الحسين بري :
تعودت أن أنزوي في مكاني المعتاد، أتلهى بأحلام تسكرني ولو لقليل، أتحسس جيوبي المثقوبة؛ فينتشلني واقعي المرير من غيبوبتي. أترقب وصولها..أنتظرها كطفل يتلهف لرؤية هدية العيد..تصل سيدتي في وقتها المحدد، تركن سيارتها الفارهة في المكان المخصص لها..تتسارع نبضات قلبي وأنا أسرع الخطى نحوها، تقابلني بنصف ابتسامةثم تمدني بقفتها الأنيقة.
أحرص دوما أن أمشي خلفها، أستمتع بعطرها الفواح، أصغي جيدا لتنفيذ طلباتها..رغم تقدمها في السن، ماتزال الشقراء ذات العينين الزرقاوين تحتفظ بأناقتها وطرواة جسدها. أطلق العنان لخيالي الأحمق:”لو كانت الشقراء من…، لكنني سرعان ما أتذكر نصيبي؛ فأسدل الستارعن المشهد. أستحضر طيف زوجتي والتي رغم صغر سنها، اجتاحت التجاعيد جسدها النحيف، وأضحت قاب قوسين أو أذنى من رحيلها..تقف سيدتي أمام الجزار، يتجاهل الزبائن ويبالغ في الترحيب بها. بخفة عالية ينهمك في تهيء طلباتها؛ كفتة ممزوجة بالنعناع ل”روكي”، وكفتة عادية ل”ميمي”، أصناف أخرى متنوعة للعائلة..”حتى كلابهم وقططهم محظوظة”. أتذكر صغاري الذين لم يسبق لهم أن تذوقوا طعمها، أتخلص من تنهيدة ثقيلة وأتابع سيري خلف سيدتي.. أرتب بضاعتها، ترشني بدريهمات ثم تنطلق كالسهم في انتظارلقاء آخر..
يسدل الليل ستاره، أتسلل وسط سواده عائداالى بيتي..أتسمر مذهولا أمام مدخل الحي؛ حصار أمني يطوق المكان، صوت الجرافات يعلو فوق صوت الحناجر المبحوحة.. لطالما توقعت رؤية هذا المشهد. الاثاث البسيط مشتت هنا وهناك..دموع تتساقط في صمت حزين؛ بينما تواصل الجرافات هدم مخابئنا..أسئلة كثيرة تحاصرذهني المتعب..في انتظار أن نحصل على مخبأ جديد، كيف سنتدبرأمرنا في عراء الشتاء القادم..؟؟
—