فلاح العيساوي:
اشتد بهم الجوع فخرج أبوهم لعله يجد لهم ما يسد به جوعهم الكافر، ورجع لكن بخفي حنين استقبلته زوجه المحبة بثغرها الباسم وروحها النقية ، فقال لها سعاد لم أجد ما يؤكل في السوق إن المجاعة قد عمت المدينة بأكملها ، فقالت يا أحمد لا تهتم صبرنا جميل وفرج الله قريب ، فهرب أحمد إلى الشارع وسار في الطرقات عله يخفف عن نفسه المعصورة وحدت به قدماه إلى المقابر ، أحس بتعب وألم في قدميه فجلس يستريح وأطرق برأسه ووضعه بين ركبتيه وشبك يديه فوق رأسه والغم لا يفارقه وصور أحبائه وهم يحنون إلى القرص أو مجرد لقمة تتراءى أمام ناظريه ، نزلت دموع عينيه بحرقة وماجت به الدنيا حتى ضاقت به رغم وسعها ، فقال ( ربي رحماك ربي الغوث وبك نستجير يا من أنت أحن من الأم على رضيعها أغث عيالي وارحمهم برزقك الواسع يا معطي يا منعم ) !!،،،
في هذه اللحظات سمع وقع أقدام فرفع رأسه وحد بصره فشاهد ثمانية رجال لباسهم أبيض ووجوههم تشع نورا وهم يحملون لوح خشب مستطيل الشكل يرقد فوقه رجل يشع النور منه، فقال في نفسه هذه الجنازة غريبة جدا !، فلم أر لها مثيلا من قبل !، لكن الواجب يحتم على الرجل المؤمن أن يشترك في تشييع جنازة أخيه المؤمن ، قبل أن ينهض من مكانه أصبح القوم أمامه فقال أحدهم ، سيد أحمد انهض وشيع معنا أخاك المؤمن ، نهض ولم يتوان ولحق بهم وجعل يتمتم بقراءة سورة الفاتحة ، و فجأة رأى أحمد نفسه وهو في روضة غناء أشجارها كثيفة وباسقة وثمارها تشد البصر وتشتهيها الأنفس ، وأنهارها عجيبة ، فألوانها متعددة ، دهشة أحمد جعلته يسير دون شعور إلى أين يسير ؟،، أو أين يقصد ؟،، حتى لاحظ قصرا جميلا ورائعا ، له حدائق خلابة ، وأشجار ثمارها لا تعد ولا تحصى !!…
وقف أحمد والدهشة بالمكان والرياض الرائعة أنست عالمه القاسي وما يوجد فيه من هموم وأحزان كثيرة مع أفراح نسبتها قليلة ، باب القصر كانت مزخرفة بأنواع المعادن الثمينة من الذهب والفضة ، ومرصعة بأغلى الأحجار والمجوهرات الثمينة ، وهنا لاح له رجل مهيب قادم نحوه ، وعند اقترابه اتضح له أن الرجل أبيه !!،، لكن أباه كان ميتا منذ سنين !،،
أقبل الرجل نحو أحمد وفتح الباب ثم تعانقا وأخذ أحمد يبكي بكاء الفرح المشتاق، وقال أبي أنت أبي ؟،، فقال نعم يا ولدي الحبيب أنا أبوك !!،، فلا تخف ولا تحزن فأنت في عالم البرزخ !!!،،،
وضع أبو أحمد يده في يد ابنه الغالي وأدخله إلى القصر ، وما هي إلا لحظات حتى شاهد أحمد أمه الغالية ، التي أخذته في أحضانها وصارت تشمه وتلثمه بقبلاتها الحارة ، وجلس الجميع على طاولة تحوي أفخر وأطيب المأكولات مع أطيب الفواكه الصيفية والشتوية ، طلب أبو أحمد من ولده أن يمد يده ويأكل ما لذ وطاب ، فمد يده وتناول ملعقة وغرف غرفة من صحن الأرز الفواح بعطر العنبر ، وقبل أن يضعها في فيه تذكر جوع أبنائه وزوجته ، فأرجع الملعقة إلى الصحن ، فقال أبوه ولدي أحمد لماذا لا تأكل ؟، ألست جائعا ؟، فقال نعم يا أبي أنا جائع لكن كيف لي بلذيذ الطعام وأبنائي وزوجتي جياع ، فقال ولدي ونور عيني بعد الطعام سوف أزيح عنك همك وغمك !!…
أكل أحمد طعامه الغريب واللذيذ ، فرغم كثرة ما أكل لكنه لم يحس بثقل أو تخمة إطلاقا ، صحبه أبوه إلى داخل القصر ، ورغم جمال القصر وزينته التي لم ير مثلها قط ، كان همه أطفاله ، فتح أبو أحمد حجرة مليئة بالرز تفوح منه رائحة العنبر ، وغرف غرفة وضعها في حجر أحمد ، وقال ولدي أحمد حان الآن الفراق المؤقت ، واعلم إن بركة هذا الأرز سوف تذهب إن أخبرت أحدا عن مصدره ، وفي أمان الله وحفظه !!…
رفع أحمد رأسه من بين ركبتيه ونظر أمامه فوجد نفسه جالسا في مكانه الأول !، لكن الرز في حجره يفوح بالعطر ، فنهض وأسرع إلى الدار ، استقبلته زوجته الحنون فأعطاها الأرز وقال اطبخيه واطعمي الأطفال ، فقالت وأنت ؟، فقال أنا لا أشتهي الطعام !!…
بقى أحمد مدة يومين لا يشتهي الطعام ، فحلاوة ولذة الغذاء الذي تناوله مع أبيه في عالم البرزخ ما زالت ترافقه ، أما سعاد فقد بدأت تلح عليه وتسأله كثيرا عن مصدر الرز العجيب ، إذ لاحظت إن الرز لا ينفد رغم أنها تأخذ يوميا منه للطبخ وعلى مدى أسبوع ، وأحمد ما زال يكتم سر زيارته الغريبة والعجيبة إلى البرزخ ، فأحمد بكياسته صار يلاطف سعاد ويهرب من الجواب على سؤالها الدائم …
مضت أشهر عدة وانتهت المجاعة في المدينة، وما زالت سعاد ترغب في معرفة مصدر الرز، ولم يستطع أحمد أن يصمد أمام تيار تساؤلات سعاد، فجلس وأخبرها عن زيارته إلى عالم البرزخ ورؤيته لأبيه وأمه !، وأن مصدر الرز من قصر أبوه !!…
جاءت سعاد على عادتها لتأخذ من الرز غرفة لطبخه وعند فتح الصرة لم تجد حبة واحدة من الرز !، فأسرعت إلى أحمد وأخبرته، فقال لها لا تعجبي، فأبي حذرني من إفشاء سر مصدر الرز، كي لا تذهب بركته، والآن بعد انتهاء المجاعة انتفت حاجتنا إليه والحمد لله على نعمه كلها.