حاورها: الكاتب : أحمد عساف :
الأديبة السورية نجاح إبراهيم، من الأسماء المعروفة في الوسط الأدبي، استطاعت منذ بداياتها أن تكوّن حضوراً مختلفاً، ليس في المشهد الثقافي السوري فحسب، بل على مستوى العالم العربي، فقد فازت باثنتي عشرة جائزة في سورية وفي العالم العربي والعالم، ترجمت أعمالها الأدبية إلى الفرنسية والأرمنية والتركية، والآن تترجم روايتها (عطش الإسفيدار) إلى الفرنسية، كذلك روايتها (مازال الحلم قائماً) إلى الفارسية..
رصيدها من الإبداع (17) إصداراً، معظمها قصص وروايات، وبعض الدراسات مثل كتابها الملفت والمهم: (أصابع السرطان- خيانات الجسد). ومن العمر (كمشة) سنوات أمضتها في متابعة هاجسها وعشقها اللاهب للأدب والإبداع.. حول تجربتها في الكتابة هذا الحوار:
* بدأت باكراً جداً بكتابة الشعر، ومن ثم اتجهت صوب الرواية، والآن سيصدر لك ديوانك الشعري الأول، في الوقت الذي هجر فيه كثير من الشعراء الشعر واتجهوا نحو الرواية؟
– لم أكن أدري أنّ ما كتبته في سنٍّ مبكرة كان شعراً، بيد أنّ أساتذتي قالوا لي: إنّ ما تكتبينه يسمى قصيدة نثر، فأضاؤوا برأيهم هذا المخيلة والحبر وحلماً صغيراً بحجم قصيدة لطفلة، ورحتُ أشتعلُ، أسابقُ حرفي، ويسبقني إلى أن كتبتُ القصة القصيرة، فنالت استحساناً وهمساً، وبعد مجموعات عدّة كتبت الرواية، ومازلت أعود إليها كلما تحرك غصن السرد المغويّ.
* قلت عن الشعر:” أما اليوم فلا أقرأ سوى عشق بلبوس عهر، ووصف آيروسي” ما رأيك؟
– ما قلته في حوار سابق: إنّ الشعرَ اليوم يلبس لبوس العهر… وذلك لما وجدتُ فيه من لغة آيروسية، ووصف حسيّ ولأنني
قرأتُ وأقرأ الكثير من هذا الكلام الرّخيص عن الحبّ المبتذل. فهذه العاطفة السامية تحتاج أن نقطفها أقماراً من طهر ونبل وقداسة، لا أن تندى من المفردات المكرورة جباهنا، وتحرك غرائز الغير. وهذا بالتأكيد لا ينطبق على كلّ من كتب الشعر، وإنما الأغلبية منهم ومنهن، ناهيك إلى أنّ ما نمرّ به من حرب قاسية تفرز القتلَ ودماً مسفوحاً في طرقاتنا وجدراننا وعلى أصابعنا يجعلنا نوظف الحبّ -هذا إن بقي حبّ- لقصيدتنا التي تمجدُ الحرية والأرض والسماء الصافية التي تبدو فضاء للعصافير وقوس قزح. هذا ما عنيت به ولن أتنازل عما قلت، ولن أسفح عطراً على الجثة النتنة. تخيّل في ملتقى ثقافيّ، إحداهن تراقصت مع عباراتها الحسيّة على المنبر، غافلة أو متغافلة عمّا يحدث في البلاد منذ ست سنين! فلتمت القصيدة إذاً، ولتحيى البلاد.
* أين تجدين ذاتك أكثر في الرواية، أم في القصة القصيرة، أم في الشعر؟
– لقد خضتُ في كلّ الأجناس الأدبيّة، وفزتُ بجوائز في غيرِ جنس منها، ولكنني كنحلة حطت على كلّ الزّهور، ثمّ اصطفت زهرة لتمكث على متن رحيقها أكثر مدة، لأن ثمة ما شدّها إليها، وثمة إغواءات أُترفت بها. هذه الزهرة هي فضاء الرواية التي أجد نفسي فيه، وذلك لاستطاعتها احتضان ما أودّ قوله بحريّة، ولوجود عتبات مقدّسة وددتُ من حين لآخر أن أمضي إليها، وهي النقد وقصيدة النثر، لن أتخلى عنهما ففيهما يلمع سيفي في وجه المعترضين.
* لا تكتبين إلا وأنت حزينة أو منكسرة، إذا غابت هذه الأشياء عن حياتك فهل ستتوقفين عن الكتابة؟
– للحزن قصّة مؤبّدة، والألم فينيقٌ يتوالد كلّ حين، لهذا هما زادي وأثافين عزلتي، إن انتفيا فلا أستطيع الكتابة، لكن هل تنتفي الشمس في عالم النور؟ لا أعتقد، لهذا لا أظنني إلا رافلة بالكتابة، والكتابة، والكتابة، فليهنأ الحزن وليستمرّ الألم.
* من أين تستقين شخصيات قصصك ورواياتك وعوالمها… وأحداثها بشكل عام؟.
– من الواقع، ولعلّ الحدث هو من يؤججها، فينضجها ويجعلني في حوار دائم معها ريثما تتقافز على الورق وتنبضُ، ولا شك أنّ الخيال يُضيفُ عليها، فيجعلها شخصيات مقنعة، إذ يصعب أن يكون الواقع مقنعاً للقارئ. خذ مثلاً ما يجري الآن، حيث الواقع يفوقُ الخيال غرابة، لهذا لا بدّ أن يلعب الخيال دوراً لننصف الإبداع.
* تكاد تنحسرُ القصة القصيرة، بل تكاد تنسى كجنس أدبي جميل وممتع، ما رأيك؟.
– القصة القصيرة تنحسرُ بسبب غياب النقد، والمنابر التي يجب أن تحتضنها، كالمراكز الثقافية والوزارات، والجرائد والمجلات، وحتى شبكة التواصل الاجتماعي، أرى حتى كتابها يحيدون عنها لجوءاً إلى قصيدة النثر والومضة.
* تقولين إنك تحبين أن يكون عنوان مجموعاتك متفرداً ومغايراً، لكنك لم توفقي في بعضها؟.
– أنا أبحث عن عناوين تكون ملفتة ومتفرّدة لأنها العتبة، ومفتاح النصّ والشرارة الأولى لتدفق الحريق، وقد كُتبتْ دراساتٌ عديدة في عناويني لما لها من رمز وإيحاء ودهشة، وتتطلبُ تأملاً في معناها، خذ مثلاً عنوان “لمن ائتلاق الهوما” و”أحرقوا السذاب لجنونها” حتى الأدباء سألوا عن معنى بعض المفردات هنا، ثم ضمنوها لاحقاً بكتاباتهم وذلك من خلال اعترافاتهم لي، أما وأنّ بعضها لم يرق لك، وتجد أنني لم أوفق بها، فهذا عائد إليك، ولا ضير في ذلك، فليس بالضرورة أن تشبه ذائقتك ذائقة القراء الآخرين.
* نلت العديد من الجوائز السورية والعربية والعالمية، هل تصنع الجوائز نجماً في الأدب؟.
– الجوائز تبدو بمثابة رفع قبعة لمبدع، ووسام على صدره يلمع، فإذا كانت الجائزة محلية تبدو أصابع من وهج تشير إليه ضمن محليته، وتكبر هذه الأصابع لتتخطى الحدود إلى العربية، ثمّ العالمية، نعم الجوائز لا تصنع الاسم لأن النصّ قد صنعه وقدمه إلى تلك السيدة الأنيقة (الجائزة) التي عليها أن تهبه قلبها وتتباهى به. الجائزة تضيف فرحاً للمبدع وتحمّله مسؤولية المتابعة.
* كتابك النقدي المهم والمتميز “أصابع السرطان- خيانات الجسد” كيف خطرت لك فكرته؟.
– راودتني فكرة الكتابة عن مبدعين صارعوا الموت وهم يتناولون الجرعات المميتة جراء إصابتهم بمرض السرطان، فأردت رصد كتاباتهم الأخيرة وهم يحترقون، أواكبُ عصاراتهم الناضجة قبل أن يكتمل المشهد وتسدل الستارة، وهذه الفكرة لم يتطرق إليها كتابٌ قط من قبل، ولم يدوّنها كاتب. بدأت الفكرة مذ اطلعت على شعر سنية صالح، وأحصيتُ إعجابي بها بوصفها مبدعة وإنسانة حزينة ومكلومة، وبقيت الفكرة مدونة في الدفتر إلى أن زرتُ زوجة الأديب عبد الرحمن منيف، وذلك بعد أن أكرمتني بزيارة إلى بيتي في الرقة، وأهدتني كتاب “لوعة الغياب” للراحل منيف، فتألقت الفكرة من جديد، واندفعت لإنجازها، ورحتُ أركضُ خلف نتاجات مبدعين يصارعون المرض، ويقفون بين موتٍ وحياة، بين شفاء وابتلاء، بين موت يقترب وحبرٍ يُبعده، وكانت الغواية..
رحت أحترق كلما كتبتُ عن أحدهم، أشاهدُ بأمِّ عيني عذاباتهم، وذوبانهم رويداً رويداً، أراقبهم من خلال ما خطوه وهم يقتربون كالفراش من الضوء.
* ماذا قدم لك اتحاد الكتاب العرب بعد الانتساب إليه؟.
– الاتحاد خيمة حاضنة من حرّ ما، في وقت ما، ولوقت ما، وقد سررت حين انتسبت إليه منذ عقدين تنقص قليلاً، بيد أن ما يقدمه للكاتب شيئاً يسيراً لا يُغني ولا يسمن. قد يطبعُ لك كتباً حسب أمزجة القيمين عليه، تلتهمها ظلمة المستودعات، جزء منها يرى الضوء حين توزعُ ما أخذتَ من نسخ وعددها مئة، ويدفن الباقي إلى أبد الآبدين!…
بالنسبة لي كانت غبطتي لا تقدّر حين انتسبتُ، أما الآن فأظنني لا أشعر هذا الشعور مطلقاً، ومرد ذلك إلى أن الإبداع لا يحتاج إلى خيمة، وإنما يحتاجُ إلى شمس وهواء نقي!.
* شاركت مؤخراً بملتقى القصة القصيرة في معرض دمشق للكتاب بمكتبة الأسد، هل كانت قصتك من واقع الأزمة السورية، وبالتالي إلى أي حدّ انعكست الأزمة على قصصك؟.
– يكاد لا يخلو نصٌّ كتبته من غبار وخراب الأزمة السّورية، فمرّة جاء غباراً مرّاً، ومرّة غبار طلع، ومرّة غبار ضوء. إذ إنّ ما نعيشه لا يمكن مغادرته والإقصاء عنه، ونصّي القصصي “مقامات الجرح” الذي شاركتُ به في ملتقى القصة في مكتبة الأسد مؤخراً يرتشف ألم الراهن المسربل بدم القربان/ الشهيد. إنها قصة واقعية جرت مع أحد أقربائي، تتضمن نبضه وروحه وألم المحيطين به، بيد أنني سردتها بطريقة فنية تؤكد على مواكبة الأدب للجرح!.
* إلى أي عالم تطمحين؟.
– أطمح إلى عالم يسوده الأمان والسّلام، عالم نقي كماء الفرات، خالٍ من القهر، أناشدُ فيه أفقاً يليق بأجنحة تكبر وتكبر.
—