أرض ” الدكتور جيكل”و “السيد هايد”
ترجمة: نجاح الجبيلي
للكاتب كارلوس فوينتس
إن إدراك أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة مرّ بمراحل كبيرة ومتنوعة منذ أن وضعنا التاريخ معاً كجارين محتومين. فالثورة الأمريكية ألهمت آبائنا المؤسسين في استخلاص الشرعية السياسية من الثورة، وأصبح دستور الولايات المتحدة نموذجاً لجمهورياتنا، لكن التحديدات أثبتت أنها خيالية، وبها تنكر البلد الشرعي بقناع البلد الحقيقي. كان المحافظون في أمريكا اللاتينية في أوائل القرن التاسع عشر مناضلين أعداء للولايات المتحدة، وكانوا يرونها دولة ثورية متزمتة في مبادئها وغير راغبة في الوصول إلى أي نوع من المصالحة مع المحافظين المنفيين ومستعدة لصد هجماتهم المضادة للثورة وإرسالهم بسرعة لمواجهة الإعدام.
رأى المحافظون الولايات المتحدة كتهديد متعدد الجوانب لمصالحهم: كانت قوة بروتستانتية في النصف الآخر من الكرة الأرضية وهي قوة مجددة ديمقراطية ورأسمالية وتنادي بالمساواة. كانت تلك هي شر الذنوب في كتاب المحافظين حيث الفضيلة تعني الكاثوليكية ورفض الإصلاح والاستبدادية الملكية والحق الإلهي للملوك والحكم الوراثي والامتياز. لكن أكثر من ذلك كله، خاف المحافظون من المكسيك إلى الأرجنتين من السياسات التوسعية للجمهورية الأمريكية الجديدة.
وسرعان ما أصاب الخوف ليبراليي أمريكا اللاتينية الذين كانوا يعرفون فضائل الولايات المتحدة التي اعتبرها المحافظون رذائل. لكن ضم “تكساس” والغرب الجنوبي بأكمله بعد الحرب المكسيكية في عام 1846 وسياسات التدخل التي أعقبت الحرب الأمريكية الأسبانية في عام 1898 أقنعت الأحرار أن المحافظين كانوا على حق: فالأمريكان كانوا أعداء.
تحول الإعجاب إلى خوف وبحث عن الأخطاء، وعند منقلب القرن تبنى بسرعة أغلب سكان أمريكا اللاتينية وجهات النظر التي عبر عنها الكاتب الأورغوائي “خوزيه أنريكه رود” في مقالته المؤثرة جداً “آرييل”. كتب “رود” أن الولايات المتحدة تمثل التقدم والإنجازات المادية لكنها عقيمة روحياً. ينتمي السبق الحضاري في هذا النصف من الكرة الأرضية إلى اللاتين الذين ربما هم فقراء مادياً لكنهم أغنياء روحياً. إن وحشية تدخل الولايات المتحدة في نيكارغوا والمكسيك وهاييتي وهندوراس وكوبا وجمهورية الدومينيكان عززت هذا الموقف وبررته خلال العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن.
اعتقد تماماً من ناحية عامة أن جيلي هو الذي زعزع إدراك “رود”. فقد غنّى “بابلو نيرودا” مع “ويتمان”. وجعلنا “أوكتافيو باث” نعي “باوند” و ” كمنغز” و “كرين” الذين ترجم أعمالهم. ولم يقتصر “خوليو كورتاثار” على ترجمة قصص “بو” الكاملة بل جلب الجاز إلى أمريكا اللاتينية، وأعلن “غابرييل غارسيا ماركيز” إعجابه بهمنغواي و”فوكنر”، وقام “خورخه لويس بورخس” بترجمة “النخيل البري” عام 1956. كتبت عن “ملفيل” وعن الأفلام. في الواقع كان جزء كبير من مؤلفات “كيليرمو كابريرا أنفانته” و “مانويل بويك” هي توسيع ساخر لحلم هوليود.
