عنبر سعيد رواية عبد الكريم العامري

ما يلومك الناس عليه اعمل على تنميته
فذلك هو أنت
جان كوكتو

مات ، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث : عنبر سعيد . مات ولم يترك إلا أسمال ماضٍ في عنبرِ مستشفى الأمراض الصدرية وطبلةٍ تتدلى في زاويةِ سريرٍ مهملٍ تركَ الأطباءُ بصماتهم عليها . لم تكن ليلته الأخيرة هادئةً كما كان يظن، كانت ليلةً من السعال والدم. ولأنهُ ما كانَ يفكرُ بموتٍ قريبٍ كان يتركُ لضحكاتِهِ فسحةً للسخريةِ من الرقائقِ الشعاعيةِ التي كثرما تأملها أطباؤه وهم يرمقونهُ بنظراتِ عطفٍ . رغمَ الدم الذي ينثهُ سعالُهُ المتواصل إلا أن ذلك لم يشكل مصدرَ إزعاج له ولا خوف ؛ في كلِّ نوبةِ سعالٍ تمتلئ كفّاهُ دماً نتناً ممتزجاً بسائلٍ أصفرٍ سرعانَ ما يمسحهما بذيلِ دشداشته البيضاء . كل من في المستشفى كان يعرفُ أنَّ الرجلَ ما هو إلا زائر سوفَ يطوي سنواته ويرحل إلى حيث لا رجعة أبداً . في الليلةِ الأخيرةِ راحَ يُحدِّقُ في سقفِ الرّدهةِ وكانت خيوطٌ من ماضٍ لم يتركْه وحيداً تتراءى له مع كلِّ دورةٍ للمروحةِ السقفيةِ . لم يؤرقه شيءٌ قدر الصوت الذي تصدره الدورات المتلاحقة للمروحةِ . لم يدر في خلدهِ أنَّ عينيهِ لن تريا الشمسَ ثانيةً . حاولَ أن يستجمع قواه ويستلَّ من تحت المخدةِ ألبوم صورٍ هو كل ما بقي له . حاولَ مرّةً أخرى .. وأخرى .. وثالثة . هي المرّةُ الأولى التي لم يعد بها قادراً على تحقيق رغبة ما . كانَ ألبوم الصور في الليالي الماضيات أشبه بتيارٍ يسحبهُ إلى هوّةِ الماضي . يقلّبُ أوراقهُ ويحدّقُ بالصورِ المتشبثة بالأوراق ، يستلُّ واحدةً هي الأقرب إليه . يحدّق ثانيةً ، يطيل التحديق فتغور الملامح في لجّةِ دموعه . فيما مضى ما كانَ يبكي ولم يعرفْ طريقاً للبكاء فمن دلّهُ على طريقٍ ليس له فيها مسلك .؟ كان يقول دائماً : ( على الرجلِ أن يضع في صدرهِ حجراً وينسى قلبه ! ) . حتى قبل أن ينقله الرجل الذي حلَّ عليه ضيفاً في تلك الليلة الحارة كان يردد هذا الكلام .. قبل اشتداد نوبة السعال التي مزّقت قواه بأسبوع وصله خبر موت أقرب أصدقائه . رغم أنّ عنبر لا يهتم لمثل هكذا أخبار فقد صمت طويلاً قبل أن يتفوه بكلمة : ( كيف مات ؟! ) . كانت مسألة الحياة والموت محسومة لديه حسب فلسفته التي كوّنها من تجاربه المريرة وصراعه اليومي مع الحياة فمنذ إن غرق أبواه في الخليج خلال رحلتهما إلى الكويت في لنجٍ قديمٍ لم يُعْثرْ إلا على قطعٍ من خشبهِ قادها الموج حيث رأس البيشة وكأنّ القدر أراد أن يؤكد موتهما . قيل أن أحد البحارة قد نجا ، لكنه مات فيما بعد في مستشفى جزيرة فيلكا . بعد موتهما تكوّنت في رأس عنبر سعيد فكرة أنّ الموت لصيق بنا ، وإن رحنا أو أتينا فنحن ميتون لا محالة . بل أننا مخلوقون كي نموت ! لم تكن تشغله تفاصيل الموت ، فالموت وإن تعددت أسبابه واحد . مفردة واحدة : الموت ، وهي تعني الخلاص واللاعودة . في هذه المرة تغيّرت تركيبة عنبر سعيد ، فموت صديقه فتح أمامه الطريق لتساؤلات عديدة . هكذا وجد نفسه محشوراً بتفاصيل الموت ؛ كيف مات . متى . أين … ؟ أسئلة كثيرة بدأت تدور في رأسه ذاك لأنه يعرف جيداً أنّ صديقه كان أكثر تشبثاً منه بالحياة . فكيف يموت من لم يفكر بالموت لحظة واحدة ؟ وكيف يموت من لا وقت له للموت ؟! تصادمت الأفكار في رأس عنبر سعيد ، أفكار غريبة تكاد تفجّر ذلك الرأس الحليق . صار أكثر اهتماما بالموت . ولأن الموت مرحلة انتقال إلى الأبدية فلا بد أن تكون هناك بعض الترتيبات تخص المرء الذي يقبل إليه الموت . أن يعدُّ العدّةَ لرحلته تلك أو على الأقل أن يتهيأ للطريق الطويلة التي  يسلكها كما فعل جده من قبل حين أشترى قطعةَ أرضٍ له ولأحفاده الذين لم يولدوا بعد في مقبرة الغري ! كان فرحاً بالأرض / المقبرة وكأنه أشترى بيتاً في مدينة . أليست المقابر مدناً مثل تلك التي تجمعنا ؟ وكما في المدنِ تستطيع أن تحدد غنيّها من فقيرها من المنزل الذي يسكن فيه فهنا أيضاً تستطيع أن تحدد : هذا قبر لغنيّ وذاك لفقير ! حتى في المقابر ثمة فاصلة بين الاثنين. في الليلة تلك ؛ ليلة سماعه خبر موت صديقه بكى . بكى كثيراً في خلوته في أحدى غرف فندقٍ عتيق . بكى وكأنه يزيح غطاءاً ثقيلاً هدّ أنفاسه طيلة السنوات التي خلت . بكى . لم يره أحدٌ يبكي ، تاركاً نشيجاً حاداً في الغرفة المظلمة .مَنْ أخبره بموتِ صديقه قال عنه ( كان بطلاً )، سرد عليه قصصاً كثيرةً عن بطولةِ فتى أراد أن يصحح خطئاً فاغتيل . كـان عنبر أكثر دهشة لسماعه ذلك النبأ . قال : ( لا تهمني بطولته قدر اهتمامي بموته !) كل ما يعرفه عنه أنّ ذاك الصديق كان بسيطاً ، توّاقاً للحياة ، لا يفرّقُ بين الشيوعيّةِ والشيعيّةِ فكيفَ اتهموه بالسياسةِ ؟. إلتقاه عنبر بعد نزوحه من قريته البعيدة ، لقاءاً عابراً في الفندق . نزلا في غرفةٍ واحدةٍ . تحدّثا معاً عن شؤونٍ كثيرةٍ ولم يسمع أبداً منه كلمةً في السياسةِ . كما أنه لم يتذمّر من الشراب الذي يأتي بهِ عنبر إلى الغرفةِ . قال مرةً إلى عنبر :

– أنتَ تشربُ كثيراً .

ردّ عليه عنبر ضاحكاً :

– وأنتَ تصلّي كثيراً !

عالمانِ مختلفانِ تضمهما غرفةٌ ضيّقةٌ في فندقٍ بعيدٍ عن الأهلِ . تذكّر عنبر تلك الليالي الطويلة ، والأحاديث المتنوعة ، تذكّر كل ذلك في لحظةِ سماعه خبر موت الصديق . تذكّر تلك اللحظة التي غادره تاركاً ورقةً صغيرة تحت كأسٍ احتوى على بقايا من عرق البارحة : ( قدرنا أن نبحث عن الجديد ، ونتصدى للباطل ، لم أقل أنك باطلٌ ولكن .. أتمنى أن تتغيّر ) . قد تكون هذه الكلمات هي الوحيدة القاسية التي قالها الصديق بحق عنبر ، ابتسم مع كل حرف قرأه ، طواها ونقّعها في عرق الكأس . قال له الذي جاء بالخبر ، أن الفتى اقتيد مع خمسةٍ آخرين بعدما ألقي القبض عليهم في مسجد المدينة ومعهم حزمة من الأوراق قيل أنها منشور سري ( قالها هامساً ) وبعد يومين انتشر خبر إعدامهم رمياً بالرصاص في السجن المركزي . في اللحظة تلك لم يتمالك عنبر سعيد نفسه وراح يبكي .

بعد ذلك الخبر ، صار يحشر أنفه في كل حادث يؤدي إلى الموت . يتطلع إلى صفحة الوفيات في الصحف ، ويقف طويلاً متأملاً اللافتات السود كأنّه يتصفّح حياةً كاملةً لبشرٍ طووا صفحاتهم وغادروا . هكذا قادته عزلته في غرفةِ الفندقِ الضيّقةِ إلى استعادة شريط حياته : كم مات من الأهل أو الصحبة . كثيرون حتى أنّ رفاق صباه قد تساقطوا واحداً تلو الآخر . منهم من التقطته الكوليرا ومنهم من أكلته حروب الشمال وضاعت أشلاؤه في الوديانِ والجبال . وآخرون غيّبتهم السجون والمنافي . لم تبقَ إلا ذكرى عالقة في الرأسِ تزيده ألماً وتحسّراً وحرقة .

قبل اشتداد نوبة السعال ، كان يحثّ الخطى حيث حانة سلمان المنزوية في ركنٍ غير بعيدٍ عن فندقه . هناك يجد وقتاً لإزالة ما علق به من تعب يومٍ مليء بالتناقضات . يجلس على الكرسي الحديد ، يستلّ من جيبهِ كيس التتن . يلفُّ سيجارتين سرعان ما يشعل واحدةً لتملأ المكان بدخانٍ كثيفٍ . لم يتوان سلمان هذه المرة كما في المرات السابقة أن يسألهُ وهو يضع قدحاً فارغاً على المنضدة التي أمامه :

– عليك أن تعدّ نقودك قبل أن تطلب شيئاً .

نظر عنبر سعيد في وجه سلمان المحمرّ الذي غاص في غيمةِ دخان سيجارة اللف :- اطمئن . لن أهرب !

–  ولكنك فعلتها بالأمس .

–  نسيت !

–  ولم تنسَ شرابك .

مَدَّ عنبر يده في جيبه وتحسسَ القطع النقدية . قال :

–  لديَّ ما يكفي .

كان لدى سلمان ما يكفي من الأسباب كي يتحدث مع عنبر بتلك اللهجة الحادة خاصة بعد ليلةِ الرهان الكبير والتي انتهت ومعها هشيم عشرات القناني والزجاج . كانت خسارة فادحة لسلمان جعلته يغلق حانته ثلاثة أيام بلياليها . ويدفع عشرات الدنانير لترميمها . في تلك الليلة ، وبعدما انتهى عنبر سعيد من إفراغ نصف قنينة عرق في جوفه الفارغ التقاه حمزة سكراب ذاك الذي يدين له بصفعتين تلقاهما في ليلةٍ أفسدَ صفاءها المطر ، ولكي يرد حمزة سكراب الصفعتين إليه كان لطيفاً معه إذ طلبَ منه أن يتراهنا على الشراب . لم يكن سلمان يعرف ما يدور على الطاولة المنزوية في ركنٍ غير بعيدٍ عنه لكنه أحسّ أنّ هناكَ كارثةً ستحدث في هذا اللقاء المثير خاصة بعد أن تسربت أحداث تلك الليلة الممطرة في كل أنحاء المدينة . لم يترك عينه تغفل عنهما وازدادت شكوكه بعدما وجد الطاولة وقد غصّت بالقناني . كانت أول شكوك سلمان هو فيمن سيدفع الحساب وكلاهما مفلس ! حاول أن يقترب منهما ليعرف ما يدور بينهما من كلام . شربا بشراهة كأنهما قد عزما على إفراغ ما في الحانةِ من شرابٍ في جوفهما . سمع عنبر سعيد يومئ إلي حمزة سكراب بسخريةٍ قائلاً :

–  الغلبة لي .

– ستموت وألقي جيفتك في الشط .

–  ما عرف الموت طريقاً إلى عنبر سعيد !

– سأدله عليك .

–  لنرَ !

استمرت دورة الرهان وما على سلمان إلا أن يتدخّل لإيقاف المهزلة . هكذا سمّاها مع نفسه : المهزلة التي لن تبقي على شيء .

وقف سلمان في الجانب الذي يفصل بين الاثنين واضعاً يديه على حافة الطاولة وهمس بهما :

– كفى يا شباب .

دون أن ينظر إليه صاح حمزة سكراب زاجراً :

–  لا تتدخل فيما لا يعنيك .

ازداد سلمان امتعاضاً وسحب القدحين من أمامهما قائلاً :

–  هذا يكفي !

أمسك حمزة يد سلمان من رسغه بقوة مهدداً :

– لا أحد يمنعنا عن ذلك .

–  ومن سيدفع الحساب ؟ قالها سلمان بغضب .

فتح عنبر سعيد عينيه اللتين بدتا مثل جمرتين متقدتين وحرك لسانه بكلمات حاول مطّها بصعوبة :

– الرابح يدفع !

–  أشك في ذلك .

–  ابن الـ…… !!

صرخ حمزة سكراب به وهو يكنس ما على الطاولة من زجاجات فارغة لتتشظى على بلاطات الحانة. ازداد سلمان غضباً وطلب من  النادلين تنظيف المكان وتهدئة الزبائن، ثم .صاحَ سلمان بهما :

–   اخرجا هذين السافلين وارمياهما في الشارع .

اشتد اللغط ، واتسعت دائرةُ الشجار وأشبع النادلان حمزة سكراب ضرباً في اللحظة التي كان فيها عنبر سعيد يغطُّ في نومٍ عميقٍ تحت الطاولة .

