قراء في قصيدة (رصاصتان) للشاعر علي نوير :
القصيدة*:
رصاصتان
المُقاتلانِ على الرابية
الهدفانِ على السَفح
الرصاصتانِ انطلَقَتا
جَنباً الى جَنب
… ثمَّ افترَقَتا
.
بعدَ ثانيتَين
ارتفعَ عُواءُ ذئب
وعلى مرمى شَهقةٍ
انبثقتْ صرخةُ إنسان
.
في المساء
الجثّتانِ.. الى الوادي
الدمُ..إلى النهر
.
في المساء
حيثُ السماءُ رماديّةٌ
فاتَ أهلُ القُرى أنْ يكتشفوا
سرَّ اللونِ الآخرِ للماء
ولأنّهم سليلو أنهارٍ ونايات
أدركوا بالغريزةِ وحدها
أنَّ طَعمَهُ لم يعد كما كان
إلّا أنّهم ألِفوهُ مع الوقت
كأيِّ نَدَبَةٍ في جسَد
أو شَرخٍ في جِدار
.
منذُ ذلكَ المساء
وأهلُ القُرى على الضَفتَين
ينظرونَ الى السَفحِ والرابية
كما ينظرُ فلّاحٌ الى سَحابة
.
منذُ ذلكَ المساء
الرابيةُ.. الى ارتفاع
السَفحُ.. الى هاوية
.. والرصاصُ لم ينقطعْ
.
يا للرصاصةِ الكَفيفةِ
كم هيَ بحاجةٍ الآن
الى عُكّازِ نبيّ
.
يعتمد الشاعر البصري (علي نوير) تقنية اللقطة الشعرية في تشكيل مشهد شعري مكثف ومبهر يتخذ موضعه من جسد القصيدة على أساس فكري وفني. لتكون اللقطة هي اللبنة التي تنهض بها القصيدة وتكتمل.
قصيدة (رصاصتان) جاءت متشكلة من سبعة مشاهد شعرية متوالية منسجمة، كل منها يمثل وحدة فكرية لها خصوصيتها وجوها التعبيري داخل القصيدة. وكل مشهد من هذه المشاهد يحتاز على مجموعة من اللقطات المتوالية والمتقابلة بانسجام، أحكم الشاعر تقديمها بطريقة برقية لافتة ذات دور تعبيري مهم كجزئية فاعلة في بنية المشهد الشعري. وفاعليتها تبرز في نجاح الشاعر بجعلها تقنية مهمة لتأثيث الجانب الرؤيوي لقصيدته واعتماده الكلي عليها في ذلك. هذا من جانب، ومن جانب آخر استوعبت اللقطة الشعرية عناصر السرد الشعري وقدمتها تقديما متفاعلا مع الحدث في كل مشهد من القصيدة مع مراعاة نمو الحدث وتطوره. فالشاعر هنا يستوحي عمل الكاميرا السينمائية التي تؤدي تقنية النقل الحر للحدث وحركة عناصره، ومن ثم تسمح لنا برؤية المشهد كاملا من دون أن تتدخل هي في توجيهه أو صنعه.
وبمهارة العبارة السريعة التي يعتمدها علي نوير في لقطاته بالرغم من بساطتها وألفتها أو تداولها اليومي تتوالى اللقطات مرتبطة بعضها ببعض عن طريق خيط الدلالة الذي يجمعها في مشهد واحد، فنتلقاها على نحو أكثر جمالية وفنية، وعلى هذا النول ينقلنا الشاعر من مشهد إلى آخر يتلوه ويرتبط به دلاليا في حكم نمو الحدث وتكامله حلقة بعد حلقة. فهو يقدم قصيدة مونتاجية بلقطات متنوعة ومشاهد متعددة ومترابطة يعبر من خلالها عن رؤيته الشعرية التي يفسح للمتلقي من خلال هذه التقنية المشاركةَ في عقد خيوط دلالاتها والربط بين مفاصلها بعد تجاوبه وتفاعله مع اللقطات وفهم إشاراتها وتجاوبه مع جوها التعبيري والشعوري، ليتمكن من الوصول إلى الخيط الدلالي الخفي الذي يجمع بينها. فالمتلقي الجيد هو من يكتشف معمارية الجانب الرؤيوي للقصيدة وما أراد الشاعر أن يعبر عنه أو يقوله دون أن يفصح عنه مباشرة.