بعد أن نشأت في الولايات المتحدة، كنت راغباً وقادراً، على الرغم من صيحات الاستهجان من مواطني بلدي، على إطراء العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة ومقدرتها على النقد الذاتي والحكم الذاتي والتفاوض الذاتي وحتى الجلد الذاتي والوعي بالذات. وفي فترة “الصفقة الجديدة” كنت أشهد أفضل مزايا الولايات المتحدة: القيمة التي وضعتها على رأس المال الإنساني، طاقتها وحماستها في حل المشاكل واختيارها للحوار بدلاً من المواجهة في قضايا أمريكا اللاتينية. وحين انضمت الولايات المتحدة إلى مجهود النصر في الحرب العالمية الثانية فقد كسبت سياسات “روزفلت” في عدم التدخل في أمريكا اللاتينية تأييد الكثير من الناس هناك. وكنا راغبين أخيراً في الاعتراف أن هناك ارتباطاً بين أفعال الأمريكيين الشماليين ومثلهم العليا.
لقد تحطم هذا الوهم بشكل مؤلم خلال الثلاثين سنة الماضية. فقد حدث انقلابان على حكومتين منتخبتين ديمقراطياً في نصف الكرة الأرضية- غواتيمالا في عام 1954 و”تشيلي” في عام 1973 – بتواطؤ كامل من الإدارات الأمريكية وتغاضيها. فمن اعتقد حينئذ أن الولايات المتحدة كانت تفضل فعلاً العملية الديمقراطية في القارة؟ ووضعت واشنطن ثورتين وطنيتين في أمريكا اللاتينية- ثورة كوبا في عام 1959 وثورة نيكارغوا عام 1979- في سياق الصراع بين الشرق والغرب ثم أجبرتهما على تأكيد نبوءة الإنجاز الذاتي.وقد فهم سكان أمريكا اللاتينية الدرس بصورة واضحة: الولايات المتحدة لا تهتم بالديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأصابها القلق من استقلال جمهوريات أمريكا اللاتينية التابعة سابقاً، وسوف تخاطر بأي شيء –بضمنها استقرار الجمهوريات الودية الأخرى- لتعيدها إلى الانضمام إلى دولها العميلة.
وأحسن توضيح لفساد اللغة المصاحب لفساد السياسة هو في بلاغة كلام “ريغان” عن مقاتلي الكونترا النيكارغوية بتسميتهم ” مقاتلي الحرية” و “المكافئ الأخلاقي لآبائنا المؤسسين” فربما خدع أعضاءاً من الكونغرس وجزءاً من وسائل الإعلام، لكن سكان أمريكا اللاتينية يذكرون بأن مقاتلي الكونترا توجههم حكومة الولايات المتحدة وتدفع لهم الأجور ويجندهم ويقودهم الحراس الوطنيون السابقون للرئيس سوموزا وأنهم قتلة لم يقتلوا الفلاحين النيكارغويين والنساء والأطفال فقط بل أيضاً خبراء خصوصاً في قتل بعضهم الآخر. ووحشيتهم الداخلية وثقها باتقان “كرستوفر ديكي” في كتابه الصادر حديثاً ” مع مقاتلي الكونترا”. وهكذا بقي عندنا هذه الصورة النهائية للولايات المتحدة : وهي ديمقراطية في الداخل لكن إمبراطورية في الخارج. “دكتور جيكل” في وطنها ” والسيد هايد” في أمريكا اللاتينية.
سوف نستمر بإطراء الإنجازات الديمقراطية والقيم الحضارية للمجتمع في الولايات المتحدة. لكننا سنستمر في معارضة عجرفتها وانتهاجها سياسة العنف في أمريكا اللاتينية.سنتألم بشدة لأننا نحب أموراً كثيرة جداً في الولايات المتحدة. لن نخلط بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقاً أو في الواقع نقبل بمساواتهما الأخلاقية. والمشكلة مأساوية إلى أبعد حد، فالروس تصرفوا كإمبراطور في الداخل والخارج وهم واضحون تماماً. وبتصرف الولايات المتحدة كالروس في مجال نفوذها تصبح غير واضحة للغاية ومنافقة.
