استرداد، الدوامة،العائد، الملاذ السري،الورقة، بيوت بيضاء،زهرة اللؤلؤ، المهمة، السور، في البرية، في منتصف العام إلى شهداء جامعة القادسية، همهمات موحشة بتجربة سنين عذاب تشكلت على هيئة فنتازيا وكأنها خيوط المن والسلوى فتناثرت على مدى ثمانية وستين صفحة من زهرات اللؤلؤ؛ لترسم أبعادا ليس من اليسير أن تحيط بها إلا عيون تعلمت التفرس والتحديق بالأشياء إلى حد تعريتها من حقيقتها الظاهرة، والولوج إلى عالم الخفايا والأسرار، حيث يقبع المجهول بين حنايا الوجع. وتلك مهمة لا يقدر عليها إلا النابه الفطن الذي يجيد فن الصنعة، والذي يتحول أحيانا إلى حاو يراقص الثعابين، أو ساحرا يجعل الكتل الثقيلة ترتفع في الهواء بلا عمد، أو عابد متهجد في محراب اللون، صوفي يصلي من دون وضوء.
إسماعيل سكران، هذا القصصي الواسطي الذي لم تثنه جذوع خمس وستين نخلة من بستان عمره؛ يحملها على ظهره المنهك عن متابعة النظر من ثقب الحياة إلى الحياة، ومن عتمة التاريخ إلى عتمة العمر، ومن أكواخ الحكمة إلى قصور التأمل، بل مد يده إلى عمق عمرة ليستخرج منه أحلى ما فيه، ويصوغه جملا تحمل كل بهاء السنين المسفوحة، تتوشح بالندى، وتتعطر بمسك الحروف، لتتحول إلى “النثار” 1977، ثم بعد صيام طويل من الغربة والخوف والتوجس من بطش السنين؛ أمتد لأكثر من أربعة وعشرين عاما جاءت “رفات الملائكة” 2001، و”مدينة الرخام” 2007، و”القادمون فجرا” 2008، و”الأرنب البري” 2008، و”طقس مؤجل” 2009، و”البحيرة الخالدة” 2012، وأخيرا وليس آخرا “زهرة اللؤلؤ” 2014
وعجيب كيف ينكفئ الأديب قابعا خلف قضبان الوجل متخوفا من تهمة تفسير السلطان لمضمون حديثه بخلاف ما يقصده، فتطاله يد الغدر ليلحق قوافل شهداء الكلمة، وبالتالي يكف عن النشر مدة أربعة وعشرين عاما.. عمرا كاملا من التأوه والحسرة على صور يراها إيقونات قابلة للسرد، ولكن سردها عصي لأن السيف المسلط لا يرحم.!
هذا ما حدا بالسارد العراقي لأن يكون مقلا، في وقت بزه العرب وراءهم بما توفر لهم من أسباب ومسببات، فأصدروا الكثير من المجاميع، واشتهروا في الوطن العربي والعالم، في وقت نجد فيه نتاج الأديب العراقي يتفوق من حيث الجودة على نتاجهم، وعليه تجد الكاتب السوري “زكريا تامر” مثلا أكمل في مجموعته القصصية “الحصرم” إصدار ثلاثمائة قصة قصيرة. والكاتب السوري وليد إخلاصي، أصدر أربعة عشر مجموعة قصصية على مدى عشرين عاما (من سنة 1963 ولغاية سنة 1992) وهذا شيء كثير (1) وللأسف هي المدة نفسها التي أضاعها الأديب إسماعيل سكرا يوم بقي ساكتا.!
لكن بالرغم من السكوت الطويل، أعاد أديبا الحياة إلى مشروعه، فأصدر بعد التغيير مجاميع جيدة امتازت بالجودة، وأجد أن العمل الأخير للمؤلف “زهرة اللؤلؤ” يمثل، نضجا في التجربة، واكتمالا في التكون، حيث تبدو البنى القصصية واضحة المعالم، ولاسيما أنه عبر من خلالها عن هواجسه ورؤاه الفكرية والاجتماعية والسياسية، من خلال لعبة تناسق شكلية البنية والمضمون من خلال توشيج الواقع بالخيال.
