– قراءة في انسياباتِ (همساتُ الروح والخاطر) لرشيد أمديون
كان الإبداع منذ وُجد على الأرضِ إنسانٌ ملاذا للنفس في بوحها وتقلُّب أحوالها، وقيثارةً تُعزفُ عليها أقدس الألحانِ وأشجن الآلامِ، وبين الأمل والإحباطِ، والموت والحياة، كانَ الإنسانُ يتأرجحُ متقاذفةً إيّاه صروفُ الدّهر ويدُ الزمانِ وتغيّر الجديدينِ، وإذا ما حزبَهٌ أمر أو أصابهُ شرّ أو أنهكه سرّ لجأ إلى البوحِ تخفيفا من الآلام أو تعلّقا بالأحلام أو شكايةً من ظلم الأيام أو تعبيرا عن فرحٍ طال انتظاره. وهكذا كانت الكتابةُ وسيلةَ الإنسان في التعبير عن مشاعره وأفكاره وآماله وآلامه.
إنّ الإبداع في أصلِ جوهره فيضُ وجدانِ وتألّق خيالٍ، وهو نبض النّفس في غليانها فرحا وألما، وخفقان القلب في تقلباته الوجدانية، وعُصارةُ الفكرِ في تأمله، نِتاج الخيال في انطلاقه. إنه الملاذ النفسي الذي يلوذ به الإنسان في ظروفه الحالكة والمشرقة.
ولعل النصوص الإبداعية التي تحويها هذه الأضمومةُ لها نصيبٌ وافر أو قليل من القدرة على الكشفِ عن الواقعِ النفسيّ للمبدعِ حقيقةً أو تخيّلا، ويتّضح ذلك في النّفَس الرومانسي الذي يرخي بجناحيه ويغمُر بظلاله الوارفةِ سائر النصوص، إذ لا تُخطئ أنفُ القارئ ولا إحساسه ذاك النّفس الوجدانيّ الطاغي، ولا تغفل أذن المُصيخ لنبض النصوص إيقاعها الهامس الشّفاف المنساب، ولا تفلتُ يدُ المفتّش عن جواهر الجمال داخلها مقوماتِ الجمال الفنيّ المحقّقة للكمال النوعيّ التي تلغي
المسافة بين الشعر والنثر، بحيث يتعانقُ الإثنان محطّمين ما تُعورف عليه من فروقٍ أجناسية تفصل بينهما.
وعليه، تشيعُ في المجموعة روح رومانسية منبعُها من المضامين الذّاتية المهيمنة، والجو الحالم للنصوص، ونسجّل براعة المبدع ولمسته الفنية الحانية التي وهبت المجموعةَ استقلالية جمالية ابتعدت بها عن الاجترار والإغراق في الذاتية والهروبية.
فعلى صعيد المضمون، يغلب على نصوص هذه المجموعة طابعها الرومانسي الحالم، فلا يخطئ قارئها لأول وهلة إغراقها في الذّاتية والتأمّل وإصاخة السّمع لنبض الخيال، وفي أحيانٍ كثيرة تُغلَّفُ الرومانسيةُ بقليل أو كثير من التّفلسف، كما في نصّ ” لا شكل لي”:
فكانَ يزهر في عمقي المدى
اليوم، لا شكل لي
وأنا على تلّ أرمي حروفاً
علّها تنمو غدا
ومادامت المضامين ذات صبغة حالمةٍ، فإنّها تكشف عن تلك العلاقة بين المبدعِ ومحبوبته المفترضة، وما يميز هذه العلاقة من تأرجح بين الخصام والمودّة، فنجده يتوسّل إليها بهدايا مستحيلٌ تقديمها:
أهديك بدرا
أهديك شمسا
أهديك السماء
أتقبلين؟
ولا يهتمّ المبدع بالوصف المادي الصريح، بل ينحو سبيل (جميلٍ) مكتفيا بوصف الملامح وصفا رومانسيا عفيفا:
أجمل ما فيك هاتان الحدقتان
كماء نهر،
عذب
يستريح من الجريان
ويتناص مع الشابيّ في قصيدته الشهيرة، مستلهما روحها :
عذبةٌ أنسامك حين تتكلمين
كاللحن مصفوف الوقع للسامعين
تطريب كتطريب الطير
في صبح وسيم
ولا تُهِمُّ المعاناة إن ارتاح الحبيب:
لك الحسن، من وجهك أمطر
ولي وخز العتاب
لك الوسن يغري مقلتيك
ولي هجمة السهاد
ومادام رضا المحبوب هو الحلم والأمل، فلا ضير إذن في قليلٍ أو كثيرٍ من التزلّف:
لا تغضبي
لا تعتبي
فساكنة الفؤاد أنت
فابقي، إياك أن تهربي
وفي أحيانٍ كثيرة تنقلب الأدوار، فتصير المحبوبةُ مبادرة في البوحِ والتساؤلِ والشّكوى الممضّة:
حدّثتني بارتياب،
قالت:
لمَ كلامُنا ينتهي بالملام
لمَ الصّحو يغدو رعداً
فيقصف البرق منا الخيام؟
ويصل الأمر إلى أن تلحّ في الطلب وتتوسلّ متمنية الوصال:
وإنّ مناي أن تمرّ بي لحظات عشق
تلبسني ليلى
وتلبسك قيسا
وتخلع عنا ثوب الخصام
ومن الناحية الشّكلية، تلبسُ لغة المجموعة لبوس الليونة وتتزيا بزي البساطة واليُسر، ألفاظها ذات جرْس هامس شفاف، تؤدي المعاني بطريقة تؤلف بين العمق والبساطة في آن واحد، وهي في ليونتها تبتعد عن أجواء اللغة القديمة ذات الوقع القويّ والرّنين الحاد.
