آذار/ قدمه الاستاذ هاشم تايه بدراسة عنوانها ((عادل مردان الخارج على قنوطه)) . حيث أكد ان((شعر عادل مردان، خاصّة المكتوب قبل انهيار التاريخ السابق، نتاج وعي مصدوم تطبعُهُ , في الغالب, نبرةّ حادّة بإيقاعّ متوتّر قلق يتناغم وأسىً متأمّل, وبانفتاحّ للّغة على أَلوان أساليبها , ممّا يُقرّبُها من لوحةٍ, أو عمارة تُرص فيها المفردات, كما لو أنّها قطع موزائيك.. كتابُهُ الأوّل ( فضاءات شرقيّة) الذي صدر في إسبانيا بمقدمة جميلة كتبها الشاعر( طالب عبد العزيز), أخرجت صفحاته رعب الروح القانطة المتعالية التي أقعت منعزلة في كهف البيت, تعيش بين ألف خيار ولا ترغب في أيٍّ منها، بإرادة وجدت في العزلة ما يحميها من أذى الخارج الفظيع الذي لا يني يقرع باب الشاعر، تعاسةَ بيته الكبرى، لا لشيء إلاّ لأنه واسطة الخارج المريع للدخول عليه. نشر الشاعر عدداً من ((فظاعاتنا الشرقية)) بعنوان (قصائد القنوط) في (القدس العربي) عام 1994, بينها قصيدته (حرب طاحنة) التي هي حرب الكائن المرتعب ضدّ رعبه اليوميّ بما فيها من تعبيرٍ عالٍ, ونبرة تنأى به عن السائد.. في بعض تجاربه نحا عادل مردان منحى ذهنياً هبطت فيه العاطفة والانفعال إلى درجة الصفر , فتحولت اللغة على يديه , إلى لغة تجريدية تعكس العالم والأشياء بحيادية باردة .. معظم قصائد الشاعر بمشاهد أو لقطات تتدرج متسلسلة بأرقام تستعير ما يعرف في السينما بالمونتاج فتتبدى, في الفضاء الأبيض بصورة عربات قطار تتصل ببعض بأرقام هي بمثابة كلابات أو مفاصل …. إنّ تنقّلنا في اللقطات / العربات هو تنقّل في المكان والزمان يضفي على قصيدته حيوية وحركة تكفلان للقارئ عدم الشعور بالملل , ويضمن لها تنوعاً في عرض ما يقع داخل الذات / العربة وما يجري حواليها محققاً بذلك مستوى درامياً يحفل بالإثارة والتشويق ويستشري التجريد في لغته باستبداله الفعل بالمصدر من أجل التعبير عن غياب الحركة, وجمود الزّمن , وذلك- أي استخدام المصدر المنقطع عن الوصف والإضافة فاش في شعره بصورة تلفت النظر – وهو يضع عالمه كما أظن , في فضاء ما هو عام , ومطلق ويرقى به إلى مستوى الفن التجريدي ليكون شعراً خالصاً هو خلاصة وعي , وخلاصة روح ,إننا نعثر في القصائد / اللقطات على مساحة صمت تصل بين مساحتي صوت, وفي مساحة الصمت تلك التي هي جزء حي وضروري من جسد القصيدة , تلتقي الأصداء والترجيعات الهابطة مما يقع فوقها والصاعدة مما يقع تحتها , وفيها أيضاً – أي في مساحة الصمت يجد القارئ نفسه بمواجهة الروح المضطرب القلق الذي تجمع واحتشد بعد أن تجزأ وتبعثر… قصيدة / ثاني أو كسيد البيجاما ,إن الأمر يبدو كما لو أن اللغة تتقدم الشاعر , وتورطه فيما لم يكن له به حُسبان وهو توريط يجري غالباً لصالح الفن , حيث تخف قصدية التعبير التي يضطلع بها عادةً السيد العقل في سطوع يقظته وذلك يظهر في سلوك لغة شاعرنا , في تحولاتها المفاجئة , وفي انقطاعها المباغت عن مجراها , وفي عودتها المنتشية , رغم أنف الشاعر , إلى ما ابتدأت به لتحمل منه ما قد تكون ذهلت عنه في سفرها , ويتبدى هذا في الالتفات الأسلوبي الذي يطرّز لغته , وهو لا يقع في الضمائر وإنما يتخطاها إلى انقلابات الصيغ ويبدو تحرر اللغة في حال من مرح وانتشاء يتلبسان الشاعر فتنعتق مفرداته لتتشكل بلعب مبتهج في ختام مقالته المنشور بعنوان ” تقديم وجدال , في العدد السابع عشر من مجلة أسفار الصادر صيف 1994 يصف الشاعر الناقد عبد الرحمن طهمازي قصائد عادل مردان بـ( الجارحة ), وأظنه عنى بذلك عدم مهادنتها , أي أنها لا تهادن وعي القارئ وذائقته , ولا تستمرئ رضاه بزخرفٍ بياني أو بنبرة مائعة من عذوبة فضفاضة مزيفة تخدّره أو تُطربه , إنها أمينة على حقيقتها، مخلصة لعالمها الداخلي , وحداثتها وقصائده , كما يقول الناقد مقداد مسعود في قراءته كتاب عادل مردان (فضاءات شرقيّة ) المنشورة في أحد أعداد مجلة ألف باء , “مغايرة موجّهة لقارئ يتكافأ مع الشاعر ليعيد إنتاج الثقة بجماليات هذه القصائد وفضائها الموحي بالدلالات المتعددة ” وعادل مردان , والكلام ما يزال لمقداد “يستفزّ استجابتنا القرائيه في قراءة اللامقروء في المتن الشعري عبر الحفر في جيولوجيا القصيدة”..ومن أجل تحقيق التوازن والإيقاع في جملة يقتلع الشاعر الفعل من مكانه الطبيعي المتقدم ويغرسه في قلبها فيصبح الفعل المركز الذي يتوازن على ناصيته قوس العبارة الشعرية..
لحظة الطيران تعادل عمر المنهوب
في كربلاء تهولت ثلث قرن
في الفردوس يهوي وثن القبح
ويلاحظ في كل عبارة وقوع الفعل بجزأين متعادلين.
لا اعتراض لدى الكلمة على الموقع الذي يختاره لها الشاعر، بل إن عليها أن تسوي مصيرها في واقعة الجملة الشعرية التي يستنبتها مدفوعاً بإحساسه وحده، تماماً كما كان يفعل بيكاسو الذي صرح في أكثر من مناسبة بأنه يضع اللون حيث يشاء على سطحه التصويري وما على ذلك اللون الا أن يخترع لنفسه سبباً يصلهُ ببقية الألوان هكذا لا مناص لكلمة (أطياف) مثلاً من أن تجد سبباً يؤّمن لها العيش بين كلمتي (تتزيا همتي) فترضى بأن تنتصب بينهما برغبة الشاعر (تتزيا أطياف همتي). يتصاعد الإحساس ويرتفع التعبير بحرارة مكتفياً بما يخلق كيانه المكتمل، وبلغة تتلّون بالنفي والحصر، والنداء والخبر والاستفهام:
لا يشع حزني
إلا وفي كدماته غناء
يا أين الإعشاب المرة
نحنُ في البدايات دائماً
فمن أين تأتي الكلمات المشعةّ؟
بعد ذلك القى المحتفى به الشاعر عادل مردان كلمة جاء فيها:
صباح الشعر عليكم…
شكراًَ لإخوتي في اتحاد أدباء البصرة، أنها حفاوة بالشعر، أتمنى أن تدوم ، أروع وفاء، أن أحتفي بأخوتي فرسان غارة اللازورد في الجنوب، حملة المشاعل الأوفياء، بكتبهم المطبوعة على النفقة الخاصة، والموزعة مجاناً على طريقة ((المشاعيين الأحرار))، يحرجون المؤسسة الثقافية المريضة، التي لم تغير من سياستها، في تقديس أصنام التبذل ، أحيي نبلاء الغارات الزمردية، الذين لم تستطع دولة الرعب، الختم على عقولهم ، فتملصوا بأعجوبة فظلت مخطوطاتهم مصونة لعقود، وهذا جودهم الذي لخصه بشار بن برد:
وليس الجود منتحلاً ولكن على أعراقها تجري الجيادُ
((هورقليا.. المرايا الدامية.. الخوذة .. كحول المزرعة.. فاختة البحر.. الجنوبيون.. عمق .. ظل استثنائي.. الاوديبي..حارس المزرعة.. تشكيل آخر للمعركة.. الجنوبيون.. القوقعة..))* هذا ما ظهر من السنابك اللاهثة.. أما بقية الغارة, فعلى رمال الغد تباشيرها ..(( كرنفال جنائزي .. الجسر المشطور .. من قتل الشيخ.. الانشطار.. الخارج من ظله.. نشيج من رحى مئذنة … مرزوق والإيقاعات الضائعة… حكايات مهودر الساخرة.. التأمل والتمرد.. بناء مدينة الرؤيا.. عدن ضائعة.. وصايا الطباشير.. الثعالب لا تقود الى الورد.. عربة تحرسها الأجنحة… جنوباً تشير البوصلة.. غرباء.. الزجاج وما يدور في فلكه.. طريدون.. بستان قريش.. بكاء المدن الخربة.. المسلة والرسام.. عربة النهار.. أنفلونزا الصمت.. حاصرتني العلامات.. وسادة البلد المنهوب.. أرسم أسئلتي وأمضي.. الجسر.. الواقع العجائبي.. كبش الدنيا ذات البابيين))**.. وهذا غيض من فيض.. فعشرات السنابك اللهفى، ستظهر في الغارة الجديدة. لم تطرح أسئلة مصير الثقافة، فكيف تتم الإجابة عنها؟ إذ استمرت مهزلة (دار الكوارث الثقافية) مثلاً، وعادت حليمة الى عادتها الأثيرة، إذ يصنف السيد (ساليري) ذئب المؤسسة القديمة الجديد، الشعراء على مزاج عقله . في الشعر حركات التمرد تستمر لموازنة الحياة والفكر، فشاعرُ التمرد لا ينتمي الى جيل بل هو من جيل أصحاب الغارات ذوي الطرائق الحرة, ينتمي بخياله الى شعراء هذه اللحظة وهكذا تستمر الغارة في ميمنة اللازورد ، أو مسيرة الزمرد ففي نبالة الشعر المستغني, هو الأول، والمنسيُ هو المُعرف ، والغائب هو الحاضر، وفي قانون الغارات المشاعية : هي أن تقدم أخوتك على نفسك والمنسيين على أخوتك، والإيثار ستكون طليعة غارة المشاعل : محمد حبيب – علي الشاعر- صبيح عمر- صلاح شلوان- مجيد الاسدي- سلام الناصر- حسن الحيدري –عمار علي كاصد-كريم جخيور-عبد السادة البصري…الخ, فمن كان في قلب الغارة، لا يهمه ذكر أسمه لأنه في قلب الوجدان . إذ يدوس الشاعر، على أمجاده المفترضة، فهي طريقة ناجعة، ليحطم سلطة أوهامه، أنها فتوة المستغني حين أكون مع الفقراء وسط الغارة، فماذا أريد أكثر من ذلك؟ ألم يكن مجدنا، غبار الغارات الشعرية.في أعماق المشهد الدموي، يتنفس الشاعر.. محنتنا تذكروا ذلك, فسيحدث الاهول، ولكن للأرض السومرية يومها الذي تعرفون، فتلك عادتها المجنونة مع الغزاة، منذ القدم، حسنا سأعود الى النبع ، الشعر: ، لأن دراما القتل لم تبدأ بعد، والشاعر الحلولي الخلاق يتحفنا بذلك الطقس فهو يعيش تحول الصيرورات ويشخص أمراض عصره، والعكس تمام القبح فالشاعر الموهوم يصنع من الضرورات ضرورة وهذا هو الجمود في الفن، أما شاعرنا الخلاق بنصوصه المشعة فيأخذنا دائماً الى ذلك الفجر (فهو طبيب الحضارة) ومستشرف المستقبل (بهلوان الرؤى)المنادي بقصيدة العوالم التي يتقدمها الفكر الشعري، والشاعر الرائي، يمزقه القلق طيلة حياته ، لأنه مشغول بإدخالنا الى الفردوس لحيظات لا أكثر.يبقى مكانة الكتابة، الأثير عند المؤلف, فمكان الكتابة هو النبع وماذا بعد؟ العالم قرية يالها من مدنية مختصرة تنوح بها المظالم. أعود الى فقه الغارات لأختم (أنا قطن النار) شئت أم أبيت يبدأ العالم عندي وينتهي في البصرة القديمة. وقرأ بعد ذلك مجموعة من اشعاره الجديدة ..والقى الكاتب جاسم العايف وجهة نظرعامة في شعر عادل مردان قائلا:قصائد عادل مردان مؤسسة على فرضية (التواصل المعرفي) والاخيرة ثيمة تعمل عليها ( الصوفية) ولكن (الصوفية)تشع بالأحساس والوجدان الوجودي من اجل الوصول الى (الحلول) في ذات (المتعالي) او العكس والاستمتاع بتجوهر الوجود الناقص لغرض الذهاب للكمال اللامدرك وقصائد عادل مردان تتمسك بقصدية الادراك المعرفي ومن خلال هذا تؤكد على الذات الانسانية وتجلياتها في الواقع الناقص وعندما تخفق في ذلك تتوسل بالتاريخ واساطيره. والشاعر عادل مردان يتعامل مع نصه الاخير على اساس الخلاصات التي يجب ان تحتوي على كل شيئ – الحاضر والتاريخ-وليس في نصوصه الاخيرة (مابعد) كما انها لاتعبأ (بالماقبل) وبأنتقاله من نص لآخر فأنه لايحمل معه ميراثا سوى العمل على(الصور) المترادفة- المتراكمة التي تتوسل بالصمت لتخلق الضجيج الذي يبدد الصمت ولو كانت مادته الذاكرة فقط. ثم قرأ الشعراء عبد السادة البصري وكريم جخيور وعمار علي كاصد قصائد تحية للشاعر وتحدث القاص باسم القطراني عن اهتمام الشاعر بالنتاج القصصي للقصاصين الشباب .