اسلام عادل :
اطفال يلعبون بالزقاق كل صباح.. تنظر اليهم, تصرخ و تستمتع مثلهم بالضبط. تعرف اسماءهم, ميولهم و تعرف عن مستقبلهم الكثير.
تنام في الليل على امل ان تستيقظ باكرا و تشخص ناظرها عليهم لساعات.. الى ان تستطع الشمس و يولوا الى بيوتهم. لقد اعتادت على مراقبتهم و التعلق بهم.
قبل شهرين كانت تخطط مع احد الذئاب ليشتروا حملا, و بعد التفكير قررت ان تنفذ صفقة سيلتهما الذئب لوحده. و لانهم اما ذئاب جائعة او ثيران ثائرة قررت ان تسير لوحدها الى ان تجد من يشاركها الحلم. حلم اقتناء حمل.
لقد تمردت بصمت, و اعتذرت من جديد لمن فرقه الموت عنها.
و كما قالت لها امها ذات يوم, ان لا فائدة منها و انها ليست كفلانة من النساء اللواتي تزوجن و انجبن لان “الله راضي عليهن” فأنها ملعونة. لقد اصابتها لعنة يوم ولادتها. و انها ليست الوحيدة التي تأثرت بها و انما الجميع من حولها. فبعد ولادتها بأسبوع توفيت خالتها و هي لم تكن تعاني من اي داء او علة, لا, بل ان في يوم ولادتها احترق متجر ابيها الذي كانوا يعتاشون عليه.
اما هي فلم تبحث في الاسباب يوما و لا بمسبباتها,. و لم تفكر بتاتا بالتخلص من هذه من هذه اللعنة. تتقبل لعنتها و كان شئيا ما كان. لان لعنتها لعنة وفاء لميت بلا جثة, بلا تشييع و بلا قبر.
في غرفتها لم تشعل مصباحا, لم تغطي جسدها بلحاف او تستلقي يوما على فراشا وثيرا. لقد تقبلت الامر و اعتادت على لعنة لم تكن تملك الخيار لتختارها او تنبذها بل فرضت عليها و لم تثور او تثأر لانصياعها المبهم. لا تعلم اين تستقر اللعنة بالتحديد. فقررت ان تطاردها و تستفهم علاقتهما الوطيدة! فبدأت تجبر نفسها على ان تشعر بكل الاحاسيس التي خلق الانسان ليشعرها: البرد, الجوع, الفراق, الذنب و الوجع. تنام منكفئة على وجهها, تتواصل سلاسل افكارها من النوم الى اليقظة, فتتصل خواطرها بأحلامها.
كيف مات؟
غدا موعد اخر, لقاء خلف القضبان, حيث سيلتصق وجهه بالحديد و هو يريده ان يصهر لتلتقي ارواحهم. و قالت لنفسها “حلم اخر, التقي به في احلامي, خلف القضبان.. كنت اريد ان ازوره قبل ان يعدم.. لم ارتد السواد و لم امر بعدة قبل ان اتيقن انه فعلا مات.. الانتظار.. الانتظار لقد اسقمني..”
اختلفت التسمية و مازلت اللعنة تطاردها. لقد تحولت من عانس الى عاقر و من ثم اطلقوا عليها “زوجة سجين” و الان هي اما ارملة او زوجة مفقود. كانت و لا تزال تملك الاجابات لكل اسألتهم, و استفساراتهم المتهكمة. النساء اللواتي يتجمعن حولها في الصالون, كلمات المؤازرة, ذات المعانات, و كلمات التشجيع.
– اتدرين يا غادة, متى تتوقفي عن ان تكوني غبية!
– لما؟
– لانك لم تسأمي الانتظار!
– —-
– يقال ان زوجك قد اهان النظام فاعتقل… لما اهان النظام.
– — غير صحيح.
– هذا هو حال الشيوعين و الاسلاميين في ذلك الوقت اما يصمتوا او يحرقوا!
– ——— و كعادتها عقد لسانها و لم تنبس بكلمة.
اكملت نتف الشعر عن وجه الزبونة الملئ بالبثور و هي تفعل ذلك كما لو كانت الة, و هي تفكر انها لم تره منذ سنوات, ليس قابعا في سجن و انما مدثر برمال القبر او صير جسده الى اثير.
