تشكل شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، الوجه الآخر المكمل لثورة 14 تموز 1958، إذ غدا هو والثورة وجهين لعملة واحدة. وبمناسبة الذكرى 52 للثورة المجيدة، أقدم جوانبَ من هذه الشخصية الوطنية الفذة التي أصبحت رمزاً للوطنية العراقية والنزاهة والإخلاص للشعب والوطن والإنسانية.
لماذا شخصية قاسم مثيرة للجدل؟
لم تكن هناك شخصية في تاريخ العراق الحديث، أثارت من الجدل والاختلاف ونشرت عنها كتب ومقالات ودراسات كشخصية الزعيم عبدالكريم قاسم. فكأي شخص دخل التاريخ من أوسع أبوابه في مرحلة التحولات الثورية، له أعداء كثيرون ومحبون كثيرون. فتعرض قاسم إلى الكثير من التشويه ووجهت له تهم شتى منها مثلاً تهمة شق الشعب، وشق الأحزاب السياسية، وضرب بعضها ببعض متبعاً ما سمي ب “سياسة التوازنات”. كما ووجهت له تهمة الشعوبية، والشيوعية، والعمالة لبريطانيا وأمريكا وروسيا، بل وحتى تهمة الجنون وغيرها. وبالمقابل بالغ محبوه في إضفاء المناقب، وإلصاق صفات أسطورية به من فرط حبهم له إلى حد أن البعض من الناس البسطاء لم يصدقوا بقتله لسنوات ما بعد مصرعه. أعتقد من المفيد مناقشة هذه الصفات والتهم التي ألصقت بقاسم لنرى مدى صحة أو خطأ هذه المثالب والمناقب.
موضوعة شق الشعب
يذكر الضابط سالم عبد القادر العباسي الذي نقل عبدالكريم قاسم وطه الشيخ أحمد بدبابته من قاعة محكمة الشعب قرب وزارة الدفاع إلى محطة الإذاعة يوم 9 شباط 1963 حيث أجريت تصفيته مع رفاقه الآخرين، بعد استسلام قاسم إلى الانقلابيين، وتحاشى حرب أهلية لمنع المزيد من سفك الدماء، وبعد أن أعطوه وعداً بالمحافظة على حياتهم، ليلقي مصيره المحتوم على أيدي الإنقلابيين فيقول: “… اتجهنا في شارع الرشيد إلى الباب الشرقي حيث الجسر الجمهوري. وكانت الشوارع خالية من أي بشر… وبعد لحظات قال لي عبدالكريم قاسم: “لماذا ثرتم عليَّ..؟ قلت له لأنك قسّمتَ البلد .. وماشيت الشيوعيين”.
لقد نسي هذا الضابط وآلاف غيره إن انقسام الشعب في مراحل التغيير ونقاط الإنعطافات في حياة الشعوب مسألة حتمية لا مفر منها ولم يسلم منها أي شعب أو أي قائد أو مصلح أو ثائر يقود عمليات التغيير في المنعطفات التاريخية الكبرى كعملية ثورة 14 تموز 1958. فالتحولات الاجتماعية الجارية من شأنها أن تثير الكثير من ردود الأفعال البالغة العنف أحيانا.
يخبرنا التاريخ أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) كان أكثر الخلفاء الذين اختلف حوله المسلمون، وبسببه انشقوا إلى معسكرين متحاربين لأول مرة في تاريخ المسلمين. فيقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: “مشكلة (تفريق جماعة المسلمين) وهذه المشكلة هامة جداً. وهي في الواقع من أهم مشاكل المجتمع البشري بوجه عام. ويطلق عليها علماء الاجتماع اليوم مصطلح (المشكلة ذات حدين).
“ففي كل مجتمع متحرك نجد زمرة من الناس تدعو إلى مبدأ جديد فتفلق المجتمع به وتمزق شمله. وهذه الزمرة المفرِّقة تعد في أول الأمر ضالة عاصية وتكال لها التهم من كل جانب. إنها تمزق الجماعة وتشق عصا الطاعة حقاً. ولكنها في نفس الوقت تبعث في المجتمع روح التجدد والتطور. ولولاها لجمد المجتمع ولبقي في خمود متراكم قد يؤدي به إلى الفناء يوماً ما.”
لذلك فمسألة شق الشعب مسألة حتمية ترافق مراحل الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى وهي ليست من صنع قادة الثورات، بل ملازمة لهذه التحولات. الانشقاق نتيجة الصراع بين فئة ضد التحولات الاجتماعية وفئة تناضل من أجل التغيير والعدالة الاجتماعية. ففي المجتمعات الديمقراطية الناضجة والمتحركة، تحصل هذه التحولات بصورة سلمية عن طريق صناديق الاقتراع، أما في المجتمعات المتخلفة الجامدة والمحكومة بالأنظمة الديكتاتورية، أو الديمقراطية المزيفة كما كان الوضع في العهد الملكي، فتحصل هذه التحولات عن طريق العنف والكفاح المسلح.
وفي حالة ثورة 14 تموز، فإن أسباب شق الشعب عديدة ومعقدة ومتشابكة، منها عوامل داخلية: تمييز ومظالم واضطهادات عنصرية ودينية وطائفية وطبقية متراكمة عبر قرون، كانت تنتظر لحظة انفجار البركان، إضافة إلى العوامل الخارجية، العربية والإقليمية والدولية والشركات النفطية الاحتكارية التي كانت الثورة تهدد مصالحها. فرغم كون الظروف الموضوعية الداخلية كانت ناضجة لتفجير الثورة، إلا إن القوى السياسية وقياداتها من أصحاب المصلحة بالثورة، لم تكن ناضجة بمستوى المسئولية لحماية ثورتها من قوى الثورة المضادة التي كانت تتربص بهم جميعاَ.
تهمة الجنون
أول من اخترع هذه التهمة ضد الزعيم عبدالكريم قاسم هو الصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل الذي أدعى أنه سأل صديق شنشل عن قادة الثورة فأجابه (أن عبدالكريم قاسم نصف مجنون وعبدالسلام عارف نصف عاقل.!!). ومن صياغة الجملة نعرف أنها جملة منحولة، صيغت بخبث ودهاء وخبرة صحفي محترف في التضليل والتلاعب بالألفاظ من أجل تمرير أغراضه. ومن معرفتنا بعلاقة شنشل بالزعيم قاسم نعرف أنه من المستحيل أن يصدر منه مثل هذا التصريح. وقد ظهر في الوثائق السرية البريطانية التي يسمح لها بالنشر بعد ثلاثين سنة، عن مقابلة السفير البريطاني لشنشل في داره في بغداد بعد استقالته من حكومة الثورة ضمن قائمة الوزراء القوميين الآخرين بالجملة، أنه حتى في تلك اللحظة، كان شنشل واضعاً صورة الزعيم قاسم على جهاز التلفزيون في غرفة الضيوف وأنه كان يكن احتراماً كبيراً له. وهذا ينفي ما ادعاه هيكل المعروف عنه في فبركة القصص الصحفية ودوره في تضليل الرأي العام العربي.
أما تهمة شق الأحزاب السياسية وضرب هذا الحزب بذاك، فهي الأخرى لم تصمد أمام أية مناقشة منصفة؟ إذ كيف يمكن لعسكري ومجنون أو نصف عاقل، على حد تعبير هيكل، أن يقنع القادة السياسيين المحترفين لهذه الأحزاب ويشقهم ويضرب بعضهم بالبعض ما لم يكن سياسياً محنكاً وداهية أين منها دهاء معاوية أو مكيافيلي!! أليس هذا إهانة لذكاء قادة تلك الأحزاب ناهيك عن الاستهانة بذكاء القراء؟
أما الحقيقة والواقع، وحسب خطابات الزعيم المدونة وتصريحاته ومقابلات الصحفيين والسياسيين له وتصريحات خصومه عنه فيما بعد، تؤكد أنه كان يتمتع بعقل متفتح وناضج ورباطة جأش وشجاعة وثقافة تجعله من أثقف ممن حكم العراق قبله وبعده. وفي معرض المقارنة بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف يقول إسماعيل العارف: “وكان متوقعاً أن ينفجر الخلاف بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في كل لحظة بعد الثورة لتناقض شخصيتيهما وتعارض مزاجيهما في السلوك والرغبات. وقد جمع بينهما هدف واحد هو تحقيق الثورة وإسقاط النظام الملكي. فعبدالكريم قاسم يختلف عن عبدالسلام في إتزانه وقيمه الخلقية وعمقه وكتمانه وحذره، أما عبدالسلام عارف فقد كان متسرعاَ كثير الكلام متعجرفاً محدوداً ولكنه جسوراً مقداماً. وبالرغم من أن كليهما يتصفان بالشجاعة والإقدام إلا إن جرأة عبدالسلام تتميز بالتهور. أما عبدالكريم قاسم فكان ينفذ ما يريد بجرأة وتصميم بعد حساب دقيق للاحتمالات، ولا يندفع وراء المغريات المادية وحب الظهور. ولم يكن ذلك حال عبدالسلام عارف.”