*         *
بعد تلك الحادثة ، لم يتوان سلمان من مساءلة عنبر سعيد عن كل شيء ، حتى أنه صار يخصص مكاناً له في الحانةِ ليكون قريباً منه وتحت رقابته . أما حمزة سكراب فقد منع من دخول الحانة أو حتى المرور قربها . حيث تشفّع نوم عنبر سعيد تلك الليلة تحت الطاولة من أن يُمنع هو الآخر من الدخول ورغم التصرف الأحمق لكليهما إلا أن سلمان يشعر أن خيطَ ودٍّ يشدّه إلى عنبر . لا يعرف كيف ، إلا أن إحساساً ما ينتابه كلما أقترب منه ولم تغيّر حادثة ليلة الرهان من هذا الشعور ، ربما لأن سلمان يعرف عنبر جيداً ، يعرف أن لا حول له ولا قوة تجاه ما يحصل . فكثير من المشاكل تحصل له دون إرادة منه . وسلمان هذا يعرف أن عنبر سعيد كثرما وجد نفسه متورطاً في مشاكل لا يد له فيها ! لقد كان سلمان محقاً في إعطاء عنبر هذه الأهمية ذلك كي يبعده قدر المستطاع عن أصدقاء السوء . وما أكثرهم في هذه المدينة ، حتى أنه حاول ولمرات عديدة أن يمنع أحداً من الجلوس مع عنبر سعيد . وفي المقابل كان عنبر قلقاً من تصرفات سلمان تلك لكنه لم يصرح بذلك خشية أن يمنعه من دخول الحانة .عندما مدَّ عنبر سعيد يده في جيبه وعبثت أصابعه فيما بداخله من قطعٍ نقديةٍ معدنيّةٍ أصدرت صوتاً بثَّ الأرتياح في نفس سلمان ، فبعد ليلةِ الرّهانِ لا بد من تعويضِ ما خسرهُ . لم يقلْ سلمان كلمةً واكتفى بالإيعاز إلى النادل لتقديم كلّ الخدماتِ إلى عنبر سعيد لكنهُ ظلَّ يراقبهُ عن كثب . لم يكن عنبر سعيد مرتاحاً للعزلةِ التي فرضها سلمان عليه فقد تعوّد أن يجلسَ حيثما يكون له ندماء لينفض عنهُ غبار يوم من التعب قضاه بدفع عربة الخشب ذات العجلات الحديدية بعدما نفق حماره في ليلةٍ باردةٍ . كان وقع الصدمة عليه كبيراً وهو يحاول رفع رأس الحمار محدقاً في العينين الخاملتين اللتين بدتا وكأنهما تودعانه بعد سنوات قضياها معاً يجوبان الأزقةِ والطرقات مثل صديقين حميمين . في تلك الليلة عادَ عنبر سعيد إلى الخربةِ التي ينام فيها مع حماره ، لم يمنع الريح الباردة من أن تلسع وجهه رغم أنه لفّ رأسه بكوفية وسخة . ما كان ثملاً إلى الحد الذي لم يرَ حماره المنزوي في الركن المظلم من الخربة إلا أنه كان متأكداً من أنّ الحمار يغط في نومٍ عميقٍ . أخرج لفافة التبغ من جيبه وبحث في صندوق الخردة عن علبةِ كبريت ، بدا المكان مثل قبرٍ مظلمٍ بارد وهو يبعثر بأصابعه محتويات الصندوق . أحسّ بمرارة التبغِ تتسرب عبر شفتيه اللتين أطبقتا على اللفافة، إلى فمه ولسانه في اللحظةِ التي عثر فيها على علبةِ الكبريت . لقد كان البحث ملازماً لحياته وعلى الأقل في سنواته الأخيرة : ( لن تجيء الأشياء دون بحث ) هكذا كان يبرر بحثه الدائم عن لقمةِ عيشٍ أو سكن . فما بينَ فندقٍ ومقهى وخربة توزعت حياته ، لا شيء جديداً البتة . كان يدفع أيامه مثلما يدفع عربته . كل دورة للعجلة تتطلب جهداً يأكل منه الكثير . وبينما تتقدم به الأيام تتراجع قوته . لم يفكّر في شيءٍ قدر ما فكّر في اليوم الذي لم تعد ساقاه تحملانه ، سيكون ذلك اليوم مخيفاً .قبل أقل من ربع ساعة ، كان عليه أن يتفقّد حماره قبل أن يسلم جسده إلى النوم . ليس من الصعوبةِ عليه أن يحدد مكانه ، فقد صار جزءاً من الخربة المظلمة وهو على يقين أن ظلمة النفوس أشدّ وأقسى من ظلمة المكان . بخطى وئيدةٍ راحَ يدسُّ جسدهُ في الزاويةِ اليمنى من الخربةِ ، حيث مأوى الحمار . قبل ذاك كان يصطحبُ الحمار معه إلى الحانةِ ، يوقفه في الرصيف المقابل بعدما يربط حبله في عمود الكهرباء . ولكن سلمان لم يرض فعله ذاك وكثرما وبّخهُ بحجةِ أن منظر الحمار أمام الحانةِ أشبه بنعلٍ في مزهريةِ ورد ! وأكثر من ذلك كان رواد الحانة يتهامسون فيما بينهم حين لم يجدوا أحداً يجالسه أن يأتي بالحمار ليكون نديماً له . وهو يعرف أنّ للحمارِ عقلاً قد يحتوي عقول أولئك المتهامسين جميعاً ! لم يعر لكل ما يقال اهتماما إلا أنه أحسّ بالشفقةِ عليه إذ يقضي ساعاته مرتاحاً بينما الحمار يقف منتصباً في الشارعِ . لهذا : قرر أن يترك الحمار في الخربةِ ، في الأيام الأولى كان يتركه عصراً ، لكنهُ ذات يوم لمح عبر زجاج الحانة ، في الشارعِ ، صبيين يمتطيانه ، كانَ الحمارُ أليفاً معهما إلى حد أنه كان يسير حيثما يشاءان ، بعد ذلك صار يودعه المكان بعد مغيب الشمس حيث لا يجرؤ صبيٌّ في الدخولِ إلى الخربةِ. اقترب من الحمار ، أشعل عود ثقاب ، لا يدري من أين جاء له هذا التوجس في أن الحمار قد ينفق في يوم ما ربما بعد إن تحدث مع سلمان عنه وعن قوته ووفائه وإخلاصه وكيف تحمّله كل تلك السنوات حتى غديا صديقين حميمين ، كان سلمان يحذره من ذلك الإعجاب المفرط بالحمار فقد قال له ذات يوم ( لتكن عينك باردة عليه ! ) وفي يوم آخر قال سلمان له بعدما سمعه يتحدث عن تلك القوة التي سحبت طنّاً من الطحين : ( لا يحسد المال إلا صاحبه ) .. وفي هذه الليلة بالذات تصرف خلاف ما كان يتصرف في باقي الأيام ، لم يكتفِ بالنظر إليه إنما راح يوقظه ، مرة وأخرى ، لا حركة في كومة اللحم التي أمامه . رفع رأسه عن الأرض فبدا ثقيلاً ، وفي تلك اللحظة شعر أنه يفقد العالم ؛ العالم كلّه ، والى الأبد.

في ليلتها ، ليلة موت الحمار ، غادر عنبر سعيد الخربة دون أن يراه أحد من في المدينة وأتّخذ مكاناً له في غرفةٍ لفندقٍ قديم تاركاً حماره هناك ، في الخربة ، لم يقترب أحدٌ بعد ذلك اليوم من الخربة فقد ظنَّ مَنْ لمْ يرَ عنبر طيلة تلك الأيام أنّهُ فطسّ لما أنبعث من داخل الخربة من رائحةٍ نتنةٍ فالجميع يقول أنها رائحته !! قال أحدهم :

–  كم نبّهته أن لا ينام في الخربةِ فقد رأيت بأم عيني عقرباً وثعباناً .

وقال آخر :

–   ساعةٌ واحدةٌ في الخربةِ كافية لأن توصلك إلى الآخرة .

وما زاد في مخيلة الناس أنهم راحوا يؤلفون حكاياتٍ غريبة.. غرابة الرائحة التي اكتظ بها المكان . منهم من قال وهو يقسم في صدق ما رآه ، أنه شاهدَ شبحاً بملابس رثة يخترق جدار الخربة دون أن يترك أثراً في الجدار . أما النسوة فقد بخّرنَ بيوتهنَّ بالحرمل لطرد الروح التي لا يعلمنَ متى تندسُّ تحتَ ثيابهنَّ . ولما كان الشيخ مقطوف عارفاً بخفايا الجنِّ والأرواح المعذّبة التي لم تغادر أمكنتها حتى تنال من معذّبها ( كما أشيع عنه ) فقد كان واثقاً أنّ روح عنبر سعيد ستطارد كل من كان مصدراً لعذابه في حياته .. ولكن ، مَنْ ذا يستطيع أن يقنع الناس فيما توصل إليه الشيخ مقطوف ؛ أو بالأصح ما خيّل إلى الشيخ وهو يقلّب قطعةَ شبٍّ في النارِ التي حوّلت قطع الحرمل الى غيمةِ دخانٍ أمتلئ بها المكان . أخذت النارُ تنفخُ بدنَ الشبِّ وأنصهر جزؤه السفلي الملاصق للصفيح وبدأ يغلي بينما أمتدَّ الجزء الآخر طولياً مشكّلاً كائناً ذا نتوءات متعددة ما أن رآها الشيخ حتى جحظت عيناه وأرتعدَ خوفاً ورتّلَ كلماتٍ وتعاويذ مع كلِّ حفنةٍ من الحرملِ الذي راحَ يلتقطه بأصابعه ويلقيه حول الكائن الذي صارَ أكثر وضوحاً .بملقط الحديد ، التقط الشيخ مقطوف الكائن الذي ما زالت الأبخرةُ تخرجُ من ثقوبه المتعددة ، مقترباً من حزمةِ الضوء تتسرب من شقٍّ في خشبة الشباك المطلّ على الشارع . تأمل الكائن جيداً ، تفحّصه كمن يتفحّص شيئاً غريباً وكلّما قلبه إلى جهةٍ كان يبدو غير ما بدا عليه في الجهة الأخرى إلى أن استقرّت مخيّلته إلى شكلٍ له علاقة بمسار حياة عنبر سعيد . الشكل الذي رسمته مخيلة الشيخ مقطوف هو هيأة حمار لم تغيّر انتفاخة بطنه من الصورة التي أصبحت في حكم اليقين في مخيلته ، ولا الأذن الواحدة تلك أو الثقبان المتجاوران في مؤخرةِ الكائن . ما كان يهمه هو الخيط الذي يربط ما بين عنبر سعيد والمكان ، ولا خيط أفضل من هذا الذي تراءى أمامه ، الحمار الخرافي ذو الأذن الواحدة . صحيح أنّ حمارَ عنبر لم يكن كذلك إلا أنّهُ كان حماراً وهذا ما جعل الشيخ مقطوف أكثر يقيناً في أنّ رائحة الموت تلك ما هي إلا نذير شؤم ، وناقوس خطر . لهذا علّق كائن الشبِّ في واجهةِ باب الحوشِ تشدّه تعويذةٌ غلّفها بقماشةٍ زرقاء لتستقر إلى جنب الخضرمة ذات السبع عيون مقنعاً نفسه أنَّ لا عنبر سعيد ولا حماره سيقتربان من بيته . كان فعل شيخ مقطوف هذا تبرره حادثةٌ لم تغادر ذاكرته أبداً ، ففي يومٍ ممطرٍ امتنع عنبر سعيد عن حمل حاجيات الشيخ من السوق إلى داره مما جعل الشيخ أن يصفهُ بالفاسق ويمطره بوابل من المواعظ والأحاديث التي لم يفهم منها عنبر سعيد كلمةً لكنّهُ ردَّ عليه ببرود :

–  لستُ فاسقاً ولم أرتدِ قناعاً ، أعرفكَ مثلما أعرفُ نفسي جيداً ويعرفني الجميع ، لم أفرّقْ بين أثنين تحابّا من أجلِ مالٍ ملوّثٍ بالشعوذةِ . من العار أن يتهم المرء الآخرين دون أن يرى نفسه !لم يتلقَ شيخ مقطوف صفعةً في حياته مثل تلك التي تلقاها من عنبر سعيد وسط جمهرةٍ من الناسِ ، هي المرة الأولى التي يتجرأ أحدٌ عليه فيها ليجعلهُ حديثاً على كلِّ لسانٍ ، وما زاد عنبر امتعاضاَ تلك المرأة التي صاحت به أنْ يتّقي الله ويتجنّب الرجل الصالح كي لا تحلّ لعنةٌ على المدينـةِ بأسـرها ! فبـركات شيخ مقطوف معروفة وهو ( يعطي باليد ). لقد وجدَ الشيخ في المرأة التي صبّت جام غضبها وأفرغت ما في داخلها فرصةً للحطِّ من قدرِ عنبر سعيد وهو الذي لا يستطيع أن يحقّرهُ لمهنتهِ لا تمسّكاً بتعاليم الدين وأنّما خشيةً من أن يحصل ما لا يحمد عقباه . وربما هناك سبب آخر خفي ودفين تلقّفهُ الشيخ من كلام عنبر وهو يقول ( أعرفــك ) .. و( أعرفك ) هذه قد تجرّه إلى زوايا خبيئة وأسرار لم يطّلع عليها أحدٌ وهو ما جعل شيخ مقطوف أن يصمت مكتفياً بدفاع المرأة عنه ! لكنّ الذي دار في خلد عنبر سعيد أنّ شيخ مقطوف هو الذي بدأ وعليه تحمّل جريرة إساءته ولا مناص من كشف المستور الذي حمله في صدره طيلة سنوات مضت . صحيح سوف لن يجد مَنْ يصدّقهُ لكنّهُ قد ينجح في زرع بذور الشكِّ في نفوس الناس وهي محاولة سوف لن يخسر فيها أبداً ولولا وصول سلمان في اللحظةِ الحرجة لكان عنبر قد أطلق قنبلته التي لن يعرف مدى تأثيرها . قال سلمان للشيخ مقطوف :

– امسحها بي يا شيخ . أنا سأحمل حملك .

استغرب الجميع من تصرّف سلمان وهو المعروف بعدم مخالطته للناس وانزوائه في حانته التي تشكّل عبئاً ثقيلاً عليهم .

صاحت المرأة التي توقف لسانها عن الاستغفار وهمّت بحمل حاجيات الشيخ :

–   أنا أحملها له على رأسي ، وأحمل الشيخ أيضاً !

نبَّ عنبر سعيد مبعداً المرأة عن حاجيات الشيخ وقد تحوّلت عباءتها إلى قطعة ماء قائلاً :

–  لستُ عاقاً للمدينة التي آوتني ولا لأهلها .. سأوصله أنا

سبب قرار عنبر سعيد المفاجئ هذا ارتياحاً للجميع وإحراجاً لشيخ مقطوف . أكمل عنبر كلامه مشيراً إلى المرأة –  وأنتِ معنا !