وعلى الرغم من نسيجها الشفاف، فهي على قدر من متانة التركيب وجلال الصياغة، لذا فصاحبها يسلك السهل الممتنع، جاعلاً لكل سياقٍ لغته الحاملة للمعنى المؤدّية للدلالةِ.
ويعتني المبدع بلغته عناية مفرطة، تتجلى في انتقائه للألفاظ التي تقع موقعها المناسب بين جاراتها الشّيء الذي يخلق بينها تجانسا يسهم في خلق التناسب المحقّق الجمال. وعلى الرغم مما قد يتخلل النصوص من فترات نثرية ولحظات خطابية مغسولة من كل جمال فني فإنّ ذلك كله يذوب في أتون الغنائية الطافحة واللغة الشعرية التي تغطي تلك الخطابية المطلة بين الفينة والأخرى.
أما من الناحية الإيقاعيّة، فتتحقق في المجموعة شعرية الإيقاع وجمالية النغم، وذلك بتضافر مكونات إيقاعية تعوّض نثرية النصوص، وتكسبها تبعا لذلك أدبية طافحة بالجمالِ، ولعل أبرز ما يُعنى به المبدع هو ذاك التناغم الحاصل بين الكلمات داخل السطر الواحد، والتركيز على الوقع الآسر الخلاب لحرف الروي البارز مما يقرب النصوص من جو القصيدة القديمة بقوافيها المطردة وأحرف رويّها المحدثة للإطراب والإعجاب.
يقول :
عدني بحبّ ماطرٍ
بهمس شاعرٍ
بمسك ليل ساحرٍ
بخفق نبض
سائرٍ
فالإيقاع هاهنا ينساب ويتدفق مع انطلاق حرف الراء المنون، محدثا أثرا جماليا صوتيا تطرب له الأذن، جامعا بين الوظيفة النفسية والصوتية.
ولعل ما يعطي للإيقاع ذلك التدفق الواضح في كثير من النصوص هو الحضور الكثير للتضمين، الذي يرتبط أساسا بحركة المشاعر والأفكار، والدّفقة الشعورية التي لا تكاد تقف عند السطر فتحتاج إلى توالي الأسطر لتصل إلى نهايتها، والتموجات النفسية التي تمتد بانثيالها لتشمل أسطرا أو نصّا بأكمله إلى أن يمتلئ المعنى وتستوي الدلالة على سوقِها، ولنضرب لذلك مثلا قولَ المبدع:
عذبةٌ أنسامك حين تتكلمين
كاللحنِ مصفوف الوقع للسامعين
فبين السطرين تلاحم عضوي،ذلك أنّ التشبيه الوراد في السطر الأول لا يتمّ إلا بتمام السطر الثاني الذي يفصح فيه المبدع عن طرف التشبيه الثاني، وهكذا يتحقق التضمين الدال على انطلاق الدّفقة وانثيال التعبير.
أما الصورة فهي منحوتة بأنامل من إبداع منقطع النظير، استوحاها مبدعنا من التجربة الذّاتية والجمالية، وكذا من الواقع النّفسي والرؤية للحياةِ والأشياء، فهي غير مُقحمةٍ في السياق عنوة وغير مستقاةٍ من المحفوظ، بل إنها مكوّن عضوي يصعبُ فصله عن حركة الأفكار والمشاعر والمعاني والإيقاع.
لقد أعطت الصور التي زُيّن بها فضاء المجموعة ألقاً جماليا، وأرخت عليها بظلالها الفنية الوارفة، ومنحت قدرا من البعد التخييلي والعمق الجمالي والدلالي الخالق للشعرية ولذة التلقي.