تهمة الشعوبية
هذه إحدى التهم التي وجهت لقاسم من قبل القوميين العروبيين، وكانت في مقدمة البيان الأول لإنقلاب 8 شباط 1963. والمقصود بالشعوبية العداء للأمة العربية طبعاً. ولكن في المفهوم العروبي العراقي يقصد به الخروج على الموروث التركي الطائفي ضد الشيعة العرب وغيرهم. والمعروف عن قاسم أنه نبذ الطائفية في عهده حيث نشأ في بيئة عائلية مكونة من أب سني وأم شيعية، وأفراد الأسرة خليط من السنة والشيعة ولا يعرفون التمييز الطائفي. لذا كان من الطبيعي من رجل نشأ في مثل هذه البيئة السليمة أن ينبذ الطائفية وجميع أشكال التمييز بين أبناء الشعب الواحد، بل عاملهم حسب انتمائهم الوطني العراقي بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي الذي كان معمولاً به في العهود الغابرة. فاعتبرت هذه السياسة عملاً شعوبياُ معادياً للأمة العربية!!
فهل حقاً كان قاسم ضد الأمة العربية؟ إن تاريخه، سواءً قبل ثورة تموز، حيث خاض المعارك البطولية في حرب فلسطين الأولى عام 1947-1948، التي تعتبر القضية المركزية العربية الأولى، أو بعد الثورة وتبنيه المواقف القومية في الصميم وفي مقدمتها كفاح الشعب الفلسطيني والجزائري ونضال شعب عمان (مسقط) ودعم حركة التحرر الوطني العربية.
فمواقفه من الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي معروفة، وقد خصص مليوني دينار (2 مليون دينار) لدعم الثورة سنوياً، وهذا المبلغ كان كبيراً في ذلك العهد وكان يشكل نحو 2% من الموازنة السنوية، إلى حد أن أنتقده أحد قادة الأحزاب الوطنية متهماً إياه بالتفريط بأموال الشعب العراقي!! ولم يكتف قاسم بالدعم المالي للثورة الجزائرية بالمال فحسب، بل وكان يرسل للثوار كميات كبيرة من الأسلحة وتدريبهم.. الخ إذ يقول الزعيم قاسم بهذا الخصوص: “إنني أبشركم بأن الأسلحة التي خصصت للجزائر كانت بدرجة كافية. وقد خصصنا أسلحة أخرى، وسوف تخصص أسلحة أخرى حتى تتحرر الجزائر. وسوف ندعمها بكل ما أوتينا من قوة. فهذه معاهدنا ومدارسنا العسكرية ومعاهد العلم الأخرى مفتوحة أبوابها أمامهم فهم إخواننا وما عليهم إلا أن يحضروا هذا البلد ويدرسوا على حساب هذه الدولة وهي دولتهم” . فهل هذا الرجل شعوبي؟
أما موقفه من القضية الفلسطينية فلا يمكن حجب شمس الحقيقة بغربال، كما يقولون. فالكل يعرف بمن فيهم الخصوم ويذكرون دور قاسم في حرب فلسطين عام 1947. وهناك حادثة جديرة بالذكر لما لها من دلالة على موقف الزعيم من القضية القومية ومفادها، أن نوري الدين محمود كان قائداً للقوات العراقية عندما وقع الجيش المصري في حصار الفالوجة فأحجم عن مساعدته مستخدماً شتى الذرائع، وكان عبد الكريم قاسم أحد أمراء الألوية الذين أصروا على التدخل لفك الحصار عن الجيش المصري، وبعد رفض نور الدين محمود، رتَّبَ قاسم أمره وأعد لواءه سراً للتحرك ليلاً لمساعدة الجيش المصري خلافاً لأوامر قيادته العسكرية، لكنه فوجئ عشية التحرك بتحقق اتفاق بين القيادتين العربية والإسرائيلية لفك الحصار. (راجع خليل إبراهيم حسين، موسوعة 14 تموز، عبد الكريم قاسم.) والجدير بالذكر أن خليل إبراهيم حسين من الضباط القوميين العرب ومن ألد خصوم قاسم.
فمرحلة حكومة ثورة 14 تموز، كانت مرحلة الشعوبية في رأيي هؤلاء لأنها امتنعت عن التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عرقي ولأن قاسم لم ينساق وراء العواطف في القبول بالوحدة الفورية وإلغاء الجمهورية العراقية.
كما إن عبدالكريم قاسم هو الذي أسس جيش التحرير الفلسطيني في العراق، وطالب بتأسيس الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية قبل احتلالها من قبل الصهاينة. فهل من الإنصاف اعتبار هذا الرجل شعوبياً وحاقداً على القومية العربية؟
وهذا ما أشار إليه في أخر تصريح صحفي له رداً على سؤال الصحفي إدوارد صعب من صحيفة (اللوموند) الفرنسية، حول وجود مؤامرات تهدد النظام، فأجاب :
“هناك مؤامرة الأخطر، وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا، إنما ضد فلسطين بشكل خاص. فهناك مؤشرات في الأجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وهم يدركون أن النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل كل شيء من الحركات التقدمية المناهضة لإسرائيل. والأمريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق”.
ولم يكتف الزعيم بدعم حركات التحرر العربية فحسب بل وكان يدعم جميع حركات التحرر العالمية، ويقول بهذا الخصوص: ” نحن لا نحارب فئة معينة من الاستعماريين وحسب، نحن نحارب كل قوى الاستعمار الغاشمة التي تقيد الشعوب وسنبذل العون لبقية الشعوب في كفاحها من أجل تحررها الوطني”
أما على المستوى الداخلي فكان حريصاً على التراث العربي والإسلامي ولم يبدر منه أي شيء لكي تلصق به تهمة الشعوبية. ومن الجدير بالذكر أنه بعد نجاح ثورة تموز، أصدر الزعيم قاسم في اليوم الرابع من أيلول القانون رقم 23 لسنة 1958 وأطلق عليه قانون العفو العام عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من أول أيلول 1939 إلى ما قبل 14 تموز 1958 ، والذي بموجبه أعاد المكانة إلى العقداء الأربعة القوميين قادة حركة مايس 1941 واعتبرهم شهداء الوطنية، كما شمل القانون يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم. كذلك شمل العفو الضباط الأكراد الذين التحقوا بالحركة الكردية عام 1945 وأُعدموا، بعد استسلامهم للسلطة الملكية، ومنهم محمد أمين در بندي.
كما أخذ الزعيم قاسم يرعى شخصياً عائلة المرحوم كامل شبيب بعد إعدامه في العهد الملكي، حتى أنه عيَّن ابنه الملازم عوض كامل في مقره في وزارة الدفاع وبقى ملازماً له حتى انقلاب شباط ، حيث أُحيل على التقاعد وكان برتبة ملازم أول. كما عيَّن عام 1961 محمد سلمان، وزيراً للنفط، تكريماً لأخيه العقيد محمود سلمان، وتم طرده من قبل انقلابي شباط وأودع السجن، لا لشيء إلا لكونه وافق أن يكون وزيراً في حكومة عبد الكريم قاسم.