ــــــــ عتبة العنوان: (رصاصاتان)
يشي العنوان منذ البدء بأننا إزاء حدث تنداح دائرته من القتل وهو المهيمن الدلالي والشعوري الذي يكتنف القصيدة كلها. فجاءت عتبة العنوان (رصاصاتان) موجها لافتا يستبطن بذرة الدلالة والرؤية التي يتفرع عليها النص، ومن ثم تبوّء العنوان قدرة إحالية إلى الفضاء الذي تدور فيه القصيدة مع استدعاء فضول المتلقي وإثارة توقعه لما سيحيل إليه جو القصيدة أو توجهها.
ــــــ يبدأ المشهد الأول بمجموعة لقطات سريعة متوالية تمثل لنا استهلالا مهيمنا بحدثه على كل مفاصل القصيدة بعد أن تضيء عناصر هذا المشهد: (المقاتلان/ المكانين المتناقضين “الرابية والسفح”/ انطلاق الرصاصتين جنبا إلى جنب/ ثم افتراقهما).
يحمل هذا المشهد بنية مؤسِّسة ينطلق منها السرد الشعري وهو يقدم هذه العناصر ليؤسس لهيمنة الحدث وكثافة حضوره وأثره الممتد إلى جميع المشاهد في القصيدة. فالمقاتلان على الرابية إذ تقدم لقطتهما من أول وهلة صورة المدافعين النابهين اليقظين لكل خطر. ويتوازى معهما في التركيب اللغوي (الهدفان على السفح) في اللقطة الثانية، وهو تواز يحيل إلى تضاد آخر(المقاتلان//الهدفان ، الرابية //السفح) ليتحقق بعدُ مبرر انطلاق الرصاصتين (جنبا إلى جنب) لتأتي لقطة المفارقة الملفتة (ثم افترقتا)، لتكشف عن دلالات مفارقة لا تشي بها اللقطات السابقة إلا بعد بلوغنا لقطة افتراق الرصاصتين هذه؛ فكأن ( افتراق الرصاصتين) يضمر أن لكلا المقاتلين غايته التي تدفعه للوقوف على الرابية وإن جمعهما مكان واحد (الرابية).وتلك الغاية يفصح عنها المشهد التالي بلقطاته السريعة أيضا:
(بعد ثانيتين/ارتفع عواء ذئبٍ/ وعلى مرمى شهقة/انبثقت صرخة إنسان).
لقد تحقق القتل إذن.. واللقطات تقدم مقتولين متضادين أيضا (الذئب/الإنسان). الذئب بما يحمل من رمزية العدو الحقيقي المتربص، والإنسان الذي يشي التعبير الشعري بمظلوميته وعدم استحقاقه القتل (انبثقت صرخة إنسان) والإنسان يصرخ مظلوما عادة. وهنا يحيل هذا المشهد إلى عشوائية القتل وعدم توجهه للعدو فقط فبحجة قتل العدو يقع البريء. ويتأثث هذا المشهد باللقطة الصوتية المعبرة الموحية (عواء // صرخة). ليكون هذا المشهد فقرة مهمة من فقرات الشريط الشعري الذي يعرضه الشاعر بفاعلية سينمائية ناجحة.