والناظر في طبيعة الصور الموظفة يلفي تنوعا وعدم تركيز على نوع بعينه، وهو ما منح القصائد ذلك التلوين التخييلي الذي أنعش الدلالة والجمال.
وهكذا، يظهر المبدع براعة منقطعة النظير في تصيّد الاستعارات المشرقة والتشبيهات الأنيقة ذات البعد التخييليّ والعمق الدلاليّ، كقوله:
عذبة أنسامك حين تتكلمين
كاللحن مصفوف الوقع للسامعين
تطريب، كتطريب الطير
في صبحٍ وسيم
فوصفُ الأنسامِ بالعذوبة والصبح بالوسامةِ فيه من الجدّة ما لا يخفى على القارئ، ولعل هذه الجدة نابعة من تجربة ذاتية متح منها الشاعر. ولنا أن ننظر إلى تشبيه الأنسام باللحن المصفوف المرتّب، ووجه الشبه المتمثل في الترتيب والانسجام والإيقاع المؤثر. وما منحه كلاهما من فرح وحيوية دافقة أغنت الجانب الجمالي تخييليا وإيقاعيا.
ومما يقوّي شعرية النصوص الحضور اللافت للتناص بطريقة يكادُ بشكلّ معها ما يشبه الظاهرة المطّردة، ولا شكّ أن امتياح المبدع من حقل الشعر والقرآن والتاريخ يفتح إبداعه على عوالم دلالية لا متناهية، مما يؤهّله للتمرّد على المعنى الأحادي الثابت، والملاحظ في تناصات هذه المجموعة أنها في أغلبها تخدم السياق وتضيف للمعنى، كقول المبدع:
وهزي إليك بجذع اليقظة
تهتز القلوب عشقا
وهو استثمار جيّد للآية الكريمة من سورة مريم”وهزّي إليك بجذع النخلة تسَّاقط عليك رُطبا جنيا”، وهو ما يسري على قوله :
وإنّ مناي أن تمرّ بي لحظاتُ عشقٍ
تلبسني ليلى
وتلبسك قيسا
فقوله (تلبسني ليلى وتلبسك قيسا) يحيل على قوله تعالى (هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن)، ففيه دلالة على التماهي الحاصل حدّ الاتحاد بين المحبوبين، ولا شكّ هذا التناص أضاف للنصّ بعدا دلاليا جاعلا إياه ينفتح على عوالم لا متناهية من الدلالات الإضافية.
وإن كانَ هذا الاستثمار التناصي جيّدا ووظيفيا فإننا نلمسُ في بعضِ التوظيفات أن مبدعنا اقحمها عنوةً في السياق كقوله:
أميرتي،
الشمس توارت بالحجاب
فأعيديها
فهذا الاستثمار التناصي لا جمال فيه إذ لا يخلق دهشة تُذكر، والسبب أنه أسقِط إسقاطا وأقحم إقحاما ووظف بشكل متعسّف ، فلم يضف للدلالة شيئا يُذكر. وهو نفس ما يمكن قوله عن نصّ” مقام الرؤيا والمخاطبة”، إذ يستلهم قصة موسى بالوادي المقدس طوى، ويكادُ يجتثّ الآيات القرآنية ويقحمها إقحاما فاقدا لكل جمالية، فعوض “الواد المقدس” يضع “وادي التلقي” وبدل “خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى” يكتب ” خذه ولا تخف، سنشدّ عضدك به” . ولا شكّ أن هذا الاستدعاء العادي المغسول للآيات القرآنية سببه عدم وجود رابط عضوي بين روح النصين “لآخذ والمأخوذ عنه”، وهو خطأ وقع فيه كبار شعراء الحداثة في كثير من الأحيان.
ويُضاف إلى هذا التوظيف التناصي للنص القرآني انفتاح آخر على بعض الأساطير التي تحضر في النصوص بطريقة غير مباشرة، كقوله في (أهديك):
أحرق عمري كي أنير لك الحياة
عصورا
ففي هذا النص إحالة على أسطورة الفينيق أو أسطورة العنقاء التي تُحرق فتصر رمادا لتنبعث بعد ذلك، ومثل هذا التوظيف للأساطير يخرج النصوص من ربقة التقريرية والمباشرة، ويجعلها تقدم المعطى بطريقة فيها جدّة وتكثيف وانزياح عن المعتاد، وانفتاح على عوالم التخييل، وهو ما يقويّ فاعليتها الجمالية والدلالية.
——————————-
أ.ذ سعيد بكور: كاتب وناقد