جاءت مجموعته القصصية الجديدة “زهرة اللؤلؤ” ـ بالرغم من صغر حجمها ـ مثقلة بالهموم، محملة بالأسى، مدافة حد الثمالة بالمعاناة، معاناة الإنسان الحقيقية، وليست تلك التي يصنعها الخيال، معاناة الإنسان التي يعيشها الأديب مشاركا أبناء جيله وطأة ثقلها، فهل من معاناة أكبر من أن تدفع الوحشة والغربة والوحدة الإنسان لكي ينشئ له عائلة مكونة منه ومن أنثى كلب وجرائها الصغار؟ وأن تصبح هذه العلاقة منتهى وغاية لدرجة أن الرجل: “في ليالي البرد يفرش لهم الأرضية ويضع الدثار الرث فوق الجراء حين يستغرقون في نومهم”(2)
حينما يشعر الإنسان أن انتماءه إلى إنسانيته قد تعرض إلى التشكيك والاتهام، أو حينما يفقد هذا الانتماء لأي سبب كان؛ لابد وأن يدفعه طبعه الاجتماعي إلى البحث عمن يشاركه الضجيج، فالحياة بلا ضجيج مقبرة، يكسر رتابتها الإنسان حينما يبحث عما يشعره أنه لا يزال حيا، أو يبحث عما يحس أنه ينتمي إليه، حتى لو كانت عائلة من كلاب، فيجعله ذلك يشعر بالانتماء: “كانت عائلته، لا شيء يضاهي بالنسبة إليه متعة الانتماء إليها”(3)
ولقد كان الانتماء أحد أكبر المشاكل التي واجهت الإنسان، ليس في معاصرته فحسب بل وفي كل تاريخه، كما كان الدفاع عن الانتماء والإخلاص له احد أهم الأسباب التي دفعت البشر إلى التحارب والتقاتل على مر التاريخ، لكن انتماءً هجينا لابد وأن يحمل في مضمونه قوة فض الشراكة وفسخ عرى التواصل دونما حرب أو بعد حرب فاشلة، ولاسيما حينما يشعر المنتمي (الإنسان) أن إنسانيته تحتم عليه أن يرقى بنبل إلى قيم تاريخه، فيتعامل مع المُنتَمى إليه (عائلة الكلاب) بنفس مملوء بالرحمة، وهو ما دفعه في النهاية بعد أن كان يقاتل للحفاظ على هذا الانتماء لكي يتنازل طائعا، لتأخذ دورة الحياة مسارها، وليفتح بيده باب المقطورة للكلبة وجرائها ليلتحقا بالكلب الذي كان واقفا ينتظر عائلته الحقيقية. أراد إسماعيل سكران القول أن هذا التنازل ليس هزيمة بقدر ما هو دليل على الشجاعة ومسؤولية الموقف، وهو ما يجعل الإنسان المنتصر الأخير في كل معاركه الشرسة.
في “الدوامة” تعود المماحكة ذاتها لتفرض نفسها على الحدث حيث يعيش البطل ضحية للتناقضات الاجتماعية والسياسية (4) مما يضطره إلى التخلي عمن يحب سعيا وراء وهم يعرف انه لا يتحقق، فلا يجني سوى بعدا في المسافة ومفارقة للزملاء، ولمشروع حب ربما كان سيسعده لو تحقق. أما الهروب فهو الصفة الملازمة للحدث حيث يتكرر ثانية مقرونا بلوعة الاعتراف بالخطأ بكثير من الندم.
أما في “العائد” التي كان إخراجها الطباعي غير موفق، هي ومجموعة أخرى من القصص؛ فقد ترجم القاص روح التناقض التي يمتاز بها العراقيون، الذين تراهم في اشد المواقف حساسية يتخذون قرارات عاطفية غير مدروسة، لأن عاطفتهم وحبهم للوطن يغلب على تفكيرهم، فعندما يصحو جميع الركاب نتيجة توقف الحافلة للتزود بالوقود ترى البطل على خلافهم يشعر بالنعاس والإجهاد: “ألقيت راسي فوق متكأ المقعد وغفوت مستنشقا رائحة الأهل” (5)
وجاءت “الملاذ السري” لتكمل لعبة الهروب غير المقنن، الهروب لمجرد الخوف “من العيون الراصدة التي لو تمكنت مني لأرسلتني إلى حتفي” (6)، لكن كم هو بسيط ذلك الإنسان الذي يهرب خوفا؛ ثم لا يحسب لخطواته حسابها، فيتخذ من معسكر مهجور مكانا للاختباء، ثم ينفخ في بوق الصباح ليوهم القرويين بوجود جنود في المعسكر، ولا يكتفي بكل تلك الهنات، ليعود ثانية ويضرم نارا تحت قنابر مدفعية تالفة نتيجة البلل، أودى صوت انفجارها به بعد أن سمعه الجنود!
