في البدء لا بد من عرض صورة موجزة لحجم المشكلة العراقية، والمصاعب التي يواجهها أولئك الذين وضعهم القدر في حكم العراق بعد سقوط حكم البعث عام 2003، والتركة الثقيلة التي وروثها من حكم البعث، لذلك لا بد من ذكر الحقائق التالية:
1- عُرِفَ العراق بأنه بلد الأزمات الدائمة، كما وعرف شعبه بثوراته وانتفاضاته المسلحة الدائمة ضد الحكومات منذ أن بدأ التاريخ المدن. وسبب عصيان الشعب العراقي الدائم على الحكومات معروف وهو تعرضه لمظالم الحكومات الجائرة وعدم سكوته على تلك الظلم.
2- الحقيقة الثانية، أن مشاكل العراق هي نتاج التاريخ والجغرافية، فموقعه الجغرافي واعتدال مناخه وتوفر خيراته، ساعد على جذب الموجات البشرية والفتوحات عبر العصور، وقد أدى ذلك إلى تعددية مكونات شعبه. ومما زاد في الطين بلة، أن في العراق الحديث، حاولت مكونة واحدة من الشعب الاستحواذ على السلطة والثروة والنفوذ، الأمر الذي أدى إلى صراعات بين هذه المكونات التي ظهرت بشكل واضح بعد سقوط نظام القمع.
3- مازال البعض يستهين بحجم الخراب الذي ألحقه البعث بالشعب العراقي، وصعوبة إسقاط هكذا نظام جائر متجبر، وآخرون يقللون من أهمية هذا السقوط المدوي وتأثيره، ليس على العراق وحده، بل وعلى دول المنطقة والعالم كله.
4- كما ويعتقد آخرون أن أمريكا خلال عملية إسقاط حكومة البعث، قوضت الدولة العراقية عن قصد، وأنه كان بإمكانها إسقاط حكم البعث بدون تدمير الدولة ومؤسساتها. هذا الكلام في رأيي مجرد تمنيات وأفكار رغبوية لم تكن قابلة للتطبيق، لأن الدولة العراقية كانت مختزلة في شخص الدكتاتور صدام حسين وحده، وفق مقولة: (أنا الدولة والدولة أنا)، ولم تكن دولة الشعب، بل كانت دولة صدام حسين وعائلته، لذلك لم يدافع عنها الشعب، وعندما سقط نظام البعث، كان من الطبيعي، وكتحصيل حاصل أن تنهار الدولة وجميع مؤسساتها، العسكرية والمدنية، خاصة وقد أذاب حزب البعث الدولة العراقية في كيان الحزب، لذلك سميت الدولة العراقية في عهد حكم البعث، بـ(دولة المنظمة السرية) و(جمهورية الخوف).
لذلك أعيد ما قلته مراراً وتكراراً، ورغم كل الفواجع وتداعيات السقوط، أنه كان من حسن حظ الشعب العراقي أن تورطت أمريكا في إسقاط حكم البعث، فلو تم السقوط على أيدي العراقيين أنفسهم، أو حتى لو كان صدام حسين قد مات موتاً طبيعياً، لحصل في العراق ما حصل في الصومال بعد إسقاط حكومة محمد زياد بري.
حول ظهور الأحزاب الدينية
ينتقد البعض وجود الأحزاب الدينية، ويحملونها مسؤولية الخراب والتداعيات التي حصلت بعد سقوط حكم البعث، وتفشي الفساد الإداري، والاستقطاب الطائفي والعرقي في الانتخابات..الخ. وهذا أيضاً في رأيي خطأ ناتج عن سوء فهم المرحلة والخراب البشري المتعمد الذي تم على يد حكم البعث. فهؤلاء يقارنون ما حدث بعد ثورة 14 تموز 1958 بما حدث بعد 2003، دون أن يأخذوا اختلاف الظروف الموضوعية، المحلية والدولية، للحدثين الكبيرين بنظر الاعتبار. ففي الحالة الأولى كانت الحرب الباردة قد ساهمت في تصاعد المد اليساري، أو ما أسموه بالمد الأحمر، وفي الحالة الثانية، صعود المد الإسلام السياسي، ليس في العراق فحسب، بل وفي كل العالم الإسلامي.
فالإسلام السياسي في العراق لم يأت من فراغ، وليس من صنع شخص أو أشخاص، بل نتيجة الظروف الموضوعية، المحلية والدولية كما أسلفنا. فبعد عقود من الخراب والجور والظلم، والحروب الداخلية والخارجية، والحصار الاقتصادي، والاضطهاد الطائفي، والعرقي خلال حكم البعث الفاشي، لم يبق أمام الناس سوى اللجوء إلى الدين والطائفة والعشيرة للاحتماء بها. فعندما يقصف البعثيون العتبات الشيعية المقدسة، ويرفعون شعار لا شيعة بعد اليوم، وينشرون المقابر الجماعية في محافظاتهم، يجب أن يعرفوا رد الفعل عند الشيعة الذين يشكلون نحو 60% من الشعب. لهذا يجب أن لا نستغرب انتماء الناس إلى الأحزاب التي تمثل طوائفهم.