وفي اليوم الثاني 12 /آذار/ افتتح الملتقى بآيات من القرآن الكريم والوقوف حدادا على ارواح شهداء العراق ثم القى الاستاذ مجيد جاسم العلي رئيس الاتحاد كلمة اكد فيهاعلى اهمية البريكان في هذه اللحظة الحاسمة في واقع العراق وثقافته الوطنية التي تنأى عن المحاصصات والمغانم الطائفية واكد ان ادباء البصرة مع شعبهم من اجل عراق آمن ديمقراطي متعدد, وتفضل استاذنا القاص والروائي (محمود عبد الوهاب) بتسليم درع الملتقى الى الشاعر عادل مردان ثم ساهم اكثر من عشرين شاعرا بصريا في قراءات شعرية متنوعة وبعد استراحة الغداء استمر الملتقى بعقد المحور النقدي الذي اداره الناقد جميل الشبيبي والكاتب جاسم العايف وساهم فيه الاساتذة الشاعر مجيد الموسوي ود. رياض الاسدي والقاص فاروق السامر والقاص كريم عباس زامل… ملتقى البريكان الإبداعي الثالث إشارة دالة على الدور الثقافي الوطني المسؤول لأدباء البصرة واتحادهم في المساهمة الفعالة لتفعيل دور الثقافة العراقية-الوطنية وعمقها التاريخي الإبداعي في هذا الظرف الدموي العصيب الذي يمر به وطننا وشعبنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجموعات شعرية وقصصية لادباء البصرة من الذين احتقروا المؤسسة الثقافية البعثية وأسمئزوا من سدنتها وأداروا ظهورهم لمآدب (الطاغية-الوغد) ولحزبه الارهابي الفاشي مع كل الاذى والجور والجوع الذي لحقهم وعوائلهم
ولم تعبأ بهم وبنتاجاتهم المؤسسة الثقافية الحالية والتي هي نتاج المحاصصة الطائفية المقيتة فقاموا بطبع نتاجاتهم على نفقتهم الخاصة وبجيوبهم المثقوبة الخاوية وتوزيعها مجانا بطريقة (المشاعيين الاحرار)
**مطبوعات اخرى في طريقها للصدور بذات الطريقة السابقة
——————————————————–
(2)
ديوان محمود البريكان الجديد : قصائد مضافة، وآراء في الشاعر والشعرية
فاطمة المحسن
مرت سنتان على غياب البريكان الشاعر الذي كان يتطلع اليه المثقفون العراقيون رمزا لفردانية الاديب وقدرته على تجاوز إمتحان الاستجابة الى متطلبات الانتشار وشيوع الاسم. فالذي بين الجمهور والأديب شراك شديدة الاغراء لاينجو منها افضل الكتاب وأكثرهم موهبة، ولعل البريكان صنع اسطورته في الوسط الثقافي العراقي من ترفعه عن الشهرة وإيمانه بفردانية الاديب ونخبوية الادب. خوف الشاعر على إستقلاليته جنبه الحياة العائلية فترة طويلة، مع ان مشاعر الحب والتطلع الى الألفة كانت تبرز في بعض قصائده. وعندما جرّب الأمر كان الوقت لايجري لصالحه،فكأنما تحققت حدوسه فيما يشبه استشفاف المصير الذي تملّك روحه الرقيق،فكتب قصيدة قتله قبل ان تجري الحادثة بسنوات.
كتاب البريكان الجديد الصادر عن دار الجمل بألمانيا يلخص بعض تلك الايماءات التي تحدد علاقة الشاعر بالفن والحياة. عنوان الكتاب (متاهة الفراشة/ قصائد مختارة 1947- 1998)،عدد صفحاته 235من الحجم المتوسط، وهو يستكمل ديوانه الاول الذي نشرته وزارة الثقافة في الثمانينات بمقدمة لعبدالرحمن طهمازي. هذه المرة جمع قصائده القديمة والجديدة وقدم للديوان الشاعر العراقي باسم المرعبي، وأضاف اليها حوارا معه أجراه حسين عبد اللطيف ونشرته مجلة “المثقف العربي” العام 1969،كما اختار مادة استذكارية لصديق البريكان الاديب رشيد ياسين والمنشورة في الاصل ضمن عدد الاقلام الخاص عن البريكان.
مقال ياسين يسلّط الضوء على شخصية البريكان الأديب الصامت الذي لايفصح عن عواطفه او مشكلاته،والذي تميز بغزارة إنتاجه في اربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم،فقد كان مكثرا مثل السياب عندما انطلقت حركة الشعر الحر ولكنه خالف كل أبناء جيله في مفهومه عن الشعرية وفي موقفه من النشر. ويعتقد رشيد ياسين ان للبريكان الريادة عبر قصائد سمعها منه واستمع اليها مجموعة من الاصدقاء، ولكنه لم ينشرها، ويورد مقاطع من تلك القصائد.
كتاب البريكان مناسبة مهمة لتتبع بدايات الشاعر الذي شغل الوسط الثقافي العراقي بأسراره، وكان مقتله سره الاكبر.
الذي يسترعي النظر في الديوان الأخير قصائده الاولى التي تشف عن رومانسية يتكثف فيها الالم والاكتئاب،غير ان الجديد فيها بحثه عن روحانية الألم (النور مقتول ،ومأتمه/ خفق الضمير،وزوغة البصر) (والظلمة السكرى معالمها/ هول الطريق،وضيعة الاثر). مايمكن ان يظنه القارىء تجربة التماس مع الطبيعة،يتخذ في قصيدته مسارا مختلفا يقوم على توظيف الانفعال الرومانسي للتأمل في سر مبهم يشغل الشاعر. فمفردة “الظمأ” التي تتكرر في قصائده الاولى يحاول ان يجد عبرها معادلا لتوقه الى المثال مرموزا له بالمعرفة حيث تلوح له ولا يقوى على تمثلها شعريا.ومع ان أدواته بسيطة،غير ان ما يشغله من جمال الصورة هو ممكنات الانفلات من خيالها البسيط “وأدفن الأوطار .. إلاّ هوى/ من ظمأ الروح الى مضمر”.
“مصرع خيال” قصيدة كتبها الشاعر في كانون الاول 1948،وحاول عبرها التلاعب بالقافية،فقد جعل لكل مقطع فيها روي يختلف عن الذي بعده وقبله.الاختلاف بين ايقاعات الروي في الابيات الشعرية أوجد حالة من التحاور بين صوتين او أكثر.انه هنا حسب ما منشور من التواريخ يقترب خطوة من الشعر الحر، لا بالمكّون الصوتي،بل بوحدة القصيدة ودراميتها.
تبدلات الشعرية لدى البريكان تظهر حسب ما يرد في الديوان في قصيدته “قتيل في الشارع” 1954، وهي تتابع حالة قتل سياسي في تظاهرة عمومة، او هكذا هي تستنطق الواقع،او تجعل منه معبرا لسردية جديدة تسم شعر البياتي والسياب: “كان الضحى يلقي عليه الضوء،والدم والتراب/ يتكتلان على يديه وحول جثته الهشيمة/ ورصاصة في الصدر تصبغ لون سترته القديمة/ في وجهه شيء يبث الرعب،يرتجف السلاح/ومنه تنقبض الجريمة.”.
تصبح للشعر وظيفة اجتماعية عند البريكان كما يقول: “بإكتماله كفن إنساني يدافع عن انسانية الانسان ويعمقها.والخط الذي يتمركز فوقه الشعر في معركة التاريخ،هو خط القيم النهائية والمصائر الاخيرة،وحرية الانسان. ولا جدوى في تناوله اية قضية يومية مجردا من هذه الروح.” هكذا يجيب في حواره عن مفهومه لعلاقة الشعر بالقضية الاجتماعية.
مجاهدات البريكان للوصول الى قصيدة تتجاوز اليومي والمالوف والمباشر،قد جعلت من عناصر شعره طاردة لممكنات التجاوب مع الجمهور. وفي كل تجاربه،كان يحاول كبت الغنائية التي وسمت مرحلته. وايا كانت درجة نجاحه،فقد حاول حجز شعره في مناطق عازلة،عبر اختياره المواضيع التي لاتخطر الكثير منها على بال الشعر المتداول، كما حاول من خلال هندسة الصورة التي تتجنب العاطفة المسرفة وتنزع الى مراقبة الحركة الداخلية للاشياء
صورة “الايدي” 1983التي يكتب عنها،تعتمد فكرة المقارنة بين السياقات،فهي شكل تأليفي يأخذ من الجزئي معناه الكلي،ولكنه يعمد الى التراكم والمراقبة التي لاتبدو على اكتراث كبير بنتائجها،مع ان وضع سياقاتها تنبثق من صورة اولى بسيطة،غير ان زاوية التناول تجعل القصيدة تطل على عالم مكثف ومختزل ويشمل مشهدا عريضا في الآن ذاته:
“أيدي الشيوخ الطاعنين،المتشبثة بمساند المقاعد/ تشبثها بالايام الاخيرة/أيدي العجائز المرتعشة كأنها تعرض تذكاراتها/وتخشى عليها من السقوط/ أيدي العشاق التي تضطرب قليلا/وترسم حلم مستقبل مشترك/ أيدي العازفين الرشيقة التي تسري دورتها الدموية/ الى الاوتار./ ايدي المقامرين المرتبكة التي ترتجف بالتوقعات/ وتسقط على الموائد./ ايدي القتلة الخالية من العروق الصخور. ايدي الجنود، إذ يطلقون النار،لحظة يتفجر الرعب، في صورة شجاعة”.
لعل اهتمامه بمفهوم الانفعال في الفن، ساعد البريكان على ان يجعل من الشعر مادة للمجاهدة. انه يتحدث عن المخاض الذي يسميه ضربا من التركيز الداخلي،هو تكيّف خاص للانفعال كي لايصبح تنفيسا سهلا للعاطفة العرضية التي يخشاها. نزوع الشاعر الى القيم الفنية الخالصة يصبح أقوى بكثير من أية حاجة نفسية،كما يقول.التركيز الروحي الذي يتحدث عنه في الشعر،هو الاحساس العميق بالوجود والزمن والمصير في استطرادته التي يوردها ضمن الحوار النادر الذي يشف عن ثقافة شعرية وذائقة خاصة للقصيدة.فهو يقول: “يناسبني ان اتحرك وحيدا” انه لايحب الانضواء تحت لواء مذهب او سيرة جمالية،مطمحه ان يكون الشعر فعلا عظيما من افعال الحرية، ان يكون طريقة في الالتحام بالعالم والتعالي عليه.
اكتشف البريكان مبكرا عطوب الصوت الجماعي، ومع ان شعراء الخمسينات او موجة الشعر الحر في العراق، كانت تتمثل بالاصوات الفردية،فليس هناك من شاعر استنسخ تجربة غيره،بيد ان الهدف الاجتماعي للشعر كان يوحد مصائر هؤلاء ويشغلهم،كما ان علاقتهم مع الجمهور علاقة تجاوب كل عبر نهجه الخاص،في حين اعرض البريكان عن تلك العلاقة. همه الانساني يدفعه في احيان كثيرة الى البحث عن صورة خارج السياق المتعارف، فيشغله سجين الرأي والقتيل، مثلما تشغله الاشياء في توحدها ووحشتها:خشبة المسرح الخالية، المهرّج، الاسد المذل في السيرك والقرد الذاهب الى مختبر التجارب، والفراشة التي تقبل على الضوء كي تموت في حصاره.
رمز البريكان يتحرك في هواجس قسوة العالم الخارجي ووحشته:
يطلق البرق شحنته في عروق السماء
يكشف البرق هاوية الكون،
يرسم في الليل وجه العدم
.. ويخّلف ظلا من الخوف أزرق..
.. منتشرا كصدى..
@ @ @
قبة الليل في لحظة تتفجر
الارض بحر من الزرقة الساطعة.
البيوت
فجأة تستحيل شواهد من مدن دارسة.
ثم تستأنف الكائنات تنفسها
وتواصل في العتمة القارسة
نبضها.
الحركة في هذه القصيدة تستكمل إدراكا مأساويا للوجود، فلا يمكننا ان نستدل على الصورة بعلامات ينتجها الضوء الخاطف للبرق،فهي أقرب الى رؤيا يولدّها تخيل ديناميكي ،علاماته ومعاييره متغيرة وفاعلة في تبديل أوجه الصورة نفسها، فهي ساكنة سكون إيمان الشاعر بأن موضوعات الشعر تشمل اولا التوتر بين الحياة والموت.بين التحقق والضياع،وتلك العلاقة المتحولة بين الروح والعالم حسبما يقول. وهي متحركة لانها تفضي الى زوال يبقى يدور في أفلاك الاماكن القصية للروح.