حملَ عنبر سعيد الاثنين معه ، وتفرّق الجمع وانزووا في محالهم بينما بقي سلمان متسمراً في مكانه حاملاً مظلته راصداً حركة العربة التي أخذت تبتعد بهم رويدا..ً رويداً وتنزوي تحت خيوط المطر الذي غسل المدينة .
في العربةِ ، كانت المرأةُ تجلسُ قبالة عنبر سعيد ، على الخشبِ المبتلّ بماء المطر حيث يجلس الشيخ ، لصقه ، وقد قرّبتهما الاهتزازات المتتالية للعربة حتى التصقت عباءتيهما وتوحدتا . لم يهتم بأمرهما عنبر قدر اهتمامه بحماره الذي غطست قوائمه في برك الماء . لم يتكلّم أحدٌ طوال المسافة الفاصلة ما بين السوق ومنزل شيخ مقطوف في أطراف المدينة لكنّ هناك نظرات يتبادلها بين حين وآخر عنبر سعيد مع الشيخ . أما المرأة فقد اكتفت بالتشبّث في خشب العربة خشية أن تنزلق . عالمان مختلفان كلاهما تهزه العربة ويغسله المطر .
نظرات توحي بان هناك الكثير.. الكثير ، وانهما لم يزيحا شيئاً مما يقبض النفس وأنّ في الصدرِ ما يجعل تلكما النظرتين حادتين مثل نصل سيف .. لم تكن المرأة تعرف ما يدور بخلد الكائنين القريبين منها ولم يعرفا هما بِمَ تفكّرُ هيَ في هذه اللحظة . ثمةَ خجلٌ واضحٌ في الوجه الذي كوته الشمس وحمل عبء سنوات مريرة . خجلٌ من النوع الذي لا يستطيع المرء أن يخفيه أو أن يتجنّبه . حاولت يائسةً أن تخفيه خلفَ عباءةِ الماء . أشاحت غير ذات مرة بوجهها عن عنبر سعيد الذي راحَ يشدُّ على الحبل المبتلّ موحياً إلى حماره أن يسرع الخطى . العربةُ تغطسُ بين حين وآخر في برك الماء جاعلةً جسدي شيخ مقطوف والمرأة يطيران ويهبطان على الخشب البارد المبتلّ ثم يلتصقان أكثر وأكثر .. كانت العربةُ قد اتخذت مساراً أخرا ما بين البيوت المعبّأة برائحة الطين وأعين الصغار النافذة من شبابيك الجينكو محدّقة بالمرازيب وهي تلفظ ماءها الخابط في خطٍّ منحنٍ تاركةً خيط الماء يأكل الأرض راسماً دوائر هي مزيج من الوحلِ والزّبدِ .اجتازت العربةُ دربونةً ضيّقةً بعجلاتها التي تهصر الطين تاركةً خطّينِ متعرجينِ في الأرضِ سرعان ما امتلئا بالماء وتساويا مع عتبات البيوت الواطئة . بدت الغيوم الماطرة مثل غطاءٍ داكنٍ وسميك جعل النهارُ يغطُّ في سباتٍ امتد طيلة الساعات الماضية .. قريباً من مسجد المدينة أوقفَ عنبر سعيد عربته موجهاً كلامه إلى المرأةِ :

–  لو كانت العربة قادرة على الدخولِ إلى داخل الزقاق لفعلت !

دُهِشَتِ المرأةُ وتمتمت بكلماتٍ خرجت من فمها :

– الله يطوّل عمرك !

لا تدري كيف خرجت تلك الكلمات وهي قبل أقل من نصفِ ساعةٍ كانت تلسعه بسياط لسانها غير مكترثة بالناس الذين تجمعوا حولهم . لم تكن تعرف أنّ عنبر سعيد يعرفها إلا في اللحظةِ التي أشار فيها إلى الزقاق الذي تسكن فيه وهو ما زاد من دهشتها .. ربما خرجت تلك الكلمات منها بتأثير الدهشة ، إذن ، عنبر يعرفها ، وأكيد يعرفها جيداً .. كما يعرف شيخ مقطوف . ساورها شكٌّ لم يمكّنها من الإفلات . هذا يعني أنّ عنبر كان باستطاعته أن يفضح أمراً لم يعرفه أحدٌ ، ومن أجل ذلك أصطحبهما معاً في عربته ولم يصطحب أحداً غيرهما .. ولكن ، ما الذي يعرفه عنبر عنها ؟ هناك أمور كثيرة مخبوءة في الصدور ، وفي صدر عنبر الكثير منها ، لكنّهُ تمسّكَ بها ولم يعلن . آهٍ لو كان يعرفُ ما يقلقني ، وما أثار دهشتي . عنبر هذا صندوقٌ غريب . يعرف المدينة كلّها ، يعرفُ ما يدورُ في النهارِ وفي جنح الظلام أيضاً . وقد يعرف أسرار البيوت . ما كانَ عليّ أن أتدخّلَ في أمرٍ لا يعنيني ، ولا يخصّني ، وقد يفضح أمري ! .. لكنني تدخّلت دونَ إرادة مني عندما رأيت شيخ مقطوف مغسولاً بالمطر . تدخّلت كي أخرجهُ من قبضةِ عنبر سعيد ، لكنني لم أكن أعلم أني أضع نفسي في فخِّ ذلك الكائن . ما الذي دفعني لإخراج صوتي من قمقمه وسط السوق ، صحيح أنا لا أعرف عنبر سعيد جيداً ، أراه كل صباح في السوق ، وفي العصر أيضاً ، مع حماره  وعربتـه الوسخة ، لم أتحـدّث معـه قط . لا .. بل تحدّثت معه مـرّةً واحـدةً ، في يـومٍ ممطرٍ كهذا ، كنت حينها خارجة من ……… ، آهٍ ، أكان عليّ أن أسترجع كلَّ شيءٍ في لحظةٍ واحدةٍ ، لحظةٍ وضعني فيها عنبر سعيد أمام نفسي ؟ . أعرف أنهُ لم يتصرف مثل هكذا تصرف لخاطر شيخ مقطوف ولا شعوراً منه بالذنب ولا حتى خشية أن تصيبه اللعنة كما ثرثرت أنا في السوق . أنّ عنبر هذا لا يخشى أن يحدث كل ذلك ، بل يعرف أنّ ذلك لن يحدث أبداً لأنه ربما عرف الشيخ من ذلك اليوم الذي تحدّث فيه هو معي ، يوم المطر ، الذي يشبه يومي هذا ، وقفت معه هنيهةً ، اذكر ذلك .. رأيت وجهه مغسولاً بالماءِ ، كما هو الآن ، يلمع ، لم تكن العربة معه ، ولا الحمار .. الشارعُ خالٍ ، لكنه كان هناك ، على مبعدة خطوات من بيت شيخ مقطوف .. ها .. هل قلت شيخ مقطوف ؟! .. إيّاكِ أن يفلت لسانكِ .. لكنّهُ يعرف ، وقد يعرف الكثير ، فتلكما العينان قادرتان على نبشِ ما في الصدور ! .أراه الآن ، يرمقنـي بنبال نظراته ، رأيتها من خلف ستـارة المطر ، لا أدري مـا الـذي يدور بخلده الآن ، لا أدري ، لكنّـه بالتأكيد كان يستعيد ما لديه من معرفة بأمرٍ يقلقني .. لم أدع عينيّ تصطدمان بعينيه ، أنا لم أتحمّل نظراته ، ففي عينيه عالمٌ ما لم أألفه من قبل . لم أعطه فرصةً أن يكتشفَ ما يدور بداخلي لكنني دون شعورٍ مني كنت ألتصقُ أكثر وأكثر بجسدِ شيخ مقطوف ، وربما تشبّثت يداي به ، لا أدري ، فنظرات عنبر سعيد التي استشعرُ بها وهي تلسعني قد تقودني إلى البوح بما لا أريد .. لقد أنستني كلّ شيء ، لم أرَ عينين مفترستين كهاتين أبداً . خطرت في ذهني فكرة سخيفة ، ماذا لو لم يكن الشيخ موجوداً بيننا ، لكنت فريسةً سهلةً له ، يمسكني بيديه المشعرتين ، يمطلني في سطح العربة ، يعرّيني تحت ستارة المطر ، ويترك أصابعه تعبثُ فيَّ كيفما شاءت .. يغوصُ في جسدي المبتلّ ، يقلّبني يميناً وشمالاً ، داسّاً رأسه في صدري يقضم ما طاب له من رمانتيَّ ، صدره يكتم أنفاسي ورائحته النتنة تزكم أنفي . لا داعي للصراخ في شارعٍ خالٍ وجسد ملتهب يموء كقطةٍ وحيدة .عندما أشار عنبر سعيد حيث الزقاق اكتشفت أن كل ذلك لم يحدث ، لكنني رمقت اليدين المشعرتين اللتين كانتا تفترسان ما تحت ثيابي . عليّ أن أترجّلَ من العربةِ وأسرع الخطو باتجاه البيت لكن علو العربة جعلني أتأنّى قليلاً وهو ما دعا عنبر إلى أن يترجل قبلي مادّاً يديه المشعرتين نحوي ، ترددتُ قليلاً ثم استجبت له . منحته يديّ ، أحسست بالجمر يتسرّب من خلال أناملي وشعرتُ بارتعاش تلك اليدين القويتين كأنهما تلتهمان بقايا أنوثتي . كان شيخ مقطوف يراقب حركتينا دونَ أن ينطق كلمة . لا أعرف سبباً يجعله مستسلماً هكذا ، لهذا الكائن الذي استطاع أن يمدَّ منخريه بيننا ليشمّ ما أخفيناه في صدرينا . ساعدَ المكان الزلق عنبراً إلى أن يمدّ يده نحوي أكثر وأكثر .. حتى أنّهُ شدّني من إبطي بقوة تاركاً العباءة تخطُّ في الطينِ . لم تكن لحظةً تلك التي شدّني فيها عنبر إلى جسده وهو يرفعني من العربةِ حيث الأرض ، كان زماناً لذيذاً ، فقد أحسست بإبهامه وهو يدغدغ إبطي ، منعتني الدهشةُ من أن أضحك ، من أين أتتني القوة كي لا أضحك وأنا التي لم تتحمل إصبعاً ينغزني دون أن أصرخ ضاحكةً . في حمام النساء ، كنَّ يضحكن ويتندرنَ وهنَّ يمسكنني قارصات خاصرتي وعجيزتي ، كنت أصرخ رافسةً بقدميّ الأجساد الطريّة التي كانت تنزلق على البلاطات الصفر لأرضيةِ الحمّام وتختفي خلفَ غيومِ البخار . كنَّ يثرثرنَ بأحاديث لا حجاب عليها ، يفشينَ أسرارهنَّ وأحلامهنَّ بكلِّ ما تحتويه من أفعالٍ ومداعبات الفراش . إحداهنَّ اشتكت لي وحدتها ووحشة ليلها ، وأخرى أقسمت أنها في ليلةِ زفافها باتت تحت السرير ، وثالثة تحدّثت بخدرٍ عن متعةٍ لم تشبعها بعد . أما أنا فقد كنت أنصت لأحاديثهنَّ وكأنهنَّ يتحدثنَ عن عالمٍ بعيد ، ليس هذا الذي أعيش فيه ، عالم لا وجود له . وحين يستشعرنَ بصمتي تنبُّ واحدةٌ منهنَّ قائلةً :

– خطيّة … ما شايفة دنيا ! .

( الدنيا ) التي يتحدثنَ عنها أمامي غريبة عني تماماً . لا أعرف ما يقصدنَ بـ (الدنيا) غير أنّ أحاديثهنَّ عن متعٍ لم تأتني بعد جعلتني أبحث عن رأس الخيط الذي يوصلني لتلك ( الدنيا ) .. ربما دغدغة إبهام عنبر سعيد تحت إبطي هي ( الدنيا ) التي تحدثنَ عنها ، لقد استشعرت بتنمّلٍ غريبٍ اعترى جسدي ، كان لإبهامه فعلاً سحريّاً لم أرَ مثله في كلّ الأصابع التي مُدَّت إليّ في حمام النساء .لم يتركني عنبر سعيد حتى بعد إن وضعت قدميّ على الأرضِ كأنهُ يريد أن يُري شيخ مقطوف أمراً .. ربما في فعله هذا أراد أن تخرج كلمةٌ من فمِ شيخ مقطوف لينتهزها فرصةً للانقضاض عليه . هذا ما دار في رأسي وقد يكون الأمر أبعد مما تصوّرت . وغير هذا فهو ما زالَ متشبّثاً بي وسط زخّات المطر الذي لم ينقطع . انتزعت جسدي من قبضته ومددتُ يدي حيث العباءة التي صارت قطعةَ طينٍ في اللحظة التي مسح فيها شيخ مقطوف وجهه من قطرات المطر الذي راحَ ينساب عبر تجاعيده . تركتُ عنبر سعيد وشيخ مقطوف والحمار لكنني لم أستطع الإفلات بعد من دغدغة إبهام عنبر سعيد تلك التي كتمت أنفاسي وألجمت لساني وبقيت معي أياماً وليالي . رغم هول اللحظةِ التي كنت فيها ، والمطر ، ونظرات شيخ مقطوف وهو يرى عنبر سعيد يظمّ بيديه المشعرتين القويتين جسدي الغض ، رغم ذلك كلّه إلا أنَّ إبهامه ما زالت تدغدغني ، وتملأ أوقاتي زهواً كلما تذكرت .… وحينَ خرجت تلك الرائحة النتنة ، رائحة الموت ، من خربة عنبر سعيد ، كنت كما الآخرين أفكّر به ، وأتخيّل تلك الإبهام وقد غابت عنها الروح وغدت يابسةً ، ينتفها الدود. ندمت لأنني سلّطتُ عليه لساني في ذاك اليوم الممطر ، وخفت كثيراً حين سمعت أنّ روح عنبر ستؤذي كل من سبب له متاعب في حياته . لكنني لم أسبب له ما يجعله يؤذيني ، بالعكس ، فقد منحته لحظةً لم تعطها له أية واحدة في المدينة . تركتهُ يفعل ما يشاء وهو يحملني من العربة إلى الأرض ، تركت إبهامه تتمرّغ بحرّيةٍ في مساحة إبطي ولا أشك أنه لم يشعر بما شعرت فيه أنا !  وهذا كافٍ لأن يبعد السوء عني . لهذا لم أضع في باب حوشنا ما وضعه شيخ مقطوف في بابه . أو ما وضعته النسوة وهنَّ يرتلنَ تعاويذ تبعد عنهنَّ الروح المعذّبة الهائمة التي تجوب المدينة العتيقة .لم أزر شيخ مقطوف بعد ذلك إلا مرّةً واحدةً ، لم يكن فيها الشيخ مهتمّاً بي كما في المرات السابقة ، جلبت له النُّذُرَ ؛ صينيّة بشمعتين يتوسطها صحن مليء بالحلوى ، فالشيخ يحبُّ الحلوى مثلما يُحِبُّ النسوة الطريّات ! هذا ما سمعتهُ في حمّامِ النساءِ ، وتأكدتُ منهُ في أول زيارة لي له . كانت عيناهُ تقدحان شرراً وتتوثبان كأنهما عينا ذئب جائع . شكوت له آلام ظهري وكوابيس الليل ، لـم يقل كلمةً ، أشار إليَّ أن أتمددَ في الفراش القطني المركون في زاوية الغرفة المعتمة . استجبت له وتمددت بعد أن وضعت العباءة فوق جسدي . أشعلَ بخوراً ملأت رائحته الغرفة . جلسَ قريباً مني رافعاً طرف عباءتي تاركاً يديه تتلمسان جسدي بعدما رفع بتأنٍ ثوبي . يدان باردتان ، ناعمتان ، راحَ ينقر بسبابته بطني ، نقرةً .. نقرتين ، ثلاث .. كان صوت النقر يُسمع مثل طبل قديم . حدّقت في وجهه ، كانَ يلحس بلسانه شفتيه ، مسّد بطني أعلى وأسفل .. في خطٍّ مستقيمٍ يمرّ عبرَ نهديَّ ويدنو من جنوب سرّتي ولا يستقر في مكان . أشار إليّ أن أنقلب على بطني متمتماً بكلمات استفهمت منها أنّ الضرَّ قد حزّم جسدي وأن لا بد من اجتثاثه حيثما يكون . لا أدري من دلني على الشيخ ، إلا أني سمعت عنه في حمّامِ النساءِ ، قبل أن أكتشف أنا فيما أفشينه فيما بعد من حبِّهِ للنسوةِ الطريّات . حينَ انقلبتُ كانت يده اليمنى تلتصقُ بفخذي ، يعصرهما بقوةٍ كمن ينتشل منهما قطعةً ، وقبل أن أكمل نصف الدورة ابتعدت قليلاً عن الحائط كي لا يعيقني في الدوران ، لكنّ حركتي هذه وضعتني في حضن الشيخ ، كل ما أحمله خلفي صار حيث الحضن الدافئ . شعرت بوخزةٍ في اللحم الطري ، مثل إصبع يندفعُ في قطعةٍ إسفنجيّةٍ ، الوقت يمرُّ بطيئاً ويدا الشيخ لم تترك بقعةً من جسدي دون أن تمسهما . وبعد إن نبّتَ سبّابته في وسط ظهري قال :

