اسلام عادل :
الرغبة توقظ الذكرى فيغدوان دافعا مستميتا لإعادة الكرة و ارتكاب حماقات اخرى. بين الرغبة و الذكرة ضاع قراره و تشتت انتباهه. ملك لمملكة اختلقها لنفسه لا يدخلها الا من استرضى عقله و انحنى لرأيه او من كان يستسلم له حين يطغى. في قصره المزين بأنفاس التبغ و عطوره التي تذكي الشهوات المكبوتة و تطفي الافكار المحرمة الى سطح الاحاسيس و النظرات.
هيبته تخضع كل من يدخل الى مملكته حتى حين لا ينبس بحرف و احيانا حينما يجفن عينيه او حين يزيد الشك من بريقها. اتكأ على كرسيه و بدأ يتأمل زخرفة السقف الذي احبته زوجته كثيرا. استمر بالنظر الى التفاصيل الدقيقة التي كانت تثرثر حين تصفها برقة. اللون الذهبي المتداخل كأشعة الشمس مع لون رمادي فيبدد الملل الذي يشعه و يرسم عليه لوحة من الاحساس. فيشتبكان و يمتزجان ليخرجا بذكرة اضنته.
بدى الضجر يسري في عروقه فقام بأشمئزاز يريد ان يبارح مملكته و يتنفس الصعداء خارجا. بدأ يحس ان لا جدوى من الالتصاق بكل ما يذكره بها. الا ان قرارات البدايات الجديدة ليست مما يجيد فعله فيتخبط لفترة طويلة من الزمن حتى يستقر على راي او يقاوم صراعاته الفكرية.
في تلك الليلة زاره احدى اصدقاءه القدامى و طلب منه ان يعيدا الايام الخوالي حينما كانا شابين. انه صديق وفي فقد مرا سوية بالكثير النوائب و الضروف العصيبة التي كانت من المفترض ان تبدد روابطهما و تذكر احدهما الاخر بما قاساه في تلك الايام الا ان وفاءهما اكبر من ذلك الاحساس. رجلان في الاربعين من العمر يرتشفان الشاي في باحة مملكته.. فللشاي طعم مختلف حين يصطحب بالذكريات.
– الى متى تنوي ان تضل هكذا وحيدا.
– انا لا انوي انه واقع الحال.
– لما انت متشبث برايك الى هذا الحد—-, بالمناسبة لدي شئ نتسامر به كما الايام الخوالي.. (اخرج قنينة خمر من حقيبة كانت بقربه).
– ما هذا؟ (ضحك بصوت عالي و ضل فاغرا فمه و ينظر اليه بغبطة).
– لما هكذا مستغرب؟
– أتحسبني ما زلت كما كنت؟
– لا اعرف و لكنك ابعد الناس عن التغيير.
– خسرت هذه الجولة…. ثم ضحك ضحكة ملأ صداها المكان.
و فجأ عم الهدوء ارجاء المكان حين اشخص “شريف” ناظره الى زجاجة الخمر و بدأ يتمعن بها و يتفحصها. فقد شرب العشرات من هذه الزجاجة في السنوات العشرين الماضية. كان يتباهى امام اصدقاءه حين يضفر بزجاجة خمر غالية. يستلذ بالأشياء التي لا يستطيع الكثيرون الولوج اليها فيستشعر بطغيانه و سيطرته على ما يقع تحت يده و ينتفذ بأوامره.
اما الان فلا يجرؤ على ان يشتهي الخمر فهو الان يحقق امنياتها بعدم الاقتراب مما كانت تنهيه عنه. فبعد سنين طوال استرجع ما كنت تصبو اليه. لقد امضت الكثير من الوقت محاولة اقناعه عن العدول عن الكثير من عاداته السيئة. و لكن بعد رحيلها, طفق ينفذ كل ما كانت تطمح اليه. فضل يتواجد كثيرا في البيت و يحب ان يقضي ساعات الصباح الاولى مدللا نفسه و بلا ضغوط الحياة. كانت تحب الصباح خاصة ايام الشتاء الا انها امضت الكثير منها وحيدة. فقبل عامين كانت وحيدة جدا حين امضت اخر صباح في حياتها.
****************
جمعتهما قصة حب غريبة بالاطار و بالتفاصيل ايضا. فيمثلان نقيضي بعضهما البعض. فأحب كل منهما اختلافات الاخر.. حتى قتلها تمرده و ذاب هو بخضوعها!
في الصباح الاخير, كانت تتقلب في الفراش.. مستلقية على جنبها.. تتموج خصلات شعرها البنية على وسادة الريش الكبيرة حيث يغطس راسها الصغير. حاجباها مقطبين حين كانت نائمة.. كان يبدو عليها الوجل و الحسرة. كانت تريد شيئا بقوة و كانت الظروف من حولها تمنعها من الحصول عليه. تغرس اضافرها البيضاء المطلية بالشرشف الكاشف عن ساقيها فينحسر عنهما كلما انقلبت على الجنب الاخر ليصرخ فراشها شاهدا على انوثة لا يقدر الا ان يحترق بها.