سيستعيد الشعر العراقي البريكان في كل مرة تكتشف له قصائد جديدة، فالغازه الشعرية هي الغاز جيل بأكمله نلمح في تضاريس شخصية بعض من تبقى منهم،منطقة حرة لشعرية تدرك الموسيقى والعلم والفنون باعتبارها مغامرة تنأى بها عن الثقافة اليومية للناس لتضعها في منطقة عازلة ،هي في الاصل منطقة الانتقالات الاجتماعية الصعبة.
———————————
محمود البريكان… الشاعر الذي لم أره!
*ضياء الدين احمد
ابن مدينتي البار.. أبن البصرة الفيحاء، مدينة السياب، والجاحظ، والفراهيدي، والحسن البصري… وغيرهم من العظماء الذين صمدوا على مر الدهور.. كعلامة شموخ، واعتزاز في ضمير التاريخ والإنسانية.. أنه الشاعر البصري محمود البريكان رحمه الله تعالى.
لقد أتخذ الشاعر محمود البريكان من الحياة((محطة انتظار)) واسعد ما في هذه المحطة أنها لا يمر بها قطار أو بشر .. فعالم الصمت والزهد، والوحدة هو عالم قصائد وحياة البريكان وأدبه… انه سيد المتصوفين.. منه تعلمت لماذا احرق المفكر العربي ابن حيان التوحيدي مؤلفاته…
الكثيرة، والتي لم تصل لنا منها سوى عدد اقل من عدد أصابع اليد الواحدة. ولأن شاعرنا البريكان كان على علم مطلق ويقين عميق.. بسر الحياة وزوالها، سار بعيدا عن عالم الغير
من الزهد، والصمت منارا يهتدي بهما.. بل انه وصل إلى وضع، أصبح فيه يسعد بما هو زائل.. ويعتبره أجمل ما خلق الله تعالى من نواميس، لهذا الكون الفسيح. حيث يقول في إحدى قصائده:
(طوبى لك
إن كنت بسيط القلب
فسيفهم مجد الأرض
سحر الأشياء المألوفة
إيقاع الدأب اليومي
وجمال أواصر لا تبقى وسعادة ما هو زائل).
الحقيقة المحترقة- بالنسبة لي- أنني لم أر الشاعر محمود البريكان حيا.. فقد كنت أهاب صمته.. قرأت عنه الكثير.. وقرأت له بعض قصائده المتفرقة هنا، وهناك وحوارات أجريت معه.. إلا أنني لم أره شخصيا، وكان بإمكاني أن أراه فكل أصدقائي الأدباء لهم صلة به ويزورونه.. خصوصا الأديب أحسان وفيق السامرائي الذي في زيارة له كعادته، فأصيب بصدمة رهيبة وهو يشاهد الحادث الجلل.. وصادف ذلك اليوم صدور كتابي((ذاكرة البشر)) حيث كتب مقدمته الأستاذ أحسان السامرائي.. وكنا قد تبادلنا الفرح في هذا اليوم.. لكنني فوجئت بعد نصف ساعة بعودة الأستاذ أحسان ليخبرني هاتفيا وبذهول وحيرة، وقلق، وحزن شديد، بأن البريكان قد قتل غيلة فنسينا كتابي، وذهبت فرحتنا… وقلت يومها: ((لقد قتل الجهل كله، العلم كله)) !!
وبعد كل الذي أوردته في مقالي أعلاه، كم كان بودي لو كان الشاعر محمود البريكان، قد جمع شتات قصائده وأفكاره في كتب، ودواوين مطبوعة.. فالذاكرة بلا توثيق هشيم تذروه الرياح.. لكن مع ذلك يبقى البريكان شاعرا كبيرا ورائدا من رواد الشعر العربي الحديث.. شارك مع شعراء آخرين ليس فقط في كسر شطري بيت الشعر العربي القديم.. بل في تصميم وهندسة فن الحداثة الشعرية.
جامعة البصرة
محمود البريكان: منطقة الشعر هي منطقة الذات العميقة
* علي عيدان عبد الله
فمن صنع الموتُ قهوتَه ايها المتغضن؟ من الوجه الأول ام من الرماد؟ من الوجه الأول المستدير البرئ الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب وخطّت عليه المآسي علامتها ام من الطفل الذي لا يقوى على سواه ويتشبث بوجهه وبأسفل ثوبه؟ يا صورة البدء! ايها الأول! يا من نسخته التجارب.. واستعبدت روحه العرفة.. وشلت يديه الأعنة.. واخترمت صهوات الجياد أرادته في الرحيل الطويل(1).. لعلك تنحني الآن على الأريكة.. متشبثا بالخشب اللماع.. خشب السنديان.. انت الذي رأيت.. رأيت كيف تدمر المدن المهيبة في الحفاء.. ورأيت كيف تشوه الأرواح جيلا بعد جيل.. شاهدت ما يكفي.. انت الذي سمعت كلام النبي وآمنت.. لكنك لم تتذكر شيئا.. فأنس اذن.. انس ما تعرف (انس تتجدد!).. وحتى القرنفلة في إناء الكريستال كنت تقول.. كلا.. لاشئ سوى النظارة.. هذا ما كنت تصبو اليه العروة الذهبية وأنبوبة الماء المتخفية.. وانت تكرر الحركة بشغف.. كلا.. لاشئ سوى النظارة..
وهذا الشئ الذي يتوامض في البعيد.. انه يقترب.. يقترب.. هو بقية الخيط المتروكة.. التي تتدلى كي نطول.. التي تشاهدها دون ان تنظر نحوها.. كي لا تفتقدها اثناء الطريق.. ولكي تتجنب الاشقاق..
وحيدا في الغرفة المعتمة.. يسمع صوتا خفيفا والمؤشر يتنقل في حدود العالم.. يتوقف عند سفح جبل الباروك الوعر.. هناك حيث القمة التي لاتُرى.. ايها الحجر الكريم!.. يا(عزلة)! هكذا يسمى (الجواهرية) في باريس ـ يقول جان جينيه ـ الحجر الكريم الحسن الصنع يسمونه (عزلة) كيف تسنى لهم ذلك؟ وهذا (الميت من فرط الخلود)من يساعده في الوصول الى المنزل؟ (هل كنت في عزلة حقا؟ عزلة منغلقة انحرفت بها ذاتك الى رفض الآخر وأقفلت بصيرتك عما حولها من العالم؟ لم تكن عزلتك انغلاقا أبدا) يقول هيدجر! انها ليست العزلة بل قل هي الوحدة.. غير منعزل عن الأحداث وعن ما يجري.. اني اعيش بجوار جوهر كل الأشياء.. (على الأديب ان يحمل مسؤوليته وحيدا) لأنه وليد صراع شاق ومحترم مع الذات وليس مع الآخر.. ان الصراع مع الجمهور انما يولد خطابة والشعر لا يولده الا الصراع مع النفس/ ييتس.. هذا التائه في الزحام (يمشي كي يوسع الأرض).. المصغي لانشغالاته وابتكاراتها…
المعني بوسائله الكفيلة بسحر الكون واختطافه وزلزلته..
تائه في زحام المدن
يتبعثر في حدقات العيون
عسى ان يرى ذات يوم صديقا
قديما سيعرفه
ويعرف بأسمه
ويساعده في الوصول الى بيته
الى اهله الشاحبين (2)
هذه هي الفجوة (التبعثر في حدقات العيون) التي حرضت على الغاء تعريفاتها وبطلت ان تكون كذلك بفعل الهامش الجديد الذي تبنى مواصفات جديدة خارقة.. مواصفات فسيحة.. ان (الجامع المعرفي) الذي كون ذاته بأصرار حين امتد في فضاء اشكالياته.. كان اعادة قراءة لمثل هذا (التكوين) وليس اعادة اعتبار تمثل في منظومة العلاقات التي ترتقي لتلك الشحنة الشعرية الضخمة التي يدفعها السحر الى سياقات التجابه واستقصاء الصعب من تلك الوفرة الآسرة..
ان الفعل الخطابي المرن المتحرك ينقب عن نزوعه في احتفال اللغة وكثافتها حيث الإقامة في (جذبة) الاستغراق والتماهي من اجل سياق جديد بكلمة تنتمي لهذا العالم الذي تتخيله وتخلقه باستمرار.. كلمة تنتمي الى الصمت في تقويضه للضجيج الفاني.. (الذين يعرفون كيف يصمتون هم وحدهم القادرون على الكلام بشكل أصيل).. الصمت يؤثث الذاكرة ويجعلها تلوذ بـ(عسى).. عسى ان يرى.. هذه هي (القراءة التي لاتقبل الانتقاص).
الصمت سلوك ونظام روحي.. اما الكلام فهو عيد/
جورج حنين..
هنا تمس الأشياء بعضها بعضا.. تحتك.. وينبعث النور سحريا وتتجلى البواكير شجرا كالنار (لا تخاف الصدأ ولا الدود) شجرا لا يتضور.. ضربة أخرى لجرة الماء ويضع (بابا طاهر الهمداني) اصبعه تحت تشارة الضوء غير آبه بشطحة الرمل.. مبهظا شرطه لولا العناء.. محملا التفاتته بالبهاء الخفي.. الحلم فأل..
يحدث هذا الحلم
في موضع تغفله الخرائط الظاهرة
في زمن تجهله الذاكرة
يحدث هذا الحلم
في فاصل الظلال والأضواء
في لحظة القفز من الأشياء
والغوص في العوالم الغابرة (3)
انه الشاعر الذي منعته الحكمة ان يخترع للكراهية اسما.. صاحب الحركة الفخيمة.. المتضرع لدورة أخرى.. دورة جديدة.. يا للدقة المفزعة.. لكن الباب ما زال مواربا.. والذبالة ترشح آخر ما يليق على ليلة تؤرخ لهول الفجيعة.. مرتعدا يغترف جمرا يتلظى.. هذا حامل الكلام.. من عبث بكبرياء وحدته وصمته.. من أرخ لهول الصدمة.. الكل نيام.. والحدوس مشوشة.. من بغداد وحتى آخر اسطوانة.. الكل نيام.. وحده الشعر يهرع اليه ويتبع أثره منهكا لا التاريخ! الشعر اعلى مرتبة من التاريخ (الشعر يرمي دوما الى الغاء التاريخ لا بقصد الحط من قيمته بل تجاوزه).. الشعر تجربة ومعرفة وكشف.. الشعر تعلق بالمدهش.. انبهار.. لكن الباب ما زال مواربا وضوء الثريا تجرأ على حافة السور العالي.. الكل نيام.. والحدوس معطلة.. والدماء في كل مكان.. على البلاطات وعلى الجدران وفي الممرات.. لكنك الشاهد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى..
أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها
الرياح
في آخر الساعات، قبل توقف الزمن
الأخير
في اعمق الساعات صمتا، حين ينكسر
الصباح
كالنصل فوق الماء حين يخاف الطير أن
يطير
في ظلمة الرؤيا
سأركب موجه الرعب الكبير (4)
شعر وقر في القلب واصطدم بالاحتشاد.. فتجلى في مقولاته بحثا (العشق بحث) مجده ودافع عن المحتمل بوعوده (انه واحد من الذين يرون ما وراء الواجهة) يخوض في غمار اللا محدود.. رغائب مسحورة.. هذا ما اقتضاه الفاتن الذي يكرسه في التحرر من الضرورة..
الكائن الخفي.. الأنوف المّوار.. سيبقى الكثير من الاندهاش في زخم الدلالات (سيبقى الكثير لنذود عنه).. والدمع مهما رق هل يكفي لمرتبة الجمال؟.. اليقيني يكرس.. الاحتمالي يقارب.. اليقيني مركز بؤري.. الاحتمالي إقصاء متفاقم..
قيل للهرمسي: كيف تستضئ؟
قال: احكّ المعنى بالمعنى
فما الطريق
الّا شرارة.