تهمة شق الأحزاب وسياسة التوازنات
أما التهمة الثالثة وهي شق الأحزاب، فهي الأخرى لم تصمد أمام الزمن. لأن من الواضح أن الأحزاب هي التي بدأت تتصارع فيما بينها ولم تحتاج إلى تحريض من قاسم، وذلك بتفضيل مصالحها الذاتية على المصالح الوطنية وعدم إدراكها لما يحاك ضدها وضد الوطن. ويقول بهذا الصدد الأستاذ محمد أمين: “لا أجدني بحاجة إلى التحدث عما جرى بعد ذلك، فذلك ليس بمهمة هذه الكلمة، ولكني أؤكد على عظمة هذه الثورة وأهميتها في تاريخ العراق الحديث. هذه الثورة التي ظهر اليوم كثيرون مع الأسف ينددون بها ويشوهون وجهها لأنها لم تبلغ غايتها التي كنا نريدها لها، ولا يدرون أن التقصير لم يكن من جانبها وان النكسات الكثيرة المؤذية التي تعرضت لها ومن ورائها شعب العراق لحد اليوم جاءت من أن القوى الوطنية لم تكن في مستوى مهماتها الحقيقية إزاء حدث كبير مثلها، فانشغلت بالتناقضات الداخلية فيما بينها غير ملتفتة إلى أن العدو الأكبر للجميع يقف لها كلها بالمرصاد.”
كما ويشهد بنزاهة قاسم، الأستاذ مسعود البرازاني فيقول: “… . يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالانحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط وألهبت الجماهير التواقة للحرية والاستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الاتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟”
أما قاسم فكان يتوسل إلى الأحزاب وقادتها أن ينبذوا صراعاتهم وتوحيد صفوفهم لحماية الثورة من المؤامرات التي كانت تحيق بهم وبالوطن، وقال مرة في خطاب له في هذا الصدد: “يقول واحد: هذا قومي، ويقول الأخر هذا شيوعي وذاك بعثي والثالث ديمقراطي. وأنا أقول هذا وطني وابن هذا البلد”. وكان أكثر عمقاً لفكرته عندما أفصح عنها بالقول: ” قمت بالثورة لصالح كل الناس إني دوماً مع الناس كلهم. أني فوق الميول والاتجهات والتيارات دوماً، وليس لدي انحياز لأي جانب كما إني أنتمي إلى الشعب بأسره، وإني أهتم بمصالح الجميع، وأسير إلى الأمام معهم كلهم، كلهم أخوتي.” كما وناشد القوى المتصارعة بالقول: “أيها الديمقراطيون، أيها الشيوعيون، أيها القوميون، أتوسل إليكم أن تنبذوا خلافاتكم ووحدوا قواكم في خدمة البلد” . فهل الذي تصدر منه هذه الأقوال هو مجنون وشعوبي وقليل الخبرة بالسياسة، ويعمل على شق الصفوف والأحزاب؟ عجبي!!!!!!!
فالصراعات بدأت منذ الأيام الأولى من الثورة عندما طرح القوميون وبتعليمات من ميشيل عفلق الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والقيادة المصرية، وتبنته قوى القومية العربية الأخرى، شعار الوحدة العربية الفورية. علماً أن هذا الهدف لم يكن من أهداف الثورة. فالقوميون رفعوا شعار الوحدة العربية، واليساريون (الشيوعيون والوطنيون الديمقراطيون والمستقلون) رفعوا شعار الإتحاد الفيدرالي، وهو الأقرب للواقع والتنفيذ.
الواقع هو أن البلاد كانت تمر في مرحلة ثورة وطنية لو قدر لها البقاء، لكانت ثمارها عظيمة للجميع، ولكنها كانت مهددة بالأخطار. وقد توسل قاسم بالجادرجي أن يقبل منصب نائب رئيس الوزراء خلال المرحلة الانتقالية إلى أن تجرى الانتخابات البرلمانية فرفض الجادرجي ذلك كما رفض التعاون مع قاسم. أما وجهة نظر محمد حديد وأغلب أعضاء قيادة الحزب فكانت مع دعم الثورة والوقوف مع قاسم.
وعندما أجيزت الأحزاب للعمل العلني، رفض وزير الداخلية إجازة حزبين فقط وهما حزب التحرير الإسلامي والحزب الشيوعي العراقي الذي أجيز حزب داود الصائغ بدلاً عنه، ولكن اعترض حزب التحرير الإسلامي على قرار الوزير وقدم شكوى على الحكومة إلى محكمة التمييز، فأصدرت المحكمة قراراً بإجازة الحزب، ولم يتدخل قاسم بقرار المحكمة رغم أن هذا الحزب كان يجاهر بعدائه لقاسم وحكومته وانتهى دوره مباشرة بعد إسقاط حكومة الثورة في انقلاب 8 شباط 1963. لذلك كان على الحزب الشيوعي أن يحذو حذو حزب التحرير، فيقدم شكوى إلى محكمة التمييز للنظر في قرار إجازته، إلا إنه لم يعمل ذلك.
ثقافة قاسم
لم يتعرض كاتب سياسي أو ناقد إلى ثقافة أي حاكم، سواء في العراق أو في البلاد العربية، عدا التطرق إلى ثقافة عبدالكريم قاسم. فبعد أن فشلوا في الطعن بوطنية قاسم وإخلاصه ونزاهته وحبه للشعب والوطن، حاولوا الطعن في عروبته وإخلاصه للشعوب العربية، ووصموه بالشعوبية، ولما فشلوا في إثبات هذه التهم فلم يبق أمامهم سوى اللجوء إلى الطعن بثقافته. فهل حقاً كان قاسم غير مثقف؟
يؤكد الأستاذ حسن العلوي الذي كان يسكن مجاوراً ليبت الزعيم، عندما كان تلميذاً في المدرسة، فيقول: “كثيراً ما أسررت لأم حامد (أم عبدالكريم قاسم) رغبتي باستعارة كتاب…من خزانة قاسم فصحبتني إلى غرفته لأنتقي أحد الكتب، وهي حافلة بكتب الجغرافيا والتاريخ واللغة والأدب مع مجموعة من الكتب الأجنبية. وكنت كلما فتحت كتاباً وجدت الخطوط بالقلم وقد سودت ما بين السطور، فأريها ذلك كي لا تتهمني بالعبث بالكتب، فتولول قائلة (هذه عادة عبدالكريم). وقد أثار انتباهي كثرة قراءاته النحوية. وكنت بعد أن أخذ مكانه في زعامة العراق، وصرت صحفياً ومدرساً للغة العربية أتابع باهتمام -وكأي معلم- جملة إعرابية. فأشعر بارتياح لأنه لا يلحن باللغة العربية فأعود بذاكرتي إلى تلك الخطوط مرة أخرى.”
ولكن مع ذلك يصر هؤلاء على أن عبد الكريم “غير مثقف”. فما المقصود بالثقافة في هذه الحالة. فالرجل خريج الكلية العسكرية وكلية الأركان العراقيتين وسانت هيرز البريطانية. وكان يقرأ الكتب الأدبية والتاريخية وغيرها، وقارئ للصحف البريطانية. وكان يقرأ الصحف الوطنية وخاصة صحيفة الأهالي حتى اعتبر نفسه تلميذاً لجماعة الأهالي ومؤمن بمبادئها كما هو معروف.
ويقول وزير خارجيته هاشم جواد أنه كان يقرأ الكتب عندما يذهب لبيته أيام الجمعة. نعم لم يكن قاسم متأدلجاً في ثقافته. وفي رأيي هذه من الصفات الحميدة في السياسي في بلد متعدد الاتجاهات الفكرية والقومية والدينية والمذهبية كالعراق. فالآيديولوجية السياسية هي قوالب فكرية جامدة عصية على التغير، تفرض على المؤدلج تطبيقها بغض النظر عن ملاءمتها للواقع، إي فرضها على الواقع بالقوة في حياة متحركة أبداً وظروف متغيرة باستمرار. وقد أثبت الزمن صحة مواقف قاسم. ومن سوء الحظ أن قاسم جاء في وقت كان فيه التنافس والتصارع الآيديولوجي على أشده إلى حد الصراع الدموي، ولم يكن فيه مكان لخط الوسطية والاعتدال والعقلانية. فأراد قاسم أن يكون للجميع حسب شعاره الذي رفعه منذ البداية: “فوق الميول والاتجاهات”. وقد أدركنا الآن أن فكرة قاسم كانت صحيحة وبذلك فكان قاسم الرجل المناسب لوقت غير مناسب، لم يعرفوا قدره إلا بعد فوات الأوان.
أما إذا كان المقصود بالمثقف بأن نقارن ثقافة قاسم ببرتراند راسل أو جان بول سارتر أو روجيه غارودي وغيرهم من محترفي الثقافة، نعم فثقافة عبد الكريم قاسم دون ثقافة هؤلاء بكثير لأنه لم يكن فيلسوفاً وربما هذه الصفة في صالح الشعب. إذ كما يقول علي الوردي، وأنقل من الذاكرة، (ليس من صالح الشعب أن يصير الفيلسوف حاكماً، كما طالب إفلاطون، لأن الحاكم الفيلسوف يحمِّل شعبه فوق طاقته.) ولكن لو قارنا ثقافة قاسم بمن حكم العراق من قبله ومن بعده لتبيَّن لنا أنه كان أثقفهم.