– لا بد من ثقلٍ يعيد توازن الظهر ..

أجبته ببرود :

– ضع الوسادة ياشيخ ، ربما تنفع !

ردَّ هامساً :

-لا بد من ثقلٍ يوازي ثقل إنسان !

عندها عرفت أنه سيصعد فوق ظهري بجثته الغليظة وبطنه المنتفخة . لم يترك لي خياراً ، ارتقى جسدي مثل فارسٍ جريحٍ وسمعت تنهداته وتحسست أصابعه وهي تغور في صدري ، كدت أختنق تحت الثقل ذي الهزّات والتموجات المتتالية ، أصابعه تضغط .. وتضغط .. فتزداد شراسة ، حتى خُيّلَ لي أنّ رمانتيْ صدري ستنفلقان بينما كانت ساقاه تبحثان عن مساحةٍ ما بين ساقيَّ . لا أدري كم من الوقت مرَّ وأنا تحت ذاك الثقل الذي بدأ يهصرني ، لكنّني وفي لحظةٍ شعرت بجسدهِ يرتخي ، وساقيه تخمدان ، وأصابعه تطلقُ سراحَ نهديَّ . قامَ صامتاً وغطّى بكفّه بقعةً بانت بوضوح في وسط دشداشته البيضاء ، مسك وعاء البخور الذي انطفأت غيمة دخانه وقال :

– علينا أن نفعل هذا مساء كل خميس !.

كلّ الأخمسة التي تلت كانت تجري كما هو الحال في الخميس الأول . لم تنطفئ الكوابيس من ليلي الطويل ، بل كثرت ، وتشعّبت ، وصارت تأتيني بوجــوهٍ مشطورةٍ تتخذ هيئة شيخ مقطوف . في الخميس التــالي أخبرتــه بما يراودني من كوابيس فقال :

– أنهم يريدون إبعادك عني ..

لم أفهم عمّن يتحدث الشيخ ، ومن هم أولئك الذين يريدون إبعادي عنه . لم أتجرّأ أن أخبره بهواجسي خشية أن يستخفّ بعقلي ، وعندما أخبرته بأمر النسوة اللاتي يتحدثنَ عنهُ في حمام النساء امتعض وقال :

– أنهنَّ فاسقات ! .

في البيت كنت أفكر كثيراً بأمر النسوة وشيخ مقطوف . اتهمهنَّ بالفسقِ ، ويتّهمنّهُ بالفجور ، وما بين هذا وذاك علق رأسي ، لم يقل أبي عنه ما يجعلني أصدّق كلامهنَّ ، قال عنه أبي :

–  شيخٌ جليلٌ ، الجلوس معه يقرّبكِ من الله والإساءة إليه يدنيكِ من النار !لكنني لم أجد في الجلوس معه ، في تلك الغرفــة المظلمة ما يقرّبني إلى الله أكثر مما يقرّبني إليه بل يجعلهُ ملتصقاً بي ، يهصرني ، ويوخـز عجيزتي بدبّـوسه المتوثّب . خمس أخمسة أو أكثر وأنا أزوره جالبةً النُّذر ؛ تلك الحلوى التي يحبّها وذاك الجسـد الذي يمسّدهُ كيفما أراد . لم أحدّثْ أبي عن تلـك الساعات التي أقضيهـا هناك ؛ عند الشيخ ، لكنّهُ كان يبارك نذوري التي أرسلها إليه

في حمام النساء كانت النسوة يتساءلن عن تلك البقع الحمر التي تعلو بطني وصدري ، البارحة كاد يشلعه من صدري ! أنظري ، نفس الاحمرار ولكي لا يفلت لساني كنت أخرجُ غاضبةً بعــد قسمٍ أن لا أدخل الحمّام ثانيةً . في الخميس الذي تلا الخميس الذي التقيتُ فيه بعنبر سعيد ، كان أبي مريضاً ، ورغم إلحاح أبي أن أرسل النذر إلى شيخ مقطوف إلا أني امتنعت بحجة أن لا أحد معه في البيت . جلست مع أبي طيلة فترة العصر ، وقبل حلول الظلام فوجئتُ بزيارة الشيخ لنا .. أخبر أبي أنّ هاتفاً في الغيبِ أخبرهُ بمرضه ، ما كان على أبي عند سماعه ذلك إلا أن يقوم بمسح قدميّ شيخ مقطوف المغبرّتين وصلّى على النبي ثلاث مرات وردد ، أنّه يوم مبارك ، وأنّ آلامه قد زالت ببركة مجيء الشيخ . لم يقل الشيخ أنّه جاء من أجلي ، وانّ دبوسه المتوثّب ينتظر لحظة النفاذ . كان هادئاً يمشّط لحيته بأصابعه التي ما زالت تحمل رائحة جسدي . لم يكن شيـخ مقطوف يعـرف بمرض أبي ، أنا أخبرته بذلك ، في اللحظة التي فتحت فيها الباب وفوجئت به ، لحظة سريعة لم أتماسك فيها أعصابي وأنا أرى عينيه الجائعتين تفترسانني . قلت له :

– أن أبي مريض

هزَّ رأسه بامتعاض ودخل يسبقه صوت حبّات مسبحته الطويلة .قدمت له قطعتي حلوى من تلك التي يحبها فالتهمها بشراهة وقال وهو يمضغ ما بقي منها :

– جئت أكمل معك الجلسة .

نظر إليّ بعينيه الذئبيتين وتأكدت أن لا علاقة لمرض أبي بمجيئه فهو لا يريد سوى الحلوى والتمرّغ على الجسد الغض . بدأت أعرف نواياه ، والشك صار يقيناً . لم يكن يفعل شيئاً لصالحي أبداً ، كل ما كان يفعله هو إشباع ذلك الجسد المتفحّم ، لكنّ هناك شيئاً يمنعني من الامتناع عن تنفيذ ما يطلب . لا أعرف ما هو .. وكأنّ شيئاً يشدّني إليه ، يكفيه أن يرمقني بنظرةٍ حادةٍ لأجدني مستسلمة له ولرغباته . شيء يشبه السحر يقيّد حواسي ويحيلني لعبةً في يديه . حتى في يوم مرض أبي ، وانشغالي به ، كانت روحي تهيم حيث الزقاق البعيد وغرفة الطين المعتمة وفراش القطن ، لقد أسرني الشيخ ببخوره وتعاويذه وتراتيله التي لم تنقطع . أشعر أنّ جسدي ليس لي . . وثمة ما يدفعني للارتماء في فراش القطن وتحمّل ثقل الجسد الجائع بتموجاته واهتزازاته .قال :

– علينا أن نكمل الجلسة !

وافقه أبي بينما التزمت الصمت .

قال أبي :

-اذهبي وأعدّي الغرفة

نهضت دونما كلمة في اللحظة التي أخرجَ فيها الشيخ كيسَ بخورٍ وآخر حرمل وهمس غامزاً :

– أشعليها في الغرفة ..

لم تكن الغرفة بأحسن حال من غرفة الشيخ ، هيّأت المكان ووضعت فراشاً قطنيّاً في نفس المكان الذي يضع فيه الشيخ فراشه وانسابت رائحة البخور معطرة البيت كلّه ، سمعت أبي يقول من الخارج :

– الله .. الله .. رائحة الله ! .. دخل الشيخ الغرفة مثل ماردٍ خرجَ من قمقمـهِ ، دخل مرتّلاً كلماتٍ لم أفهم منها شيئاً ، أغلق الباب خلفه بالمزلاج ..( في غرفته لم يكن يغلقها بالمزلاج ) . تأكّد من الباب مرة وأخرى ، كنت قد تسمّرت وسط الغرفة ، قبالته ، وكأنني أنتظر مصيراً مجهولاً .. لم يأمرني بلسانه كما في كل مرة ، إنما أشار إليّ بيده ، بالضبط كما فعل آخر مرة في غرفته ، لا فرق عنده ، هنا أو هناك ، كل ما يهمّه في هذه اللحظة هو أن ينهي ما جاء من أجله ، أحسست بألفة المكان ، مثلما أحسست بأبي وهو يقف خلف الباب رافعاً يديه إلى السماء متضرعاً إلى الرب أن يوفقني !! تمددت في الفراش كما فعلت ذلك من قبل . جلس الشيخ كما كان يجلس هناك وبدأ جسدي يصرخ تحت أنامله الخشنة ، ثمة امرأة في داخلي تصرخ ، سمعتها من قبل ، سمعتها تصرخ من قبل .. لكنها الآن تستغيث ؛ أسمعها تستغيث ، صوتها يجيء من بئرٍ عميقة ممتزجاً بأصوات حوافر خيولٍ وصهيل .. لا أدري لِمَ تذكرت ما قاله أبي في أن الجلوس مع الشيخ يقرّبنا إلى الله . فكيف بي وكل جسدي الآن ملتصقاً بجسده ، أشعر أنّ الشياطين تبارك وحدتنا وتدفعنا إلى المزيد ، شياطين مختلفة ، أصابع وعيون وتنهدات وحركات صاعدة ونازلة ودبوس يصهل بين فخذيّ الملتصقتين النديتين وكأنني أقبض على جمرةٍ صلدةٍ . انتظرت أن ينتهي سريعاً قبل انطفاء أبخرة الحرمل ، وقبل أن يطرق علينا أبي الباب . لكنه استمر ، واستمر حتى بعد انكماش الدبوس . لا أدري بِمَ يفكّر ، انتظرت لحظة حتى قامَ مثل ديكٍ ، يمسح عن لحيتهِ زَبَدَ اللحظات الفائتة . مشى باتجاه الباب تاركاً جسداً مرميّاً على فراش القطن . مددت يدي بتثاقل حيث ثوبي الذي طواه الشيخ حتى كتفيّ . سحبته بصعوبة وكأنني أغطّي كابوساً ثقيلا اجتاحني قبل قليل .. وقبل أن يفتح الباب رمقني بنظرةٍ شجّعني فيها أن أغطّي ما بقي من جسدي . غادر الغرفة ناسياً مسبحته تحت قدميّ وحين جلبتها له كان قد قطع نصف المسافة التي تفصل ما بين أبي المضطجع في الحوش وباب التنك . سلّمتها له وصاح بصوت عرفت أنه أراد أن يُسمعه لأبي : ( بارك الله بك ومدّ في عمر أبيك ! ) .رجعت إلى الغرفة ، ذات الغرفة التي ما زالت تحتفظ برائحة الشيخ وبخوره الخانق . وقفت قبالة فراش القطن ، قبالة الجسدين الممدودين الملتصقين . جسدٌ يغوص في الآخر ، أربع سيقان متشابكة ، رأيت ما لم أره في حياتي وأنا أغوص في جسد الشيخ ، رأيت كل الشياطين التي تأسرني ، رأيت بحراً أمواجه متلاطمة ، سمعت الصراخ والصهيل وحمحمة الخيول واصطفاق جناحيّ الديك . انكشف كل ذلك أمامي في عتمة الغرفة ، انكشف مثل خيوطِ ضوءٍ ، مررت أصابعي على جسدي وتحسست المكان الذي لم ينله الشيخ وذاك الذي ناله منذ أول لقاء لي معه .بعد هذا الخميس كان عليّ ترتيب أفكاري ، واحتواء نفسي ، ووضع قدميّ في الطريق الصواب . عليّ أن أنهي اللعبة تلك التي امتدت طيلة الأخمسة التي مضت . عليّ أن لا أسمح لخميسٍ آخر يمرّ فوق جسدي . لهذا أعددت نفسي لخميس الحسم ، ولكن ، هل أستطيع ؟!.. هل أستطيع أن أتفوّه في حضرته بما أستطيع أن أقوله الآن ؟ هل أستطيع أن أقول له أن فعلكَ شائنٌ يا شيخ ؟ هل أستطيع أن أخبره بما يفعله  ذلك الدبوس المتوثّب بي ؟ وإن أخبرته بذلك هل أستطيع استرداد روحي المهشّمة التي كسّرتها أمواجه المتلاطمة؟ ليالي الحيرة تمرّ ويزداد أرقي ، في كل ليلة أحاول ترتيب الكلمات التي سوف أفجّرها أمام الشيخ ، أعيدها مرة وأخرى بانفعالات مختلفة وحينما أتذكّره وكأنه أمامي تنطفئ الكلمات داخل فمي ويخرس لساني وأنسى كل شيء عدا الوحدة التي تلتصق بي كما التصق الجسد المتفحّم بجسدي .مضت الأيام بطيئاً ، والنسوة يتساءلن عن سبب غيابي عن حمّام النساء . اعتذرن لي عما بدرَ منهنّ من تصرفٍ وأقسمنَ أنهنَّ كنّ يمازحنني وأمامهنّ قلت ( أني أقسمت أن لا أدخل الحمّام ثانيةً وأنا امرأة صائمة مصلّية لا أرجع عن قسمٍ أقسمته !).. قالت واحدة منهن : ( أنا سأدفع كفّارتك ) وقالت أخرى : ( وسأصطحبك إلى الشيخ كي يدلّنا على طريقة يخرجك فيها من قسمك دون أن تكوني قد عصيتِ الله ! ) .. كـان وقع أسم الشيخ على نفسي مجلجلاً ، وقد حاولت جاهدة أن أخفي ما اعتراني من خوف حال سماعي ذلك . قلت : ( لا حاجة لكل ذلك أنا سأدفع الكفّارة … ) .كل الطرق تـؤدي إلى الشيخ في هذه المدينة الضيّقة ! وكل المسارات تمر به . هل هي مصادفة أن أهرب من شيءٍ لأقعَ فيه ؟ ضحكت في سرّي ورثيت نفسي كما أنّبتها في الليالي الماضية .