(1). مجلة (افاق عربية) /1993 قصيدة: البدوي الذي لم يزوجه احد
(2). ملحق جريدة (المنارة) الثقافي /2004 قصيدة: فقدان الذاكرة
(3). مجلة (عيون) /2005 قصيدة: العرب التائه
(4). ملحق جريدة (المنارة) الثقافي /2004 قصيدة: حارس الفنار
——————————————————————————————————
وثائق
(1)
الشاعر محمود البريكان رائدا وإنسانا
محمد صالح عبد الرضا
* عام 1967 عرفني به صديقي الشاعر حسين عبد اللطيف الذي كان يواصل دارسته في معهد المعلمين، والبريكان كان مدرساً فيه، وقد أدركت في سن مبكرة شمائل البريكان فأيقنت انه لا يجري خلف أبهة او خيلاء ولا يقلق أحداً، ونزاهته إحدى شيمه الفطرية ولئن كان الشعر في النفوس أفعل فأنه في مقام الصدارة من نفسه، تجربة روحية سرية لاهبة مصحوبة بحس فلسفي بعيد الرؤى، ومن هنا ائتلقت شهرته مع بعده عن الأضواء وإصراره على الصمت الذي لم يخرج عنه الا قليلا . وقد احتفظت شخصيته بهيبتها وتواضعها معاً، ولأكثر من ثلاثين عاماً كنا نلتقي، وكان يبهرني بتشجيعه، فهو يذكر عنوان قصيدتك التي قرأها قبل سنوات في مجلة عراقية ويتصل بك هاتفاً يوم تنشر لك قصيدة ويقرأها في جريدة أو مجلة لينفخ في روحك إكسير العطاء برقة ولطف . بين عامي 1968-1969، اطل علينا البريكان بقصائد ثلاث نشرها في مجلة (الفكر الحي ) التي كان يرأس تحريرها، وقدم افتتاحية العدد الثاني مؤكدا فيها ان (الفكر هو الشجاعة الكاملة، والحرية الحقيقية، والشرف الأسنى للإنسان لا سلطان أعلى من سلطان الفكر ولا شرعة أثبت من شرعة الحق ولا قانون أقوى من قانون الإبداع) ويكتب الشاعر عبد الرحمن طهمازي في العدد الثالث في مجلة شعر 69 دراسة بعنوان (الاحتكام بـ(…): محمود البريكان) مؤكداً (ان الكلمة لدى البريكان ترتبط بمحيط دائري وتتحرك في فلك يبدأ من نهاية السطر ليتكون مدارها عبر بدايات السطور في منتصفها) . وفي آذار 1970 نشر الشاعر حسين عبد اللطيف في مجلة (المثقف العربي) حواراً مع البريكان شرح فيه مفهومه الشعري قائلاً( الشعر هو النزوع الإنساني وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها وهو تمثل خاص لواقع التغير في زمن وقلق المسير والتأرجح بين الراهن والمنشود) .
ونشر عبد الرحمن طهمازي مرة أخرى دراسة عن البريكان في مجلة الأقلام – العدد السابع 1987 بعنوان ( سيادة الفراغ) مع نماذج من شعره ضمن أربع عشرة قصيدة ومقطوعة . وفي عدد لاحق من الأقلام نشر الشاعر الراحل كاظم نعمة التميمي اثنتي عشرة قصيدة للبريكان من مصدرين هما (مجلة الأديب البيروتية ) و(مجلة المعلم الجديد البغدادية) . وذكر التميمي أن البريكان أعلمه بعنوانات لثلاث من مجموعاته الشعرية المخطوطة وهي (أعماق المدينة والمجاعة الصادقة) و(الرقص في المدافن) و (خمس متتابعات).
وفي ظهيرة السبت 2/3/2002 وأنا عائد من موكب جنازة المبدع الكبير كان يغمر صدري شيء من الأسى فقد أهلت التراب على قبره مع أخوة من معجبيه في مقبرة الحسن البصري في الزبير. وتذكرت في حينها أن بين أوراقي قصيدة له لم تنشر وقد نشرتها بعد ذلك في ملف مجلة الأقلام الخاص بالشاعر وعنوانها –سحراً- في العدد الثالث عام 2002 كما نشرت مقالاً بعنوان (البريكان شاعر على حافة العالم) في جريدة الاتحاد الإماراتية بعد أسبوع من رحيله أشرت فيه الى أن النص البريكاني ينطوي على تجربة شاعر مفكر في حياته الشخصية وفي إبداعه الشعري ولفكره الشعري تقنية التعبير عن الحياة بصورة حية ومتحركة على درجة من الشدة الوجدانية . ولعل أبدع ما في شعره تلك اليقظة الذاهلة والرؤى المتلاحقة والتأملات الفلسفية زاخزة الاعماق.
رحم الله البريكان الزاهد والشاعر في محراب الصمت والأصالة الإبداعية والسؤدد الشعري.
وفي ما يلي قصيدته القديمة التي أحتفظ بها وهي بعنوان (سحراً)
سحراً
سحراً وقد خفقت على الأرجاء أجنحة السكون
وتمـزقت حجب الدجى وتعانقت هدب العيون
وتحـركت للسعي أجنحة الطيور على الوكون
يبكي على تـلـك المغاني عاشق جـمّ الشجون
ويبـل ذيـّاك الثـرى بالدمـع بالدمـع الهتون
ويثـير ذكـرى قـد طـوتها في غيابها السنون
* * *
سحراً وقـد سطـع الشعاع ورقّ لألاء الضياء
وتخـضب الأفق السني النور… مزدهر الرواء
وشدت بلابل في الـرياض ورجّعت عذبَ الغناء
يشكـو فـتى هـيمـان شـقـوته هنالك والعناء
ويهيـج من أعـماق ذاك القـلـب مستتر الرجاء
وينوح … مضنى القـلب ملتاعاً وما يجدي البكاء
* * *
سـحراً يطوّف في الربوع وقلـبه دامي الكلام
والكـائنات يلفـها صمـت ويطـويـها سلام
لهـفـان يشـقى والمـضاجع هاجع فيها النيام
تبـكي مآقـيه ويبكي القـلب مستعـر الضرام
والسهد في عـينيه يبـدو والشقـاوة في الحطام
يحيا لينـدب حلـمه الداجي إذا حلـك الظـلام
مـتـشوق الخـفـقات مربـدّ المنى ذاكي الهيام
ياشقوة العـشاق مـن أمـل يمـوت ومـن أوام
البصرة-1946
——————————-
وثيقة من الأربعينات عن الواقع الأدبي
•حسين عبد اللطيف
قبل منتهى أيلول 1948 بأسبوع وتحديدا في يوم الخميس المصادف للثالث والعشرين منه، صدر في البصرة العدد الأول من مجلة “الفارس” لصاحبها: حمد موسى الفارس المحامي وقد تضمن العدد على صفحته الثالثة عشرة قصيدة “عمودية” من تسعة عشر بيتا بعنوان “الجفاف” للشاعر محمود البريكان ثم عادت المجلة في عددها اللاحق ـ الثاني والثالث ـ المزدوج، الذي صدر في كانون الثاني عام 1949 المصادف ليوم…
السبت 22 ربيع الأول 1368 هجرية، فنشرت للبريكان أيضا، لاقصيدة هذه المرة بل ملاحظات أو “خطرات” ـ على إنها صفحات من مذكراته ـ أو هي كما قالت في الهامش… “مقدمة لفصول متسلسلة في فلسفة الأدب ونقده… بقلم الكاتب” وعنت بالكاتب: البريكان وبمقدمته هذه: “وثنية الفن والبعث المنتظر”… وكما يبدو فان المجلة وبعد صدور عددها المزدوج هذا توقفت واحتجبت عن الصدور ولولا ذلك لربما قرأنا كل ” الفصول المتسلسلة في فلسفة الأدب ونقده” منشورة فيها تباعا لا “مقدمتها” هذه فحسب، الكلمة التي أراد لها البريكان أن تكون “نقدا” أو هجوما عنيفا سافرا على الجمود والتخلف والسطحية التي رانت على أواخر الأربعينات الأدبي، فهو يشن حملة شعواء على هذا الواقع وعلى النزعات البالية التي سادته بعبارات حادة مباشرة، مهيبا بالأدباء الشباب في أن يزيحوا من أمامهم أصنامه ومن يؤلهها ومن يقف حجر عثرة في طريق تقدمهم وتجديدهم أو حداثتهم قائلا: “إن لشعرائنا أن يتأملوا مغزى وجودهم وان يدركوا بعد تطاول الوهن إنهم كانوا في سبات وغفلة عن تعرف لغتهم وتعهد مواهبهم وتقصي ما يجد في الأرض”. فهو يدعوهم إلى تأمل ذواتهم وتعهد مواهبهم وإدراك أدوارهم بالانفتاح على العالم وآدابه ومواكبة تطوره… وهذا ما عليهم حتى وان كانت الطريق غير ممهدة أو إن طلائعهم ستذهب ضحايا! فهم الزمرة المباركة التي ستدرك غاياتها وتثبت وجودها… “فثمة ما يحمل على الاعتقاد بان هذا ما سيكون… وان البوادر تحمل الاستبشار والتفاؤل بأدب الشباب الجديد والإيمان بأنهم سيحدثون حدثا!” وهذا فعلا ما كان ـ كما توقع تماما البريكان ـ وتمت هذه النقلة النوعية على يد ما يسمى اليوم بجيل “الرواد” وفي طليعتهم السياب ونازك والبريكان نفسه. وبجانب صيحات الدعاة للحداثة والتجديد سيتردد صدى هذه الصحيفة وسيحفظ تاريخ الأدب للرجل موقفه المبكر ـ منذاك ـ في صف التغيير والتقدم. ونحن بإعادتنا نشر هذه “الوثيقة” كما لو إننا قد أحيينا بعضا من ارث الشاعر ـ الذي انتهب بعد رحيله ـ ونكون قد يسرنا فرصة الاطلاع للمعنيين ـ بسبب صعوبة الاطلاع ـ على ما نشر قبل أكثر من نصف قرن.
وثنية الفن والبعث المنتظر
بقلم: محمود داود البريكان
…النقد بمعناه الأعمق ما هو إلا رأي خاص. وإغفال ذلك تعسف تأباه طبيعة الأدب السمحة. وهذا لا ينفي إن الزمن قد اثبت صحة بعض المبادئ الفنية فجعلها في صف الحقائق المسلم بها عند صفوة الدعاة من الكتاب والنقاد، وهي المبادئ المتصلة بطبيعة الأدب نفسه وأصول الإبداع الفني. واعتقد إن النقص في استكناه هذه المبادئ عند السواد الأعظم من كتابنا وقرائنا هو السر الأكبر في هذا التباطؤ في موكب نشاطنا الأدبي عن مسايرة الزمن ومواكبة التطور العظيم الذي ينظم وجوه الحياة. فلا يزيد الجامدون إلاجمودا! ومن المحقق إن من البصائر مالا يحتمل النور فيعمى لشدة ما ألف الظلمة!. كتلك النباتات الطفيلية التي لا تعيش إلا في كنف الأشجار الأخرى ولا تقف إلا مستندة إليها ملتفة عليها فإذا هي تعرضت للأشعة الغامرة ذبلت وذوت وجنحت إلى التراب تقبر نفسها فيه!
***
إن قيمة الأدب وخلوده يتوقنان على توفر العناصر الإنسانية أو ضؤولتها فيه، فالعنصر الإنساني هو قوام كل تصاعد فني وهو روح الأدب الذي يحبوه الحياة الخالدة سواء كان جنوحه إلى الموضوعية أو الذاتية. فالأدب الشكلي أدب فان وأن كان له من الأنصار والمعجبين “ما يدعم”* وضعه وهو انه… إلى حين والأدب الحي لا يقف عند البهرج والرنين وفخامة القوالب بل يتخطى هذه جميعا إلى المعاني الباطنة، فمفروض في الأدب الحقيقي ـ بحكم طبيعة صاحبه وتكوينه ـ أن يسبر أغوار الحياة لا أن يقنع بالظواهر، وان يترجم عن سرائر النفس البشرية في مختلف أطوارها لا أن يتعلق “بالبدائة”*. وما الأدب إلا طريقة لفهم الحياة بالفكر والشعور معا. نستطيع بعد هذا أن نقرر إن الشعر ـ فن الأدب الجميل ـ يحلق في سماء الحقيقة، وان استعار جناح الخيال فلنتذكر هنا ولنتذكر رسالة الشعر الأحياء التي قد تصل إلى الدعوة والإصلاح في نظر البعض أو قد تقتصر على مجرد الامتاع والتنفيس عند سواهم والتي هي ـ فيما أرى ـ تنمية إنسانية البشر والتسامي بها نحو النور. ثم فلنساءل أنفسنا: أين هي من هذا الهذيان المركوم الذي تفيض به المطابع وتغص الأسواق؟ إنني لا اشك لحظة إن الشعر الحديث ما زال يتجرجر على السفح ـ الذي يظنه قمة القمم!. وهذا الجيل لم يعرف ـ غير القليل من مثقفيه ـ انه خدع كثيرا وما زال يخدع في العديد من رجاله. الأبناء يهزأون بالآباء لان أيامهم الغابرة ألهوا الأصنام! ولو هم تحولوا إلى الفن! في هذا العهد الجديد! لوجدوا من الأصنام حفنة تقدس… ومن السادرين قبيلا يعبدون! الوثنية حية ما برح لها في عالم الفكر آثام، شرور وآثام. ويوم تنقشع غمتها ستنتزع الأجيال من أيدي النسيان عباقرة موهوبين وستطوح من منازل العظمة بغواة دجالين لا عمل لهم غير إثارة العواطف الرخيصة يصعدون بها على أكتاف الجموع الجاهلة إلى المجد الزائف!
***
لقد آن لشعرائنا أن يتأملوا مغزى وجودهم. وان يدركوا بعد تطاول الوهن إنهم كانوا في سبات وغفلة عن تعرف لغتهم وتعهد مواهبهم وتقصي ما يجد في الأرض. فهذه الإقليمية الفاسدة التي تطغي على (نظم) العديد من شعرائنا!، وهذه النزعة التقليدية البالية التي تعج بها دواوينهم، وهذه السطحية الفاضحة التي تتسم بها آراؤهم وكتاباتهم، وهذا التدهور النفسي الفظيع الذي يتخذ شكل النفاق والمداورة والإقذاع في صنوف شتى من لغو الكلام تقحم على الشعر إقحاما باسم المدح والاخوانيات والهجاء وأشباهها، هذه وغيرها معالم للفوضى الفنية تنذر بسوء العاقبة الذي يسمونه خطأ بشعر الفطرة وهذه الجعجعة الجوفاء التي يسمونها شعر الفحولة ـ إلى فن شعري صادق عميق جدير بالبقاء.