ثم يأتي دور المشهد الثالث مستهلا بتحديد زمني سيكتنف المشاهد الأخرى أيضا حتى النهاية إذ يؤكد حضوره تكثيف دلالته ودوامها بثقلها وكل إيحاءاتها، فيقول:
(في المساء/الجثتان .. إلى الوادي/الدم .. إلى النهر). القتيلان جمعهما لفظ واحد ومكان واحد (الجثتان والوادي) ولا اعتبار لنوعي القتيلين إذ يمتزج دمهما معا ليكون دما واحدا فيتسرب إلى النهر رمز حياة الناس وديمومة عيشهم، إن آثار القتل تسربت إلى كل مفاصل الحياة. لقطتان تؤثثان مشهدا معبرا يحمل مفصلا رؤيويا مهما في بنية القصيدة الفكري وهو مشهد يتشكل في ظل فضاء زمني محدد (المساء) الذي تلف ظلمته كل الأشياء، وتسترها عنا، وكأن الشاعر هنا أراد غفلة الناس عما يدور حولهم، وعدم صحوهم لما يفسد حياتهم. وهذا ما يؤكده المشهد التالي الذي يستهله الشاعر أيضا بالزمن ذاته، كما يؤكد حالة العماء واختلاط الأمور على الناس (أهل القرى) فلم يلتفتوا إلى سر تغير حياتهم وتشوه جمالها..
(في المساء/حيث السماء رمادية/فات أهل القرى أن يكتشفوا/سرَّ اللون الآخر للماء/ ولأنهم سليلوا أنهار ونايات/أدركوا بالغريزة وحدها/أن طعمه لم يعد كما كان/إلا أنهم ألِفوه مع الوقت/ كأيِّ نَدَبَةٍ في جسد/أو شرخ في جدار).
في هذا المشهد يتسيّد السرد ليقدم الرؤية محكية، وتتخلف اللقطة لتكون ثانوية هامشية متكئة على فاعلية هذا السرد في تشكلها بعد أن كانت رئيسة في المشاهد السابقة. إن اعتماد تقنية السرد والحكي الشعري تتطلبه مقتضيات المشهد هنا فهو الأنسب في التعبير عنها إذ يعبر عن موقف فكري مركب لا تكتمل أطرافه إلا بالشرح والتعليل، ولكن في حدود العبارة الشعرية المركزة الموجزة التي بدورها تقدم صورة تعبيرية شعورية تمثل لقطة شعرية بذاتها.
يفيد الشاعر من رمزية اللون للتعبير عن فضاء دلالي مهم في المشهد وهو رمادية السماء التي تحيل إلى أن تكون الرؤية مشوشة متداخلة بنقيضيها إذ التبس الحق بالباطل وشاب العدلَ ظلمٌ حتى تشوهت الحياة، وهذا يعني اشتباه الأمور وتعميتها، وقد فات أهل القرى أن يكتشفوا سر فساد حياتهم ففاتت عليهم فرصة تدارك أمرهم بالرغم من أنهم أدركوا بصفاء غرائزهم قبح هذا الفساد الذي خيم على حياتهم ولكنهم ألِفوه مع الوقت كما يؤلف شرخ الجدار أو ندبة تشوه بقبحها الجسد. إنه مشهد يضيئه الشريط الشعري بفاعلية السرد ليعبر عن بنية رؤيوية تحكي واقع حياتنا التي تسيد فيها القتل والعنف والإقصاء بالرغم من رفضنا لكل هذا وامتعاضنا منه، ويحمل التعبير الشعري إشارة مهمة تفيد أن (أهل القرى) لم يسعوا للتخلص من هذا العيب الذي شوه حياتهم لأنهم لم يعمروا الإرادة في نفوسهم ليؤهلوها للخلاص.
ثم يأتي دور المشهد التالي ليضيء مظهرا آخر مهما في البنية الرؤيوية للقصيدة تعود فيه اللقطة الشعرية أداة في التشكيل الشعري للمشهد، فاللقطات تتوالى في ظل هيمنة الزمن نفسه (المساء) برمزيته المحيلة إلى العماء والظلام:(منذ ذلك المساء/وأهل القرى على الضفتين/ ينظرون إلى السفح والرابية/ كما ينظر فلاح إلى سحابة).