“شيوعي, اسلامي, قومي.. ليس مهم, لقد كره الظلم فحسب.. زج في السجن لمدة لا يعلمها الى الله ثم اختفى.. لاجل كلمة.. كلمة واحدة فقط..”
– هل اعدم شنقا.
– لا اعرف.
– هل استلمت جثته.
– لا..
– الارجح انه قد صهر بماء النار!
– ——-
– لا تعيشي في الماضي هذا هو حال الكثيرات… ارامل, زوجات شهداء.
الا ان وجه الزبونة الملئ بالتجاعيد العميقة حال دون ان تنتبه لحديثها السطحي, الكل محللين سياسيين, اعلم بمصلحة البلد, وطنيون, و اعتقاداتهم هي الاقرب للواقع.
ثم نامت.
******
كان هناك ضجيجا انتجه رفيف الاشجار و ازيز النحل.. كان مدويا حيث ايقظها من سباتها العميق. لقد استيقضت فزعة, فقد رات ان حلمها اكمل في الواقع. فحيث كانت صماء في الحلم, ترى الاشياء و لا تستطيع ان تسمعها. انبهرت في بادئ الامر بارتفاع الاشجار و شموخها, بليونة الطين تحت قدميها, و ريحا تداعب شعرها. و لكنها كانت طبيعة صامتة. لم تكن تسمع صراخها.. ضلت تصرخ و تستنجد و لا احد يسمعها..
و حين استيقضت سمعت اصوات حلمها الصامت.
كانت تلهث و هي تتسارع لفتح النافذة لتسمع الاصوات البعيدة. رات طفلا محدقا اليها, يطلب منها ان تبتاع منه بعض الحلوة.
“سأبتاع حلواك كلها!”
تفضلي يا خالة” رد بائع الحلوة بصوت مستبشر.
“بشرط ان تجلب لي ذلك الطائر الابيض”
“ولكنه على ارتفاع عال”
كان طلبها يبدو قاسيا بطرا. لقد كان يبدو كأنه طفل جائع, رث الثياب, اشعث و متسخ الوجنتين بسخام اسود. كان ينظر اليها بعينين معاتبتين و لكنها اصرت على موقفها. لقد كانت تعي بأنها اسيرة المكوث في الحجرة, و انه يدها الوحيدة للامساك بالطائر.
ثم صرخت بوجهه ناهرة اياه, فذهب مجبرا الى حيث يوجد طائر ابيض, بدى حائرا, يفكر بخطة ما للايقاع به. و كانت تنظر الى حيرته و تخبطه و لكنها لم تأبه للوسيلة ما دام ان الغاية ستكون بمنالها. تطايرت شظايا القسوة و الامل سويا من عينين متلهفتين لرؤية الاشياء عن قرب.
وقع الطفل مرآتا عدة قبل ان يغلغل اصابعه السمراء النحيلة بين ريشه الابيض و لكنها لم تابه. اخذت الطائر الجميل و تداخلت اناملها بريشه الدافئ.. لقد احتضنها بعناية.
“لم غبت عن حلمي الليلة الماضية”, تتحدث الى الطائر بعتاب خفيق, “لقد رأيتك كثيرا و لكنك حرمتني من صوتك”.
نظر اليها الولد بأستغراب ثم قالت له:
– لم يكن شيوعيا و لا اسلاميا.. وطنيا.
– من هو يا خاله.
– كان يحب الحياة الكريمة فحسب..
– ———- صمت الولد و جعل يسمعها باستغراب.
– كان يؤمن بحق الحياة, الحرية.. لقد قتلته الحرية. و لكن اتدري ما حصل؟
– ما حصل؟
– لقد اخذ حريتي, لقد شدني و قيدني و مات من اجل الحرية.
– ماذا فعل؟
– اخذ سلاحه, شهره بوجه من استولوا على بلده, صرخ فيهم, قاتلهم.
– قاتل من؟
– في عام 1991, ثار ضدهم, ضد نظام الحكم, كان يدافع عن كلمة, كان يريد ان يسكب دمه على ارض العراق كي تمتصهه الارض كما امتصت الكثير من الدماء.. شيوعي, اسلامي, قومي.. لا كان وطني.. امن بالحرية!
– اي حرية!
– ان تقول ما تريد, قال ما يريد و لكنه الفاني خرساء.
– —————————-
– ربما مات رميا بالرصاص او من التعذيب, بدائرة الامن العام حيث الجدران الحمر, و زنزانات مضلمة..