يجب على شعوب أمريكا اللاتينية أن لا يعيدوا “السيد هايد” إلى واشنطن. يجب أن ندحره في أراضيه القديمة التي يمشي فوقها، الكاريبي وأمريكا الوسطى. ثم نستطيع كلنا أن نجلس ونتحدث إلى “الدكتور جيكل”، شخصيته الثانية التي أحضر روحها أصدقاؤه في هذا النصف من الكرة الأرضية.
——————-
* نجاح الجبيلي: قاص ومترجم عراقي من البصرة
رأى المحافظون الولايات المتحدة كتهديد متعدد الجوانب لمصالحهم: كانت قوة بروتستانتية في النصف الآخر من الكرة الأرضية وهي قوة مجددة ديمقراطية ورأسمالية وتنادي بالمساواة. كانت تلك هي شر الذنوب في كتاب المحافظين حيث الفضيلة تعني الكاثوليكية ورفض الإصلاح والاستبدادية الملكية والحق الإلهي للملوك والحكم الوراثي والامتياز. لكن أكثر من ذلك كله، خاف المحافظون من المكسيك إلى الأرجنتين من السياسات التوسعية للجمهورية الأمريكية الجديدة.
وسرعان ما أصاب الخوف ليبراليي أمريكا اللاتينية الذين كانوا يعرفون فضائل الولايات المتحدة التي اعتبرها المحافظون رذائل. لكن ضم “تكساس” والغرب الجنوبي بأكمله بعد الحرب المكسيكية في عام 1846 وسياسات التدخل التي أعقبت الحرب الأمريكية الأسبانية في عام 1898 أقنعت الأحرار أن المحافظين كانوا على حق: فالأمريكان كانوا أعداء.
تحول الإعجاب إلى خوف وبحث عن الأخطاء، وعند منقلب القرن تبنى بسرعة أغلب سكان أمريكا اللاتينية وجهات النظر التي عبر عنها الكاتب الأورغوائي “خوزيه أنريكه رود” في مقالته المؤثرة جداً “آرييل”. كتب “رود” أن الولايات المتحدة تمثل التقدم والإنجازات المادية لكنها عقيمة روحياً. ينتمي السبق الحضاري في هذا النصف من الكرة الأرضية إلى اللاتين الذين ربما هم فقراء مادياً لكنهم أغنياء روحياً. إن وحشية تدخل الولايات المتحدة في نيكارغوا والمكسيك وهاييتي وهندوراس وكوبا وجمهورية الدومينيكان عززت هذا الموقف وبررته خلال العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن.
اعتقد تماماً من ناحية عامة أن جيلي هو الذي زعزع إدراك “رود”. فقد غنّى “بابلو نيرودا” مع “ويتمان”. وجعلنا “أوكتافيو باث” نعي “باوند” و ” كمنغز” و “كرين” الذين ترجم أعمالهم. ولم يقتصر “خوليو كورتاثار” على ترجمة قصص “بو” الكاملة بل جلب الجاز إلى أمريكا اللاتينية، وأعلن “غابرييل غارسيا ماركيز” إعجابه بهمنغواي و”فوكنر”، وقام “خورخه لويس بورخس” بترجمة “النخيل البري” عام 1956. كتبت عن “ملفيل” وعن الأفلام. في الواقع كان جزء كبير من مؤلفات “كيليرمو كابريرا أنفانته” و “مانويل بويك” هي توسيع ساخر لحلم هوليود.
بعد أن نشأت في الولايات المتحدة، كنت راغباً وقادراً، على الرغم من صيحات الاستهجان من مواطني بلدي، على إطراء العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة ومقدرتها على النقد الذاتي والحكم الذاتي والتفاوض الذاتي وحتى الجلد الذاتي والوعي بالذات. وفي فترة “الصفقة الجديدة” كنت أشهد أفضل مزايا الولايات المتحدة: القيمة التي وضعتها على رأس المال الإنساني، طاقتها وحماستها في حل المشاكل واختيارها للحوار بدلاً من المواجهة في قضايا أمريكا اللاتينية. وحين انضمت الولايات المتحدة إلى مجهود النصر في الحرب العالمية الثانية فقد كسبت سياسات “روزفلت” في عدم التدخل في أمريكا اللاتينية تأييد الكثير من الناس هناك. وكنا راغبين أخيراً في الاعتراف أن هناك ارتباطاً بين أفعال الأمريكيين الشماليين ومثلهم العليا.