جاء الخميس ، واصطكّت الهموم ، فلم تعـد ساقاي تحملانني . خرجت على مضضٍ تشيّعني نظرات أبي والغرفة التي دنّسها الصهيل . ثمة امرأة أخرى في داخلي تصرخ بي . تمنعني ، تجبرني أن أزأر في وجه الريح وأجتاز العاصفة بعدما ملأ الغبار رئتيّ وصار سدّاً في حدقتيّ . قدماي تأكلان الأرض والغيوم تنثُّ ماءها وكأنها تبصق في وجهي . السماء تبصق في وجهي والمرأة تصرخ بي . مشيت ، مسوّرة بأمواج الأخمسة التي مضت . أتحاشى الممرات التي تكثر فيها النسوة ، والصغار. . أشعر أن العيون تترصدني ، وتتعقبني .. والصغار يتحلقون حولي ، يرجمونني بالقمامة والحجارة .. يتقيئون على جسدي ويبولون بينما الكلاب تلعق أطراف أصابعي . والقطط تموء ، مثلما يموء جسدي وهو يُداف على فراش القطن .قالت المرأة التي في داخلي :

–  لم يكن الصراط الذي تسلكينه مستقيماً .

قلت :

–  ولكني سلكته ..

قالت :

– أطلقي العنان لي فأنا بوصلتك ومبتغاك ..

– والشيخ ؟!

– دعيه لي .. أنّ للجسد ثمناً غالياً !

لا أعرف إلى أية بئرٍ تقودني تلك التي تصـرخ بي وتستفزّني ؟!

بدأ المطر يثخن وماؤه تلفظه المرازيب .. ترددت كثيراً قبل أن أطرق الباب ، لكن المرأة التي في داخلي استعجلتني وطرقت الباب . ليست ذات الطرقات التي اعتاد أن يسمعها الشيخ .. أنّ لجهنّم خوار يبدأ من هذا الباب . سمعت حركة خلفه ، في الداخل المظلم ، وصوت الشيخ يأتي من جوف العتمة :

–  من ؟

قالت المرأة التي في داخلي :

–  أنا …

اصطكت رتاجات الباب المتعددة والزنجيل الطويل الذي يربط بين دفّتيّ الباب . لا أدري لِمَ يوصد بابه بكل تلك الأقفال في الوقت الذي يعتبر فيه الناس بيته آمناً .. فمن دخل بيت الشيخ فهو آمن .

– آمن ومباح !!

قالت المرأة التي في داخلي وضحكت أنا كمن يضحك على نفسه .

فتح الباب ، وعبرت العتبة والأقفال الخمسة والزنجيل الطويل ، عبرت أيامه ولياليه ، دستُ على الجمرِ بقدمين شمعيّتين ودخلت باحثة عن بقاياي المتشظّية في العتمةِ .. نفس الشيء الذي كان يأسرني، راودني في لحظة ولوجي في البيت ولم تؤثر بي تحذيرات المرأة التي في داخلي وتأنيبها وصراخها الذي يدوّي في رأسي . دخلت الغرفة دون شعور وكأن شيئاً يقتادني حيث فراش القطن حتى رأيتني أتمدد في الفراش دون أن يشير لي الشيخ ودون أن يطلب هو ذلك .. كل ما يهمني الآن هو أن ينجز الشيخ فعله ويطلق سراح جسدي من قبضتيه .. بين خوفي ولذة الشيخ برزخ يعجُّ بالمتاهات .. تمددت وجلست المرأة عند راسي ، تموء مثل قطة وحيدة . لم يوقد الشيخ بخوره هذه المرة ، فالوقت الذي يقضيه بتهيئة البخور محسوب لديه ، عليه أن لا يترك لحظة تمضي دون أن يحصل فيها على ما يريد ! جثا على ركبتيه تاركاً فخذيّ بينهما ، أظنّهُ كان يتأمّل الجسد الممدود أمامه . يتأمله بشهوة كلب . يتحسس ما تحت الثوب ، لكنه – بالتأكيد – لم يتحسس ما في داخل هذا الجسد من حرائق وبراكين . لم تطفئ برودة جسده حرائقي ، ولم يمنع صراخ المرأة قرب رأسي من ردّه . حطَّ فوق ظهري مثل كاسرٍ انقضَّ على فريسته . وبدأت حمحمة الخيول وصهيلها في وقت كنت أستعيد ما رتّبته من كلمات في الأيام والليالي السالفة لأفجرها في وجه الشيخ ! .. الوقت يمتدّ ويمتد معه الدبوس المتوثّب ، بينما تضاءل جسد المرأة التي لم أعد أسمع صراخها حتى ذابت أمام ناظري . ذابت تماماً!. قام منتصراً . كما في كل مرة ، ذلك الديك . تركني مستلقية دون أن ينطق كلمة . بكيت في سري . بكيت . دفنت رأسي في فراش القطن ، كنت أسمع حركته في داخل البيت ، وأتخيّل استمتاعه بفريسةٍ سهلةٍ . بكيت ضعفي ، وتصرّفي الغريب .. بكيـت صمتي وقبولي بما حدث ويحدث . بقيت مستلقية بعدما غابت عني المرأة التي كانت تستفزّني وتستنهض عزيمتي وثقتي بنفسي . تمنيت لو استطعت أن أخلع جلدي وأنظّفه من كل لمسةٍ لتلك الأصابع الخشنة . هذه ليست أنا . الطاهرة . العفيفة . هذا الجسد الذي أحمله ليس لي أنا .. جسد تغلّبت عليه الشياطين هو ليس لي . آهٍ لو استطعت أن أغيّره .. استبدله بأي جسد .. يا رب كنت أرنو للتقرب منك وها أنذا أقع في جهنم! بكيت في سري ودمعت عيناي علانيّة . لم ينتظر الشيخ مني كلمة إنما استبدل سرواله ، قبالتي ، على مرأى مني .. وكأنه يريني بيرق انتصاره ، حسنٌ ، انتصرت يا شيخ وهُزِمْتُ أنا .. فأطلق سراح روحي التي أسرتها بتعاويذك وسحرك وشياطينك ! .. نصف ساعة وأنا مستلقية أنتظر من يحمل جسدي ويخرجه من بئره المظلمة ويلقيه في الضوء .. من ذا يستطيع أن يبطل السحر الذي غلبني .. لا سبب يجعلني أطيعه هكذا ، إلا سحره ! أتراه يستفزّني وهو يعلّق لباسه على الحائط القريب . ماذا فعلت لك يا شيخ كي تحطمني ؟ ألم أمنحك الّلذة فكف عني . لم يعد جسدي طريّاً فقد تيبّس تحت اهتزازاتك المتلاحقة . اتركه لي كي أنعم بالأمان يا شيخ!. نهضت ، بتثاقل ، بعدما لملمت ما تشظّى مني من أفكار . كان الشيخ جالساً على دكّةٍ في وسط الحوش ، وقفت قبالته . المرأة التي في داخلي بدأت تظهر أمامي رويداً .. رويداً . رأيتها ثانيةً ؛ عاريةً . يضمّخ جسدها السخام . سخام بلون أيامي الماضيات . صرخت بي :

–  هيا قوليها !

استنجدت بلسانٍ منكسر ، قلت للشيخ دون أن أنظر في عينيه :

– لا تنتظر مني مجيئاً بعد اليوم يا شيخ .

ـ أعرف ذلك .

استغربت . قلت له :

–  لقد طبت . طبت يا شيخ !! لا حاجة لي بالجلسات .

– لكنّك سترجعين .

صرخت المرأة العارية التي في رأسي :

-لن أرجع .. لن أرجع …

فرددت أنا ما قالته :

–  لن أرجع .. لن أرجع …

هزَّ رأسه وتركته ينبش بعصاه الأرض .

حين أوصدت الباب خلفي أحسست أني تركت جسدي هناك ، في غرفته المعتمة، مستلقياً في فراش القطن . كانت المرأة التي في داخلي تجرجرني حيث الشارع الذي امتدت رقبته طويلاً بينما في نفسي رغبة في أن أعود وأعتذر إليه !قالت :

– إيّاك والعودة .

قلت لها :

– إحميني منه !

– لا أستطيع تقييدك ما لم تقيّدي نفسك أنت .

تقدمت أمامي فتبعتها . مشيت وفي رأسي تمشي الهواجس والظنون . . ربما يقف الشيخ الآن خلف بابه يترصد خطواتي وربما يكون قد عاد إلى الجسد المستلقي الذي تركته في عتمة الغرفة لينتزع منه متعته أو ربما قام ليغسل لباسه .. أسمع صهيله يرنّ في إذنيّ وأشتمّ رائحة لحيته . هو هناك ، يركن إلى شياطينه ويدفعهم باتجاهي .في ركن الشارع التقيت عنبر سعيد . لأول مرة أراه . ظننته واحداً من شياطين الشيخ ؛ جسدٌ مفتولٌ مثل ظلمة الليل . قد يكون رآني وأنا أخرج من بيت الشيخ . رأيته واقفاً ، سدّ عليّ الطريق . تشبّثت بعباءتي وانزوت المرأة العارية التي في داخلي .. انسابت مثل ماءٍ باردٍ في جوفي . رأيت عنبر سعيد ، متعباً ، كدت أسمع دقات قلبي وأتحسسها في صدغي . صوت أشبه بالرعد الذي ما انفكّت السماء تطلقه مع وميضٍ يشقّ عتمة الشارع . أراد عنبر سعيد أن يقول شيئاً .. قرأت ذلك في عينيه وحركة يديه لكنّه لم يتكلّم . خلته يريد أن يقول لي أنّه يعرف كل شيء ، يعرف ما كان يدور في غرفة الشيخ وليس بعيداً أنه سمع الصهيل والصراخ ومواء القطط . سمع حفيف الثوب وهو ينزلق على الجسد أو يطوى عليه . تلازمنـي هذه الهواجس كلما التقيت أحداً ، وفي اللحظة التي وقفت فيها أمام عنبر سعيد أحسست بذات الشيء . أشعر أن الناس ؛ كل الناس ، يعرفون بأمري . ويتهامسون بي ، وتلوك الألسن أسمي في كل مكان . لكن الغريب في أمر هذا المارد الواقف قبالتي أنه لم يتكلّم . لم يتكلّم أبداً . ولِمَ يتكلّم إذا كان يعرف كل شيء ؟! أتراه يطمع هو الآخر بافتراس جسدي ؟ لا أعتقد أنّ هذا المخلوق يختلف عن ذاك ما دام يملك نفس الغريزة والدبّوس . مصيبتهم دائماً الدبّوس ومصيبتنا أيضاً ! صرت لا أنظر إلى رجلٍ إلا وأتصوّر حجم دبّوسه . هكذا صرت أرى الجميع ، دبّوس شاخص ومتوثّب ( صغير.. كبير .. معقوف .. مستقيم .. أملس .. مشعر.. ) وهكذا رأيت عنبر سعيد ، في اليوم الماطر ، دقائق ونحن واقفان تحت خيمة المطر ، لا أدري بِمَ كان يفكّر لحظتها ، لكنني كنت أفكّر بالدبابيس التي

( أكلتها ) من الشيخ !. ناولني عنبر سعيد كيس نايلون ، قال لي :

– ضعيه فوق راسك !

ابتسم لي وبانت أسنانه المصفرّة ، فلم أأخذ كيسه ولم أبتسم له !.. غادرته والمطر يمحو ملامح امرأة كانت تقف معه .. أظنّه بقي واقفاً للحظات ،  كما يقف الآن ، بمحاذاة عربتـه تاركاً الشيخ في حوض العربة يغسله المطر . تركتهما معاً وما زلت أشعر بدغدغة إبهام عنبر سعيد يلبط تحت إبطي .

*       *        *

استقبل الشيخ عشرات النسوة لكي يعطيهن تعاويذ تبعد الشر الذي قد يلحق بهـن بينمـا كانت رائحة الموت تنبعث من الخربة . لم يتجرّأ أحدٌ على الاقتراب منها واقتحامها كما لم يفكّر أحدٌ في إيجاد طريقة للتخلّص من تلك الرائحة .. الذهول أصاب الجميع والجميع يترقّب !… وهناك ؛ في غرفـةِ الفندقِ ، يقضي عنبر سعيد ساعاته ، كئيباً ، ضائعاً ، حائراً بعـدما فقَدَ أعزّ ما يملك في الدنيا .. كان يسمّي حماره بـ ( الأخو ) ، وعندما يتحدّث عنه ، ودائماً يفعل ذلك ، مع بعض زبائـن حانـة سلمـان يقـول مشيراً إلى الحمار : ( هذا أخوي !! ) . والآن ، بعد أن نفق الحمار ، الأخو ، لم يبق لعنبر ما يشغله وكأنّهُ بفقدانه للحمار قد فقد العالم بأسره ! ، كان عنبر سعيد يقول :

– قد تسمع من هذا ,أو ذاك كلاماً يؤذيك ويجرحك لكنّك لن تسمع من الأخو ما لم يسرّك .. ليت الجميع مثله !

وصلت إلى عنبر سعيد وعن طريق عامل الفندق، الشائعات التي تناقلتها الألسن عنه ، وعن موته المفاجئ في الخربة .. أطرق رأسه إلى أرض الغرفة وقال :

–         موت الأخو هو موتي أنا ! لا فرق بيننا فكلانا يعمل ويأكل من عرق جبينه ، أنا والأخو !

قال عامل الفندق

– ولكن عليك أن تخرج إلى الناس وتخبرهم أنك لم تمـت وتفنّد الشائعات التي قيلت عنك .)

– ما أشاعـوا عنّي ذلك إلا لرغبتهم في موتي .