***
فلنتنازل قليلا عن غطرستنا المأثورة. لنتعرف إننا لبسنا طويلا جمود الموتى. لنبدأ من جديد بناء أدب صحيح يتناسب مع ما تضطرب فيه الإنسانية في هذا القرن العشرين، أدب قوي يحلق في مطلق الأفكار والأحاسيس ولا يعرف الحدود والقيود شخصية كانت أو زمانية أو مكانية ، أدب نستطيع أن نتقدم به إلى العالم بفخر ونقول له: خذ مثل ما أعطيتنا!.
***
سندع فلول الرهط المنقرض فيما هم فيه، إلا احد اثنين: مدعي تجديد لا يحسنه لنقص في وسائله ومقتضياته، أو متنكر للتجديد يحتسبه عبثا ومسخرة! هؤلاء هم حجر العثرة فيجب أن نزيحهم من الطريق. ولا يكون ذلك إلا بأدب أقوى وأسمى يجذب إليه الجمهور شيئا فشيئا حتى ندخل في طور البعث الحقيقي. فهل ثمة ما يحمل على الاعتقاد بان هذا ما سيكون؟ الحق إن البوادر تحمل على الاستبشار والتفاؤل بأدب الشباب الجديد والإيمان بأنهم سيحدثون حدثا. ولكن لا مناص من الإقرار بأن هذه الزمرة المباركة ترتاد طريقا خطرة غير ممهدة، فلا عجب إذا راحت طلائعها ضحايا!.
—————————–
*ـ وضعنا (ما يدعم) بديلا لكلمة مطموسة لا تقرا للمعنى الذي يفرضه السياق.
*ـ هكذا وربما هي خطأ مطبعي وأظنها بـ(البداءة).
————————————————————————-
حوارات
(1)
حول ترجمة قصائد البريكان الى الانكليزية
حوار مع د. شهاب أحمد الناصر
• حسين عبداللطيف
في أحدى الظهيرات اللاهبة من عام 1995 ، صادفت الشاعر الراحل محمود البريكان متجها نحو مكتبة فيصل حمود في البصرة،التي أغلقت منذ ساعة على أن تعاود العمل في المساء،وبعد أن- حييته وحياني – قلت:
خير ! فقال لي : لا .. انه موضوع في ( الألف باء ).قلت : ليس موضوعا ولا هم يحزنون ؟ بل مجرد خبر أرسله( الغراوي ) مراسل المجلة من البصرة حول ترجمة مجموعة من قصائدك الى الانكليزية قام بها الاستاذ الضليع شهاب أحمد الناصر ، أحد تدريسيي جامعة البصرة البارزين والنابهين ، وهو ينوي تقديمها الى دار المأمون لغرض النشر،
-عد الى البيت الآن وسأجلب لك العدد عندما أزورك في البيت مساء.
-اذاً الى المساء وسأعتمد عليك.
وهكذا – كعادته – في توصيتي على كتاب أو قصيدة منشورة له لم يحصل عليها لآسعافه في الحصول عليها وهكذا أيضا يتبين مدى حرصه للوقوف على كل صغيرة و كبيرة تمت من قريب أو بعيد الى شخصه أو الى شعره وما يكتب عنه حتى لو كان خبرا صغيرا كهذا.
حول الترجمة عموما وترجمة قصائد البريكان الى اللغة الإنكليزية خصوصا ، هذا الحوار مع د. شهاب أحمد الناصر.
•لا أدري ، ما اذا كانت لك سابقة في ترجمة الشعر ؟
-.. عندما كنت أعمل محررا أدبيا في جريدة بغداد اوبزيرفر العراقية كنت أسهم بين الحين والأخر بنشر ترجمة لقصيدة من قصائد الشعراء العراقيين ، وبذا نشرت وقتذاك قصائد متفرقة لياسين طه حافظ ، ولميعة عباس عمارة ، وكاظم الحجاج .. وآخرين . وفي عام 1985 نشرت لي دار المأمون ديوان قصيدة الحرب لياسين طه حافظ ، ولم أنشر أي ترجمة من الانكليزية الى العربية كوني أشارك الرأي الذي يذهب الى أن الترجمة من الانكليزية الى العربية كمن يرجع الى بيته في المساء ، وأعتقد أن الدلالة واضحة هنا.
* ما الذي دفعك لاختيار البريكان لتترجم شعره ؟!
– في حديث مسائي جمع الشاعر مع مجموعة من أصدقائه في بيته ، ومن بين الحضور كان الأستاذ الدكتور محمد جواد الموسوي الذي تربطه بالشاعر البريكان – كما هو معروف – علاقة صداقة وطيدة تعود ربما الى عملهما سوية في مجلة ( الفكر الحي ) وكان الحديث قد انصرف الى الشعر . وهل هناك من يترجم قصائد البريكان التي نشـــرها في مجلة الأقلام العدد الاول نيسان 1993 تحــت عنوان ( مصائر ) فما كان من الموسوي إلا أن يقترحني للشاعر الراحل … في ذلك الوقت لم تكن تربطني به أي رابطة سوى كوني قارئا لبعض قصائده المنشورة هنا وهناك … أجاب البريكان بالموافقة شرط أن يرى بعضا من النصوص المترجمة له … فقدمت له عددا قليلا .. وبعد مدة أعرب لي عن موافقته .. وقال لي : ” جاء صلاح نيازي طالبا مني أن أوافق على ترجمة بعض القصائد الى الانكليزية لكنني .. لم أقبل .. كون القصائد المنشورة قليلة …” وصمت ..
وعندما وصلتني الموافقة شفويا .. احسست وقتها انني قد حققت انتصارا أدبيا، واني أمام مهمة صعبة .. ” صعب هو المرتقى الى الجلجلة ” .. وأن تترجم البريكان عمل ما أثقله !!
•في كتاب ” الشعر العربي الحديث ” الذي صدر عام 1987 ضمن مشروع ( روتا ) لترجمة الشعر العربي الذي تشرف عليه سلمى الخضراء الجيوسي : قصيدتان مترجمتان من شعر البريكان: قصة التمثال من آشور وانسان المدينة الحجرية ، من ترجمة لينا الجيوسي ونعومي شهاب ناي واعيد نشرهما في مجلة جلجامش 4 /تموز1987 ، هل كان لك اطلاع عليهما،حتى لو في ما بعد على سبيل المقارنة مثلا ؟
-لم اطلع على ترجمة هذه القصائد ، غير انني حين عرفت ان هذه القصائد سبق وأن ترجمت الى الانكليزية ، لم أفكر في إعادة ترجمتها .. أن تلعب لعبة الترجمة لترجمة ثانية , يعني أن القواعد ستختلف في المحصلة ، أن لأي مترجم حريص ستراتيجيته الخاصة في ترجمة الشعر من العربية الى الانكليزية اذ اني بعد الاطلاع الواسع على كل ما يمكن أن تصل اليه يدي من شعر عالمي والذي أخذت بقراءاته استعدادا لترجمة البريكان ، كي ” اشحن بطاريتي الترجمية ” ..تبلورت لي طريقة خاصة بي وهي أن أترجم الشعر بثقافة الشعر ، لا بثقافة الشاعر ، ناهيك عن قراءة كل ما يمكن قراءته للشاعر وعنه كي تصل الى ما يمكن أن نسميه عملية النفاذ الى ما تحت جلده ” ومعايشة الحالة الشعرية العامة . فلو طلبت منى الآن ان أترجمه لما استطعت أن أقدم عملا كهذا .. لبعد الشقة الزمنية ولابتعادي عن الحالة الشعرية .. سمّها ما شئت كما ان الترجمة من العربية الى الانكليزية ، ليست تلك العملية التي من خلالها وبها ” تصب ماءً عربيا ليخرج خمرا انكليزيا ” زد على هذا ، اني أؤمن بالتخصص في ترجمة العمل الادبي : شعرا ، رواية، ومسرحية .. ماذا يعني أن يمضي- مثلا – بودلير خمسة عشر عاما في ترجمة ادجارالان بو , وروي كامبل في ترجمة بودلير وادوين موير في ترجمة كافكا ، ويتعلم الصافي النجفي الفارسية ليترجم الخيام
•نعلم أنك ترجمت ما يقارب الاثنتين والثلاثين قصيدة من قصائد هذا الشاعر ، ما الذي حتّم عليك لتختار – قصائد دون غيرها – لتترجمها من بين حوالي ( 87 ) قصيدة منشورة من نتاج الشاعر؟
-ترجمت ما كنت اعتقد أن يمثل أفضل تمثيل كل فترة زمنية ، واعتمدت التسلسل الزمني ، كي يتسنى لقاريء الترجمة أن يتعرف عن كثب على الملامح العامة لهذا الكون الشعري وتضاريس الخارطة البريكانية ..
•تقول انك ترجمت ( مطولاته ) من بين ما ترجمت ، أي ( المطولات ) كنت تعني .. ، أتلك التي لم تنشر: ( المجاعة الصامتة ) ( أعماق المدينة ) ( عدم )( الباب الكبير) ( المسوخ ) أم تقصد تلك المنشورة منها : (هواجس عيسى بن أزرق في الطريق الى الاشغال الشــــاقة ) أو ( أسطورة السائر في نومه ) أو (حارس الفنار) ؟
-قد كان وعدني أن يقدم لي نصا لم ينشر كي أترجمه .. غير أني لم أستطع الوصول الى مطولاته غير المنشورة وبذا اكتفيت بترجمة المنشور منها : هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة وأسطورة السائر في نومه وحارس الفنار .
•هل كنت تراجع الشاعر – إبان العمل في مشروعك – للاستئناس برأيه ؟
-كنت أراجعه بعد أن اكتملت ترجمة القصائد … وكان دقيقا جدا في توخي الدقة حتى في التشكيل الحروفي للآبيات على الصفحة ، وأذكر أنه طلب مني ألا أستخدم مفردة Mass)) كمقابل لكلمة قداس .. في ترجمة عنوان قصيدة ( قداس لشاعر على حافة العالم ) .. وقلت له انني لم استخدم هذه الكلمة وانما استخدمت كلمة أخرى تعود الذاكرة بها إلى إحدى القطع الموسيقية ، ألا وهي Requiem ) ) وكان السؤال الذي يؤرقه ، فيما يبدو ، والذي يمثل امتحانا صعبا يتمثل بالاتي : هل لهذه القصيدة ما يناظرها في الشعر الاجنبي الذي قرأت .. وبالتحديد القصيدة التي كانت عن ( الجواد ) في مجموعة ( مصائر ) الاقلام 3-4- 1993 (عوالم متداخلة ) وقلت له : ” إنها تشبه قصيدة فيليب لاركن (At Grass ) غير أن لاركن يقف متشبثا بمحليته ولم يمتلك بعدا وجوديا كونيا رغم تشبثه بأهداب الزمن والصيرورة واللازمانية.
•هل أسلس شعر البريكان لك قياده عندما ترجمته الى الإنكليزية ، أم انك عانيت مما يعاني
منه مترجمو الشعر – عادة – وأنت الضليع ، وبالأخص في اللغة التي تنقل اليها ؟
-المسألة ليست السهولة أو انقياد الشعر الى الترجمة.. وإنما الأمر خلاف ذلك تماما .. لو كنت اقتفي الطريق المألوفة في عملية نقل الشعر لأصبح ميسورا لي – اذا ما كانت هناك دار نشر – أن أخرج مجموعة قصائد لشاعر معين كل شهر . وانا لا أبالغ هنا .. وانما السؤال كيف لك أن تترجم شاعرا بقامة البريكان الشعرية .. ألم يقل في عنوان احدى قصائده انه ” البدوي الذي لم ير وجهه احد ” فكيف تجعل من اللامرئي مرئيا !! وأنت في خضم لغة اخرى وثقافة أخرى … هل تصدق أن ترجمة بيت شعر واحد يأخذ مني أكثر من ثلاث ليال مؤرقة .. وكنت أحيانا أعثر على المفردة وهي تأتي كالاشراقة الشعرية عند الشاعر، واذكر اني كنت أنزل من السطح الى الغرفة كي ابدل مفردة ما .. اذ كنت أعيش شعره وفيه … واذكر مرة أني قرأت ثلاثة أرباع ” المواقف والمخاطبات ” للنفري بالانكليزية كي اعثر على مفردة مناسبة في احدى قصائد البريكان ذات نغمة صوفية !! المعاناة التي يعيشها المترجم الحق لها صلة بمسؤوليته الاخلاقية ازاء ما يترجم وعلى الاخص مع شاعر مثل البريكان .. ألم تكن هناك ترجمات لقصائد أفضل من النص الاصلي انها احيانا اعادة خلق خذ مثلا ترجمة ازراباوند لقصـيدة The sea fanar ) ) عن الانكلوسكسونية _ مترجم الشعر هو كمن يقف وسط الجسر بعيون الى الوراء تارة ونظر الى المستقبل تارة اخرى … وأنا اعتقد جازما وبلا غلو ان هذه القصائد المترجمة لو وجدت طريقها إلى النشر عام 95 – 1996 لكتبت عنها رسائل جامعية او عروضا في المجلات الدورية التي تهتم بالأدب والشعر العربي المترجم الى الانكليزية … الم يكــتب( لين)مثلا عرضا عن ديوان ياسين طه حافظ في مجلةWorld Literature كما أعتقد ايضا أن محفوظ ما كان ليحصل على جائزة نوبل لو لم تترجم الثلاثية الى الانكليزية وكذلك( منيف ) لم يعرف في اميركا إلا بعد ان ترجمت روايته( التيه )
•لقد اطلعنا على نماذج من ترجماتك لقصائد الشاعر،على بضع قصائد منها منشورة في جلجامش ،أهي قصائد جديدة مضافة الى ما كنت قد ترجمته سابقا أم انها من القصائد نفسها التي قدمتها الى دار المأمون بغية نشرها قبل سنوات ؟
-القصائد المنشورة في جلجامش 1/2005 مأخوذة من المجموعة بعد أن أعدت ارسالها مرة اخرى الى دار المأمون وقد قام بنشرها الصديق سهيل نجم كونه يعمل محررا في المجلة ، وقد صدرت هذا العام 2006 وكان العذر في عدم نشر المجموعة سابقا هو أن الدار كانت مشغولة بطباعة خطب من يعرف الأجوبة عن جميع الأسئلة سواء في الشعر او الرواية مع ان الموت وحده لا غير من يصلح جوابا على كل الأسئلة . الموت الذي يساوي الصمت بوصفه العلامة في الدرجة الصفر من الكلام والكتابة.