فكما يقول الدكتور علاء الدين الظاهر: “فتقافة الملك فيصل الأول عثمانية، وثقافة ابنه غازي شبه معدومة، وعبدالإله لم ينه الدراسة الثانوية. وثقافة نوري السعيد، كمعظم السياسيين الملكيين، عسكرية عثمانية. والرجل عاش ومات من دون أن نعرف هل نجح أو فشل في دورة الأركان العثمانية. وثقافة عبد السلام عارف لا تستحق الذكر وثقافة أخيه عبدالرحمن أقل منها كما هي ثقافة أحمد حسن البكر وطاهر يحيى. وثقافة عبدالناصر عسكرية مصرية. قارن هذا بذاك .. وإذا أخرجنا الهذر العفلقي من رأس علي صالح السعدي لما بقي لديه غير السكر والعربدة.”
هل كان لقاسم برنامج سياسي؟
يتهم عبدالكريم قاسم بأنه كان يفتقر إلى منهج سياسي واضح لحكم البلاد. والسؤال هو: ما المقصود بالمنهج السياسي؟ إذا كان المقصود أنه كان يفتقر إلى آيديولوجيا بالمعنى المتعارف عليه، نعم لم تكن لقاسم آيديولوجية معينة، ولكني أعتبر هذه الصفة من إيجابياته وتصب في صالحه وصالح الشعب، ونتمنى أن يكون جميع قادة العراق أن يكونوا بلا آيديولوجيا كذلك، لأننا نريد من القائد السياسي أن يكون عملياً، متفتح الذهن على الأفكار الجديدة والنيرة، يعيد النظر في حساباته ومواقفه بين حين وآخر ويغيرها حسب ما تقتضيه المستجدات، دون أن يكون مقيداً بسلاسل آيديولوجية جامدة.
نعم لم يكن لقاسم آيديولوجيا معينة، ولكن هذا لا يعني أنه كان بلا برنامج سياسي. كان لقاسم برنامجان سياسيان وليس برنامج سياسي واحد، وكان كل منهما مكمل للآخر. الأول، كان البرنامج الذي وضعته اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، والثاني هو برنامج الحزب الوطني الديمقراطي.
البرنامج الأول، وكما دونه اللواء محسن حسين الحبيب، أحد أعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، وسكرتيرها، وهو قومي عروبي التوجه، والذي ناصب قاسم ألد العداء منذ الأسابيع الأولى للثورة، يذكر في كتاب له عن الثورة وقد حدد البرنامج بعشرين هدفاً.
وقد أجرى حسن العلوي شبه اختبار مدرسي لعبد الكريم قاسم في كتابه (عبدالكريم قاسم رؤية بعد العشرين) توصل إلى أن قاسم قد نفذ 17 من 20 هدفاً من البرنامج الذي ذكره اللواء محسن حسين الحبيب، وبذلك يكون قاسم قد نفذ 85% من برنامج الضباط الأحرار، وهذه درجة امتياز.
أما البرنامج الثاني الذي تبناه عبدالكريم قاسم فهو برنامج الحزب الوطني الديمقراطي، وحسب شهادة الباحث حنا بطاطو الذي يؤكد أن قاسم كان متأثراً بأفكار الحزب المذكور وقد أناط مسئولية كتابة أغلب القوانين التي أصدرتها حكومة الثورة بأعضاء قيادة الحزب بما فيه الدستور المؤقت. ونتيجة لهذا التعاون، كما يشهد بطاطو، حصل إزدهار في الاقتصاد والصناعة لم يشهد العراق له مثلاً في تاريخه.
كما اختار قاسم خيرة الرجالات العراقية خبرة وإخلاصاً من زعماء الحركة الوطنية في الوزارة الأولى لحكومة الثورة لتنفيذ مشاريعها التنموية.
شعبية قاسم
المعروف عن عبد الكريم قاسم أنه نال أوسع شعبية أكثر من أي زعيم سياسي في تاريخ العراق الحديث. والسر في ذلك هو بساطته ونزاهته وإخلاصه وحبه للشعب، وخاصة للطبقات الفقيرة، فقد بنى لهم عشرات الألوف من الدور السكنية وعمل على رفع مستواهم المعيشي وكان يلتقي بهم بتكرار. وهو أول عراقي من عامة الشعب يصل إلى رئاسة الحكومة، فهو الذي كان يعتز بكونه ابن نجار. ونتيجة لذلك فقد كسب قلوب وعقول الناس، فهو بالنسبة لجماهير الشعب يعد بحق بطلهم الأسطوري. وفي مثل هذه الحالات، وفي مرحلة تاريخية معينة كالتي كان يعيشها العراق آنذاك، لا يكتفي الإنسان بالصفات البشرية المعروفة على البطل، بل لا بد وأن تتدخل الأسطورة في الواقع، لإضفاء صفات أسطورية عليه فوق مستوى البشر. والتاريخ مليء بالأمثلة.
ولم تخذله الجماهير المحبة له، فقد خرجت بمئات الألوف في بغداد والمحافظات الجنوبية لنصرته يوم إنقلاب 8 شباط 1963، إلى حد أنه عندما سمع قاسم بالانقلاب وهو في بيته، وأراد الذهاب إلى وزارة الدفاع عن طريق شارع الجمهورية لم يستطع لأن الشارع كان مكتظاً بالجماهير التي تهتف (ماكو زعيم إلا كريم). وقد شاهدت بعيني ذلك اليوم وأنا قادم من البصرة إلى بغداد بالقطار في طريقي إلى الموصل للالتحاق بكلية الطب بعد انتهاء عطلة نصف السنة، حيث كنت في السنة الأولى من دراستي فيها، وبعد أن غادرت القطار توجهت إلى ساحة التحرير، فوجدتها، وكذلك شارع الرشيد، عبارة عن بحر بشري متلاطم، والجماهير حاملة صور الزعيم وهي تردد نفس الهتاف (ماكو زعيم إلا كريم). ويقال أن طاهر يحيى أراد أن يشق طريقه ليلتحق برفاقه الإنقلابيين قرب وزارة الدفاع، فشق طريقه بصعوبة وسط الجماهير وهو يردد معهم (ماكو زعيم إلا كريم).
وتحت عنوان (الرعب في خدمة الثورة -إنقلاب 8 شباط-) يذكر طالب شبيب في مذكراته: “وفي المدخل الرئيسي للمعسكر (الرشيد) قام أنور عبد القادر الحديثي بعمل مرعب، لا أعرف ماذا ستكون نتائجه علينا، لكنه أثر كثيراً على معنويات الجنود والضباط داخل المعسكر. فقد تجمهر أمام بوابة معسكر الرشيد الرئيسية حشد من الجنود وضباط الصف وبعض الضباط والمدنيين يهتفون “ماكو زعيم إلا كريم” و”عاشت الجمهورية العراقية الخالدة”، وآنذاك نادى أنور الحديثي على أحد الهاتفين وطلب منه إعادة هتافه، ولما أعاده، أطلق عليه أنور من مسدسه الذي صوبه نحو رأس الجندي مباشرة فسقط على الفور ميثاً. وفرغت الساحة من كل المتظاهرين، بسبب ما سببته العملية من رعب وذعر.”
