مروى ذياب :
كانت الساعة الثانية عشر ظهرا حين أوصلني سائقي الخاص الأرتيري “آتي”، أو بالأحرى صديقي الذي لا أكف عن الحديث معه باللغة الفرنسية، إلى لؤلؤة الدوحة، لحضور غداء مع جمع من التونسيين في قطر.
هنا في اللؤلؤة أو القرية العائمة أو النسخة المصغرة عن البندقية الإيطالية أو قوس قزح الأحلام.. هنا حيث يمكنك أن تنسى الغداء الشهي وتنسى جوعك، وصخب المحيطين بك، وتتمعن في التأمل.
فرشت كراريس الحنين وبدأ فكري يترجل في زقاق البحر الذي تضرب أمواجه جوانب المطعم،
وظلت عيناي تجوب ملامح الموجودين فيه.
الجميع هنا يتناول أطراف الحديث عن الغربة بايجابياتها وسلبياتها، بفوائدها ومضارها.
كان بجانبي الأيسر رجل كهل، أكل الشيب رأسه وطغت التجاعيد على وجهه، رغم أنه يبدو في عقده الأربعين،
همس لي: “لم لا تأكلين بعض السمك؟
أم أن موضوع الغربة أكل عقلك؟”
وضحك ضحكة ساخرة.
فأجبت: “قلما أحسست أنني غريبة في هذا الوطن، كلما ما تغير هو رقعة الأرض والأشخاص، أنا هنا مغتربة عن أهلي ومسقط رأسي ولست غريبة”.
ابتسامة عريضة ..
قال: “ألا تشتاقين لتونس؟”
قلت: “أبكي فراقها كل ليلة، كل الأزقة وكل الوجوه وكل الشوارع وكل الشواطئ وحتى هواؤها أشتاقه، لكن من حظي أن كل هذه الابتسامات في هذا الوطن استقبلتني لتنسيني جزءا من الشوق”.
قال: “الفقر يا ابنتي في الوطن غربة
وانعدام الكرامة في الوطن غربة
والمذلة في الوطن غربة
والبطالة في الوطن غربة
والغنى في وطن غير وطننا غربة أيضا”..
يتنهد، ينظر إلى الأسفل بخيبة، وأصابعه متشابكة، يستدرك قائلا: “أظن أنك فهمتي ما أقول؟”
ابتسمت مرة أخرى، لم أحدث ساكنا، كل ما قاله أقنعني بأن أنسى التفكير في الغربة والاغتراب وأن أنسى هذا الغريب الذي بجانبي وغرابة ما قاله وآكل بعضا من السمك قبل أن ينتهي هذا الغداء الغريب”.
—