ألا تجد التشابه كبيرا بين هروب بطل هذه القصة وهروب بطل القصة الأولى “استبعاد”؟ لا أدري إذا ما كان إسماعيل سكران يريد أن يقول من خلال تكرار الهروب أن ظهر الإنسان العراقي كان مكشوفا على الدوام؟ وان العراقي نفسه أسهم في ذلك، ربما بسبب طيبته وفطريته.!
في “بيوت بيضاء” يتحدث إسماعيل سكران عن اثر الحروب على تصدع العلاقات البشرية للمجتمع التي تدفع الناس إلى الهجرة بحثا عن ملاذات آمنة وبالتالي تتكون عشوائيات تمتاز بالقطيعة: “مثلما يجهل سكان تلك السفن أي شيء احدهم عن جاره الآخر، الكل غرباء، شتات التصق بهذه البقعة المحاذية للخليج”(7) أما في زهرة اللؤلؤ فيؤكد هذه القطيعة عازيا الأمر إلى أعوام الحصار والجوع والحرمان : “لم تعد ثمة وشائج بيننا وبين سكان الأرض الآخرين”(8)
في مجموعة “زهرة اللؤلؤ أجد إرضاء جماليا يتلمسه القارئ وهو يجوب عوالمها، فالقاص أحسن توظيف الزمان والمكان ليخلق لحظات إدهاش وصعقات صادمة، مع أنه اختار نهايات واضحة لقصصه لا تعتمد عنصر المفاجأة، ولكن تنوع طرائقه الأسلوبية ووضوح الرؤية الفنية جعله يحكم السيطرة على أحداث القصة، ويوجهها كما يشاء، كما أن معايشة الأديب وتفاعله مع البيئة التي يعيش فيها وهي بيئة غنية بالعطاء، أغناه عن تعب البحث عن بيئة مفترضة، ليجعلها مكانا لصراع العواطف الإنسانية الذي طغى على كامل المجموعة، وكأنه أراد القول من خلالها: إن الإنسان بحاجة إلى الإنسان، وهو “في توق لرؤياهم والتحدث معهم حول أي شيء فقط لأمد الجسور فيما بيني وبين العالم الآخر”(9) ربما لأنه يؤمن: “أن المشتركات تجعل من الحياة شيئا يمكن احتماله، والاستمرار فيه رغم قبحه، ووجود الخلل في تكوينه”(10) ويؤمن كذلك أنها رغم ذلك قد تؤدي إلى إفشال المهمات ولاسيما حينما يستغل بعضنا طيبة البعض الآخر، فيسرق منه ما يبني عليه آمالا تصل إلى درجة إنقاذ أب من الخاطفين الإرهابيين (11)
صدرت المجموعة أوائل 2014 عن دار المرتضى في بغداد بثمان وستين صفحة من القطع (نصف أي فور) أو ما يعرف بـ 14،5 × 21 ، وهي تضم أحد عشر قصة قصيرة لتأخذ التسلسل (8) بين المجموعات التي أصدرها الأديب إسماعيل سكران حتى الآن.
الهوامش
(1) ينظر: النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سورية، الدكتور عادل الفريجات
(2) قصة استرداد، ص8
(3) قصة استرداد، ص8
(4) قصة الدوامة، ص 11
(5) قصة العائد، ص 19
(6) قصة الملاذ، ص21
(7) قصة بيوت بيضاء، ص31ـ32
(8) قصة زهرة اللؤلؤ،ص37
(9) قصة السور، ص 49
(10) قصة زهرة اللؤلؤ، ص41
(11) قصة المهمة، ص 43