مضت أيام وعنبر سعيد يقبع في مكانه ، منزوياً فوق سريره الحديدي ، لم يكلّف نفسه جهد مراقبة العالم الخارجي من خلال النافذة الوحيـدة ، تـرك الناس ، والحانة ، وسلمان .. لكنّه لم يترك ذكرى ما زالت عالقة في رأسه .في الحانةِ ، ومنذ غياب عنبر سعيد ، أو الإشاعة التي تقول أنّه لقيّ حتفه في الخربة ، ترك سلمان مقعده فارغاً ، منع الجميع من أن يجلسوا حيث كان يجلس عنبر سعيد رغم ما سمعه هو الآخر من شائعات لم يصدّقها ذاك لأنه كان متأكـداً حـدّ اليقين أنّ عنبراً سيعود ثانيةً ، فـ ( حانة دون عنبر مثل طعام بلا ملحٍ ) ، هذا ما كان يقوله سلمان لنادليه اللذين كلما سمعا هذه الأسطوانة أخفيا ضحكة ساخرة كي لا يغيضاه.

في مساءٍ كئيبٍ ، خرجَ عنبر سعيد من قمقمهِ متخذاً الطريق المؤدية إلى الخربة . استرجع بذاكرته الحمار ، بأذنيه الطويلتين وقوائمه التي تدكّ الأرض دكّاً ( كما كان يردد أكثر من مرّة ) .. استذكر كل لحظة من تلك اللحظات التي قضاها معه ؛ في السوقِ أو في الخربة ، لم يشعر بطول المسافة فما يدور في رأسه قد أنساه كل شيء ، عليه الآن أن يوقف المهزلة .. ويضع حدّاً للشائعات التي ما استفاد منها إلا الشيخ! ندم عنبر سعيد كثيراً لأنه لم يكشف للناس حقيقةً أخفاها طيلة السنوات التي مضت ، وندمَ أكثر إذ جعل من طيبته فرصةً لأن يستغلّه الناس ويتهمونه بالجبن فكثير مـن المواقف لم يحسمهـا بعد كما أنّ ليلة الرهان ونومه تحت الطاولة في حانة سلمان ما زالت مثار سخرية الآخرين. طيلـة المسافـة الفاصلة ما بين الفندق والخربة لم يلتقِ بأحدٍ ، اقترب منها وداهمته الرائحة الخانقة ، استغرب وهو يكـاد يختنق من رائحة الموت وقال في نفسه :

–  أيعقل أن يتصوّر الناس أن تلك الرائحة هي رائحتي ، هل أنا نتن إلى هذا الحد ؟!اندسّ بين حائطين متآكلين ، شعر بألفة المكان رغم العتمة والرائحة النتنة . تخيّل أن الحمار يقف قبالته الآن ، يحرّك رأسه فرحاً ويدحوه في حضنه . أشعل عود ثقاب مثلما يفعل في كل مرة . كشف الضوء مشهداً رهيباً ، ما كان يتوقع أن يرى ذلك ؛ أشلاء لم يبق منها إلا عظام ، رأس تنازعه الدود ، دود في كل مكان ، ورائحة في كل مكان . أطفئ عود الثقاب ، فأسدلت العتمة ستارها على مشهد لم يخطر في بال عنبر سعيد ، همّ بالخروج ، وأنسلّ ما بين الجدارين المتآكلين . كانت المرأة هناك ، واقفة ، تستجمع قواها للدخول إلى الخربة . لم ترَ عنبراً وهو يدخـل الخربة لكنها رأته وهو يخرج منها .فوجئت به إذ يخرج من الخربة سليماً ، معافى ، تذكرت تلك الشائعات التي روّجها الناس ، هاهو ذا عنبر أمامها ، يخرج من الخربة ، من فضائها المفتوح ، لم يخرج من ثقبٍ في الجدار كما ردد الشيخ في الأيام الأخيرة ، ولم ينزل من سقوف المنازل كما تقول الإشاعة ‍‍‍! خرج كما هو ، كما رأته في اليومين الممطرين ، أحسّت بدغدغة إبهامه تحت إبطها ، أحسّت بحديث عينيه الكئيبتين ، لِمَ عيناه كئيبتان دائماً ؟‍‍‍‍‍! دار في رأسها كل ما سمعته عن الأيام التي اختفى بها عنبر ، ‍‍‌‌كل الأقاويل التي رددتها الناس وفي هذه اللحظة عرفت الحقيقة وهي ترى عنبر يخرج بقامته الممشوقة ، لم تخف منه ، أخذت تدنو منه بخطى وئيدة .. اقتربت حتى بدا لها جسده واضحاً ، هو ذا عنبر سعيد بدمه ولحمه ، ليس شبحاً أو عفريتاً ، وما أشاعه الشيخ عنه مجرد أكاذيب . الجميع صدّقوا الشيخ ، هكذا هم يطيعونه بعيون معصوبة ، يسيرون خلفه دون أن يفكّر أحد بنواياه الدفينة . هو ذا عنبر يخرج معافى ولكن من أين تجيء تلك الرائحة الكريهة ؟قال عنبر :

–  لقد مات ‍‍..

لم ترَ عنبر حزيناً كما تراه الآن ، ولم تره هزيلاً كما هو الآن ، قال عنبر :

–  بموته فقدت كل شيء .

أرادت أن تقول له رغم أنها لا تعرف عمّن يتحدث ومن الذي مات ، أرادت أن تقول له : ( لا يا عنبر ، لم تفقد أحداً ، أنا معك ، كن معي ، بإمكانك الاعتماد عليّ ، أنا مطيّتك يا عنبر‍  ! ) لكنّ المرأة التي ما زالت تلازمها إيّاكِ أن تفتحي له باباً مثلما فعلتِ مع الشيخ ‍..

صمتت ، بينما أستمرّ لسان عنبر يلوكُ الكلمات وكأنّهُ يفرّغُ ما في صدره من كروب . استمعت لكلِّ كلمةٍ قالها ، ما كانَ ينتظرُ منها ردّاً قدر ما كان يريد أن يفضفض عن نفسه ، أراد أن يصرخ بصوتٍ عالٍ ، حتى وقت قريب ما كان يصدّق ما رآه تلك الليلة ، ليلة نفق فيها الحمار ؛ الأخو ، وها قد عاد من جديد ليتأكّد في أنّ الذي رآه تلك الليلة لم يكن كابوساً ، صار موت الحمار حقيقة ، كم حمار يجب أن يموت دونك أيّها الأخو ؟ تلك الحمير التي تملأ الأزقة والشوارع والساحات والبيوت ، تلك التي لا نفع فيها ، حمير على هيئة بشرٍ لا شغل لها إلا التعرّض للناس ودسّ أنوفهم فيما لا يعنيهم ، الحمير الذين حملوا ألسنتهم للانتقاص من كلّ ذي عافية ، أولئك الحمير كان من ألأجدر أن يموتوا لا أنت أيها الأخو !! بكت المرأة ، بكت معها جدران الخربة المتآكلة ، المرأة بكت عنبراً ، والجدران بكت الحمار ، كلاهما بكى في الشارع المظلم أمام عنبر الذي احتفظ بدمعةٍ في حدقاته ! أما المرأة التي في داخلها ، اكتفت بمراقبتها ، دون أن تبكي معها .لم يغب الشك عن المرأة في أنّ للشيخ علاقة بموت الحمار ، ولكن قبل أن يصبح الشك يقيناً لا بد من معرفة علاقة الشيخ بعنبر ، منذ ذلك اليوم الذي أقلّهما عنبر في عربته وهي تشعر أنّ هناك خيطاً يربط ما بين الاثنين ، ولكن . كيف لها أن تعرف ذلك الخيط وهي التي قررت أن لا تدخل بيت الشيخ ثانيةً . إذن ، لم يبقَ أمامها إلا عنبر وقبل ذاك لا بد من إصلاح ذلك الموقف السخيف الذي وضعت فيه نفسها قبل أن ينقلهما عنبر بعربته .كيف أستطيع الوصـول إلى الحقيقة، حقيقة الشيخ ، وحقيقة عنبر .. ما الذي يربط بينهما ، عدا امتلاك كلٌّ منهما دبوساً ! …صرخت المرأة التي في داخلها :

–  ماذا ؟!!

كانت على يقين أنها تقترب من بئرٍ أخرى .. بئر قد لا تخرج منها أبداً . أنّ فضول المرأة قد يدفعها إلى دفع المزيد ، دفع ما لم يكن في الحسبان وقد يكون آخرة الطريق الندم . أكان عليها أن تفعل ذلك بدافع الفضول ؟ أيّ فضول يدفعها إلى الهاوية ؟

استأنست المرأة اللعبة . ولكن . إلى أي مدى ستطول تلك اللعبة ؟ كم خميس ستحتاجين إليه كي تصلي إلى الحقيقة ؟ وأية حقيقة تلك التي تدفعكِ إلى السقوط ثانيةً ؟ حاولت إقناع نفسها بأنها بفعلها هذا تثأر لنفسها وستضع رأس الشيخ تحت قدميها بعد أن كوّرت جسدها في حضنه !

لم يتوقف عنبر عن الكلام ، ولم تتوقف المرأة عن التفكير ، لم تصغِ له قدر إصغائها لما يدور في رأسها .. ضحكت إذ دار في رأسها أنّ الصهيل وحمحمة الخيول سيغدوان نهيقاً !

أصرّت على تنفيذ قرارها ، أن تعـرف الحقيقـة ، هي معركتها ولا بد من تضحيات وكما في كل الحروب هناك خسائر وتضحيات إلا أنّ لذّة النصر ستمحو كلّ شيء حتى وإن كانت الطعنات كثيرة ومؤلمة ! وعندها ستعلق لباس الشيخ في رقبته وسيدفع ثمن الأخمسة غالياً . استأنست المرأة التي في داخل للثأر التي تنشده لكنها لم تطمئن للعلاقة التي ستربطها بعنبر سعيد . قالت المرأة التي في داخلها :

– ألم تكوني قريبة من الشيخ لتثأري منه ؟ ألم تنامي في فراشه القطن وتحملتي ثقل جسده ؟ أين كانت تلك الصحوة التي جاءت متأخرة  .. كان عليك أن تقولي ذلك في أول لحظة دسّ فيها الشيخ أصابعه تحت ثيابك وراح يلاعب النهدين وينبش في السرّة ويقرص الفخذين .. كان عليك أن تمتنعي عن النوم راضيةً في تلك الغرفة المعتمة .قالت المرأة :

–  ما وقع  وقع ، لا ينفع الندم على ما فات !

– عليك أن تتحملي صدى ذكراه الآثمة !

– لا عليك ، انتظري مني ما يسرّك .

قالت المرأة التي في داخلها :

–  لا تكوني لقمةً للآخر ..

والتفتت حيث يقف عنبر سعيد،  ثم قالت :

-هذا اكثر مكراً منه !

أشدّ ما يؤلمها الآن وهي تقف قبالة عنبر سعيد ذلك الموقف الذي سلطت فيه لسانها عليه ، كيف وقفت إلى جانب الشيخ هي ما كانت تعرف حقيقة الشيخ ولم تنكشف أمامها الأمور جيداً ، كانت تسير بإرادة الشيخ وعماه !

حين أنهى عنبر سعيد كلامه وأفرغ ما في نفسه من كروب أمام المرأة التي كانت منشغلة بأفكارها ، أحسّ بارتياحٍ كمن ألقى ثقلاً عن كاهله . كان وجود المرأة في هذه اللحظة فرصة ليزيحَ عنه كل ذلك .

–  ما الذي جمعني بعنبر سعيد الآن ..؟

فكرت المرأة بذلك ، هل أن الصدفة هي التي جمعتهما أم أنّ قدرهما أن يجتمعا في هذه الخربة ؟ قالت :

-القدر يرسم طريقي فلأبدأ مرحلتي القادمة !!

صرخت المرأة التي في داخلها :

–  أنتِ مجنونة !

ردّت المرأة بامتعاض :

–  عاقلة .

–  بل مجنونة ، أنت تهرولين حيث العهر !!

صاحت المرأة بها :

– أين كنتِ طيلة تلك السنوات التي قضيتها مع أبٍ عليلٍ ؟ كم باب أغلق في وجهي …

صرخت بها المرأة التي في داخلها :

– القطارات التي تمضي لن تعود .

–  سأجبرها على العودة .

–  وتندمين !

إذن ، لم يكن عنبر إلا قطاراً ستركبه بعدما نفضت أمتعتها في محطات الشيخ وغادرت ، لم تعد خائفة من شيء كما لم يبق لها شيء لتخاف عليه ! ومثلما احتفظت بعذريتها وهي تصرخ تحت جسد الشيخ فسيكون لها ذلك وهي مع عنبر سعيد . أن التجربة تفنّد كل الافتراضات ، ولكن . إلى متى تستمر تلك التجارب ولِمَ ؟ .. تركتها المرأة التي في داخلها تبحرُ في أهوائها ..

قال عنبر سعيد :

–  ما الذي أجبركِ على المجيء إلى الخربة ؟

ردّت باسمةً :

–  لكي أراك !