وفيما يتعلق بالسخرية من شعبية قاسم، يقول قاسم الجنابي (مرافق الزعيم) وهو شاهد عيان خلال حوار الإذاعة، فيقول أن وجه عبد الستار عبد اللطيف كلامه إلى عبد الكريم قاسم قائلاً: “إنك مسيطر والشعب معك، ولكن دبابة واحدة أسقطتك”. ويعلق الدكتور علي كريم سعيد بحق قائلاً : “كان ذلك بمثابة رسالة رعب لشعب أدَّعوا أنهم ثاروا من أجله. فجاءت تلك، رسالة استفزاز همجية لا تنتمي إلى حضارة إنسانية عمرها ستة آلاف عام. وكأنها رسالة تقول: إن الحكومة الجديدة قاسية. كما إنها تعني بأن الثوار أذعنوا لفكرة: إن لهم الدبابة ولخصومهم التعاطف الشعبي. كذلك كان المشهد التلفزيوني في إهانة جثة الزعيم. كان ذلك المشهد التلفزيوني أسوأ اللقطات المسجلة في تاريخ العراق المعاصر، فلم يكن العراقيون حتى يُمَيَّزوا بهذه المعاملة عن غيره. بل ربما كان صراعاَ لعب فيه قاسم دور أكثر المتصارعين وداعة وتسامحاً وأقلهم همجية وأدلجة وتشريعاَ للقتل، فقد سن عملياً قاعدة: “عفا الله عما سلف”. وكان فيها أقرب إلى عقلية العراقيين البسطاء قبل عصبية الأيديولوجيا الواردة…”
هل كان قاسم دكتاتوراً ؟
الدكتاتورية ظاهرة لها صفات معينة. وهذه الصفات تمتد من الحاكم الدكتاتور في قمة السلطة إلى أوطأ الطبقات في الدولة، فتجدها في الشارع وفي الدائرة وفي المعمل وفي الصحافة والإعلام وفي كل مكان. في النظام الدكتاتوري هناك جواسيس ورجال الأمن منتشرين في كل زاوية من زوايا المجتمع يحصون على الناس أنفاسهم. والناس في حالة هلع خوفا أن تبدر منهم بادرة يحاسبون عليها. هذه الصفات لم تكن موجودة في عهد قاسم حسب اعتراف خصومه قبل محبيه. فالصحافة كانت تتمتع بالتعددية ولم تكن مؤممة. يقول حسن العلوي: “أقيمت مناقب نبوية على أرواح الطبقجلي ورفاقه، ساهم فيها قارئ المقام يوسف عمر، وقارئ القرآن عبدالستار الطيار، وكان كل منهما يقرأ قصائد معادية للوضع القائم آنذاك، وتنصب المايكروفونات في الأماكن العالية، دون أن يتعرض لها أحد من أفراد الشرطة والأمن والإنضباط العسكري، لكونها أماكن دينية ولم يتعرض لها عبد الكريم قاسم طبلة فترة حكمه مع إنها كانت مراكز نشاط معارض لحكمه.. وبرز إسم يوسف عمر ليس مطرباً بل محرضاً من أهم المحرضين ضد ذلك الحكم. وكانت حفلاته الغنائية العادية تنقل بالإذاعة والتلفزيون بشكل مستمر.”
وعندما كانت تخرج مظاهرات معادية له تهتف (يا بغداد ثوري ثوري، خلي قاسم يلحك نوري) وكان قاسم يبعث بالجنود بعد تجريدهم من السلاح، لا لضرب المتظاهرين ضده، بل لحمايتهم من مظاهرة أخرى يقوم بها اليساريون ولمنع التصادم بينهما. كان خصومه يقدمون نكات لاذعة ضده وضد المهداوي علناً وعلى المسارح دون أن يتعرضوا إلى أية مساءلة. واعترف سجناء سياسيون من البعثيين أن السجن كان أشبه بالفندق، تتوفر لهم الفرص لنشر أفكار حزبهم وتنظيم الآخرين. وبهذا الخصوص يشهد الأستاذ معاذ عبدالرحيم، وكان عضواً في حزب البعث وأحد المعتقلين فيقول: “إن الإعتقال أيام عبدالكريم قاسم كان بالنسبة لنا.. أشبه بالفندق، لا تعذيب ولا تنكيل فالعناية جيدة، ومواجهة الأهل مستمرة، وما يصلنا من الأهل من طعام وملابس متيسر، بل أن الموسرين من المعتقلين يطلب من أهله أن يزودونه بأكلة (الباجة) وبالدولمة وغيرها من الأكلات العراقية المشهورة، وكنت من أعضاء الحزب الذين لم يمنعهم الإعتقال من العمل لسكب الأنصار والمؤيدين للحزب..”
كان بيت عبدالكريم قاسم بدون حراسة مما أمكن حزب البعث دس المناشير في غرفة نومه بواسطة طفل من الجيران. ولما اكتشف ذلك لم يحاسب أحداً وهو يعرفهم، بل تحول إلى بيت آخر كما يشهد بذلك حسن العلوي. فيا ترى هل هذا الشخص دكتاتور.؟
لا تنطبق صفات الدكتاتور على قاسم، بل كان من أقرب السياسيين إلى الديمقراطية. فعندما أقدم حسين جميل وزير الإرشاد (الإعلام) على غلق صحيفة الحزب الشيوعي (إتحاد الشعب)، رفض ذلك القرار وأعاد نشرها، وعندها استقال الوزير احتجاجاً على ذلك. ومن الغريب أن يقدم رجل قانون وديمقراطي مثل حسين جميل بغلق صحيفة بسبب خلاف سياسي. فمن كان أقرب للديمقراطية، عبدالكريم قاسم العسكري، أم حسين جميل السياسي المدني وهو الشخص الثاني في الحزب الوطني الديمقراطي بعد زعيمه الجادرجي؟
كما وقال محمد حديد عن قاسم أنه كان أقرب أقرانه العسكريين إلى روح التسامح وفكرة الديمقراطية، فقد ظلت مناصب الدولة في عهده موزعة على الجميع وليس على تيار سياسي واحد.
وقاسم معروف عنه بالرحمة. فهو أول حاكم عراقي بشر بروح التسامح وشعاره المعروف (عفا الله عما سلف) وأبناء ذلك الجيل يتذكرون تصريحاته بعد خروجه من المستشفى الذي عولج به من إصاباته البالغة إثر إطلاق الرصاص عليه في شارع الرشيد من قبل الطغمة العفلقية من ضمنها صدام حسين، حيث عفا عنهم بعد أن حكمت عليهم المحكمة بالإعدام. هذا الموقف المتسامح يؤاخذه عليه اليساريون فيقول الشاعر كاظم السماوي في مذكراته بهذا الخصوص: “نهض عبد الكريم قاسم بعد محاولة اغتياله، وكان المؤمل أن يضرب بيد من حديد، ولكنها كانت من خشب” (كذا). نعم أراد قاسم أن يضرب مثلاً في روح التسامح في بلد تشبع شعبه بقيم الثأر والانتقام والعنف.
مصرع قاسم
كثير من الناس وخاصة من محبيه ومن قوى اليسار، يلومون قاسماً لرفضه تسليح الجماهير من أنصاره يوم 8 شباط 1963 لسحق الانقلاب. لقد رفض تسليح أنصاره لسبب معروف وهو منعاً لوقوع حرب أهلية، إذ كان يفضل استشهاده على إغراق البلاد في هذه الحرب. وكان مصمماً على القتال إلى الاستشهاد، ولكن عندما اتصل بعبدالسلام عارف يوم 9 شباط،، وكان يونس الطائي هو الذي يتفاوض بين الجانبين، مؤكداً له أنهم سيضمنون سلامته ومن معه من رفاقه الضباط الآخرين، وأن (بينهم خبز وملح-على حد تعبير عارف)، مصدقاً بوعود عارف حيث أن قاسم نفسه عفا عنه عندما حكمت عليه محكمة الشعب بالإعدام. لذلك صدق بوعودهم فأنهى القتال واستسلم حقناً للدماء. فلماذا نلوم قاسماً على ذلك، فاللوم على أولئك الذين نكثوا بعهودهم.
أما حول ما يسمى بالمحاكمة فيقول طالب شبيب: دار بيننا حديث غير منظم سادته حالة من التوتر، ولم يكن هناك أي شيء يمكن تسميته بمحاكمة. وكل كلام قيل أو يقال عن إنشاء هيئة حاكمتهم إنما هو نوع من “التسفيط” والتخيل (الخيال)!! ومن الممكن أن يكون قد تدخل علينا رجال يحثون على موقف معين مثل خالد مكي الهاشمي، وكلهم يحثون على الإعدام أو الإسراع به”.
وشاهد عيان آخر من الإنقلابيين وهو (عبدالستار الدوري) كان حاضراً، قال في برنامج (بين زمنين) أنه عندما دخل عبد الكريم قاسم القاعة راح ينظر في وجوه الإنقلابيين واحداً واحداً يتأملهم باندهاش وكأنه غير مصدق أن هؤلاء ينقلبون عليه، ولما حان وقت إعدامه اعتدل في مكانه ووضع سدارته على رأسه وكأنه يتهيأ لأخذ صورة له والبنادق المصوبة نحوه كأنها كاميرات. هكذا كانت شجاعة قاسم وهو يواجه الموت. ثم نفذ حكم الإعدام به وبرفاقه الشهداء فاضل عباس المهداوي، وطه الشيخ أحمد وخليل كنعان. “ومع إنهمار ذخيرة الموت انطلق صوت قاسم هاتفاً بحياة الشعب” .