– ——— ——— ————-
– احلم دائما انه مات في السجن. لذلك انا اكره غرفتي, الا انه اسر حريتي فبقيت بها, ارادتي ضاعت مني!
ذهب الولد.
******
اطلقت الطائر الابيض الى المصير الذي يرتأيه, راته يبتعد بعيدا عن ناظرها. كان قلبها معلقا به يأبى ان يفارق احتضان اناملها, يعز عليه ان يفارق مداعباتها الرقيقة. تركها و اتجه نحو الافق, ضلت تحدق اليه الى ان اصبح نقطة سوداء صغيرة في سماء زرقاء نقسه و سحب بيضاء متفرقة. احبته و احبها فأتخذ كل منهما مسارا معاكسا, و كل منهما يرى بمخيلته درب الرجوع. لقد كان قرارا خاضعا لعاطفة جياشة مكبوتة بعيدا في المدى.
كان يحكي لها عن مشاعر تائه ممزوجة بالإخطاء. حين كان يثمل بخياله, منتشيا بذنوبه و عصيانه. يستلذ بالحسرات و يتمتم بكلمات حب عقيم.
لقد حكى لها عن رجل من عالم اخر. يبكي على وسادته كل ليلة من ليال الصيف, و يقهقه في ساعات النهار الاولى على نكت غبية. كان يستمتع بالاحاديث التي تمزج الجد بالهزل. لا احد يعلم بقصص غرامه العابرة و لا بلحظات ضعفه و هو يقلب منحنيات الانوثة و تفاصيلها. كان يثمل حين ينظر الى اقدام امراه و احيانا كان يرفض امراه و لو تعرت و القت بنفسها بين يديه. كان يحب و لا يحب يعشق و يكره, يصحى و يثمل بدقائق.
اما هي فقد كانت المراه التي عرفت لغة الطير, و فكت طلاسم مغامراته, و كشفت عن مشاعره الصدئة التي ارتدت لباس الوقار و الانسانية بعيدا عن التنمر و البطش و امراض العظمة
كان كل ذلك قبل ان ينبس بالكلمه.. الكلمة التي دقت عنقه. هيبته و وقاره و قوة تأثيره. لقد ذكرها الطائر الجميل بتشرين! حين بدأت اجواء الشتاء, و قبل مرور عام على زواجهما قرر الرحيل. لقد اتخذ قرارا ان يعيش بمبادئه التي سينحر لاجلها, لم يفكر انه سيلفي وراءه امراه خرساء, تهمس مع افكارها.
– ستذهب غدا اليس كذلك؟
– سيمضي الوقت سريعا, سأكتب لك.
– قلبي متألم.
– لما؟ هذه ليست المرة الاولى.
– اعرف و لكن! لست مرتاحة.
– لا عليك, تحدثي معي بافكارك و انا سأسمعك.
– اتعرف——– صمتت قليلا و بعد هنيهه قالت:
– سأدفن كتبك الليلة.
– لما؟
– لست مرتاحة, افكارك ستقتلك!
– لا تقلقي—– وهو يطفئ سيجارته في الارض.
– لما لا نبتعد, اخاف من تصميمك على مبادئك.. كتبك, افكارك.
– لن اتخلى عن افكاري, اريد ان اعيش لفكرة و اموت بسبب فكرة.
– من الممكن ان يداهمونا في اي وقت.
– ادري.
– ———
– و سأعذب و لن يفرج عني.
– تعلم ذلك!
– لكني اخاف عليك.
– عديني ان تبقي بخير.
– انت تعرف جيدا, سنعتقل جميعا: انا و امك و اخواتك.
– ——-
– لما جاهرت بأمتعاضك, لن اطلب منك ان تلقي سلاحك, اشهره في وجوههم و انا انتظرك لتعود.
اعتقل فجرا, و لم تره بعدها.
قوة الرجل الواحد.. كان النقاش الاخير.. ربما مات شنقا او لربما تبخر جسده. قبع في الزنزانة لاشهر لا يستطيع ان يقف بها منتصبا لاجل مبدأ. ربما صعق بكرسي كهربائي, او ربما اذيب جسده, فصعدت روحه.
او رميا بالرصاص.
—
نص رائع جدا… نتمنى المزيد من هذه الروائع.
شكرا لك. اعجبتني اشعارك, رائعة جدا.