رنين الهاتف المزعج.. ايقضها بفزع.. استجمعت قواها و رفعت يدها المتدلية على حافة السرير لتتناول سماعة الهاتف.
– الو..
– صباح الخير.. امراتي.. كان صوته ملئ بالاشتياق.
– صباح الخير شريف.. هل انت قادم؟ لم اتوقع ذلك..
– انظري الى وجهك في المرآة الان؟ تبدين رائعة, اليس كذلك؟
– متى ستصل؟ متجاهلة طلبه للوقوف امام المرآة.
– تمعني بوجهك جيدا..
كانت السجادة الخشنة تعرقل حركة اقدامها و هي تتقدم نحو المرآة. فتلامسها بانزعاج.. تمعنت بوجهها لترى ما كان يخبرها اياه.. مازالت سماعة الهاتف تلامس اذنها.. هناك الكثير من الافكار و التعابير و الهواجس تمتزج ببشرتها البيضاء..” كل شيء على ما يرام”.
– هل رايتي ما اشعر به؟
– اجل انا مرتاحة اليوم, ربما لأني نمت مبكرا. (انزعجت ملامحها فجأة و بدت مستاءة) هناك شئ ما لا يعجبني.
– ما هو؟
– اذني.
– ما بها انها جميلة.
لا.. انها مجعدة.. (اخذت تلمس اذنها و تتمعن بتفاصيل الخطوط الرفيعة التي يبدو انها قد تكونت مؤخرا فهي لم تنتبه لها الا الان.. كانت تفكر كثيرا في الوقت الذي سترى به اذنيها ذابلتين متهدلتين لا يقدران على حمل انوثتها الفتاكة).
صرخت فجأ و فقدت سيطرتها على الهاتف حين سمعت بصوت انفجار مدو هز البناية بأكملها. كان صراخها عاليا مفزعا اكثر من الانفجار ذاته! هرعت الى النافذة لتجد سحابة من الدخان تهيمن على المدينه.. انها سيارة مفخخة بالتأكيد.. يبدو ان الضحايا بالعشرات فقد كان المكان يكتض بالمواطنين.. انهارت.. كانت خائفة و بحاجة اليه.. و لكنها نسيت الهاتف او ان هنالك هاتف لتتصل به..
– يبدو ان الوضع غير موطئن..
ذهبت لتتفقد المحيطين بها, ابو عدنان الرجل العجوز بجوارهم كان مصابا و هو يردد “الله لا ينطيهم”. الارض تمتص دماء ضحاياها بسهولة.. و السماء تبتلع الدخان بهدوء. يبدو ان الامور ستعود الى مجراها بساعات قليلة. حين ينتهي اثر الانفجار و يدفن الموتى ستنتهي المأساة و سينسى الجميع و يعاودون حياتهم الطبيعية بكل نشاط.
رائحة الاشلاء تفوح في المكان.. و صور الموتى تنتشر بأمكان الجميع مشاهدتها.. مجزرة بثوان.. زمجرة سيارات الاسعاف.. و الطوق الامني الذي فرضه رجال الشرطة..
العديد من المراسلين و كاميرات التصوير تلتقط الصور و هم يقولون ان اكثر من عشرين ضحية سقطوا هذا الصباح في وسط المدينة.. اصبح الضحايا مشاهير.. و دخلت السيارة المفخخة الى احضان التاريخ.. الناجون شهود عيان.. شرع المحققون يدلون بتصاريحهم.. قائد عمليات المدينة يشذب و المحللون السياسيون يستنكرون.. ياله من انفجار!
*******
في المكان ذاته.. كانت هناك نائبة اخرى بالانتظار.. فالمراسلون و الشرطة و شهود العيان يجب ان يقتلوا على فعلتهم.
لامست اذنها المجعدة مرة اخرى.. بدت مشمئزة.. “لم اتوقع ان يأتي هذا اليوم بهذه السرعة, سأصبح عجوزا لجوجة قريبا, ياللقرف!”
كانت تعيد ادراجها الى المنزل حين انفجرت العبوة اللذين تجمعوا ليتحدثوا عن الحادث الاول.. الفتها جثة هامدة على الارض .. من حسن حظها انها كانت متماسكة الأعضاء.. فقد قتلت بشظية و لم تصير الى بخار.. او تتناثر على جدران الابنية و السيارات القريبة.
لم تر شريف منذ شهر.. بأماكنه الان ان يجد ثيابه نظيفة في الدرج و كتبه مرتبة على المكتب.. ها.. لقد احتفظت له بالجرائد التي تصدر كل يوم.. عطره المفضل يعبئ اجواء المنزل..
وصل الى المدينة في ذلك الصباح ليغمض عينيها المنتظرة.. و يقبل شحمة اذنيها قبل ان تستيقظ تحت الثرى لتحاسب على حبها له.
لا يجد دافعا ليقاوم مغريات الحياة.. فأنس وحدته بكأس من الخمر.
—