وهالني أن الترجمة يمكن أن تسلب بعد أن يزال اسم المترجم من عليها على الرغم من أن مسودة محاضرتي التي قدمتها عن الترجمة في كلية الآداب – جامعة البصرة والتي نوه عنها الصديق عبدالحسين الغراوي في مجلة ألف باء قد ضاعت في ادراج مجلة الأقلام ولن اراها منشورة يوما فانني ازداد يقينا بأن قصائد البريكان التي ترجمتها سترى النور بعد أن اضطلع بالمهمة الصديق سهيل نجم والتي تمنيت ان يكتب مقدمتها الشاعر عبدالرحمن طهمازي لصلته بالبريكان .. لكنها ستخرج بتقديم للشاعر حيدر الكعبي ! كما قيل لي!. وقد صدرت بالفعل في نيسان من هذا العام 2006.
•قصيدة( ازموندياس ) لشللي ، هل وجدت فيها شبها ما أو تناصا او تعالقا او احتذاء مع قصيدة البريكان ( قصة التمثال من آشور) أم انهما متشابهان من ناحية الفكرة فحسب ، ليس الا .. وكيف ؟ أبالامكان توضيح ذلك ؟
-ما موقع التناص / التعالق ، يا ترى ّ؟ لو تم النظر الى الادب برمته بوصفه خطابا واحدا يتبادل فيه المركز والأطراف المواقع عبر عملية تجاذب وتنافر… ، ميزة ديمومة الفن فان زوال العلاقة اللغوية / الايقونية مسألة متواترة في الادب .. ألم يقل السياب عن الفكرة ذاتها
: ان أجبتني بتِ خالدة في الشعر ، هاتفة بك الامم ” . ولماذا مثلا نسعى الى مصداقية الشعر
عبر البحث عن التماثل مع الاخر هناك حقا الكثير من الكلمات الشعرية التي يمكن لها أن تتصادى مع ابيات شعرية لأليوت ويتيس ولاركن وروبرت غريفز ،ويبقى البريكان نسيجا وحده والمعاني منثورة في الطريق !! وان قلق التأثير – عنوان كتاب لهارولد بلوم – ليس بين الشاعر القوي وأسلافه وإنما بين الشعر والشعر حسب ما يذهب اليه ادوارد سعيد.
•يفقد الشعر الكثير عند الترجمة من الناحية الايقاعية ، خاصة وأن الشعر الانكليزي – كما هو معلوم لديك – يعتمد على النبر الضعيف والشديد ، هل حاولت نقل بعض قصائد البريكان الى أوزان الشعر الانكليزي وبحوره مثل : الايامبك والتروكي والانابست والداكتيل والسكندري والاسبوندي لتعوض هذه الايقاعات ؟
– الفقدان في الترجمة الشعرية مسألة نسبية ، لم اترجم القصائد الى اوزان الشعر الانكليزي، ولو فعلت هذا فقد يتحتم عليّ ربما ليّ عنق الأبيات لتلائم القالب . كما انني حرصت على الايقاع الداخلي للنص المترجم بعد ان عكفت على قراءة النص المترجم بصوت عال في مرحلته التوليدية الاخيرة
* لابد ان محاولتك ترجمة شعر االبريكان، عنت لك شيئا ، ما كنت ستعيد المحاولة مع شعراء آخرين تختارهم أنت أو تقترحهم أو ربما استهواك شعرهم كما استهواك شعر البريكان فترجمته ؟
– ان عملية تقديم شعراء آخرين هو هاجس أعيشه دوما … ولا أخفيك سرا فقد كنت فاتحت الشاعر الراحل رشدي العامل في بداية التسعينات أن نقدم نماذج شعرية عن الانتفاضة الفلسطينية وتحدثنا عن الموضوع بصوت عال في اتحاد الادباء في بغداد غير اني عدلت عن الفكرة حين قرأت خبرا في احدى الصحف من ان هذا المشروع قد نفذ .. وكان الرأي – وقتئذ – ان نفاتح جريدة الوطن الكويتية كي تزودنا بما صدر عن الانتفاضة كونها تمتلك ارشيفا واسعا واحيانا تراودني فكرة تقديم حسين مردان الى الانكليزية بعنوان ( بودلير العراق ) وتبقى البدايات مغلقة والنهايات مفتوحة وسأسعى حتما الى تقديم شاعر آخر ممن همشتهم المؤسسة الثقافية.
================================
ولد د.شهاب احمد الناصر في البصرة 1956
وحصل على البكالوريوس – آداب لغة انكليزية عام 76/1977 من جامعة البصرة ( الاول على القسم والكلية )
والماجستير برسالته الموسومة ( مفهوم شللي لمسؤولية الشاعر الاجتماعية ) عام 1993 وعلى لقب الاستاذية في نظرية الادب عام 1995 – كوفيء من لدن وزير التعليم العالي والبحث العلمي – شارك في دورة ( الايديولوجيا والنص ) المقامة في جامعة اكسفورد – عام 1989
-تحول جاد في اهتمامه اذ وجهت انظاره الى نظرية الادب المعاصرة فكتب مجموعة من البحوث النظرية منها : تأملات نظرية في ميتا- لغة الخطاب النقدي المعاصر واشكالية التواقيع:مفهوم المؤلف في النقد المعاصر و ( خطاب الادب والايديولوجيا، بين ماشيري واللغة الضد و ( المجاز والرؤية للعالم ، و ( اشكالية الكتابة في الدرجة الصفر لرولان بارت )
تتوزع اهتماماته ما بين نظرية الأدب المعاصرة وتحليل الخطاب النقدي والأسلوبيات الأدبية التي عكف على تدريسها لطلبة الماجستير والدكتوراه منذ التسعينات.
نال الدكتوراه عام 2004 باطروحته ( استجابة القاريء : دراسة استجابة القراء العراقيين للشعر الانكليزي الحديث ، التي ارسل نسخة منها الى ولفانغ أيزر الذي أجابه قائلا : ” … تعلمت الكثير منك عما كتبته عني واعجبتني طريقةمعالجتك لنقاد الاستجابة وسعة اطلاعك على الموضوع .. ، لقد قدمت عملا ممتازا.
ترجم ديوان قصيدة الحرب للشاعر ياسين طه حافظ – دار المأمون – بغداد 1980
الذي كتبت عن ترجمته مجلة الادب العالمي فقد قال ( لين ) معلقا : بأن هناك شحنةاليوتية في الترجمة ومن ترجماته الى العربية:
•آراء درايدن وشللي واليوت في ترجمة الشعر – آفاق عربية 10 / 1986
•اللاشخصانية في النظرية الحديثة – الاقلام
•الجذور الارسطية الجديدة في النقد – الاقلام
ومن ترجماته المنشورة الى الانكليزية اربع قصائد للبريكان ( الوجه ، مدينة خالية ، الكهف العميق ، غرف للعدم ) ، جلجامش : 1 / 2005 .
و كتابه : Al- Brekan .Selected poems 1953 – 1995 عن دار المأمون بغداد 2006 بمقدمة لحيدر الكعبي والذي أجرينا حوارنا هذا عنه.
وله قيد الإعداد والتنقيح كتاب بعنوان ( الفلسفة والنقد الادبي )
بالإضافة الى مجموعة من المقالات
عمل مدة محررا أدبيا في جريدة بغداد اوبزيرفر بخلاف الآخرين يفضل الترجمة من العربية الى الإنكليزية لا العكس
—————————
حديث أدبي من البصرة
محمود البريكان يتحدث عن تجربته مع الشعر الحر
• الشعر الحر ليس أسهل من الشعر العمودي ، وهو يحتاج إلى حس موسيقي خاص والى درجة عالية من التركيز ..
• التجديد الشعري أعمق من مجرد ايثار لهذا الضرب أو ذاك من ضروب النظم ..
• إن تبدع أو لا تبدع : هذه هي المسألة ..
• التراث لا ينمو بالجمود والتكرار ، بل بالتجديد والإضافة ..
• على الأديب أن يتمسك بأصالته أمام جميع المؤثرات
• وسائل الإعلام بوضعها الراهن تسيء إلى القيم الثقافية الرفيعة ..
أعد المقابلة : عبد الرزاق سعود المانع
الستاذ محمود داود البريكان ، مدرس اللغة والأدب العربي ، في معهد إعداد المعلمين في البصرة . ورئيس تحرير مجلة ( الفكر الحي ) التي تصدر عن مديرية التربية في لواء البصرة ، وهو واحد من الشباب المثقف ، ذوي الأطلاع الواسع في الأدبين العربي والغربي ، وصديق الشاعر المرحوم ( السياب ) له تجربة واعية مع الشعر المعاصر ، وله فيه رأي خاص ، ننقله في هذا الحديث السريع الذي اجريناه معه ..
– نحب أن نبدأ ببعض الأسئلة الخاصة ، منذ متى بدأتم ، يا استاذ محمود ، قرض الشعر ؟
* البداية الحقيقية للشاعر هي الفترة التي يتبلور فيها اسلوبه الخاص ، وموقفه من الوجود ، وكل ما قبل ذلك فمحاولات بدائية . لقد كتبت كثيراً ومزقت . على أن التحول الشعري لدي بدأ في وقت مبكر جداً ، خلال سنوات الدراسة .
– وهل قلتم الشعر في البداية على اسلوب الشعر الحر أو الشعر المقيد ظ
* لقد بدأت بداية كلاسيكية ، وخبرت ألوان الشعر واوزانه ، ثم اتجهت إلى طرق أبواب جديدة ومن ثم ، إلى سلوك سبيل التحرر في الأوزان . غير أني لم أتخل عن العمودي ، وبقيت ألجأ اليه في بعض الحالات ، ولا أرى تعارضاً في ذلك .
– سمعت أخيراً أنكم تنوون اصدار ديوان لكم ، فما مدى صحة هذا الخبر ؟
* في النية اصدار ديوان هو جزء من مجموعة مؤلفاتي الشعرية غير المنشورة ، ويؤمل أن تصدر بعده الأجزاء الأخرى . المشروع قائم ، وقد يحتاج إلى بعض الوقت .
– وعن الشعر الحر ، ما رأيكم في التهم التي يوجهها خصومه اليه والى القائلين فيه ؟ على سبيل المثال : انه انما يقصده القائلون فيه طلباً للسهولة وقصوراً منهم عن الشعر المقيد ؟
* لقد كثر الكلام حول ( الشعر الحر ) كما كثر الذين ينظمونه من غير المؤهلين ، أن أكثر ما ينشر من الشعر ( الحر ) لا يمت إلى الشعر ولا إلى الحرية . بل هو كلام هجين ، ليس فيه جمال الشعر ولا بساطة النثر . وهذا لا يعني سقوط الشعر الحر ، بل سقوط الشعراء . أن الشعر الحر موافق لمطالب التعبير العصري ، ولكنه أنما يتألق على أيدي الشعراء الحقيقيين ، فاما التافهون فيحولون كل شيء إلى تفاهة ، وسواء كتبوا شعراً عمودياً أو حراً فأنهم لن يأتوا بجديد . إن المسألة مسألة خلق ، والتجديد الشعري أدق وأعمق بكثير من أن يكون مجرد إيثار لهذا الضرب أو ذاك من ضروب النظم . وهكذا يمكنك أن ترى أن الشعر الحر بريء من سخافات المتشاعرين . فالشعر الرديء ، رديء سواء كان عمودياً أو حراً . المهم أنما هو امكانات الخلقومع كل ما لحق الشعر الحر من ابتذال ، فأنا على ثقة إن الأمكانات الجديدة تجنح إلى الحرية وتحسن استعمالها .
أما القول بأن الجنوح إلى الشعر الحر سببه القصور عن اتقان الشعر المقيد ، فهذا بصراحة كلام يشف عن جهل . ومن المؤكد أن الشعر الحر يبدو ( أسهل ) لكثيرين وهم أولئك الذين لا يحسنون نظمه ولا قراءته . ولكن أي شاعر حقيقي جرب النظم على الطريقتين : القديمة والجديدة ، يستطيع أن يقرر أن كتابة شعر حر جيد تحتاج إلى حس موسيقي خاص ، والى درجة عالية من التركيز والقدرة ، لكي يحقق الشاعر الصياغة المثالية والتناغم الداخلي دون أن يقع في شرك النثرية ، وهو ما لا ينجح فيه سوى قليل من الشعراء ..
