عبد الكريم الساعدي :
وحيدةً تجلس خلف سائق الحافلة، امرأة تجاوزت الأربعين، تحمل طفلاً، ملامحها مكلّلة بحزن دفين، لكنّها ترتّل جمالاً قديماً. تتحرك الحافلة، تبتسم للأشجار العارية، المارّة عبر النافذة، تداعب طفلها:
_ لقد وصلت رسالتك أيّها الخريف.
تحدّق في المرآة، شبح رجل يصهل الشيب في رأسه، سادراً في صمته، عيناه مغروزتان في النافذة، يحدق بعيداً، مكسور الخاطر، ممتلئ بالوحشة، يلتفت ناحية المرآة، تفلت منّها شهقة، ثمة رغبة تدفعها للالتفاف إلى الخلف، همهمة تتسلق حنجرتها, يخيّل لها أنّ الجميع ينظر إليها؛ تضخّ المرآة صوراً متلاحقة… يحتويها الذهول, تفقد الإحساس بالمكان، تدفع جسدها ببطء إلى الأمام, تطيل التحديق، إنّه هو، ذلك الحوذي الذي أوهمني،
” لكلّ منّا عربة وحلم، سأقود عربتك إلى أجمل الأحلام”
لا أدري كيف أصبحت زوجته لأيام معدودات؟. تطبق عينيها على جرح قديم، تستنطق المرآة، تعكسه سؤالاً محيّراً:
– أ ما زال لك عربة وحلم – أيّها المخادع -؟
يتسلّل إليها من المرآة، ينتصب أمامها مثل شحاذ أخزاه السؤال، تستوعب عيناها مساحة زمن، ممتدّ بين حلم موهوم وجرح غائر في سالف الذكرى، ينفخ فيها غضب متأجج؛ فتشتعل غيظاً، ودّت لو تكلمه؛ المرأة الجالسة لصقها، لم تفقه سبباً لقلقها:
_ نعم، جاء الخريف مبكراً.
تبتسم لها:
_حتى لو تأخر سيدركنا جميعاً؛ فتتساقط أوراق أشجارنا، إنّه فصلٌ عادل.
_ لا أفهمك، سيدتي.
_ كانت لامرأة عربة تجرجرها نحو دثار الدفء، فرحة بأيامها، تتمنى من فارسها أن يطرّز أحلامها البيضاء بكلمة ( أحبكِ)، لكنّه لم يقلّها، ما إنْ قطف ثمار بستانها، حتى لاذ بالغياب، تاركاً غبار الدهشة تغطي وجه الأحلام؛ لتتيه في عوالم الندم، تعيش الأرق كلّ ليلة، تتوسّل بالنوم؛ تعدّ لها متّكأ من أملٍ، تنتظر؛ لا صدى لخطواته؛ كان متدثّراً بسرّ لم تفكّ طلاسمه حتى اللحظة. تلملم أسمال الفجيعة؛ لتركب عربة أخرى، تاركة أحلامها في حلكة العدم، تردد دائماً:
” ما الذي فعلته لأعيش كلّ هذا الوجع؟ ”
بكاء الطفل يوقظ أمّه من ذكرى تسلّلت إلى قلبها دون استئذان؛ تدفن في باحة الوهن ارتباكات اللحظة، تجمع ما تيسر من قوّتها، تلملم ظلّها خوفاً من الالتفات إلى الخلف، تحدّق في المرآة، تلوّح بذراع مشلولة لأحلام ميتة، تترك مكانها في أقرب محطة، تدّق باب الأمس بصوت مسموع:
_لكلّ منّا عربة وحلم.
يفزّ الرجل الأشيب على صدى تلك الحروف/ القناع، يترجّل من صهوة الخمسين منكسراً، يحرث تضاريس الشيب بندم شاخت ملامحه، عيناه تطاردان خطواتها، تكسوهما الدهشة، تختفي بين المسافرين، يتحسّس مكانها، يعانق ظلّها باكياً، لا أثر لوديعة غير دمعة تركتها معلّقة في المكان، وعطر يشكو أنفاس الخداع.
—