بين كل فترة وأخرى، تخرج علينا ” الموضات ” الفكرية، بالضبط مثل الموضات فى الأزياء. وأنا طوال عمرى، لم أحب أية موضة فكرية، معلبة، جاهزة، صممها آخرون ، يُقال عنهم ” خبراء “، ولم يحدث أننى لبست ثوبا حسب تقليعات باريس، أو روما، لندن .
كنت ألبس من الأفكار ما يتناغم مع عقلى، الذى يشك فى كل الأشياء حتى فى نفسه. وألبس من الأزياء ما ينسجم مع قوامى ، وألوانى المفضلة ، وحالتى المزاجية.
من ” الموضات ” الفكرية ، التى لم أقتنع بها، ولم أحبها، مقولة تتردد على الألسن وكأنها فى مقام النشيد الوطني، أو القسم المقدس المقولة وهي ” أننا لن نتقدم الا بسيادة التفكير العلمي”.
” التفكير العلمي”، هو المفتاح السحرى الذى ينقصنا، حتى نلحق بالأمم التى سبقتنا، فى سباق الحضارة.
أولا، لست مقتنعة بمسألة “السباق الحضارى” أصلا. بمعنى أنني أريد أن أتقدم، وأحسن من أحوالي، وأرتقى بحياتي، ليس لأننى فى سباق ، وأريد أن أكسبه، وألحق بمنْ يسبقنى. ولكن لأننى أرى أن التقدم، وتحسن الأحوال، والرقى بحياتى، من علامات الوجود الانساني المشرف.
ثانيا، أعتقد أن ما نفتقده، بل ويفتقده العالم، هو “التفكير العادل”، وليس “التفكير العلمي”.
ودعونى أعطيكم مثالا .
قرأت خبرا فى احدى المطبوعات المصرية، عن دراسة مصرية حديثة، توضح أن النساء غير المتزوجات، أكثر عرضة للمرض العقلي. وفسرت ذلك على أنه، نتيجة الشعور بعدم الاستقرار والوحدة، والغيرة من النساء المتزوجات وافتقاد الدفء العاطفي الحميم.
يكمن القصور، فى إغفال وتجاهل “مسئولية” المجتمع ، فيما تشعر به المرأة غير المتزوجة من أحاسيس “سلبية”، تضر بصحتها النفسية والعقلية، حيث ثقافتنا العربية مبنية ، على رفض ونبذ واستنكار واتهام للمرأة غير المتزوجة.
إذا لم يتزوج الرجل، قد يفقد دفء الأسرة ، لكنه لا يفقد دفء المجتمع. لكن المرأة غير المتزوجة تفقد الاثنين ، دفء الأسرة ودفء المجتمع.
ويربى الرجل العربى، على حرياته المطلقة، داخل الزواج وخارجه.
فى ظل هذا الحصار الشرس، وازدواجية القيم الفاسدة ، تحتاج المرأة غير المتزوجة، إلى قوة خارقة وإلى أسلحة استثنائية ، لتستمر، حتى لا يصيبها اضطراب عقلي أو نفسي.
كما أن القضية ليست الزواج أو عدمه، القضية هي: أيّ نوع من الزواج؟. ما غايته وما دوافعه؟. هناك نساء كثيرات متزوجات، ومحرومات من الدفء والاستقرار، والأمان، يشعرن بالبرودة والاحباط والوحدة والكبت العاطفي والجنسي، وهن فى أكناف أزواجهن.
وهل يوجد فى الزواج استقرار ودفء وأمان للزوجة، والزوج له حق تعدد الزوجات، والطلاق الشفهي؟. واذا خان، لا يعيبه شئ الا جيبه؟.
هناك دراسات كثيرة فى مجال الطب النفسى، أثبتت أن المرأة المتزوجة المقهورة، أمام سلطة الزوج، أكثر شعورًا بالاكتئاب والملل وعدم التحقق عن المرأة غير المتزوجة.
بالتالى كان يجب على الدراسة ” العلمية “، أن تفسر النتائج بـ ” التفكير العادل”. العلم، ربما يرصد الظواهر، لكن “التفكير العادل”، يفسرها للوصول الى الحقيقة ، والتغيير الى الأفضل . و” الأفضل ” بالضرورة هو “عدالة” التفكير .
“مش مهم العلم ، المهم الشخص اللي ورا العلم”.
علم بدون عدالة، من الأفضل أن “نبله ونشرب ميته”. علم بدون عدالة، مكانه هو سلة المهملات. علم بدون عدالة، ضياع للوقت والجهد والحقيقة والفلوس.
علم بدون عدالة، أدى الى الاجرام والتعاسة، وأنتج الديناميت وأسلحة الدمار الشامل والقنابل النووية، وتمويل المنظمات الدينية الارهابية. علم بدون عدالة، أنتج كماليات ترفيهية لا نحتاج اليها حقا، وهناك ضرورات للحياة، الغالبية محرومين منها. علم بدون عدالة، تبرير وتقنين وترسيخ، لعالم يقتل الانسانية فى جوهرها.
لست أدرى ، ما العلم الخطير الهايل الحديث، الذى نحتاجه لتوفير علاج صحي آمن للفقراء فى القرى والمدن؟. وتجهيز المستشفيات الحكومية فى الأطراف النائية، بكل معدات الآسعافات الأساسية للحياة؟.
وما هو “التفكير العلمي”، الفظيع الذى ينقصنا، لننتج ما نأكله، ونقلل من الزيادة السكانية، ونمنع تلوث البيئة بالضوضاء والعادم؟. وما هو ” التفكير العلمي” الغائب، حتى نلغى طاعة المرأة للرجال؟. ونلغى الاعلام السلفي؟.
وما هو “العلم الحديث” الذى نفتقر اليه، لتنظيف الشوارع من القمامة، وتنظيف عقولنا من الأوهام، والخرافات، والجشع والكذب، والبيروقراطية، وحب التملك، والوصاية الدينية؟.
وما “العلم” المفقود، لردم ترعة آسنة، او اغلاق بلاعة خطرة، أو محو قوانين ضد المواطنة، أو تغطية سلك كهرباء عار، يقتل الصغار والكبار.
وأى علم هذا الذى يعلمنا الأدب والتهذيب والرقى فى الحوار، والنقاش، مع المخالفين لنا قلبا وقالبا؟.
“بيزنس” كبير مربح، اسمه ارهاب “البحث العلمي”،كل عصر يظهر بموضة مختلفة اللهجة والشكل، تُرصد له ميزانيات ضخمة، ومكاتب مكيفة الهواء، وعمالة أنيقة المظهر، رفيعة الشهادات، تبحث وتدرس، لاعادة انتاج الأوضاع غير العادلة.
مقالات ذات الصلة
14/10/2024