إضافة إلى ما تقدم، وخلافاً لشعاراته العلمانية المرفوعة، فحزب البعث نفسه لعب دوراً كبيراً خلال حكمه الجائر، في تأجيج الطائفية، وإحياء العشائرية، وبعث القيم والتقاليد البدوية والقبلية، مقابل انحسار الأحزاب العلمانية الديمقراطية. ولذلك، شئنا أم أبينا، وكرد فعل على هذه الإجراءات، حصل استقطاب مذهبي وعرقي كما أبرزته الانتخابات التشريعية بعد سقوط البعث.
ومما يجدر ذكره، إن صعود الإسلام السياسي ليس خاصاً بالعراق، بل شمل جميع الدول الإسلامية، وهو نتيجة فشل الأنظمة العلمانية المستبدة في حل المشاكل الاقتصادية المتفاقمة لشعوبها. لذلك رفع الإسلاميون شعار (الحل في الإسلام). وفي العراق، حتى حكم البعث نفسه عندما تفاقمت أزمته في التسعينات بعد غزوه للكويت، وتأثير الحصار الاقتصادي المدمر عليه، ركب الموجة الإسلامية وبدأ ما أسماه بالحملة الإيمانية، وكتب صدام بيده عبارة (الله أكبر) على العلم العراقي.
تحديات ما بعد السقوط
لقد سقط البعث ولكن تركته الثقيلة بقيت وستبقى مدة طويلة مع الأسف. فحجم الخراب الذي تركه البعث فوق التصور، لذلك فالذي يحكم العراق بعد حكم البعث لا بد وأن يكون في موقف لا يحسد عليه، لأن هذه السلطة تواجه قائمة طويلة من الصعوبات والتحديات الكبيرة، نوجزها بما يلي:
1- الخراب البشري، المتمثل في تفتيت النسيج الاجتماعي والتجهيل المتعمد، وتزييف الوعي، وتدني الشعور بالمسؤولية، وتفشي الإرهاب والجريمة المنظمة…الخ،
2- عدم وجود تجربة سابقة في ممارسة الديمقراطية في العراق، خاصة وأن نحو 85% من الشعب العراقي ولدوا ونشؤوا وتلقوا تعليمهم الخاطئ خلال فترة أبشع نظام فاشستي مستبد.
3- اضمحلال الطبقة الوسطى التي لا يمكن بدونها بناء النظام الديمقراطي.
4- انهيار المجتمع وانشطاره على نفسه وفق انتماءاته الدينية والطائفية والعرقية والقبلية، وإبداء الولاء لهذه الانتماءات بدلاً من الولاء للانتماء الوطني.
5- ضعف الأحزاب العلمانية وتشظيها إلى عشرات التنظيمات الصغيرة المتنافسة والمتصارعة فيما بينها والتي لا حول لها ولا قوة.
6- التدخل الفظ لدول الجوار بالشأن العراقي لإجهاض العملية السياسية، وإفشال الديمقراطية في العراق لكي لا تصل عدواها إلى بلدانهم، وذلك عن طريق دعم الإرهاب، والميليشيات التابعة للأحزاب الدينية وغير الدينية، مقابل تنفيذ هذه الأحزاب أجندات دول الجوار الداعمة لها.
7- الموروث الاجتماعي العراقي هو تاريخياً ضد الحكومة في جميع الأحوال، وأية حكومة كانت، وذلك بسبب مظالم الحكومات السابقة منذ العهد العثماني، لذلك تعتبر معاداة الحكومة ومخالفة قوانينها من علامات البطولة والرجولة، ومسألة وطنية، وتأييد الحكومة خيانة وطنية وجاسوسية، حتى ولو كانت هذه الحكومة منتخبة من الشعب.
8- خبرة البعث في التضليل والتخريب: فخلال أربعة عقود من حكمه، أنشأ البعث جهازاً إعلامياً ضخماً ذا خبرة واسعة في التضليل والتشويش وشراء الذمم ونشر الأكاذيب والإشاعات، والمبالغة في الأخطاء والفساد، وشن حملات تشويه السمعة ضد خصومه، وإرباك الوضع، مستفيداً من التقنية المعلوماتية..الخ، وكل من يحاول تكذيب هذه الأضاليل يوصم بمثقف السلطة. ومع الأسف الشديد، هناك استعداد نفسي لدى المجتمع العراقي لتصديق الأكاذيب والإشاعات.
9- نقص الخبرة لدى الحكام الجدد: والتحدي الآخر هو أن الذين تضعهم الأقدار في موقع السلطة والمسؤولية بعد سقوط البعث هم بلا تجربة سابقة فلا بد وأن يبدؤوا من الصفر، إذ لم يسمح حكم البعث الساقط، لقادة المعارضة بالتمرن على