قوة قاسم في موته:
من المعروف أن الشهداء الأبرار هم أقوى في موتهم مما هم عليه في حياتهم. هكذا كان المسيح والحسين وغاندي وجيفارا وغيرهم. وبكل تأكيد كان قاسم المعروف بتسامحه، واستشهاد بهذه القسوة والوحشية من قبل رفاق الأمس قد جعله أقوى في موته مما كان عليه في حياته. هذه الحقيقة أدركها الشباطيون وأرعبتهم كثيراً منذ اللحظات الأولى من انقلابهم، وهذا هو السبب الذي جعلهم يلقون جثته الممزقة بالرصاص في النهر خوفاً من أن يتخذ الشعب من القبر مزاراً أو رمزاً بعد أن يعود الوعي الغائب أوالمغيب قسراً. وفعلاً صار قاسم أسطورة في مخيال الجماهير الشعبية الفقيرة التي لم تصدق مصرعه وراحوا يتصورونه حتى في القمر.
وختاماً، من هو عبدالكريم قاسم؟
كان عبدالكريم قاسم يجسد في شخصه وبصورة مكثفة، الجوانب الإيجابية والمشرقة من القيم والأعراف والتقاليد العراقية الجميلة المحببة إلى العراقيين في الوطنية والقومية والإنسانية والنبل والشهامة والشجاعة والكرم والمروءة والتسامح والبساطة والعفو عند المقدرة، وحب الناس، وبالأخص الفقراء منهم، والثقة العالية بالنفس وبالشعب وبالناس المحيطين به والاعتماد عليهم. هذه الصفات النبيلة والقيم المثالية العالية التي آمن بها هي التي أحالت بينه وبين استخدام المكر الذي قد يلجأ إليه السياسي الداهية أحياناً لإيهام الخصوم والإيقاع بهم وإبقاء الموالين له متماسكين من حوله، والحفاظ على التوازنات ووحدة القوى الوطنية.
وقد وضعته الأقدار في قمة القيادة، وسلمته أعلى مسئولية لقيادة البلاد وهي تمر في مرحلة من أشد مراحل تاريخ العراق غلياناً وعربدة وهياجاً وانفجاراً. في تلك الانعطافة التاريخية الكبرى التي لا بد من حصول الانشقاقات العميقة والصراعات العنيفة بين مكونات الشعب وقواه السياسية التي لم يسلم منها أعظم رجالات التاريخ ومهما أوتوا من قدرة وكفاءة ودهاء. والظروف التي مر بها قاسم ومعاناته كانت فوق طاقة أي قائد آخر مهما كان حكيماً وداهية، أشبه بتلك التي مر بها الإمام على بن أبي طالب (ع) عند تسلمه الخلافة.
ويمكن القول أن عبدالكريم قاسم كان يمتلك في شخصه مواهب وطاقات كامنة وإمكانيات كبيرة كعسكري وسياسي ورجل دولة، لم تسمح له الظروف العاصفة بعد الثورة لإبرازها كاملة في السياسة والإدارة، لأنه رغم تلك الظروف العاصفة، استطاع الرجل أن يحقق الكثير للعراق ودون أن يكون عنده حزب أو مؤسسات استخباراتية نشطة لتحميه. وعليه أعتقد أن نهاية قاسم بتلك الطريقة اللئيمة لا تدل على ضعفه في شيء، بل كانت حتمية فرضتها ظروف المرحلة التاريخية التي جاءت بالثورة والقوى السياسية التي ساهمت بها، ولأن تلك القوى كانت وما تزال في مرحلة المراهقة السياسية، لم تدرك المخاطر المحيقة بها. ولذلك كان قاسم وكأي شهيد ملتزم بالأخلاق المثالية وصاحب مبادئ ورسالة إنسانية في التاريخ، برز وهو أقوى بعد مصرعه مما كان عليه في حياته. وسيبقى عبدالكريم قاسم، ابن الشعب العراقي البار رمزاً للوطنية العراقية والعدالة الاجتماعية، حياً في وجدان الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 – من رواية العميد الركن (ملازم آنذاك) سالم عبدالقار العباسي إلى أحمد فوزي، أين الحقيقة في مصرع عبدالكريم قاسم؟!!، ط1،سنة 1990، الدار العربية-بغداد، ص 39.
2 – إسماعيل العارف، المصدر السابق، ص 368
3 – خطب الزعيم، ص224، ج2، 1959
4-علي كريم سعيد، عراق 8 شباط 1963، درا الكنوز الأدبية-بيروت، ط1، سنة 1999، ص90.
5- مجلة أصوات ، مصدر سابق .ص. 43
6- عراق 14 تموز، مطبعة النجاح، بغداد، 1959، ص14-15.
7- د.عقيل الناصري، المصدر السابق.
8- محمد أمين، طريق الشعب، حزيران 1998.
9- مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية.
10- عبد الكريم قاسم في خطابه في كلية الاحتياط في الثاني من آذار/ مارس 1959.
11-حسن العلوي، عبدالكريم قاسم رؤية بعد العشرين، ص 12.
12 – د. علاء الدين الظاهر، تفكيك التجني، صحيفة الزمان-اللندنية، العدد 575، الصادر يوم 20/3/2000.
13 – محسن حسين الحبيب، حقائق عن ثورة 14 تموز، ط1، دار الأندلس للطباعة والنشر، سنة 1981، ص 58-61.
14 – د. علي كريم سعيد، عراق 8 شباط في ذاكرة طالب شبيب، من مفاهيم الحوار إلى مفاهيم الدم، ص82.
15 -د. علي كريم سعيد،نفس المصدر، ص 103 .
16 -حسن العلوي، المصدر السابق، ص 88.
17 -معاذ عبدالرحيم، صحيفة الزمان-لندن، العدد 985، يوم 3 آب (أغسطس) 2001.
18 – د.علي كريم سعيد، المصدر السابق ص 103.
19 -د.علي كريم سعيد، المصدر السابق ص102.
20 -برنامج (بين زمنين) عن حياة الزعيم عبدالكريم قاسم، بثته فضائية أبو ظبي على حلقات في أوائل عام 2002.
21 -هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة.
————————
المجد لثورة 14 تموز: لوحات وصور مهمة عن مرحلة 14 تموز مع نشيد وطني جميل
http://www.youtube.com/watch?v=Yt6i1I13VrI
لماذا شخصية قاسم مثيرة للجدل؟
لم تكن هناك شخصية في تاريخ العراق الحديث، أثارت من الجدل والاختلاف ونشرت عنها كتب ومقالات ودراسات كشخصية الزعيم عبدالكريم قاسم. فكأي شخص دخل التاريخ من أوسع أبوابه في مرحلة التحولات الثورية، له أعداء كثيرون ومحبون كثيرون. فتعرض قاسم إلى الكثير من التشويه ووجهت له تهم شتى منها مثلاً تهمة شق الشعب، وشق الأحزاب السياسية، وضرب بعضها ببعض متبعاً ما سمي ب “سياسة التوازنات”. كما ووجهت له تهمة الشعوبية، والشيوعية، والعمالة لبريطانيا وأمريكا وروسيا، بل وحتى تهمة الجنون وغيرها. وبالمقابل بالغ محبوه في إضفاء المناقب، وإلصاق صفات أسطورية به من فرط حبهم له إلى حد أن البعض من الناس البسطاء لم يصدقوا بقتله لسنوات ما بعد مصرعه. أعتقد من المفيد مناقشة هذه الصفات والتهم التي ألصقت بقاسم لنرى مدى صحة أو خطأ هذه المثالب والمناقب.
موضوعة شق الشعب
يذكر الضابط سالم عبد القادر العباسي الذي نقل عبدالكريم قاسم وطه الشيخ أحمد بدبابته من قاعة محكمة الشعب قرب وزارة الدفاع إلى محطة الإذاعة يوم 9 شباط 1963 حيث أجريت تصفيته مع رفاقه الآخرين، بعد استسلام قاسم إلى الانقلابيين، وتحاشى حرب أهلية لمنع المزيد من سفك الدماء، وبعد أن أعطوه وعداً بالمحافظة على حياتهم، ليلقي مصيره المحتوم على أيدي الإنقلابيين فيقول: “… اتجهنا في شارع الرشيد إلى الباب الشرقي حيث الجسر الجمهوري. وكانت الشوارع خالية من أي بشر… وبعد لحظات قال لي عبدالكريم قاسم: “لماذا ثرتم عليَّ..؟ قلت له لأنك قسّمتَ البلد .. وماشيت الشيوعيين”.