لقد تحطم هذا الوهم بشكل مؤلم خلال الثلاثين سنة الماضية. فقد حدث انقلابان على حكومتين منتخبتين ديمقراطياً في نصف الكرة الأرضية- غواتيمالا في عام 1954 و”تشيلي” في عام 1973 – بتواطؤ كامل من الإدارات الأمريكية وتغاضيها. فمن اعتقد حينئذ أن الولايات المتحدة كانت تفضل فعلاً العملية الديمقراطية في القارة؟ ووضعت واشنطن ثورتين وطنيتين في أمريكا اللاتينية- ثورة كوبا في عام 1959 وثورة نيكارغوا عام 1979- في سياق الصراع بين الشرق والغرب ثم أجبرتهما على تأكيد نبوءة الإنجاز الذاتي.وقد فهم سكان أمريكا اللاتينية الدرس بصورة واضحة: الولايات المتحدة لا تهتم بالديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأصابها القلق من استقلال جمهوريات أمريكا اللاتينية التابعة سابقاً، وسوف تخاطر بأي شيء –بضمنها استقرار الجمهوريات الودية الأخرى- لتعيدها إلى الانضمام إلى دولها العميلة.
وأحسن توضيح لفساد اللغة المصاحب لفساد السياسة هو في بلاغة كلام “ريغان” عن مقاتلي الكونترا النيكارغوية بتسميتهم ” مقاتلي الحرية” و “المكافئ الأخلاقي لآبائنا المؤسسين” فربما خدع أعضاءاً من الكونغرس وجزءاً من وسائل الإعلام، لكن سكان أمريكا اللاتينية يذكرون بأن مقاتلي الكونترا توجههم حكومة الولايات المتحدة وتدفع لهم الأجور ويجندهم ويقودهم الحراس الوطنيون السابقون للرئيس سوموزا وأنهم قتلة لم يقتلوا الفلاحين النيكارغويين والنساء والأطفال فقط بل أيضاً خبراء خصوصاً في قتل بعضهم الآخر. ووحشيتهم الداخلية وثقها باتقان “كرستوفر ديكي” في كتابه الصادر حديثاً ” مع مقاتلي الكونترا”. وهكذا بقي عندنا هذه الصورة النهائية للولايات المتحدة : وهي ديمقراطية في الداخل لكن إمبراطورية في الخارج. “دكتور جيكل” في وطنها ” والسيد هايد” في أمريكا اللاتينية.
سوف نستمر بإطراء الإنجازات الديمقراطية والقيم الحضارية للمجتمع في الولايات المتحدة. لكننا سنستمر في معارضة عجرفتها وانتهاجها سياسة العنف في أمريكا اللاتينية.سنتألم بشدة لأننا نحب أموراً كثيرة جداً في الولايات المتحدة. لن نخلط بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقاً أو في الواقع نقبل بمساواتهما الأخلاقية. والمشكلة مأساوية إلى أبعد حد، فالروس تصرفوا كإمبراطور في الداخل والخارج وهم واضحون تماماً. وبتصرف الولايات المتحدة كالروس في مجال نفوذها تصبح غير واضحة للغاية ومنافقة.
يجب على شعوب أمريكا اللاتينية أن لا يعيدوا “السيد هايد” إلى واشنطن. يجب أن ندحره في أراضيه القديمة التي يمشي فوقها، الكاريبي وأمريكا الوسطى. ثم نستطيع كلنا أن نجلس ونتحدث إلى “الدكتور جيكل”، شخصيته الثانية التي أحضر روحها أصدقاؤه في هذا النصف من الكرة الأرضية.
——————-
* نجاح الجبيلي: قاص ومترجم عراقي من البصرة