حسين السنيد :
اهداء … الى روح ” فرخندة” الميمونة التي احاطتها ذئاب مفترسة في مسجد ” شاه دوشمشيره ” في كابل . ضربوها و عروها و احرقوها ..لظنهم انها احرقت القرآن الكريم.
ذلك اليوم لم يعروا الكابليون فتاة فحسب … بل عروا مدنهم والليل. فظلت مدنهم خاوية , و لياليهم بلا لون …
اعلنت وزارة الاوقاف الافغانية بعد حين .. لم يعثر على اي قرآن محترق في المسجد.
—-
لحظة وقفت امام غرفة صغيرة في الباحة الخلفية لمعبد المدينة,كانت تتطاير من نوافذها شرارات النار الحمراء, و الدخان الاسود الذي يعمي العيون متدفقا عبر النوافذ, ككومة من الغربان السود. اصابتني الدهشة و انا ارى العجوز الحارس يخرج من الغرفة متعثرا, يحمل بين يديه الكتب النصف محترقة , وعندما احس بوجودي , وقف و نظر الى دهشتي الواجمة..
– تعال معي … لايجوز ان ندعهاتحترق .
ثم توارى في الغرفة المشتعلة .
***
ملأت الأناء الفخاري بالماء و قدمته للشيخ , ارتشف قليلا و انتقل بنظراته القلقة الى الغرفة التي اطفأناها بصعوبة , دون ان يساعدنا احد او حتى يسمعنا.
لمح الشيخ عاصفة الاستغراب في عيوني , قال :
– الغرفة هي مخزن للكتب , لا اعرف ما الذي اشعل النار هناك .
– ربما كان تماسا كهربائيا .
ضحك العجوز باستغراب :
– كهرباء ! الكهرباء مقطوعة عن المعبد منذ سنين .
– كيف ؟ و المصلين ؟
– لا احد يأتي للصلاة هنا, الم ترى المعبد مهجورا ؟
– لماذا ؟
قلتها و اعتلت نبرة الاستغراب, المعبد في قلب المدينة , المدينة الكبرى في البلاد والتي تعج بالبشر , مهجور ؟
تنهد الشيخ فيما كان يريد الوقوف , سعل عدة مرات . اطرق بنظراته ارضا..
– انها لعنة ” الفتاة ” …
قلت بصوت عال يقرب للصراخ :
– ماذا تقول ؟ لسنا في اساطير فراعنة .. او ملحمة بابلية , دعك من هذه التفاهات .
قابل الشيخ ثورتي الملتهبة بابتسامة باردة .
– نعم يا ولدي ,انا لا اؤمن ايضا بالاساطير .. ولكن الذي شهد ” الفتاة ” و سمع نبوءة المعلم . سيصدق … النبوءة تحققت , انها لعنة ” الفتاة”.
ثم بدأ يخطو بسرعة باتجاه الغرفة التي كانت غطت صفحات الكتب جدارنها و شبابيكها .
جريت بشكل جنوني ..
– كلمني …كلمني يا عم .. من “الفتاة “؟ و من ” المعلم ” ؟.
دخلت الغرفة و رأيته منحنيا , يجمع الصفحات المنتشرة كل مكان ,نزعت حذائي و جلست بجانبه.
***
– كلمني يا شيخ …. ماذا حصل هنا ؟
بدى الانزعاج واضحا على ملامح الشيخ من سؤالي ,تشابكت حواجبه البيضاء , و بعد ثوان من الصمت المطبق قال:
– حدث هذا قبل 7 سنوات .
انقطع الكلام ..وراح يرتب صفحات التي طال اللهيب اطرافها فوق بعضها بعضا.
– ماذا حدث ؟؟ سألت بصوت اقرب لصراخ.
التفت لي و رمقني بنظرات غاضبة , مسح على ذقنه الابيض بيديه المسخمة .
– كان هذا المعبد قبلة لكل ابناء المدينة , مزدحما بالناس من الفجرحتى منتصف الليل وكان يؤدي المعلم كل الصوات و يصلون معه المئات .
جر حسرة ونزع طاقيته و رفع ذيل زيه الطويل رصاصي اللون و وضعه في سرواله.
– كن الفتيات يقصدن المعبد من كل احياء المدينة , طلبا للرزق والزواج , كان ينتشر في اطراف المعبد كتاب تعويذات ,لفتح الرزق و الانجاب واصلاح الزوجين , كل هذه الخرافات التي لم اؤمن بها يوما.
قاطعته:
– اذا لماذا كنتم تسمحون لهم ؟
تجاهل تساؤلي و استدرك بالحديث:
– في يوم مزدحم .. شقت طريقها “فتاة” تأخر زواجها كثيرا , جائت تتصور انها ستنتصر على العنوسة بتعويدة تكتب على ظهر ورقة سكائر.
– انها الفتاة نفسها ؟ سمعت بها.
– وسمع بها كل العالم .. والسماء و الارض .
– ماذا حصل ..قل لي.
– وقفت الفتاة امام كاتب تعويذات يسمونه “ملا” … قالت له لم تفعل لي تعويذتك اي شيئ . قال لها الملا , صفي النية يا فتاة .