فأهل القرى جميعا على الضفتين باختلافهما والحقيقة إن لفظ (أهل القرى) يمعن برمزية التعددية لأفراد المجتمع، التعددية العرقية والدينية والفكرية والثقافية… إنه جمع متنوع وهو جمع سليل أنهار ونايات، يحب الحياة والجمال والسلام. وها هم أهل القرى يتداخل خوفهم برجائهم فينظرون إلى السفح والرابية كما ينظر فلاح إلى سحابة يرجو غيثها أن يعم بعد كل هذا المحول، ولكن ليس غير الرجاء. ثلاث لقطات شعرية تؤثث هذا المشهد بكثافة شعورية وتعبيرية اختزلت كل خوف أهل القرى في كلا الضفتين ورجائهم. ليتحول الشريط الشعري إلى مشهد آخر هو الأكثر أسى مما سبق وهو الذروة في البنية الفكرية للقصيدة لأنه يضيء الحقيقة القائمة التي صارت إليها حياة أهل القرى.. (منذ ذلك المساء/الرابية .. إلى ارتفاع/السفح .. إلى هاوية/.. والرصاص لم ينقطع).
منذ أن استبد القتل بحياة أهل القرى فالرابية هي التي ترتفع وتعلو بناء وتحصُّنا واهتماما وتستنزف كل شيء، الرابية مصدر القتل ومسرح المقاتِلَينِ، المكان غير الأليف الذي تمتد هيمنته البشعة إلى كل شيء في حياة أهل القرى، لقطة بعبارة موجزة أضاءت أبعادا دلالية ونفسية كثيرة تحكي حقيقة ما صرنا إليه.. ومثلها اللقطة التي تليها وتتضاد معها على الدوام إذ “السفح.. إلى هاوية” السفح مسرح حياة الناس ومكانهم الذي فقد ألفته بموازاة ارتفاع (الرابية) وهيمنتها صار ينحدر إلى (هاوية) لفظ نكرة يمعن بدلالة المجهول فيستدعي الرهبة والقلق. وما بين هاتين اللقطتين تتحكم اللقطة الثالثة: (الرصاص لم ينقطع)، أي ثقل يلف هذا المشهد؟ وأي رهبة متصلة؟ وأي إحباط يعبر عنه الشاعر فينقله إلينا بهذه التقنية الخاطفة التي تضيء كل ما حولها شعوريا ودلاليا وعمق تعبير؟.
إن الشاعر أوصلنا إلى ذروة القصيدة وهي إشكالية قائمة واقعا، إذ الأفق المنظور في ظل هذا الواقع لا ينبئ بغير دوام هذا الحال وتعقده، وهنا يأتي الموقف الشعري الذي يختم السرد المشهدي للقصيدة بمشهد فكري يمثل رؤية الشاعر في تقديم حل لهذه الإشكالية القائمة، وهو حل ليس مستحيلا ولكنه بعيد المنال لذا خالطه الرجاء المشوب باليأس، فما أحوجنا إلى حكمة نبي أو معجزة ليكف القتل عن عماه.(يا للرصاصة الكفيفة/كم هي بحاجة الآن/إلى عكاز نبي).
لقد كان الشاعر موفقا في هذه القصيدة بتوظيف اللقطة الشعرية لتشكيل مشهد شعري يؤثث القصيدة ويمنحها بنية سردية ذات وحدات متوالية ومترابطة دلاليا بحسب نمو الحدث والفكرة الشعرية بطريقة أكثر انضباطا وتماسكا وفيما يشبه الشريط السينمائي وهو يعرض فقرات مرئية تنمو وتتكامل حتى تؤدي غرضها وتؤلف وحدتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* – القصيدة قرأها الشاعر في مهرجان المربد لهذا العام .
—