هزَّ عنبر رأسه غير عابئ بإجابتها، تقدمت خطوات باتجاه الخربة وسط دهشة عنبر ، تبعها هو بخطوات حذرة ، فقد علّمته الحياة أن يكون حذراً مع النساء خاصة والمرأة التي سبقته إلى الخربة هي من قامت ذات يوم بقذف وابل من الكلمات عليه وأمام الناس ؛ في السوق . ما الذي تقوم به الآن ، ما الذي يدفعها لدخول الخربة في هذا الليل المعتم وفي وقت امتنع الناس عن ذلك ؟ هل تريد أن تتأكد هي الأخرى في أنّ الواقف أمامها الآن ليس شبحا؟ لم ينتظر إجابةً لتساؤلاته ، تبعها ، ووجد نفسه في وسط الخربة . وسط تلك الرائحة الخانقة . ازداد تعجّباَ من تحمّلها للرائحة وعتمة المكان . لم يرها في البدء لكنّه أحسّ بوجودها من رنّةِ خلخالها ، حرّكت ساقيها وأصدرت صوتاً كي تدلّه عليها . اقتربت منه ، رآها تدنو .. هي ذي تدنو .. ( يا الله ، ماذا يدور في رأس هذه المرأة .. ماذا تريد مني ؟ أنّ إبليسَ يراوغك يا عنبر فتخلّص منه قبل أن يمرّغ أنفكَ في تراب الخربة . أخشى أنكَ لن تستطع الإفلات بجلدك هذه المرة فإن كنت قد تخلّصت فيما مضى منه فأنّهُ الآن يكاد يلتصقُ بك . هل تستطيع يا عنبر يا إبن سعيد ؟ )برقت في رأس عنبر صورٌ عديدةٌ ، وتحرّكت في صدره ، تحت رماد الأيام جمرات طالما خبّأها بعدما احترق بها . هاهي الآن تستعر من جديد ،( من نَبَشَ تنّور الأمس لكي ينهض من جديد ؟ من نفخَ الجمرَ المخبوء وأعادَ النارَ إلى عرشها ثانيةً ؟ مَنْ يحاول إقلاقك يا عنبر بعد سني العزلة والهدوء ؟ مَنْ عاد إليك لكي ينقضّ على ما بقي منك ؟ حاولت جاهداً أن تنسى لكنك الآن وجهاً لوجه أمام ذاتك .. أنت الآن يا عنبـر في قاع ماضيك أسير مخاضات والآم لن تنتهي ..) .لم تعطه المرأة فرصةً لاستعادة أنفاسه فراحت تأكل المسافة الفاصلة بينهما بفحيحها ورنّة خلخالها .. التصقت به ، حاول الرجوع خطوة وأخرى فالتصق بالجدار .. تمنّى لو استطاع أن يدفع الجدار ، يدفعه عنه ، يدفعه بعيداً .. أو ينفذ فيه حيث لا عيون تراه ولا أنفاس تغريه! انطفأت المسافة ما بينهمــا ، والتصق الجسدان ، شعر بأنفاسها ، حارة ، مشبّعة باليأس والشبق . صحيح أنّهُ لم يرها وسط العتمة إلا أنّهُ تخيّلها بوجه إبليس وعينيه الناريتين . امتصت منه رجولته وحوّلته إلى لعبةٍ في يديها . ما الذي جعله ضعيفاً هكذا ؟ ذات الضعف الذي انتابه هناك ، في قريته البعيدة التي تغفو على شاطئ هادئ بمحاذاة الخليج . وذات الجسد الذي امتصّه هناك . كأنّ الحياة تعيد نفسها في تلك اللحظة ، وتخيط له فسيفساء حدثٍ لم ينسه أبداً ! عليه أن لا يقع ثانيةً ، وأن لا يدع فرصة لأغراءات إبليس . مدَّ يديه حيث الجهة التي تجيء منها الأنفاس الملتهبة فاصطدمت بالجسد الرخو . ظنّت المرأة أن عنبراً يريد أن يحتضنها وهو ما حفّزها في أنّ محاولتها قد نجحت . ولكن ، ماذا بعد ذلك ؟ ماذا بعد أن يشدّها عنبر إلى صدره ويمصُّ شفتيها ويخترقُ دبوسه ثناياها ؟ دفعها عنبر بقوة ، وقطع أفكارها ..لكنّه لم يستطع إيقاف زحفها إليه . شدّته من خاصرتيه والتصقت به بقوة .. بدأ الدبوس يلقي بظلاله عليه ، ويتحكّم بتصرفاته ، وجرعة سحرية بدأت تدبُّ في جسده الغليظ وفي تلك اللحظة تأكّد لعنبر أنّ إبليس لن يفارقه دون أن يأخذ ما يريد منه .الرائحة التي تعجُّ بها الخربة كافية لإطفاء أيّة غريزة فما الذي    يدفعها لذلك ؟ لم يقل عنبر سعيد أنّه غير ذي حاجة بما تقدم عليه المرأة لكنّ المكان لا يفتح شهيّةً لممارسة ذلك وكيف يمارس ذلك عند رأس حماره الذي ما زال نهيقه يملأ ذاكرته انّهُ بالتأكيد سيكون حماراً إنْ فَعَلَ ذلك ! قال بلهجةٍ صارمةٍ :

–   لِمَ تفعلين ذلك ؟!

لم تجبْ ، وراحت تلعقُ بلسانها ما ظهر من صدرهِ المشعر تتلذذ بطعمه المالح وعرقه . حاول مرة أخرى أن يبعدها عنه ولكنّ يديها بدتا مثل كمّاشتين التصقتا بخاصرتيه . قالَ ثانيةً :

–  اتركيني يا امرأة !

–  ليسَ قبل أن …

–  لست لعبة في يديك !

-هل تستطيع الإفلات من نمرةٍ ؟

لو أراد عنبر الإفلات لأستطاع لكنّ حاجته تجبره أن يدعها تفعل ما تشاء فلن يخسر شيئاً ! عليه الآن أن يشبع رغبته التي سجنها طويلاً ، هناك حبلان يشدّانه إلى جهتين متنافرتين لكنّه بدأ يميل إلى ما جعل دبوسه أن يستقيم ، هناك كبت ، وحرمان منذ ليلته الأخيرة في قريته البعيدة . ترك يديه سائبتين وعينيه تحاولان أن تترصدا المرأة من خلال خيوط العتمة وهي تلتهم جسده قطعةً تلو أخرى . كان لصوتها فحيحٌ ، تنطق بكلماتٍ لم يفهمها ، كلماتٍ مجردة من معنى ، تصرخ بخفوت وهي تداعب دبّوسه مثلما يلاعب قطٌّ جائعٌ فأراً ! جثت على ركبتيها وعنبر ما زال واقفاً ، يتكئ على الحائط ، حاول أن يكون يقظاً لكنّ الفم الذي أخذ يلعق الدبّوس لم يتركه هكذا .. وترجّلَ من برجِ سكونه ، وبدأ صهيله يعلو ويعلو .. وراحَ يسبحُ والمرأة في تراب الخربة ، غير مكترثين للرائحة وبقايا الحمار النافق . أظهر عنبر سعيد مهارته وعلّمَ إبليس ما لم يعلمه ، علّمه كيف تُنْتَزعُ اللّذات ، وتُروّض الفرس الجموح ..تَرنّحت المطيّةُ تحتَ الجسدِ الغليظ ، وثارت ثائرة الغبار من الرفسات المتتالية في أرض الخربة وأمتزج والعتمة التي أسدلت ستارها عليهما .. وبعدما أفرطت في اللذةِ انتبهت ، فتحت عينيها وقطارات عنبر سعيد ما زالت تدوس مترنّحةً ، صرخت وهي تنفض عن جسدها ثقل الجسد المتلبّد بالغيوم والزوابع والأمطار . نهضت وكأنّها تستيقظ من نومٍ عميق . دنا عنبر سعيد منها فصاحت به :

–  إيّاكَ أن تدنو !

عرفَ عنبر أنّ إبليس فرَّ بجلدهِ وتركه مع امرأةٍ كانت قبل لحظات نمرة شرسة . شدّ بنطاله وسط دهشة المرأة ودهشته . ( أيّ كائن هذا الذي أمامك يا عنبر بن سعيد ، كائن غريب .. غرابة الفعل الذي اقترفته قبل لحظات ) .نكتت المرأة عباءتها من تراب الخربة وهي ترمقه بنظرات لم يعرف منها شيئاً .. خرجت وتبعها بخطوات وئيدة خشية أن تصرخ به ثانيةً .. لا يدري لِمَ فعلت ذلك ، وكيف استطاعت أن توقعه في شباكها .. ماذا لو سمع أحدهم فحيحها وصراخها وهي ترتمي تحت جسده في الخربة ، أيحصل له ما حصل في تلك القرية البعيدة ويهرب ثانيةً كما فعلها في المرة الماضية؟ عادت المرأة إلى بيتها ، ولم يعد عنبر سعيد إلى فندقه .. قضى الليل كلّه في الخارج ، زقاقٌ يقـوده إلى زقاقٍ ، ودربونة تقوده إلى أخرى .. يفكّر في أمر المرأة وأمره وينتظر أن يصحو من حلمه هذا . ولكن هل كان حلماً ؟ ما حصل في أول الليل لم يكن حلماً أبداً ، انتابه شعورٌ بالذنب ، والندم ، وأحسَّ بأنّه يحمـلُ جسداً ثقيلاً ، ملوّثاً ، وأنّ رائحة المرأةِ ما زالت عالقةً فيه ، فكّر في أن يحتسي كأسَ شرابٍ قد يخرجه مما يشعر فيه .. وهكذا ابتلعت قدماه الطريق الترابية باتجاه حانة سلمان .الفجرُ يعلّقُ أول خيوطه ، والسوق يغطّ في نومٍ عميقٍ ، خالٍ إلا من الكلاب وصافـرات الحرّاس الليليين التي تسمع بين حين وآخر . ولأن منزل سلمان لا يبعد عن الحانة كثيراً فقد فضّل أن يطرق باب المنزل بدلاً من أن يذهب إلى الحانة وهو يعرف أن لا أحد في الحانة في هذا الوقت المبكر من الفجر ، لكنّه وهو يتجه نحو المنزل فوجئ بشخصٍ ما داخل الحانة رآه من خلال الضوء الأحمر الباهت الذي ينسلّ عبر الزجاج الأمامي . توقّف قليلاً وفكّر في نفسه لِمَ لا يذهب إلى الحانة بدلاً من المنزل فهذا سيوفّر عليه محاضرات سلمان الذي يلقيها عليه في الأتكيت والأساليب الحضارية للتعامل مع الآخرين وكل ذلك لم يدخل في رأس عنبر سعيد كما كان يصرّح لحمزة سكراب ! كلام لا يسدّ حاجته إلى الشراب . تقدّم خطوات مقترباً من الحانة ، كيف سيوقظ من في الداخل ؟ ربما سيلقى سلمان بدمه ولحمه في الحانة وهناك سيأخذ درساً على الريق منه !! ..لا يهم من سأجده في الحانة ، المهم أني سأحتسي شراباً وأنسى ما فات من ليلة الكوابيس ، ولكـن هل لديك ما يكفي من نقودٍ لذلك ؟ آهٍ يا عنبر ما قضيّتك مع تلك القطـع المعدنيـة والأوراق الملوّنـة ؟ كـان أبـوكَ يقول ( الماعنده فلس ما يسوى فلس ! ) هل تساوي فلساً الآن يا عنبر بن سعيد ؟ مد يديك في جيبك وعد نقودك قبل أن يطردك من في داخل الحانة .. قد يحترمك سلمان مثلما يفعل معك بالأمس ولكن من يضمن لك النادل ؟ احسب نقودكَ وقلْ للآخرين أني أساوى فلساً !

تقدّم من الباب ، طرقه مرة واحدة ، انتظر قليلاً ، طرقة أخرى أيقظت النادل ، رآه عنبر عبر الزجاج ، سمع خرخشة المفاتيح ، وفُتِحَ الباب … لم يصدّق النادل ما يراه بعدما سمعَ بموت عنبر سعيد في الخربة . دعاه للدخول بابتسامة عريضة . قال النادل :

– ألم تمت ؟

ردَّ عنبر :

–  وها قد عدت !

ضحكا حتى رددت جدران الحانة صدى ضحكاتهما . قال النادل :

– البارحة كان سلمان يتحدّث عنك .. كان متأكداً أنك لم تمت .. قال لي قد أصدّق موت العالم كلّه لكنني شريف !!

أغلق النادل الباب وفتح لعنبر زجاجة شراب قائلاً :

–  خصصهـا سلمــان لك .. طلب مني أن أفتحها لك متى حضرت .

لا يعرف عنبر سبباً لاهتمام سلمان به وهو الذي لم يلق منه من قبل اهتماما عدا الأيام التي تلت ليلة الرهان .. أنّ الموتَ وحده كفيلٌ بأن يدفع الناس لتغيير مواقفهم تجاه من ماتوا .. والرجوع منه بداية لتصحيح الأخطاء فكيف وقد جئت حاملاً أخطائي وعبئاً ثقيلاً حمّلني إيّاه إبليس ؟

ارتشف عنبر سعيد كأسين دون أن يعطي نفسه فرصةً بين واحد وآخر .. عليه أن يعوّض ما فاته من أيّام ، وأن يغسلَ رأسه من كابوس الليلة الفائتة . قال النادل :

– سيفرح سلمان بك كثيراً .

هزَّ عنبر رأسه مؤيداً وهو يمضغ زيتونة ويرتشف الكأس الثالثة .. ثم تلت الكؤوس حتى أفرغ ما في القنينة في جوفه .. وضع رأسه على الطاولة وغفا .بعد تلك الليلة لم يرَ عنبر سعيد المـرأة ،  لاشتغاله مع سلمان في حانته وانشغاله فيها . لم يلتقِِ بها أبداً حتى فوجئ بها ذات يوم وهي تقف قبالة الحانة ، قرب عمود الكهرباء الذي كان فيما مضى يربط به حمـاره . استأذن من سلمان وذهب لملاقاتها . قالت له :

–  أريد أن أراك ‍‍‍..

–  ليس لديّ الوقت

– موضوع مهم ‍ !

اندهش عنبر ، فأيّ موضوعٍ يجمعهما غير ليلةِ الخربة تلك . ألم أقل لك يا عنبر بن سعيد إيّاك والنسوة ؟ ألم أقل لك أنّ لهنّ دهاءً يغرق إبليس نفسه ؟ فما بالك تتحدّث معها الآن ؟ أنت تضع نفسك في هوّةٍ سحيقةٍ قد يكلّفك الخروج منها ثمناً غالياً . ماذا جنت يداك من فعلتك غير الندم ، لا وقت لديك لكي تسترجع قـواك فليس كل حدث عابر .. ها أنت ذا تمنحها فرصةً أخرى لافتراسك . عدْ حيث أتيت ، عدْ لحانتك أو فندقك فذاك أجدى لك .

انتظرت المرأة ردّاً من عنبر سعيد لكنّهُ أدار ظهرهُ وأتّجه حيث الحانة ، لم تدعهُ يفلت من شباكها فاصطادته من جديد ، تشبّثت بقميصه وصاحت به :

–  لا تقدر أن تحتقرني ..

–  لم أحتقرك

–  اعطيتك ما رغبت فيه ..

–  ضعفي جعلني أقدم على ما ندمت عليه !

– عليك أن …

توقفت عن الكلام فردّ عليها يائساً :

– عليّ ماذا ؟

– هو ذا الموضوع الذي جئتك من أجله .

لم يتأكّد بعد من صدق نواياها ، فقد ساورته الشكوك أنّها تريد الإيقاع به ثانيةً ، حاولت معه وهي تترجاه أن يلتقيا لقاءاً ليس مثل ذاك اللقاء ، هي أقسمت على ذلك أكثر من مرة ولكي يصل وإيّاها إلى برِّ الأمان وافق أن يلتقيا من جديد .

