فالمسيحيون هم من سكان العراق وغيره من دول المنطقة، الأصليين المسالمين، وتاريخهم حافل بالأمجاد والصبر على البلوى، ولهم دور مشرف في نقل الحضارة والحداثة، ليس في العصر الحالي فحسب، بل وحتى في العصر العباسي وغيره، بما قاموا به من ترجمة كتب التراث اليوناني والروماني وغيره إلى اللغة العربية، وبالأخص في عهد الخليفة المأمون، عهد العقلانية الإسلامية التي قادها المعتزلة.
طالما تشدق كثيرون من الكتاب المسلمين بأن المسيحيين واليهود وغيرهم من الأقليات الدينية قد عاشوا في العالم الإسلامي بسلام، وأن الإسلام يعترف بالمسيحيين واليهود والصابئة، لأنهم من أهل الكتاب وأهل الذمة، أي أنهم في ذمة الدولة الإسلامية. ويستشهدون بالآية “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (الآية 62 من سورة البقرة)، وهذا صحيح، ولكنه يمثل نصف الحقيقة، وربما أقل من النصف، فمقابل هذه الآية يستشهد المتطرفون بعشرات الآيات الأخرى التي يسمونها بآيات السيف أو القتال، يكفرون بها غير المسلمين وحتى من أتباع الديانات السماوية ويستوجبون قتالهم مثل الآية “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” (آل عمران 85). (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (البقرة 193).
فلو تحرينا في تفاصيل التاريخ العربي-الإسلامي، لوجدنا أن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في العالم الإسلامي لم تكن حميمة أبداً كما يدعي البعض، بل كانت في معظمها مأساوية منذ تأسيس الدولة الإسلامية الراشدية وما بعدها، وخاصة بعد إصدار ما سميَ بالوثيقة العمرية (نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب) التي قضت بطرد المسيحيين واليهود من جزيرة العرب والمضايقة عليهم في غيرها، تنفيذاً لحديث النبي محمد: “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان”، كان المسيحيون واليهود يعاملون بفظاعة. لذلك فمشايخ الوهابية اليوم تعتمد على هذه النصوص في تحقيق مآربهم الدنيئة ضد الأبرياء.
والتاريخ ملوث بالعار والشنار باضطهاد غير المسلمين، لذا فإن ما حصل في يوم الأحد في كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد وما قبلها من جرائم هي نتاج تراكمات تراث تحريضي دموي ضد المختلف لمدة 1400 سنة، وقد برزت هذه الأعمال الإرهابية بشكل واضح الآن بسبب ما وفرته لهم التكنولوجية من المتفجرات، والثورة المعلوماتية في تسهيل عملية شحن الشباب المسلم الجاهل، وغسل أدمغتهم بالنصوص التي تدعو إلى العنف، وتحويلهم إلى روبوتات وقنابل بشرية تقوم بتنفيذ هذه التعاليم التدميرية في قتل الأبرياء من أصحاب الدينات المختلفة، بل وحتى من أتباع المذاهب الإسلامية غير الوهابية، إذ أثبتت دراسة أن أكثر من 80% من ضحايا الإرهاب الإسلامي هم من المسلمين.
أجل، إن مجزرة الكاتدرائية المروعة هي واحدة من سلسلة المجازر الفظيعة التي ارتكبت بحق المسيحيين عبر التاريخ الحديث منذ القرن التاسع عشر في العهد العثماني في سوريا ولبنان والعراق. وأشير هنا على من يرغب في المزيد من التفاصيل عن المجازر بحق المسيحيين في الشرق الأوسط إلى مراجعة كتاب العلامة علي الوردي (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج2) الذي ذكر فيه ما تعرض له المسيحيون من جرائم القتل وإذلال يندى لها الجبين، إذ يقول الوردي في هذا الخصوص:
“يمكن القول أن أبشع فترة في تاريخ بلاد الشام هي تلك التي أعقبت الحكم المصري وامتدت زهاء عشرين عاماً، وهي التي سميت بـ”عهد الفتن” إذ حدثت فيها ثلاث مذابح طائفية فظيعة: كانت الأولى عام م1841، والثانية في عام 1845م، والثالثة في عام 1860. وتعد مذابح الستين، وهي التي وقعت في عام 1860م، من أفظع المذابح الطائفية في تاريخ الدولة العثمانية، ولا يزال الكثيرون من أهل الشام يذكرونها بألم ممض، وكانت السبب الأول في هجرة الشاميين إلى الأمريكيتين وأفريقيا وغيرها من أنحاء العالم.*
أما في العراق، فأول مجزرة ارتكبت ضد المسيحيين كانت في العهد الملكي عام 1933 ويا للفضيحة قامت بها الحكومة نفسها، خلال الحملة العسكرية التي شنها الفريق بكر صدقي ضد الآثوريين في شمال العراق، والتي راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف قتيل على أقل تقدير.
