قضيت وقتاً ليس بالقصير أنتظر القنفذ
يخرج من المخبأ
لأسرع فأركم مدخله بالطين
-عادة ما يكون هناك مبرر لأفعال المرء
أو تفسيراً للبسه القناع-
حتى إذا ما عاد جالباً الطعام لصغاره
لم يجد منفذاً
وقد حيل بينه وبين صغاره
فيحار ويضطرب
ويظل يبحث بارتباك هنا وهناك
وهو يتطلع إلى وجهي متسائلا ً مستعطفاً
وبعد عدة إشارات وهمهمة مبهمة
ووقت ليس بالقصير ينقضي
يفهم عليّ ويدرك المعنى
وما أريد فيذهب سريعاً ويعود
وفي فمه عود بطول الأصبع
يلقيه بين قدمي
الإشارات التي يشتغل عليها الشاعر العراقي حسين عبد اللطيف لا تعطي رموزها للقراء جميعاً مرّة واحدة، بل تبقى عصية على المتلقي في قراءته الأولى، لكنها تبدأ بإعطاء مدلولاتها واحداً إثر آخر مع تعدد القراءة وتكرارها.
فعبد اللطيف لم يكن يتقرب لأحد، ولا يتلمس الطريق الذي سلكه الآخرون، إن كان طريقاً فنياً أو أسلوبياً أو آيديولوجياً، إنما تمكن من أن يشكل مملكته الخاصة، وقصيدته المغلقة على مفاهيمه هو، حتى رحل يوم الخميس الماضي بعد معاناة طويلة مع المرض عن عمر يناهز التاسعة والستين عاماً في أحد مستشفياته المدينة التي لم يغادرها، البصرة.
لم أقصد بانغلاق قصيدة عبد اللطيف صعوبتها أو لغتها القاتمة، بل كان يشتغل في بناء نصه من خلال ثقافته الخاصة، الثقافة التي خرجت من البحر والنخيل والخشابة والأغنيات البصرية الخالصة. لهذا كانت لغته تنبع منه هو وليس متأثراً بأي شاعر آخر.
وكان هذا واضحاً في قصيدته التي نشرها مؤخراً (عرق السواحل):
ينتابني اليأس فأرمي العود
وراء ظهري
وأنساه تماماً
إلى أن يكون ذات يوم
فترتطم يدي به مصادفة
وتعثر عليه هكذا عفواً
لأحسبه أول الأمر قلماً من أقلام التلوين
الذي يبعثرها عادة حفيدي
بين الكراسي، عند الزوايا
وتحت الأسرّة…
وأنا أفتش عن عويناتي
فألتقطه لأنظفه
من مخاط الشيطان
وأمسح عنه الغبار
فإذا بالقنفذ ذاك نفسه، فجأة
يقف شاخصاً أمامي
وهو يحدجني بعينيه الخرزتين
ويقول لي معاتباً:
ألم أقل لك!
الأمر نفسه في مجموعته الأولى التي نشرت في العام 1977، والتي أشرّت لبروز شاعر من طراز متفرد بدأ ينشر أولى قصائدة بعد منتصف ستينيات القرن الماضي، «على الطرقات أرقب المارة»، وصمت طويلاً قبل أن يصدر كتابه الثاني «نار القطرب» في العام 1995، إذ نال عليه الجائزة الأولى كأفضل نتاج شعري عراقي من قبل وزارة الثقافة والإعلام، فضلاً عن مجموعته «لم يعد يجدي النظر»، و»أمير من أور» و أخيراً (بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة- متوالية هايكو» في العام 2012.
كان عبد اللطيف مؤثراً في مجايليه وفي الأجيال التي ظهرت بعده، فتعلموا من هدوئه وقلة نشره قصائده ومتابعته الدقيقة لكل ما يحصل في الوسط الثقافي، فضلاً عن ابتعاده عن الصحافة واللقاءات الصحافية، فمنذ سنتين وأنا أطلب منه إجراء حوار، إلا أنه كان يؤجله مرة ويرفض مرة أخرى، حتى رحل من دون أن أتمكن من محاورته.
في تعليقه على رحيل عبد اللطيف، يقول القاص والروائي لؤي حمزة عباس إن علاقته به بدأت قبل خمسة وعشرين عاماً من الزمان، لكنه يتساءل أي زمان: زمان الكلمة التي منحتني معنى يصعب تعلّمه، معنى الكتابة التي لا تقول أكثر من روحها على الورق، ورق أرواحنا الذي أكلته دودة السنوات. «مع موت حسين عبد اللطيف- إنها ليلتك الأولى، هناك، يا صديقي!ـ ينطفئ سراج آخر من سُرج الحداثة- الصامتة وشبه السريّة- في الشعريّة العربيّة، سراج زيته روح مدينة البصرة العجيبة وهي تحيا، منذ خُلقت، تناقضها العظيم، الأغنى بين مدن الله والأكثر فقراً وذلّة. لن ينتهي درسك يا صديقي، حتى وأنا أطل على مشهدك الأخير لأراك مسجى على البلاط الأبيض، يداك مربوطتان وعيناك مغمضتان، لكم آلمني أن أرى عينيك مغمضتين بعد كل ما رأيت، العينان اللتان شهدتا عذاب القرنفل والبرتقال، هل ينتهي عذابهما، كما أنشدت، في ذهب العائلة؟.. ها أنت ذا الآن، على الجانب الآخر من المرآة، حيث لا يمكن لأحد أن يصلك على الاطلاق».