استشاطت غضبا و صاحت : ” اصفي النية ؟؟ وهل اريد السرقة ؟ ” ..نعم كانت الفتاة غاضبة ذلك اليوم حالها حال كل الفتيات الائي فاتهن قطار الشباب وبدأت خطوط الشيخوخة يرتسمن على جبينها , دون زواج و دون حب و دون الاحساس بالامومة.
صمت الشيخ .. و استطعت ان ارى اولى قطرات الدمع تنسال من خلف نظاراته المؤطرة باطار اسود .
– رمت الفتاة التعويذة في علبة الصفيح التي كان يشعل النار فيه .
كل النساء دهشن من المنظر هذا .بل حتى الرجال دهشوا و تسمروا وخيم الصمت على ذلك المكان.
– و لم يرق هذا للملا كاتب التعويذة طبعا .
ابتسم الشيخ :
– نعم .. صاح بصوته الجهوري ,حيث سمعته انا في المعبد.
– ماذا صاح؟؟
– اقتلو الفاسقة ..احرقت الكتاب …احرقت كلام الله
اندهشت من كلام الشيخ .
– احرقت كلام الله ؟ يكذب الملا ؟!التعويذة ليست كلاما من الله و ليست كتابا مقدسا ..
قال الشيخ في حالة لم اقدر ان اميز السخرية من الجد فيها:
– ياولدي … التعويذة عند الملا اهم من الكتاب , والمعبد, والانسان. لن اطيل عليك .. ظل يصرخ الملا .. اقتلو الفاسقة ..احرقت الكتاب ..احرقت الكتاب .. و سرعان ما التفت حول الفتاة العشرات .
– التفو حول فتاة ؟اين الشرطة ؟ اين كنتم انتم؟
– لاتسألني عن اي شيئ , لا الشرطة ولا انا ولا المعلم كنا قادرين ان نوقف موجة الغضب تلك.
– ضربوها ؟
– ياليتهم فعلوا , جردوها من عبائتها و حجابها . نزلت عليها الهراوات و القضبان الحديدية من كل مكان .. والكل كانو يصرخون .. ” احرقت الكتاب …احرقت الكتاب .. و كانت تصرخ ” لم احرق شيئا ..اسمعوني …لم احرق الكتاب . و لكن كان صوتها المرتجف يتطوح في بحر صراخهم المتلاطم الهائج . ولا احد يسمعها.
كنت انظر في عيون الشيخ التي فاضت بالدموع , و بدى لي ان الدموع ليست شفافة بل فيها شيئ من اللون .
– كان المعلم , يشاهد المنظر .. صاح هيا بنا ,نخلص الفتاة ..انهم يقتلونها . جرينا مع المعلم نحو الجموع التي انهت صلاتها للتو . اوقفونا ثلاث شبان و قالو لنا مبشرين ..”ابشر يا معلم ..ابشر..قتلنا الفاسقة التي احرقت الكتاب “.
صرخ المعلم ..اي كتاب هذا ..دعوها . وحين سمع الشبان الثلاث كلام الشيخ . ضربونا على صدرونا حتى وقعنا مغشيا علينا . و حين كنت في آخر لحظاتي قبل ان يغمي علي تماما , رأيت الفتاة تسقط على حافة القبر بعد ان ركلها احد من بين الجموع . كان الاعصار الذي احاطها جردها من كل شيئ , شبه عارية و وجهها مخفيا تحت قناع من دم.
جلست على الارض ,متكئا على الجدار فيما شعرت برعشة تجتاح جسدي .
اكمل الشيخ كلامه:
– حين فتحت عيوني , لم اجد المعلم بجنبي , شممت رائحة احتراق لحم الفتاة , ورأيت رمادها يتطاير من باحة خلف المسجد . و كانو العشرات يهرولون من حولي ,بل يعبرون على جسدي دون ان اشعر بهم . كانوا فرحين , كانوا منتصرين .
– اين المعلم .. قتل هو الاخر ايضا ؟
– غروب ذلك اليوم .. رأيته يمضي بعيدا حاملا زوادته بين يديه . جريت خلفه .. صرخت .. بكيت .. لكنه لم يلتفت لي و بعدما ابتعد حتى صار نقطة بالشفق , سمعته يصيح .. لا تستجاب دعوة في هذا المعبد بعد الفتاة ابدا , وسيمسي مهجورا وكأن لم يكن يوما .
ساد الليل الحالك .. و ذرات رماد الفتاة المحترقة ماتزال تحلق في الجو, و حين سكنت المدينة ونامت عيونها , تسللت عبر النوافذ لكل البيوت و اخترقت الجفون و استقرت بالحدقات , في كل عين ذرة رماد واحدة , و حين طلعت شمس يوم الثاني و مع الشهيق الاول , مرقت ذرة رماد في الصدور .. ذلك اليوم اهل المدينة بقو في بيوتهم بعيون مرمودة متورمة و صدور تسعل دما .
و المعبد,بقى مظلما .. بقى منقطعا عن السماء .
—