غني عن البيان أن عصرنا هو عصر القلق، فكل شيء به يتسم بالقلق، حتى صارت السمة السائدة في حركتنا وتحركنا وتحقيق طموحنا هي يجب علينا أن نقلق، فهناك القلق الدافع نحو تحقيق الإنجاز، سمي بالقلق الدافع، وهو القلق الذي يدفع صاحبه للدقة في تحقيق إنجازاته، والقلق الواقعي، والقلق العصابي، وقلق الموت، والقلق الخلقي- أو الذاتي، قلق الانفصال، قلق الخصاء، وأخيرًا قلق المستقبل.
القلق هو حالة من الخوف والتوتر تصيب الفرد، كما ورد في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ويرى “فرويد” في كل الأحوال أن للقلق مصدرًا مزدوجًا فهو إما أن يكون نتيجة لعامل صدمي، أو أنه علامة على أن عاملًا صدميًا من هذا النوع يوشك أن يقع مرة أخرى.
لايأتي القلق بدون سبب محدد فأحيانا يكون نابع من عوامل نفسية داخلية، بمعنى حركَتهً إنفعالات نفسية تصدر من داخل النفس، وليس من البيئة الخارجية، ويقول “سيجموند فرويد” مؤسس التحليل النفسي في كتابه الكف والعرض والقلق إن للقلق علاقة قوية لايمكن إنكارها بالتوقع، فالقلق يحدث حول شيء ما، وهو يتميز بصفة عدم التحديد، وعدم وجود موضوع.
يعاني معظم الناس من الإحباط الذي يؤدي إلى الصراع، وهذه هي اساسا عمليات إنفعالية مؤلمة مصحوبة بالتوتر، هذا الإحباط والصراع عندما يكون شديدًا ومتصلا فإن الفرد يشعر به، ويشعر بتهديده للأنا، ومن ثم يشعر بالقلق، ويرى”د.عباس محمود عوض” القلق إنما هو نتيجة العمليات الانفعالية المؤلمة المتداخلة التي يحدثها الصراع والاحباط.
القلق تعبير رمزي لصراع نفسي وهو بشقيه السوي والمرضي، فالأول وهو السوي الذي يراود جميع الناس في مختلف مواقف الحياة، لذا عندما أطلقنا على عصرنا بأنه عصر القلق، هي تسمية صحيحة تماما، لأن أي إنسان حينما يقدم على عمل ما، مهما كان بسيطا، أو معقدا يحتاج إلى لحظات من القلق وحسب شدة الموقف، وليس كل قلق قلقًا مرضيًا، فمعظمنا نعيش القلق عند مواجهة موقف يضطرنا إلى أن نتعامل معه بدقة متناهية فنعيش لحظات القلق الطويلة، فالطالب ينتابه القلق خلال فترة الامتحانات المصيرية التي تحدد مستقبله لانه يخشى الرسوب، رغم علمه بالإمتحان وتهيئه له، وقام بدراسة مواده دراسة عالية جدًا من الدقة، فهو لابد أن يعاني ضربًا من القلق والخوف، وهذا أمر طبيعي ما دام هناك أي احتمال للرسوب، أو تدني في الدرجات “العلامات” التي سيحصل عليها، وكذلك الكاتب الذي يكتب نصًا، أو الممثل الذي يؤدي دورًا في عمل فني، أو مغني يؤدي حفلا، فإنه سيمر بساعات من القلق المحدد تجاه هذا العمل ويسمى هذا النوع من القلق، بالقلق الطبيعي Normal Anxiety وهو الذي لا يخرج بالقلق والخوف من نطاق المستوى الطبيعي، وقد يكون قلق طبيعي وصحي. ولدينا صور متنوعة من القلق الطبيعي في حياتنا اليومية ومنها قلق المحب في فقدان محبوبته، إذا لم يكن غير واثق منها، أو من نفسه هو، أو غير واثق من أهليته لها، ولن يقلق الوالدان على طفلهما المريض طالما كان في مقدورهما علاجه، وهناك أمثلة كثيرة تبين القلق باحد أوجهه وهو القلق الطبيعي.
أما القلق المرضي فهو القلق الهائم الذي يستحوذ على الشخص دون أن يكون عارفًا أو منتبهًا لمصدر قلقه الحقيقي، إنه لا يعرف عن صعوبته الداخلية، إنه يتألم ويتمزق وكأنه يتوقع حدوث كارثة في أية لحظة، حياته مهددة دائمًا، يشعر بأنه محاط بجو خانق ومميت، لذا كان القلق أما سمة أو صفة، فالشخصية القلقة دائمًا تعيشه في كل لحظة من لحظات يومها، فيكون القلق سمة، وتسمى حينئذ بالشخصية القلقة، وتعرف الشخصية بأنها مجموعة السمات التي تشكل شخصية الإنسان، والسمة ثابتة نسبيًا، أما إذا كان القلق صفة فهو يكون مثل الزائر، ينتاب الإنسان في مواقف صعبة وتحتاج إلى إتخاذ قرار مصيري، مثل حالة الطالب في الامتحانات فيكون القلق صفة تنتهي بإنتهاء الموقف الذي يمر به ويزول بزوال اسبابه.