ويتحدث الناقد جميل الشبيبي عن علاقته به، فيقول إنه كان قبل ساعتين من رحيله يحدثه عبر الهاتف، معافى لا تأثير يذكر على مرضه أو ما ينبئ بموته الوشيك، كان مشغولا بالآخرين وليس بنفسه كعادته دائما، فلم يعرف عنه نرجسية الشاعر التي تتجلى عند الكثيرين من أصدقائنا الشعراء، «كان يحدثني عن ملف قيد الانجاز عن الشاعر سعدي يوسف، وعندما قلت له أن شاعراً مثل سعدي يحتاج إلى ملف يليق به وبتجربته الكبيرة، قال إنه بصدد كتابة طويلة تتحرى تجربة هذا الشاعر، ولا أعرف إن كان قد أنجز قسما منها أم لا».
ويضيف الشبيبي: تمتد تجربة الشاعر حسين عبد اللطيف الشعرية إلى أكثر من أربعين عاما أصدر خلالها خمسة دواوين شعرية ومجموعة من المقالات، وكان خلالها يتأمل حياته وحياة الناس من حوله، ولم يكن ديوانه الأول «على الطرقات أرقب المارة» الصادر عام 1977 هو بداية طريقه الشعري، بل إن نتاجه يرقى إلى منتصف الستينيات، غير أن الظروف الصعبة التي عاشها مع مجايليه من الشعراء والمثقفين البصريين، في الهامش المهمل من الثقافة العراقية كان سبباً في تأخر ظهور نتاجاته الأولى، وخلال ثمانية عشر عاماً، ابتداء من عام 1977 لم يصدر لهذا الشاعر سوى ديوان واحد، في حين كان نشاطه متميزاً وفي قلب الحدث الثقافي والأدبي، قراءة ونشاطاً ثقافياً يشهد له به عشرات الكتاب البصريين الذين قرأ أعمالهم وشجعهم على الكتابة، وكان يتوسط لهم لنشر نتاجاتهم في الصحف والمجلات العراقية بشكل خاص. و»بهذا المعنى نستطيع أن نؤكد أن معظم أدباء مدينة البصرة ممن ظهرت نتاجاتهم منذ نهاية السبعينيات وحتى وقت قريب كانوا قد استفادوا من تجربة هذا الشاعر ومن نصائحه وتصحيحاته لنتاجاتهم، وبذلك يكتسب الشاعر حسين عبد اللطيف مكانة خاصة في المشهد الأدبي والشعري في البصرة بشكل خاص، ويمثل نتاجه الشعري عصارة حياة ثقافية ومعاناة في استخلاص جوهر الشعر من خلال النأي عن اليومي والمألوف، باستثمار لغة شعرية تكتنز بالمجازات والصور المبتكرة، وباطلاع واع على منجزات الشعر العربي والتأثر بترجمات الشعر الغربي، في مزاوجة اتضحت معالمها في دواوينه الصادرة وخصوصا ديوانه الثاني “نار القطرب”».
الشبيبي، الذي رافق عبد اللطيف طويلاً، يشير إلى أن الشاعر عاش حياة قاسية، يعذبه مرض السكر المقيت، ورحيل ابنه البكر حازم، لكنه على الرغم من كل صعوبات حياته، فقد كان متجاوزاً لآلامه، يعيش في قلب الحياة الثقافية العراقية حضوراً دائماً، يتضح ذلك في تجربته الجديدة في ديوانه الأخير «بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة»، استثمر فيه أفق قصيدة الهايكو للتأمل والحوار مع الذات بعلاقتها مع الطبيعة بعيداً عن منغصات الحياة والآلام المبرحة التي عانى منها كثيراً وكانت تجربة شعرية متميزة وجديدة على عالمه الشعري.
في حين يروي الشاعر كاظم الحجاج حكاياته عن حسين عبد اللطيف، فيقول «حسين أنا من جيل شعري واحد، غير أنه سبقني في منتصف الستينات إلى التفعيلة التي كانت تجديداً في وقتها، في حين أنا بقيت على شعر العمود التقليدي حتى بداية السبعينات» مبيناً أن عبد اللطيف في بواكيره لم يظهر بأية قصيدة عمود واحدة لا بالنشر الأولي ولا بالمشاركة في احتفالات شعر العمود مع انه يتقن هذا الشعر. وأشار الحجاج إلى أن قصائد التفعيلة التي ابتدأ بها عبد اللطيف مسيرته في النشر قصائد تنبئ عن ميل شبه غريزي إلى التجديد ومن ثم التفرد.
( تلك الإوزّةُ البريةِ التي هناك ! )
” كم هي رقيقة ازهار الكرز هذه !
حتى أنها تسقط متناثرة
من قرع الأجراس.”
حسين عبد اللطيف ( متوالية الهايكو)
كلما اشدّ على جناحه يعاند إلى الرواح
نورسُ البصرة مستعجلٌ !
إلى كلِّ ذلك الجمال !
في هدأة ليل العراق
“من أين يأتي بارود القنابل؟”
يسأل، ذات تمزّق، نفس السؤال
توسلت أن يؤجّلَ السفر،
تنكّبَ زوّادة الطريق مطمئناً :
” عائدٌ للبصرة ، بأهلها ”
حين تتعرى الشمس
تدمع العيون لهفةً ،
فيما تنزف اجساد المتعبين ينابيعاً وجداول
تلك الإوزّة التي هناك، تسحرُنا
تجمّلت اروع الألوان !
“أحقاً إوزّةٌ واحدة ؟ “، قد غيّر السؤال!