وخلال الحكم الملكي والجمهوري البعثي، تعرض اليهود إلى الاضطهاد والفرهود، بذريعة محاربة الحركة الصهيونية ويهود العراق منها براء، مما اضطر اليهود إلى الهجرة القسرية بالكامل. والآن يحاول الإرهابيون، وبدعم من بعض دول الجوار (السعودية وسوريا وإيران) تفريغ العراق من المسيحيين والصابئة أيضاً.
“فبعد إسقاط حكم البعث عام 2003، تعرض المسيحيون في العراق لهجمات مستمرة من قبل المتطرفين ما أدى إلى هجرة كثيفة لأبناء هذه الطائفة إذ لم يتبق في العراق إلا نحو 87 ألف مسيحي من اصل 1.25 مليون.” (تقرير بي بي سي، ليوم 1/11/2010.)
قلنا أن الإرهابيين يعتمدون على نصوص من الكتاب والسنة وما نقل لهم من أئمتهم في التحريض ضد غير المسلمين. وفي هذا الصدد قال ابن تيميه، أحد أئمة الوهابيين: “من لم يبغض النصارى والكفار ليس مسلماً” وقال أيضاً: في مجموع الفتاوى (22-162): “ليست الكنائس بيوت الله، وإنّما بيوت الله المساجد، بل هي –الكنائس- بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها؛ فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كُفّار، فهي بيوت عبادة الكفّار”. وفي حديث منسوب للنبي محمد أنه قال:”لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم فاضطروهم إلى أضيق الطريق”.
لذا فإن مشايخ الوهابية يغسلون أدمغة أتباعهم بهذه النصوص الدينية من الكتاب والسنة، لذلك فهذه الأعمال الإرهابية لا يمكن أن تتوقف ما لم يتم تجفيف منابع التطرف ومصادر تمويله، وهذه المنابع ومصادر التمويل هي في المملكة العربية السعودية. والمفارقة أن الملك السعودي يحاول تجميل وجه نظامه بعقد المؤتمرات الدولية تحت واجهة الحوار بين الأديان، وإظهار نظامه بأنه يسعى إلى نشر روح التسامح بين الأديان، بينما عملياً، تواصل المملكة في صرف المليارات على نشر التطرف الديني الوهابي ليس في مدارس المملكة ومساجدها فحسب، بل وفي كل أنحاء العالم. ففي دراسة أكاديمية أمريكية، أكدت أن السعودية صرفت خلال العشرين عاماً الماضية نحو 87 مليار دولار على نشر التطرف الوهابي في العالم. ومازالت المناهج الدراسية في مدارس المملكة موبوءة بتعاليم التطرف وبرمجة أدمغة الأطفال والشباب على بغض أتباع الأديان الأخرى ومقاتلتهم. لذلك لن نستغرب إذا قام هؤلاء الجهلة بالإرهاب ضد المسيحيين في العراق وغير العراق. والمصيبة أننا لم نسمع أية إدانة لهذه الجرائم من قبل رجال الدين وحتى المعتدلين منهم، ومعنى هذا أن السكوت من الرضا، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
ما العمل؟
نقترح جملة من الإجراءات التالية:
أولاً، إجراءات فورية:
1- من واجب السلطات الأمنية في العراق توفير الحماية لأماكن العبادة للمسيحيين وبالأخص في أيام الآحاد وأوقات تجمعهم لأداء فروضهم العبادية.
2- على رجال الدين المسلمين من جميع المذاهب إدانة هذه العمليات الإرهابية علناً، وإصدار الفتاوى بتكفير القائمين بها، وإبراز النصوص الدينية التي تدعو إلى روح التسامح والتعايش السلمي بين الأديان.
ثانياً، إجراءات على المدى المتوسط والبعيد:
1- لا بد من التأكيد أن هذا الإرهاب هو دولي، ومتفشي في جميع أنحاء العالم، وليس في العراق وحده، وليس بإمكان أية دولة لوحدها بدحره، لذلك فلا بد من تضافر جهود دولية لمواجهته،
2- تنقية المناهج الدراسية في جميع المراحل، وفي جميع البلدان الإسلامية، وبالأخص السعودية ودول الخليج، من النصوص الدينية التي تدعو إلى التطرف الديني والكراهية ضد أتباع الديانات الأخرى.
3- التركيز على نشر روح التسامح والتعايش مع المختلف، وإدخال مواد دراسية تساعد على القضاء على التعصب الديني، مثل مبادئ علم الاجتماع، والفلسفة، وتاريخ الأديان المقارن.
4- على الدولة العظمى، أمريكا، بما لها من تأثير، فرض ضغوط على السعودية وحثها على لجم مشايخ الوهابية لمنعهم من التحريض ضد أتباع الديانات الأخرى.
5- ومن الجهود الدولية، غلق مواقع الانترنت والفضائيات التي تروِّج للتعصب الديني، والعداء ضد أتباع مختلف الأديان والمذاهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
* علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج2، دار كوفان، لندن، عام 1992، ص 47، نقلاً عن مخيائيل مشاقة، مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، القاهرة، عام 1908، ص137-138.
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/