– يبرز هنا سؤال ، استاذ محمود ، فهل ترون أن في الأشكال الجديدة نقضاً للتراث القديم ؟
* بالطبع كلا .. فالأشكال الجديدة ليست نقضاً للتراث القديم اطلاقاً ، بل هي تطوير واعتناء ، والحق إن التراث لا ينمو بالجمود والتكرار ، بل بالتجديد والإضافة المستمرة . وأنا مثلاً أحب الشعر القديم كل الحب ، وولائي عظيم للتاريخ الشعري ، ولكني أجد للشعر الجديد طعماً خاصاً لأنني معاصر ، والتحرر النسبي في الأوزان مستحسن بقدر ما يعني على تحقيق التجديد الشعري بمعناه الأعمق . أما أن يكون مجرد بدعة صورية ، فلا .
– هل تعتقدون أنه اكتملت للشعر الحر المقومات الضرورية لكي يحيا ويستمر ؟
* المهم امكانات الخلق ، والشعر الحر أقدر على تجسيدها . الأكثرون يقلدون فيبتذلون كل شيء . أما المبدعون فيتخطون أنفسهم ، وهؤلاء يحيون وتحيا معهم أشكالهم . للشعر مستقبل ، هو نفسه مستقبل المواهب ليس لنمط الشعر الحر أي قيمة في ذاته ، التجديد هو أولاً قضية روحية .
كلا ، لست قلقاً على مصير الأوزان الحرة ، ولكن هل تتحقق من خلالها إبداعات عظيمة ؟ أن تبدع أو لاتبدع ، هذه هي المسألة !
– المعروف أنكم يا استاذ ، تعزفون كثيراً عن النشر ، فهل تعتقدون أن هذه هي الطريقة الصحيحة في حياة الأديب ؟ وبالنسبة للناشئين من الأدباء هل ترون الأقبال على النشر أم التحفظ فيه والأقلال منه أصلح لتقويم نتاجاتهم ؟
* هذا موضوع دقيق ، تصعب معالجته في كلمات قلائل . وليس هناك قانون واحد للأدباء ، لأن الأدباء مختلفون طاقة وهدفاً . من الأدباء من يناسبهم ويكفيهم النشر في الصحف والمجلات والأذاعات . انهم يطفون فوق الأحداث اليومية ، ويخاطبون الذوق السائد ، ويطلبون شهرة لا تدوم ونجاحاً شخصياً خادعاً وقد يكون لبعضهم دوره وأثره الوقتي المحدود ، ومن الأدباء من يتطلعون إلى مستويات خاصة ، ويطمحون إلى إنجازات حقيقية باقية والى تحقيق اعمال فنية كبيرة . انهم يتمسكون باصالتهم أمام مختلف المؤثرات ، فمن الطبيعي أن لا ينخرطوا في اية جوقة ، وأن يبتعدوا عن الأجواء الأدبية الدعائية ، أنهم مشغولون بالحياة والإبداع ، وهم يريدون أن يخدموا قضية الإنسان بالطريقة التي تناسبهم فبالطبع يكتب المرء ليقرأه الآخرون ، ولكن من حقه أن يقرر اسلوب التزامه ولماذا يجب على أي أديب أن يطل من نافذة الصحافة ؟ أو يتكيف لما تقتضيه الإذاعات من اسفاف ؟ أنا مقتنع أن وسائل الإعلام في وضعها الراهن تسيء بالجملة إلى القيم الثقافية الرفيعة ، وهي تميل إلى تسطيح الأعماق وتحويل الفكر إلى نشاط استعراضي . أنت ترى أن القضية قضية قناعة شخصية ، وعلى كل اديب أن يقرر طريقة وأن يحدد وسائله ومجالاته تبعاً لذلك . ولئن كان الأديب مسؤولاً فأنه حر في أن ينهض بمسؤوليته وفق ضميره الخاص أنني لا أثق بمقتضيات العرض والطلب في الحركة الأدبية . على الأديب أن يحمل مسؤوليته وحيداً . ومن الطبيعي أن يتخطى ما هو راهن وان يغامر على المستقبل .
– أخيراً اما هي اللوازم والشروط الضرورية للشاعر اليوم ، في رأيكم ؟
* التشبع بالتراث : الشعري والفكري ، إلى الحد الضروري لتكوين حس تاريخي عميق بالموروثات وعبقرية اللغة .
التفتح على العصر ، وتمثل ثقافته ووعي ظواهره وأحداثه .
حب الحقيقة . النقد الذاتي .
وأولاً وأخيراً : أن يكون المرء حياً ملء الحياة .
مجلة البيان
العدد 34 – يناير ( كانون ثان ) 1969
—————————–
خالد الحلي: البريكان جمع بأصالة وشموخ بين أن يكون إنساناً حقيقياً رائعاً، وبين أن يكون شاعراً صافياً متألقاً على الدوام
نص اللقاء الإذاعي الذي أجرته إذاعة ألـ أس بي أس الحكومية التي تبث برنامجاً عربياً لساعتين يومياً ، مع الشاعر العراقي المبدع الأستاذ خالد الحلي المقيم في ملبون عاصمة ولاية فكتوريا حول الشاعر العراقي الفقيد محمود البريكان
بظروف ما زالت تحمل بعض الغموض، حملت إلينا الأخبار مؤخراً مقتل الشاعر العراقي محمود البريكان أحد الرواد البارزين في حركة التجديد الشعري العربي في بيته بمدينة البصرة العراقية ..هذه المدينة التي كان يصفها العراقيون بأنها ثغر العراق الباسم، لكنها شهدت دماراً كبيراً خلال حربي الخليج الأولى والثانية.
لقد وصفت الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي، هذا الشاعر الراحل في كتاب لها باللغة الإنكليزية تحت عنوان “الشعر العربي الحديث” بانه “شاعر ذو أصالة عظيمة ونظرة كونية”، كما كتب عنه الكثير من الدراسات.
ولتسليط بعض الأضواء على هذا الشاعر ومقتله نلتقي بالشاعر والصحفي الزميل خالد الحلِّي، الذي كانت تربطه علاقة زمالة ومعرفة بالشاعر الراحل.
*نرحب بك في هذا اللقاء”……” ونعزيك أولاً برحيل شاعر عراقي كانت تربطك به علاقة صداقة أو زمالة. وفي البداية نود أن تحدثنا عن أهمية الشاعر الراحل محمود البريكان.
– أشكرك كثيراً على هذه الالتفاتة الطيبة أخي العزيز أستاذ حسام. ان أهمية هذا الشاعر الكبير تتدفق من عدة ينابيع ثرة. لقد جمع بأصالة وشموخ بين أن يكون إنساناً حقيقياً رائعاً، وبين أن يكون شاعراً صافياً متألقاً على الدوام. لقد كان الشاعر الراحل الكبير محمود البريكان الذي آثر العزلة وابتعد عن الأضواء، مجدداً كبيراً ليس على صعيد الشعر العراقي أو العربي فحسب بل وعلى صعيد الشعر العالمي الإنساني، وقد أكد ذلك بعض المستشرقين الذي اطلعوا على النماذج القليلة التي نشرت من شعره، أو على كتاب الناقد والشاعر عبد الرحمن طهمازي الذي صدر بعنوان “محمود البريكان..دراسة ومختارات” عن دار الآداب في بيروت عام 1989.
*ولكن هل يعقل أن لا ينشر شاعر كبير مثل البريكان أي ديوان شعر في حياته حتى رحيله عن ثلاث وسبعين سنة..؟
-قد لا يعقل هذا الأمر بالنسبة لأغلبية الشعراء ولكنه يعقل بالنسبة للبريكان المتفرد أبداً، المتماهي مع الصدق والنقاء ونكران الذات إلى أبعد الحدود. لقد نظم الشاعر البريكان أول قصيدة رومانسية متجددة في عام 1946 ، عندما كان في السابعة عشرة من العمر. وقد كان من أوائل المجددين إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري، ولكنه آثر البقاء في الظل ولم يسع إلى تسويق نفسه، كما انه لم ينصع طيلة حياته لترهيب أو ترغيب الأنظمة المتعاقبة على العراق، وظل وطنياً تقدمياً صادقاً دون الانتماء إلى حزب ما. وقد أثرت كل هذه العوامل مجتمعة على عدم حصوله على ما يستحقه من تقييم وإنصاف أثناء حياته.
*هل لديك فكرة عن الأعمال المخطوطة التي تركها الشاعر الراحل البريكان..؟
-رغم عزوفه عن النشر، فقد كان الشاعر الراحل البريكان شاعراً ثراً، وهنالك أربعة دواوين شعرية جاهزة للطبع معروفة لأصدقائه هي: “أعماق المدينة”، “المجاعة الصامتة”، “سوق العبيد”، “الرقص في المدافن” . ونحن نتمنى أن يبادر أصدقاؤه ومحبوه إلى إصدار هذه الدواوين في وقت قريب، لتشكل إضافة خلاقة حقيقية لديوان الحداثة والتجديد في الشعر العربي.
*وهل تسعفك الذاكرة الآن “……” لإسماعنا شيئاً من شعر الشاعر الراحل..؟
-ربما أكون مازلت أتذكر قصيدة له بعنوان “في الرياح التاريخية” كتبها بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدامي في العراق. انه يقول في هذه القصيدة:
حينَ توارتْ جثثُ الأمواتْ
واتضح المشهدْ
تجسدتْ فظاعةُ المأساةْ
عن إرثنا الأسودْ
ميراثنا المشؤوم جوع القبورْ
عار ضحايانا
ميراثنا كلّ عقابِ العصورْ
عن كلِّ ما كانا
أنا تخليتُ أمام الضباعْ
والوحشِ، عن سهمي
لا مجدَ للمجدِ فخذْ يا ضياع
حقيقتي واسمي
*انها قصيدة جميلة ومعبرة. نحن نعرف ان الشاعر البريكان كان من أوائل المجددين في حركة الشعر العربي الحديث. ترى كيف كانت بداياته..؟
-أنا لا أرى أن التجديد ينحصر في أشكال الأداء الشعري ومسمياتها “شعر عمودي، شعر تفعيلة، قصيدة نثر أو ماكان الشاعر العراقي الراحل حسين مردان يطلق عليه تسمية”النثر المركز” وكان هو من أبرز رواده في الأدب العراقي المعاصر. ان التجديد هو في الرؤى والأفكار والبناء الشعري المغاير لكن المتين والصافي، والبعيد عن الابتذال والافتعال. ان التجديد هو معانقة العصر والمستقبل دون التنكر إلى التراث. وقد بدأ الشاعر الراحل البريكان بكتابة الشعر العمودي، لقد منح الشعر نكهة خاصة تنصهر فيها البساطة والأصالة والعمق والجمال. وفي قصيدة له بعنوان “عندما يصبح عالمنا حكاية” كتبها في الكويت سنة 1956 ، نجده يقول:
كانوا يقصون لأبنائهم حكايةَ الإنسانِ في الدغلِ
ولا يسرون لأبطالهم قداسةً إلا على القتلِ
أعطوا طغاة الأرض أرواحهم
وأبدعوا كل مراثي الطغاة
لعلهم لم يعشقوا موتهم
لكنهم لم يعرفوا ما الحياة
لفت خبر رحيل• الشاعر ومقتله بعض علامات الغموض ، فماهي حقيقة الأمر..؟
– ان مثل هذا الحدث المؤلم الذي يكتسب أهمية خاصة يجب أن يكون بعيداً تماماً عن إطلاق التهم والتكهنات جزافاً. لقد ذكرت الصحف العراقية ان الشاعر الراحل قد قتل في سريره من قبل لص اقتحم بيته بغرض السرقة، وقد وجد الشاعر البريكان مقتولاً بطعنات سكين وبطريقة بشعة، وروي بعد ذلك ان اللص القاتل قد قبض عليه، وانه اعترف بسرقة جهاز فيديو ومبلغ 50 ألف دينار عراقي، أي ما يقارب السبعة والعشرين دولاراً أمريكيا. ومهما يكن من أمر، وإذا كان ماروي صحيحاً وابتعدت أصابع الاتهام عن السلطة، فأن هذه الجريمة لم يكن لها أن تحدث في مدينة يتصف أبناؤها بالطيبة والمحبة والتسامح لولا ممارسات النظام ، والعنجهية الأمريكية التي أبقت سيف الحصار الاقتصادي مسلطاً على رقاب أبناء الشعب العراقي وقد أصبح هذا الحصار مع مرور الوقت سلاح دمار شامل بحد ذاته، مما يكشف حقيقة التوجه للانتقام من بلد وشعب أعرق الحضارات وليس من النظام الذي حافظت عليه وحمته من انتفاضة لآذار 1991 التي شملت معظم محافظات العراق وهددت النظام بالسقوط.
لقد استغرقنا الحديث، ولم نعرف شيئاً عن علاقتك بالشاعر.•
-لقد تعرفت على الشاعر كإسم له إضاءته المتميزة منذ فتحت عيوني على قراءة الشعر ومحاولة كتابته وأنا في مقتبل العمر، ولم يمر إلا زمن قصير لأجد نفسي محرراً لصحيفة “المنار الثقافي” في بغداد أواسط الستينات وكنت حريصاً أشد الحرص على مقابلة الشاعر الراحل والتعرف إليه. وذات يوم ربييعي من أيام عام 1965، حمل إلي الصديق الصحفي العراقي الراحل حميد رشيد نبأ وجود الشاعر البريكان في بغداد ونظم موعداً للإلتقاء به، والتقينا بالفعل في “المقهى البرازيلية” بشارع الرشيد. لقد ذهلت تماماً عندما وجدت نفسي أمامي إنسان متواضع أشد التواضع..أمام مبدع متميز وشامخ ولكنه هاديء وبسيط وخجول وعميق الغور. ولم ألتقه بعد ذلك التاريخ إلا أربع مرات-كما أتذكر- لأنه كان يسكن البصرة. وإذا كان هنالك مثل فرنسي يقول إحذر الانطباع الأول، فأن انطباع أول لقاء لي بالشاعر الكبير الراحل، ترك أثراً جميلاً لا يمحى في نفسي لأنه كان إنساناً متواضعاً فذاً نبيلاً عالي الخلق صادقاً مع نفسه ومع الآخرين.
في ختام هذا• اللقاء نشكرك”…..” ، ونتمنى أن نلتقي في مناسبة ثانية
– وأنا بدوري أشكركم جزيل الشكر اهتمامكم بالشاعر الكبير الراحل محمود البريكان، الذي لا يعرفه الكثيرون في هذا المهجر، وهو شاعر ظلم نفسه وظلمته الحياة، ولكنه شاعر كان يعانق المستقبل، وسينصف بعد وفاته إذا نشرت الأعمال الشعرية التي خلفها كاملة.
ملاحظة: اللقاء بث بتاريخ 29/3/2002
—————————
قالوا في الشاعر الكبير محمود البريكان
• الوصية الثمينة
حين كان ( محمود البريكان ) يحلل تاريخ القتل والتعذيب وكل فنون ايذاء الإنسان تحليلاً شعرياً متمرساً ، كان فيما يبدو بعد مصرعه يجهّز تاريخ شعرنا العراقي بوصيّة ثمينة تتعلّق بدفاع الشاعر الحديث عن العدالة التي لا تتجزّأ . إن جوهر شعره منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين ، وربما إلى آخر آهة ندّت عنه ، هو في تلك الشهادات المتخصصة في بصيرتها وقيمة مسؤوليتها عمّا كان يسمّيه ( ارثنا الأسود ) وعن العقاب الذي نتيجة الانتظار العقيم ، وعن تجاوز الإنسان على فن الوجود .
عبد الرحمن طهمازي
مجلة الأقلام العدد الثالث 2002
———————————————————–
• رسالة
هل كنت في عزلة حقاً ، عزلة منغلقة انحرفت بها ذاتك إلى رفض الآخر ، وأقفلت بصيرتك عما حولها من العالم ؟. لم تكن عزلتك انغلاقاً أبداً ، لكن مفهوم عزلتك ( وليست عزلتك ) نما وكبر وتوسع من خارج مقاصدك الشخصية ، وتأسطر في شائعات محبيك وقرائك ، حتى خلعوا عليك عزلة قصدية منغلقة لا عزلة المبدع ، حين يخلو المبدع إلى ذاته ، فمن دون الأنفراد بذاتك لا ينتج الشعر ، ومن دون الأنفراد بذاتك تموت صامتاً .
محمود عبد الوهاب
مجلة ( الأقلام ) العدد الثالث 2002
———————————————————-
• الشاعر الذي اختار الصمت كلاماً
أتذكر جلساتنا السينمائية . الصالة المعتمة ومحمود يجلس بجواري صامتاً ، أو يتكلم همساً لكي لا يزعج الآخرين ( كانت صالات السينما آنذاك ، أو كان بعضها على الأقل ، أماكن وادعة بوسعك أن تجلس فيها بهدوء لتستمتع بمشاهدة فيلم جيد دون أن يزعجك أحد ) وكان إذا أثارته إيماءة بارعة لممثل أو ممثلة ، أو مشهد ينم عن ذكاء في الأخراج تحركت يده لتضغط على يدي معبراً بحركته الصامتة الخفيّة هذه عن اعجابه بما يرى .
مهدي عيسى الصقر
مجلة ( الأقلام ) العدد3/4-1993
————————————————————-
• مخططات لقراءة ( ظاهرة البريكان )
ولذلك ، فأن ( ظاهرة البريكان ) ، بوصفها ظاهرة صمت ، لا تتحدد بالمعنى الذي نضعه لها هنا – بالصمت الشخصي لمحمود البريكان ، ولا ينبغي لدراستها أن تجعل هذا الصمت الشخصي مدار اهتمامها ، فهو لا يقع داخل الحيز النقدي ، فلأسباب معينة ترتبط بطبيعة البناء السايكولوجي لشخص محمود البريكان ، كان نشره قليلاً وكان منعزلاً وصامتاً . وقد ترجع هذه الأسباب إلى وسواس قهري أو إلى عقدة عصابية أخرى ، ولكنها ، على العموم ، تقع خارج الاهتمام النقدي .
بل ينبغي للدراسة أن تتجه إلى احتفاء الثقافة العراقية بهذا الصمت وتأويله بأنه ( صمت شعري ) ، وهو ما يشكل جوهر ( ظاهرة البريكان ) .
د. حيدر سعيد
مجلة ( الأقلام ) العدد 3 – 2002
—————————————————————–
• الدخول إلى غابة الشمع
ولأن البريكان يؤمن بأن الشعر هو ابن النزوع الإنساني ، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها ، لهذا فقد ظل البريكان مخلصاً لذاته الشعرية في أقصى حالات القلق ، متأرجحاً بين الراهن والمنشود متوتراً بين الحياة والموت ، بين التحقق والضياع في تلك العلاقة المتحوّلة بين روح العالم وبين البريكان والشعر ، أو بين البريكان والوجود .
رياض إبراهيم
مجلة ( الأقلام ) العدد3/4-1993
—————————————————————-
• شيء من الذاكرة
إن البريكان – وخلاف ما يفعل الكثيرون – وصف ما حصل .. أو بالأحرى أقام المفارقة وترك لوعينا تدبّر ما يستخرج من صور أو أفكار أو دلالات . أي ما يحيل اليه السياق ، خاصة وأننا جميعنا ، مررنا بمثل هذا المشهد وحدّقنا به – أو حدّق بنا – طويلاً ، ولكننا كنا عجلين أو خائفين .. إلا البريكان ، حدّق في المشهد ، سمّر نظرته ، بحثاً عن الأجمل والأبعد .
طراد الكبيس
مجلة ( الأقلام ) العدد 3/4-1993
—————————————————————————
• العزلة كتبت القصيدة
هكذا اذن تسري الطعنات ، ولا يستثنى منها حتى جسد شاعر مرهف ليغادر هذه الدنيا مطعوناً ، منحوراً ، في بلاد مدججة بالأنين ولعنة الفضيحة ، لشاعر متفرد من بين مجرات الشعر العراقي ، ليس بشعره فحسب انما بكل تفردات حياته اليومية . لقد قتلهم بعزلته قبل أن يقتلوه ، العزلة وليس الأعتزال التي عبرت عن هاجس التمرد على كل الأوضاع لسلطة أدخلت العراق في نفق مظلم .
وليد هرمز
جريدة ( الزمان ) 14/4/2003
————————————————————————————-
• الأحادي نقيض الجوّال
ولأن الحلم وحده واللاوعي علاقة الأنا ، خاصية من خواصه ، إذا اعتبرنا الشاعر حالماً بطبيعته يسعى إلى يوتوبياه التي ينشد ، كونها الأبد الأجمل والأبعد ، فلا غرابة أن يتحسس ( أسى المحطات ) الواقعية المثقلة بالقيود ، وبدلاً من أن يكون حراً حقيقة ، صار سجين ظروفه ونفسه ، فحاول تحصين نفسه بالرفض بداية ، حين بعث بكلمته لتقرأ نيابة عنه إذ طلبت منه وزارة الثقافة أن يكتبها ويلقيها تحت تمثال بدر السياب عند ازالة الستار عنه في البصرة أمام حشد من الأدباء العرب ، فاكتفى بمحبسه الذي اختار : البيت ودار المعلمين ، لكنه أطلق المعنى في منطقه ومنطقته ، حين خص الكلمة عن نفسه وعن المعنى ، أكثر مما هي عن السياب .
محمد الجزائري
جريدة ( الزمان ) 23/3/2003
—————————————————————————
• محمود البريكان
في الثقافة العربية يُعرف البريكان بأنه صاحب القصيدة المتماسكة والغنية بالصور الحديثة ، فالحداثة لديه ليست لعبة فنية أو شكلية بل هي موقف وجودي من الحياة . وموقف نقدي من الحداثة غير المنهجية أيضاً . فهو يعيد ثورة الحداثة في الشعر إلى طابعها العربي المعاصر عندما يربطها نقدياً وبنائياً بحركة الشعر الرومانسي العربي ، وليس كما يفعل نقدنا عندما يعيد تكوينها إلى تلك القصائد القليلة التي ترجمت من الشعر الأنكليزي أو الأوربي .
ياسين النصير
——————————————————
• الأكتمال الناقص
ميراث البريكان من الصمت يسابق ميراثه من الشعر . الشعر والصمت لديه جوادا رهان لا يتقدم أحدهما على الثاني ولا يتأخر عنه . ويستطيع الناقد – إذا ما شاء – أن يدرس قصيدة أو مجموعة من القصائد لمحمود البريكان دراسة تحليلية ، فيتوقف عند نصوصه ، لكن هذه الدراسة لن تستطيع أن تدرس الشعر الآخر الذي كتبه البريكان دون أن يكتبه ، أعني فترات توقفه عن الشعر . إن علاقته بالشعر أكثر من مجرّد ( حضور ) نصي . إنها أيضاً وفي الوقت نفسه علاقة ( علاقة ) نصي .
سعيد الغانمي
مجلة ( الأقلام ) 1/2/3 – 1994
—————————————————————————-
• الريادة
إن دور البريكان في مجال تطور الشعر الحديث لا ينكره أحد ولكن هناك من حشر نفسه في قضية الريادة بحضوره الدائم في حلقات الشعر وبإصراره على الظهور بينما ابتعد بعض المبدعين طواعيه ومحمود البريكان هو الذي نأى في هذا المجال وامتنع عن نشر شعره منذ وقت طويل
لميعة عباس عماره
جريدة ( القبس ) 1982
——————————————————————–
* لا يداني البريكان أحد في استنباط العناوين الغريبة لقصائده وكانت لغتها بكراً ، لا تشبه لغة من معاصرينا ولا تكثر فيها المفردات التي تتكرر عادة في قاموس جيل بعينه من الشعراء . وكان بناؤها مبتكراً هو الآخر ، فهي تبدأ من السريع ثم تنتقل إلى بحر ثانٍ لتعود بعد ذلك إلى البحر الأول وهكذا . وهذه التقنية التي استخدمها البريكان في قصائد كثيرة فيما بعد ، تذكرنا باسلوب التأليف السيمفوني الذي يقوم على تعدد ( الثيمات ) الموسيقية وتداخلها وامتزاجها .
رشيد ياسين
مجلة ( الأقلام ) 3 / 4 – 1993
———————————————————————
مُدَّ لنا يدا
مهداة إلى الشاعر المبدع الراحل الأستاذ محمود البريكان
في ذكراه
“محمودُ…!”
و انقطعَ الصدى،
فَهَلِ الردى
ذئبٌ ترصدني* فَحالْ،
بيني و بينَكَ؟
هل أغاظتْهُ القصيدةُ عرّشتْ مثلَ الدوالْ؟!
و كأنّها ذنبٌ لديهِ،
فآستُفِزَّ؛
رآكَ صدراً صارَ متّكأً لخدّ البصرةِ الفيحاءِ إذْ تغفو عليه!
أو ضاقَ ذرعاً فيك:
أنّك لم تبالْ!
و صنعتَ عالمكَ الذي لم تستطعْ يوماً تحاصرُهُ الليالْ!
أو القميصْ!
أتظنّ أنّ الزهدَ عدوى بثَّها (خُصُّ الخليلِ**) فكنتَ أنتَ بلا قميصْ!
وبأنّ (واصلَ***) أسرجَ القنديلَ وحدَهْ!
حتّى إذا جفّتْ فتيلتُهُ،
أتيتَ لكي تمدَّهْ!
محمودُ،
هل تدري صباحاتِ الموانئِ لم تَعُدْ فيها نوارسُ أشبهتْ ليلَ اللصوصْ!
عذراً إليكَ إذا غدتْ ما بيننَا الجسرَ النصوصْ!
لم يستطعْ حتى الردى
أنْ يستطيلَ عليك، يُلغي موعدا!
محمودُ…
مُدَّ لنا يدا
*********
* إشارة إلى قول الجواهري:
ذئبٌ ترصدني و في أنيابه دم أخوتي و أحبتي و صحابي
** المقصود هنا (الخليل بن أحمد الفراهيدي)
*** هو واصل بن عطاء رأس المعتزلة
سعيد جاسم الزبيدي
رئيس قسم اللغة العربية – كلية
العلوم و الاداب – جامعة نزوى
سلطنة عُمان
الجمعة 15/2/2008م