لقد نسي هذا الضابط وآلاف غيره إن انقسام الشعب في مراحل التغيير ونقاط الإنعطافات في حياة الشعوب مسألة حتمية لا مفر منها ولم يسلم منها أي شعب أو أي قائد أو مصلح أو ثائر يقود عمليات التغيير في المنعطفات التاريخية الكبرى كعملية ثورة 14 تموز 1958. فالتحولات الاجتماعية الجارية من شأنها أن تثير الكثير من ردود الأفعال البالغة العنف أحيانا.
يخبرنا التاريخ أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) كان أكثر الخلفاء الذين اختلف حوله المسلمون، وبسببه انشقوا إلى معسكرين متحاربين لأول مرة في تاريخ المسلمين. فيقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: “مشكلة (تفريق جماعة المسلمين) وهذه المشكلة هامة جداً. وهي في الواقع من أهم مشاكل المجتمع البشري بوجه عام. ويطلق عليها علماء الاجتماع اليوم مصطلح (المشكلة ذات حدين).
“ففي كل مجتمع متحرك نجد زمرة من الناس تدعو إلى مبدأ جديد فتفلق المجتمع به وتمزق شمله. وهذه الزمرة المفرِّقة تعد في أول الأمر ضالة عاصية وتكال لها التهم من كل جانب. إنها تمزق الجماعة وتشق عصا الطاعة حقاً. ولكنها في نفس الوقت تبعث في المجتمع روح التجدد والتطور. ولولاها لجمد المجتمع ولبقي في خمود متراكم قد يؤدي به إلى الفناء يوماً ما.”
لذلك فمسألة شق الشعب مسألة حتمية ترافق مراحل الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى وهي ليست من صنع قادة الثورات، بل ملازمة لهذه التحولات. الانشقاق نتيجة الصراع بين فئة ضد التحولات الاجتماعية وفئة تناضل من أجل التغيير والعدالة الاجتماعية. ففي المجتمعات الديمقراطية الناضجة والمتحركة، تحصل هذه التحولات بصورة سلمية عن طريق صناديق الاقتراع، أما في المجتمعات المتخلفة الجامدة والمحكومة بالأنظمة الديكتاتورية، أو الديمقراطية المزيفة كما كان الوضع في العهد الملكي، فتحصل هذه التحولات عن طريق العنف والكفاح المسلح.
وفي حالة ثورة 14 تموز، فإن أسباب شق الشعب عديدة ومعقدة ومتشابكة، منها عوامل داخلية: تمييز ومظالم واضطهادات عنصرية ودينية وطائفية وطبقية متراكمة عبر قرون، كانت تنتظر لحظة انفجار البركان، إضافة إلى العوامل الخارجية، العربية والإقليمية والدولية والشركات النفطية الاحتكارية التي كانت الثورة تهدد مصالحها. فرغم كون الظروف الموضوعية الداخلية كانت ناضجة لتفجير الثورة، إلا إن القوى السياسية وقياداتها من أصحاب المصلحة بالثورة، لم تكن ناضجة بمستوى المسئولية لحماية ثورتها من قوى الثورة المضادة التي كانت تتربص بهم جميعاَ.
تهمة الجنون
أول من اخترع هذه التهمة ضد الزعيم عبدالكريم قاسم هو الصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل الذي أدعى أنه سأل صديق شنشل عن قادة الثورة فأجابه (أن عبدالكريم قاسم نصف مجنون وعبدالسلام عارف نصف عاقل.!!). ومن صياغة الجملة نعرف أنها جملة منحولة، صيغت بخبث ودهاء وخبرة صحفي محترف في التضليل والتلاعب بالألفاظ من أجل تمرير أغراضه. ومن معرفتنا بعلاقة شنشل بالزعيم قاسم نعرف أنه من المستحيل أن يصدر منه مثل هذا التصريح. وقد ظهر في الوثائق السرية البريطانية التي يسمح لها بالنشر بعد ثلاثين سنة، عن مقابلة السفير البريطاني لشنشل في داره في بغداد بعد استقالته من حكومة الثورة ضمن قائمة الوزراء القوميين الآخرين بالجملة، أنه حتى في تلك اللحظة، كان شنشل واضعاً صورة الزعيم قاسم على جهاز التلفزيون في غرفة الضيوف وأنه كان يكن احتراماً كبيراً له. وهذا ينفي ما ادعاه هيكل المعروف عنه في فبركة القصص الصحفية ودوره في تضليل الرأي العام العربي.
أما تهمة شق الأحزاب السياسية وضرب هذا الحزب بذاك، فهي الأخرى لم تصمد أمام أية مناقشة منصفة؟ إذ كيف يمكن لعسكري ومجنون أو نصف عاقل، على حد تعبير هيكل، أن يقنع القادة السياسيين المحترفين لهذه الأحزاب ويشقهم ويضرب بعضهم بالبعض ما لم يكن سياسياً محنكاً وداهية أين منها دهاء معاوية أو مكيافيلي!! أليس هذا إهانة لذكاء قادة تلك الأحزاب ناهيك عن الاستهانة بذكاء القراء؟
أما الحقيقة والواقع، وحسب خطابات الزعيم المدونة وتصريحاته ومقابلات الصحفيين والسياسيين له وتصريحات خصومه عنه فيما بعد، تؤكد أنه كان يتمتع بعقل متفتح وناضج ورباطة جأش وشجاعة وثقافة تجعله من أثقف ممن حكم العراق قبله وبعده. وفي معرض المقارنة بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف يقول إسماعيل العارف: “وكان متوقعاً أن ينفجر الخلاف بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في كل لحظة بعد الثورة لتناقض شخصيتيهما وتعارض مزاجيهما في السلوك والرغبات. وقد جمع بينهما هدف واحد هو تحقيق الثورة وإسقاط النظام الملكي. فعبدالكريم قاسم يختلف عن عبدالسلام في إتزانه وقيمه الخلقية وعمقه وكتمانه وحذره، أما عبدالسلام عارف فقد كان متسرعاَ كثير الكلام متعجرفاً محدوداً ولكنه جسوراً مقداماً. وبالرغم من أن كليهما يتصفان بالشجاعة والإقدام إلا إن جرأة عبدالسلام تتميز بالتهور. أما عبدالكريم قاسم فكان ينفذ ما يريد بجرأة وتصميم بعد حساب دقيق للاحتمالات، ولا يندفع وراء المغريات المادية وحب الظهور. ولم يكن ذلك حال عبدالسلام عارف.”
تهمة الشعوبية
هذه إحدى التهم التي وجهت لقاسم من قبل القوميين العروبيين، وكانت في مقدمة البيان الأول لإنقلاب 8 شباط 1963. والمقصود بالشعوبية العداء للأمة العربية طبعاً. ولكن في المفهوم العروبي العراقي يقصد به الخروج على الموروث التركي الطائفي ضد الشيعة العرب وغيرهم. والمعروف عن قاسم أنه نبذ الطائفية في عهده حيث نشأ في بيئة عائلية مكونة من أب سني وأم شيعية، وأفراد الأسرة خليط من السنة والشيعة ولا يعرفون التمييز الطائفي. لذا كان من الطبيعي من رجل نشأ في مثل هذه البيئة السليمة أن ينبذ الطائفية وجميع أشكال التمييز بين أبناء الشعب الواحد، بل عاملهم حسب انتمائهم الوطني العراقي بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي الذي كان معمولاً به في العهود الغابرة. فاعتبرت هذه السياسة عملاً شعوبياُ معادياً للأمة العربية!!
فهل حقاً كان قاسم ضد الأمة العربية؟ إن تاريخه، سواءً قبل ثورة تموز، حيث خاض المعارك البطولية في حرب فلسطين الأولى عام 1947-1948، التي تعتبر القضية المركزية العربية الأولى، أو بعد الثورة وتبنيه المواقف القومية في الصميم وفي مقدمتها كفاح الشعب الفلسطيني والجزائري ونضال شعب عمان (مسقط) ودعم حركة التحرر الوطني العربية.