القلق المرضي أيضا يقترن بخوف وفزع ورعب لا يعرف مصدره، وتكون اسبابه لا شعورية، ومن المحتمل أن يعجز الفرد في السيطرة عليه، ومن ثم فإن هذا القلق إنما يهز أركان شخصية الإنسان، وتبدو على ملامحه تغيرات فسلجية، مثل تسارع نبضات القلب، احمرار الوجه، تصبب العرق أو زيادة معدله، شعور بالضعف والتعب والإعياء، عسر التنفس يصاحبها نوبات تنهد مع شعور بضيق، أو ألم في الصدر، ارتجاف الاطراف، كثرة الحركة الصادرة عن الجسد، توتر جسمي، عدم تناسق الحركات فضلا عن الارتباك في اللفظ والحديث والأفعال، اضطراب في النوم مثل صعوبة في بدء النوم، وقد ينام الشخص ويصحو خائفًا في وسط الليل بسبب حلم مزعج أو بدونه ..وهناك بعض الاعراض الأخرى مثل ضعف التركيز، التردد في إتخاذ القرارات المصيرية، الإضطراب في تقدير المواقف. ويعرض علماء النفس بعض العلامات الانفعالية التي تصدر من الشخصية القلقة منها سرعة التأثر والإنزعاج والإضطراب والهياج، الميل إلى النكد والعبوس والتأوه الدائم، يصاحب ذلك إضطراب في العلاقات الإجتماعية سواء مع الأهل أو الاصدقاء، أم مع الزملاء.
أن القلق العصابي” النفسي” الذي يكمن مصدره داخل الفرد نفسه، لكنه لا يعرف له أصلًا، كما أنه لا يستطيع أن يحدد له مبررًا موضوعيًا، أو سببًا صريحًا، وقول “سيجموند فرويد” القلق هو المادة الخام لكل الاضطرابات النفسية. وتؤكد دراسات التحليل النفسي أن القلق العصابي Neurotic Anxiety ينتج تحت وطأة الدفعات الغريزية من جانب الهو. يقول “د.محمد شعلان” يمثل عرض القلق عنصرًا في أغلب الاضطرابات النفسية، فالقلق هو المؤشر الأول لوجود صراع يهدد الذات، وهناك درجات ومستويات من القلق تكاد تكون اختلافات نوعية، فالقلق العصابي” النفسي” يختلف عن القلق الذهاني” العقلي” بصوره المختلفة، القلق العصابي يمثل درجة أخف من الخوف لا تمس كيان الفرد في أعماقه إذ أن أعمق مستويات القلق هو ذلك الذي يهدد الوعي بالوجود ذاته. يقول علماء النفس قد يأخذ عصاب القلق صورة الحالة المزمنة والمستمرة أو ربما يأخذ صورة نوبات قلق أكثر حدة ومحدودة زمنيًا قد تصل في حدتها إلى درجة الرعب. فالعصابيون بصفة عامة يميلون إلى الانطواء حسب تصنيف عالم النفس السلوكي الشهير “آيزنك Eysenck “.
ينشأ القلق المرضي في مرحلة الطفولة كما يرى”د.عزيز فريد” بقوله شخص خرج من مراحل الطفولة والصغر مشبعًا بالخوف والجزع، لا أمنيات له في الحياة، همه الاكبر هو الاحتفاظ بما ترك له من قدر ضئيل من شعور الفردية والاستقلال، لذا نراه سريع التأثر، شديد الانفعال بمواجهة أي إحباط يواجهه، يضايقه أن يكون مرغمًا على أداء عمل ما، فهو يعاند وعناده مستميت، يعاند ويكابر ويقاوم ويمتنع، كثير الاعتذار ويحاول أن يتملص من المسؤوليات، لا يميل للمرونة والتساهل واللين، بل يميل إلى الدقة المتناهية في أداء الواجبات، واحيانًا يقسو بشدة على المقربين حوله، أو ممن يعمل معه. يمكننا القول في النهاية كل موجود عاقل مصاب بالقلق، وهو نصيب إنساننا المعاصر الذي يفكر قليلا أو كثيرًا، وهو أمر طبيعي لأن حياتنا كلها علامات استفهام تتطلب منا إجابات مقرونة بالتكيف الدائم، وبدون ذلك لا يوجد شيء يدفعنا إلى الأمام، إذا لم يكن هذا القلق، هو الذي يدفعنا إلى التفوق، والبحث والكشوفات العلمية والفنية والادبية.
——-
•-استاذ جامعي وباحث نفسي
•-elemara_32@hotmail.com
—