في اللقاء الثالث ، كانت أقلّ شراسة وأكثر هدوءاً ، وكان عنبر سعيد أكثر إصغاء ً لها .. التقط كلماتها بصبر ، وتأنٍّ .. الآن يا عنبر بن سعيد تتضح الخيوط وينكشف المستور وتنفكّ الطلاسم التي طالما شغلتك .. الآن يا عنبر ابن سعيد تعرف كل شيء ، فالمرأة التي أمامك ليست تلك التي إلتقيتها في المرّتين السابقتين ، لم تعد شرسة كما كانت ، انظر في عينيها يا عنبر ابن سعيد ستجد أنّك أمام امرأة أخرى ، ثق بي يا عنبر أنّها امرأة أخرى. جلسا معاً ، حيث لا عين تراهما ولا أحد يبدد وحدتهما ، على جرفِ نهرٍ في جنوب المدينة ، تحت أفياء النخيل تركت المرأة ساقيها للنهرِ سائبتين فانزلقت الأنوثة على وجه المـاء زَبَـدَاً تراقصهُ حركةُ الساقين وتدفعهُ حيث الجرف الآخر .. كانت العصافير تراقب الجسدين المنهكين الصامتين ونواح الفواخت يتسرّب في الفضاء وينعش ظهيرة أواخر الشتاء ، مرَّ وقتٌ قصيرٌ قبلَ أن تتحرّك الشفاه الذابلة . قالت المرأة :

– وحيدةٌ أنا … مثلك . مثلك تماماً !

قال :

–  الوحدة لا تدفع إلى الخطأ .

قالت :

–  إن كنت تقصد ليلة الخربة فذاك خارج عن إرادتي !

– كيف ؟!

أغمضت المرأة عينيها واسترسلت في الكلام :

– أشعرُ أنّ يداً تدفعني لفعل ذلك وتلقي بي حيث لا أريد .. لم تكن إرادتي تلك التي تدفعني لاقتراف الأثم ، هناك من يأسرني ويجبرني لفعل ذلك ، صدّقني يا عنبر ، صدّقني لم تكن إرادتي .. لعن الله الشيخ !

يا الله ، أنّه الآن أمام امرأة تختلف كلّيّاً عن تلك التي إلتقاها في السوق وفي الخربة .. ليست تلك النمرة الشرسة ولا العاهر التي امتصتْ رجولته بشبقٍ غريبٍ .. امرأة تتحدّث بهدوءٍ ، وبعفّةٍ عن الأثم والندم والضياع ، فما الذي دعاها إلى أن تقوم بما قامت به في ليل الخربة ؟ وما علاقة الشيخ بأمرها؟ أكملت المرأة حديثها قاطعةً أفكار عنبر :

–  الكل يرى الشيخ جليلاً تقيّاً نقيّاً إلا أنا ، لم أره إلا شيطاناً يكبّلني بسحره ويحاصرني بشياطينه ..

–  ما علاقتي أنا بالأمر ؟

–  أعرف أنك الوحيد الذي تعرفه مثلما عرفته أنا ، أعرف ذلك من اللحظة التي تجرّأت عليه في السوق في وقت لم يتجرّأ أحدٌ أن يسبّه أو يشتمه . نحن مخدوعون به أما أنت فلا !

قال عنبر :

–  ليس كل ما يلمع ذهباً !

– خدعنا بلحيته ومسبحته الطويلتين وتراتيله الساحرة . رأيناه ملاكاً فأخفى شيطانه عنّا ، كثيرات هن النسوة اللاتي ترددنَ إليه لكنّهنَّ لم يقلنَ حقيقـةَ ما رأوه خشيةَ أن يفضح أمرهنَّ ، أنا واحدة منهنَّ رأيت ما رأينَ وصبـرت ، تلظّيت بناره وصبرت ، تحمّلت ما لم يحمله بعير وصبرت !

قال :

– لست مجبرة أن تترددي عليه .

–         حاولت أن أمنع نفسي عنه ففشلت ومذ رأيتك في الليلة التي خرجت فيها من داره أحسست أنّك مخلّصي .

–         لكنّكِ أوقعتينني …

–  لست أنا !!

أيعقل أن أكون أمام شخصيّتين متضادتين ، طاهرة ونجسة ؟ واحدة تسلب إرادةَ الأخرى وتقودها عمياء حيث الهاوية ، أيعقل أن يحدث ذلك ؟

أجهشت المرأة بالبكاء في وقت لم تنقشع فيه خيوط الشك عن رأس عنبر سعيد . تذكّر ليلته الأخيرة في القرية التي نبذتهُ وأشهرت سيوفها وحرابها في وجهه ، كان لحظتها في البيت ، يعدُّ نفسَهُ ليومٍ حافلٍ بعدما وافقه الشيخ ذاته على تزويجه بالمرأة التي يحب . لم يكن يتوقّع أن يحدث ما حدث لكنّه حدث ! فقد أفشى الشيخ سرّهما وفسّقهما أمام رجال القرية ونسائها وأمر برجمهما . بعد منتصف الليل بقليل فزَّ عنبر من نومهِ على طرقات متعددة وصـراخ خادم الشيخ الواقف عند الباب ، قال له بخوفٍ واضحٍ :

– اهربْ يا عنبر قبلما يصلون إليك .. أثار الشيخ سخط أهل القرية عليك وعليها ، أنّهم في طريقهم إليك .. سيقتلونك يا عنبر!

كانَ مؤشّر الخطر يشير أنّ لا وقت للتفكير ، هرب عنبر تحت جناح الظلام ، وابتعدَ عن المكان وهو يرى كوخه الصغـير تلتهمه نيران مشاعل الشيخ ورجال القرية .

طفرت دمعةٌ من عينيه دون أن يلتفت إلى المرأة ، هي ذات الدمعة التي طفرت منه وهو يرى النار تأكل ما بقي له من أحلامٍ وأمانٍ .

قالت المرأة :

– لا أحد لي سواك يا عنبر ، أنقذني مما أنا فيه .

– لِمَ أصدّقكِ ؟!

– لأنكَ مثلي ، ضحية منافق حقير !

هل قرأت المرأة أفكاري ، وعرفت سرّي ، أشـكُّ أنّها تعرف شيئاً عمّا فعله الشيخ بي . أيكون الشيخ قد أخبرها بقصّتـي ؟ من غير المعقول أن يفشي الشيخ أمراً هو طرف فيه .. ولكن من المعقول أنّهُ سردَ عليها قصّةً شوّهني فيها . لقد صبرت طويلاً يا عنبر ابن سعيد ، صبرت . مَنْ يُطفئ النار التي في صدرِك ؟ ها قد جاء الوقت الذي تقتصّ فيه ممن سلب منك أحلامك وأمانيك وقتل الحب الكبير الذي زرعته في حديقةِ عمرك . الآن عليك أن تأخذ بثأر من لفظت أنفاسها في حفرة الرجم . وما حـدث بالأمسِ قد يحدث اليوم . عليك يا عنبر ابن سعيد أن توقف الدودة المهلكة وتقتنص منها ما هو حق لك . سكـت عنه طيلة تلك السنوات لا لشيء إلا وفاءاً لذكـراها فربما يسيء الشيخ لها من جديد ، وها هي تبزغ مـن جديد نجمةً في ليل عمرك. حرّكت المرأة ساقيها في الماء وشعرَ عنبر برغبةٍ في السباحةِ فألقى جسده في النهر وتبعته المرأة . غاصا معاً وتعانقا تحت سطح الماء البارد حتى استقرا في القعر . سربٌ من السمكِ دارَ حولهما يبارك الجسدين الملتصقين بانتشاء ، تشابكت السيقان والشفاه وعبثت الأصابع في ما تحت الثياب وبدأت سورة الماء تحملُ فقاعاتٍ من التنهّدات التي انتشى منها النهر ولم تستطع برودة الماء ولا الشتاء أن يطفئا جمر الجسدين الملتهبين .كان نهار الجمعة فاتراً ، تحبو ساعاته بهدوءٍ وتمتصّ حركة الأقدام على إسفلت الشارع . خرجَ عنبر سعيد من الحانةِ مبكّراً ، ليس من عادته أن يخرج في هذا الوقت المبكّـر خاصة بعد إن اشتغل مع سلمان في الحانةِ . قادته قدماه حيث منزل الشيخ ، هناك راقب المكان ، دار مرّتين حول المنزل ، انتظر لحظة خروجه لكنّهُ لم يخرج .. نسوةٌ دخلن فرادى إليه ، كل واحدة تبقى في المنزل نصف ساعة أو يزيد .. فوجئ بعدد النسوة اللاتي دخلنَ المنزل ، عشر أو أكثر ، كلما خرجت واحدة دخلت أخرى .. متى يشبع هذا الزنديق من تلك الأجساد ؟ كم جسدٍ عبث فيه ليوهمهن أنّه قريبٌ من الله ! يعتقدنَ بذلك ويطلبنَ بركاته بعدما أمتطى ظهورهنَّ وصدورهنَّ في غرفته المعتمة . كان عنبر يشمّ رائحة زفيره في الأجساد الخارجة والوجوه المنطفئة . يرى أصابع الشيطان وهي عالقة في الرؤوس . ويراه ما بين الأفخاذ المنفرجة . ما الذي يدفعهنَّ إليه بعدما جرّبنه عدّة مرات ؟ أيكون هو الفحـل الوحيد في المدينة بعدما أكل النهار فحولة أزواجهنَّ ؟

انتظر حتى المساء ، وسترَ الظلام اثنتين ممن يعرفهنَّ ، خرجنَ سويّةً ، تتحدّثان وتقهقهان بعد أن أخذتا حصّتهما من زيفهِ . وحيـن تأكّدَ من خلو المكان تشبّثَ في الحائط وصعد إلى السطح . ومن هناك رأى الشيخ في وسط الحوش عارياً يغسلُ ثوباً يحملُ إثم فعلته .

قفزَ مثل نمرٍ جائعٍ ففزَّ الشيخ هلعاً ، حدّقَ فيه كمن يرى الموت أمامه . قال :

– عنبر ؟!

حاولَ أن يهرب من جهة الباب فصاحَ به عنبر :

– اخرج هكذا لتراك الناس جيداً !

كانَ هول المفاجأة قد أنساه عُريه ، توقف ، واستجمعَ قواه وقال متوسّلاً :

–  كنّا صديقين يا عنبر .. أنت لم تنسَ ذلك .

– ولكنّك نسيت .

–  لم أكن طرفاً في الأمر . هناك مَنْ وشى بك في القرية .

قاطعه عنبر :

–  وأفتى برجمي . ألم تشبـع من الأجساد لكي تقتل حلمي ؟

– لم أقتلها . صدّقني يا عنبر !

– صدّقتكَ من قبل . انتظرت منك عذراً فلم تفعل .

– هاأنذا اعتذر لك .

–  تأخّرت كثيراً . لا ينفع عذر بعد وقوع الكارثة .

–  سأخبرك بالحقيقة .

– شاهدتها بعينيّ ، تلك الحقيقة . هل أكذّب عيناً رأت كوخي يحترق ؟

– خذْ ما تشاء ودعني . لديّ من المال ما يكفي ليجعلك أميراً ..!

– ولديّ من القصاص ما يكفي لإطفاء نار صدري .

صرخ الشيخ مرتجفاً :

–  أتقتلني يا عنبر ؟!

–  بل أحرق القمامة وأخلّص الناس من شيطان حلّ بينهم .

–  أعدكَ أن أرحل عن المدينة .

– لا تتعجل سترحل !

لم يجد الشيخ فرصةً للخلاص من عنبر سعيد ففي صدره ما يجعله ينقضّ عليه مثل كاسرٍ عنيدٍ .. عرف الشيخ أن نهايتـه اقتربت بعدما تقدم منه عنبر وربط يديه بحبل الغسيل وقاده حيث الغرفة المعتمة وفراش القطن . هناك شدّه جيداً ، قيّدَ ساقيه ورشَّ المكان نفطاً ، وقال وهو يشعل عود ثقاب :

–  الآن سترحل يا شيخ !

ألقى عود الثقاب المشتعل في فراش القطن وراحت النار تلتهم المكان .. صرخَ الشيخ ، وتوسّل بعنبر فلم يصغِ له ..خرجَ عنبر من دار الشيخ ووقف على مسافةٍ قريبةٍ وهو يشهد الحريق الذي إلتهم الشيخ ومنزله وأطفأ نار صدر عنبر سعيد .
بعد حادثة الحريق الكبير الذي التهم الشيخ ومنزله غادرَ عنبر سعيد المدينة ، غادرها دون أن يخبر أحداً كعادته ، لا سلمان ولا المرأة ولا حتى حمزة سكراب الذي يقيم في سجن المدينة منذ شهور عديدة .. ولأن سلمان كان يتملكه يقينٌ في إنّ عنبر سعيد سيعود من جديد كما في المرة السابقة فقد انتظر وحجز له قنينتي شراب ، إلا أنّ المرأة يئست بعد بحثها عنه في كلِّ مكان في المدينة حتى تيقّنت أنّها لن تراه ثانيةً .
أحدثَ غياب عنبر سعيد في نفسها هـزّةً عنيفةً ، فهي الوحيدة التي تعرف أنّ الحريق الذي نشبَ في منزل الشيخ لم يكن حادثاً عرضيّاً كما أشيع عنه في المدينة فاحتفظت بالسرِّ ولولا غياب عنبر لاكتملت فرحتها وانتعشت حياتها ولكن فراغاً قاتلاً تشعرُ به الآن ، اعتزلت عن الناس والتزمت المنزل ، ولم تعد تخرج إلى السوق أو إلى حمام النساء .. ففي ليلةٍ مقمرةٍ باغتتـها المرأة التي في داخلها وفتحت أمامها مغاليق حياة جديدة ..

–  المدينة التي فرغت من شيخـها لا بد لها أن تجد شيخاً ولم يكن الشيخ هذه المرة إلا أنتِ !!

كانت البداية لسفر جديد في حياة المدينة ، بايعتها النسوة والرجال ، كل شيء حـدث بسرعة ، حتى أنّها لم تعد تستوعب ما يحدث في هذه المدينة المجنونة . وبين ليلةٍ وضحاها صارت الشيخة تشغل حيّزاً مهماً في حياة المدينة والناس . ترددت عليها النسوة ونمن في فراشها القطن ودسّت أصابعها في الأجساد الطريّـة تماماً مثلما كان يفعل الشيخ ، ونامت فوق إحداهن ، ولثمت أخرى ، وعبثت في فروج أخريات حتى انتشلت منهنَّ شهوتهنَّ . أما الرجـال فقد كانت تناديهم بمقاسات دبابيسهم ، بدءاً بالثلاث إنشات حتى غدت المدينة أمام عينيها عاريةً ، تراها ليس مثلما يراها الآخرون ، عارية تماماً بنسوتها ورجالـها .. تعرف ما تستره الثياب وتكشف ما تُخبِّئه الصدور .. عرفت المرأة لعبة الشيخ مثلما عرفت أسرار النسوة اللاتي كنَّ يترددنَ عليه . . لكنّها لم تعرف ما حلَّ بعنبر سعيد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *