الحظر على الاعمال الادبية التي تتناول تابو الجنس من قبل الادباء المنتمين للعالم الثالث الاسلامي لم يعد ينفع في زمننا الحاضر، ومع ان هناك شواهد كثيرة خلّفها لنا الارث الثقافي الاسلامي تجاوزت هذا التابو الا ان هذه الشواهد لم تر النور بل وطمرت في صندوق الذاكرة ، عن جهل، او عن قصد وسوء نية الازمنة المريضة، اما في زمن الحريات الانسانية فقد انكشفت افاق هذا الموضوع الغريزي وتعدى كل خطر، سواء من قبل بعض الفئات المجتمعية او الدينية والسياسية، ليس من اجل التحدي، بل لكشف ممارسات مجتمعية ونخبوية غير سوية ، توظف ارث المحظور بأبشع صورة لصالح منافعها الخاصة ، منافع مبطنة بتبريرات جفاها الزمن.
في رواية عنبر سعيد ارّخ العامري لثقافة جنسية اقصت تابو الحياء المفتعل من خلال تنوير الذات عن بعض خبايا الجسد والوجدان المتأصلة في الذات البشرية المتمثلة بثلاثة اجساد” ذكران وانثى”، بنى منها العامري هيكل الرواية، لدرجة انه لا يمكن الاستغناء عن أحدها دون الاخلال بنظم القيم المستبطنة في النص. هذه الاجساد وهي موضوع السرد والوصف والاستذكار والاستباق والاستيهام، وهي موضوع اللغة ايضا، والتي منها يخلق الكاتب تركيبات جديدة من خلال ما يتوالد من هزات وايماءات واهات، الى ان تتحول الكلمات الى دبابيس وفروج وارداف ، دون وجود فائض في لغة الحوار، واكثر ما يمتعنا، اثارةً، هو ما ينتجه مخيال انثى الرواية وقد سرحت الخيال واطلقت العنان لشبقها حين تكلمت عن لحظة استباقية مع عنبر سعيد ” وكانوا الثلاثة في العربة ، هي والشيخ وعنبر سعيد، ” قائلةً: (ماذا لولم يكن الشيخ بيننا، لكنت فريسة سهلة له، يمسكني بيديه المشعرتين ، يمطلني في سطح العربة ، يعرّيني تحت ستارة المطر ، ويترك اصابعه تعبث فيّ كيفما شاءت ) ثم تغوص اكثر في عالم الشهوة المتخيلة فتقول: (يغوص في جسدي المبتل، يقلبني يمينا وشمالا، داسا رأسه في صدري، يقضم ما طاب له من رمانتيّ ، صدره يكتم انفاسي ورائحته النتنة تزكم انفي، لا داع للصراخ في شارع خال وجسد ملتهب يموء كقطة وحيدة) منذ ان تطأ عيناك ارض الرواية والجسد حاضرا (في العربة كانت المرأة تجلس قبالة عنبر سعيد، على الخشب المبتل بماء المطر، حيث يجلس الشيخ، لصقه، وقد قربتهما الاهتزازات المتتالية للعربة، حتى التصقت عباءتيهما وتوحدتا) لكنك كلما توغلت اكثر كلما حقق الجسد حضورا جنسيا اكثر وضوحا، حتى تبلغ قسماته اعلى درجات الوضوح حين يبدأ الصراع بين الثالوث، المرأة، والمرأة الضمير، والشيخ مقطوف، وهنا لم يعد بمقدور الحياء، وهو جزء من طقوس متأخرة، ان يحد من من توغل الكاتب في بث الطغيان في صور الجسد والاثارة التي تجاوزت التابو الجنسي، رغم انه ملغوم بشروطه الاجرائية التي تحجّم من منظومة التفكير، ورغم ضوابطه الملتبسة باشكالية، مظهر الجسد او احتراقه الداخلي ، ففي مشهد درامي تتكلم المرأة واصفة المرأة الضمير وهي ترافقها: (بين خوفي ولذّة الشيخ برزخ يعجّ بالمتاهات، تمددتْ وجلستْ عند رأسي تموء مثل قطة وحيدة) وهنا يرتقي المشهد الى دراما الاثارة ويصبح الجسد قادرا على الافصاح عن متناقضات الذهنية الدينية وفضح ظاهرة البغاء المقنع، المتخفي تحت لباس الدين في مجتمع الرواية المحلي الكامن في عقول الملالي وتابعي تهويماتهم الفقهية، والتي يستمدون سلطتهم الدنيوية منها ، وهذا ما يتضح جليا في تصرفات الشيخ مقطوف الديماغوجية ، وحسب ما تصفه المرأة على لسان الكاتب، في جلسة علاج روحية: (حتى جثى الشيخ على ركبتيه تاركا فخذيّ بينهما، اظنه كان يتأمل الجسد الممدد امامه، يتأمله بشهوة كلب، يتحسس ما تحت الثوب ، لكنه بالتأكيد لم يتحسس ما في داخل هذا الجسد من حرائق وبراكين) لم يلعب الكاتب، بحرفيته الفنية ، على وتر الشفافية فحسب، انما لعب على الاثارة وكسب تعاطفنا مع حرية الجسد بشكل يدعو الى المناصرة احيانا. المشهد الجنسي داخل الرواية يمشي بوتيرة تصاعدية، على هيئة مجموعة من الصور الفوتوغرافية، وظّف فيها الجسد نصوصا تتسربل على الملامح وتضاريس البدن، من انسدال الشعر حتى أطراف الاصابع، صور للتابو الديني ونقيضه، التابو الذي جعل من الانثى قطعة مستهلكة من ادوات المنزل، محجوزة ضمن زواياه الخدمية، وجاهزة لاستهلاك الرجل وتلبية رغباته.
لم تقف العوائق الدينية ولا الاجتماعية أمام العامري لذلك نراه يبرز معالم جمال الجسد من خلال تحركاته داخل غرف الاثارة، فقد وصف جسد المرأة بكل وعي وحرية وتحرك في مكنونات الجسد وجوعه وتنقل في منعطفاته وتضاريسه مارا بكل الانحناءات وتكويرات النهود والأرداف ورشاقة الأيادي وألوان الخدود واصطحبنا الى عوالم فردوسية تفور بالاشتهاء والهيام بدون حظر، فللجسد عند الكاتب ايضا طقوسه الربيعية الملونة بأفراح الانعتاق، وكل الاجساد عنده تتبادل طقس الربيع، وهذا يظهر جليا في الصورة (تركت المرأة ساقيها للنهر سائبتين فانزلقت الانوثة على وجه الماء زبدا تراقصه حركة الساقين).
جعل العامري الجسد – في بعده الايروسي- حضرا في كل شئ، بل اتخذ منه البؤرة التي تتجلى عبرها الذوات والاشياء التي تكوّن عالم الرواية، ففي جملة واحدة على لسان المرأة يجعلك تشمّ رائحة الجسد، انظر اليها كيف تعبّر عن لحظة انزالها من العربة: ( لم تكن لحظة تلك التي شدّني فيها عنبر الى جسده وهو يرفعني من العربة حيث الارض، كان زمنا لذيذا، فقد احسست بإبهامه وهو يدغدغ ابطي) من الجسد انطلقت وفيه التقت كل الاشكال، فاستوعب سلسلة الأفعال والأوصاف التي أحالت شكل النص الى قيمة أوحدية هي الأساس الذي قامت عليه اشارات الدلالة وسبل تحققها ، فمن الجسد انتشل الكاتب حركة الحدث فنمت الدلالات وتناسل السرد وانتشرت التواترات لتنتهي بحرق المحظور الديني والاخلاقي المتمثل بجسد الشيخ مقطوف: ( قال عنبر مخاطبا الشيخ – لديّ من القصاص ما يكفي لإطفاء نار صدري صرخ الشيخ مرتجفاً: -أتقتلني يا عنبر؟- بل واحرق القمامة واخلّص الناس من شيطان حلّ بينهم ثم ألقى عود الثقاب المشتعل في فراش القطن وراحت النار تلتهم المكان.) لم يستطع الشيخ التخلص من قيود النفعية وكان يلبس عباءة الدين ويبحث تحتها عن متعة الجنس….. من اللحظات الأولى والكاتب يمسك فعل السرد بيد وفعل الاغراء باليد الاخرى خارقا كل المحظورات بروح سلسة، ومنذ البداية لم نر للجسد سكون، لذلك لم يكن هناك سكونا في السرد، بل العكس. فقد اشتغل الكاتب على توترات الجسد وصراخه وهذيانه كنقطة اشباع لثورة سردية محفوفة بألغام ثورة استكملت استغاثة وتأوهات الجسد، وهذا واضح من خلال صراخ المرأة، الضمير، بوجه المرأة، محور الرواية، وتصاعد صراخ الحاجة الجنسية امام المحظور.
لم نشاهد لحظة استرخاء لا في جسد المرأة ولا جسد الشيخ ولا حتى في جسد المطر. كان كل شيء يهطل وسط الحي الشعبي من خلال المرازيب، وجسد المرأة الغض اللدن كان هو الشخصية الرئيسة التي تتحد فيها وعبرها كل التحولات التي تقطن النص ما يمنح النص قوة هو قدرة تعامله مع المحظور بكل وضوح، فنحن نعرف ان الحركات والايماءات عندما تقع داخل دائرة المحظور والممنوع والمحرم، الذي يخدش الحياء، فأنها تتحول الى شكل رمزي ويكون الكاتب عندئذ مضطرا لاستعمال استعارات منوعة، الا ان الكاتب في نص عنبر سعيد، وهذه احدى مزاياه، يخلق طاقة وصفية داخل البناء الروائي تقود الى فعل ينزع منها بعدها الرمزي ويجعل منها، عنصرا يُدرك باعتبار حقيقته لا باعتبار مجازه لذلك فان الغريزة الجنسية في نص العامري كانت هي الممر المباشر نحو نقل الوضعيات من حالتها البسيطة الى حالتها المركبة في انتاج دلالات تستوعب الفكرة ضمن بنية حقيقية واحدة.