فمواقفه من الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي معروفة، وقد خصص مليوني دينار (2 مليون دينار) لدعم الثورة سنوياً، وهذا المبلغ كان كبيراً في ذلك العهد وكان يشكل نحو 2% من الموازنة السنوية، إلى حد أن أنتقده أحد قادة الأحزاب الوطنية متهماً إياه بالتفريط بأموال الشعب العراقي!! ولم يكتف قاسم بالدعم المالي للثورة الجزائرية بالمال فحسب، بل وكان يرسل للثوار كميات كبيرة من الأسلحة وتدريبهم.. الخ إذ يقول الزعيم قاسم بهذا الخصوص: “إنني أبشركم بأن الأسلحة التي خصصت للجزائر كانت بدرجة كافية. وقد خصصنا أسلحة أخرى، وسوف تخصص أسلحة أخرى حتى تتحرر الجزائر. وسوف ندعمها بكل ما أوتينا من قوة. فهذه معاهدنا ومدارسنا العسكرية ومعاهد العلم الأخرى مفتوحة أبوابها أمامهم فهم إخواننا وما عليهم إلا أن يحضروا هذا البلد ويدرسوا على حساب هذه الدولة وهي دولتهم” . فهل هذا الرجل شعوبي؟
أما موقفه من القضية الفلسطينية فلا يمكن حجب شمس الحقيقة بغربال، كما يقولون. فالكل يعرف بمن فيهم الخصوم ويذكرون دور قاسم في حرب فلسطين عام 1947. وهناك حادثة جديرة بالذكر لما لها من دلالة على موقف الزعيم من القضية القومية ومفادها، أن نوري الدين محمود كان قائداً للقوات العراقية عندما وقع الجيش المصري في حصار الفالوجة فأحجم عن مساعدته مستخدماً شتى الذرائع، وكان عبد الكريم قاسم أحد أمراء الألوية الذين أصروا على التدخل لفك الحصار عن الجيش المصري، وبعد رفض نور الدين محمود، رتَّبَ قاسم أمره وأعد لواءه سراً للتحرك ليلاً لمساعدة الجيش المصري خلافاً لأوامر قيادته العسكرية، لكنه فوجئ عشية التحرك بتحقق اتفاق بين القيادتين العربية والإسرائيلية لفك الحصار. (راجع خليل إبراهيم حسين، موسوعة 14 تموز، عبد الكريم قاسم.) والجدير بالذكر أن خليل إبراهيم حسين من الضباط القوميين العرب ومن ألد خصوم قاسم.
فمرحلة حكومة ثورة 14 تموز، كانت مرحلة الشعوبية في رأيي هؤلاء لأنها امتنعت عن التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عرقي ولأن قاسم لم ينساق وراء العواطف في القبول بالوحدة الفورية وإلغاء الجمهورية العراقية.
كما إن عبدالكريم قاسم هو الذي أسس جيش التحرير الفلسطيني في العراق، وطالب بتأسيس الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية قبل احتلالها من قبل الصهاينة. فهل من الإنصاف اعتبار هذا الرجل شعوبياً وحاقداً على القومية العربية؟
وهذا ما أشار إليه في أخر تصريح صحفي له رداً على سؤال الصحفي إدوارد صعب من صحيفة (اللوموند) الفرنسية، حول وجود مؤامرات تهدد النظام، فأجاب :
“هناك مؤامرة الأخطر، وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا، إنما ضد فلسطين بشكل خاص. فهناك مؤشرات في الأجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وهم يدركون أن النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل كل شيء من الحركات التقدمية المناهضة لإسرائيل. والأمريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق”.
ولم يكتف الزعيم بدعم حركات التحرر العربية فحسب بل وكان يدعم جميع حركات التحرر العالمية، ويقول بهذا الخصوص: ” نحن لا نحارب فئة معينة من الاستعماريين وحسب، نحن نحارب كل قوى الاستعمار الغاشمة التي تقيد الشعوب وسنبذل العون لبقية الشعوب في كفاحها من أجل تحررها الوطني”
أما على المستوى الداخلي فكان حريصاً على التراث العربي والإسلامي ولم يبدر منه أي شيء لكي تلصق به تهمة الشعوبية. ومن الجدير بالذكر أنه بعد نجاح ثورة تموز، أصدر الزعيم قاسم في اليوم الرابع من أيلول القانون رقم 23 لسنة 1958 وأطلق عليه قانون العفو العام عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من أول أيلول 1939 إلى ما قبل 14 تموز 1958 ، والذي بموجبه أعاد المكانة إلى العقداء الأربعة القوميين قادة حركة مايس 1941 واعتبرهم شهداء الوطنية، كما شمل القانون يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم. كذلك شمل العفو الضباط الأكراد الذين التحقوا بالحركة الكردية عام 1945 وأُعدموا، بعد استسلامهم للسلطة الملكية، ومنهم محمد أمين در بندي.
كما أخذ الزعيم قاسم يرعى شخصياً عائلة المرحوم كامل شبيب بعد إعدامه في العهد الملكي، حتى أنه عيَّن ابنه الملازم عوض كامل في مقره في وزارة الدفاع وبقى ملازماً له حتى انقلاب شباط ، حيث أُحيل على التقاعد وكان برتبة ملازم أول. كما عيَّن عام 1961 محمد سلمان، وزيراً للنفط، تكريماً لأخيه العقيد محمود سلمان، وتم طرده من قبل انقلابي شباط وأودع السجن، لا لشيء إلا لكونه وافق أن يكون وزيراً في حكومة عبد الكريم قاسم.
تهمة شق الأحزاب وسياسة التوازنات
أما التهمة الثالثة وهي شق الأحزاب، فهي الأخرى لم تصمد أمام الزمن. لأن من الواضح أن الأحزاب هي التي بدأت تتصارع فيما بينها ولم تحتاج إلى تحريض من قاسم، وذلك بتفضيل مصالحها الذاتية على المصالح الوطنية وعدم إدراكها لما يحاك ضدها وضد الوطن. ويقول بهذا الصدد الأستاذ محمد أمين: “لا أجدني بحاجة إلى التحدث عما جرى بعد ذلك، فذلك ليس بمهمة هذه الكلمة، ولكني أؤكد على عظمة هذه الثورة وأهميتها في تاريخ العراق الحديث. هذه الثورة التي ظهر اليوم كثيرون مع الأسف ينددون بها ويشوهون وجهها لأنها لم تبلغ غايتها التي كنا نريدها لها، ولا يدرون أن التقصير لم يكن من جانبها وان النكسات الكثيرة المؤذية التي تعرضت لها ومن ورائها شعب العراق لحد اليوم جاءت من أن القوى الوطنية لم تكن في مستوى مهماتها الحقيقية إزاء حدث كبير مثلها، فانشغلت بالتناقضات الداخلية فيما بينها غير ملتفتة إلى أن العدو الأكبر للجميع يقف لها كلها بالمرصاد.”
كما ويشهد بنزاهة قاسم، الأستاذ مسعود البرازاني فيقول: “… . يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالانحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط وألهبت الجماهير التواقة للحرية والاستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الاتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟”
أما قاسم فكان يتوسل إلى الأحزاب وقادتها أن ينبذوا صراعاتهم وتوحيد صفوفهم لحماية الثورة من المؤامرات التي كانت تحيق بهم وبالوطن، وقال مرة في خطاب له في هذا الصدد: “يقول واحد: هذا قومي، ويقول الأخر هذا شيوعي وذاك بعثي والثالث ديمقراطي. وأنا أقول هذا وطني وابن هذا البلد”. وكان أكثر عمقاً لفكرته عندما أفصح عنها بالقول: ” قمت بالثورة لصالح كل الناس إني دوماً مع الناس كلهم. أني فوق الميول والاتجهات والتيارات دوماً، وليس لدي انحياز لأي جانب كما إني أنتمي إلى الشعب بأسره، وإني أهتم بمصالح الجميع، وأسير إلى الأمام معهم كلهم، كلهم أخوتي.” كما وناشد القوى المتصارعة بالقول: “أيها الديمقراطيون، أيها الشيوعيون، أيها القوميون، أتوسل إليكم أن تنبذوا خلافاتكم ووحدوا قواكم في خدمة البلد” . فهل الذي تصدر منه هذه الأقوال هو مجنون وشعوبي وقليل الخبرة بالسياسة، ويعمل على شق الصفوف والأحزاب؟ عجبي!!!!!!!
فالصراعات بدأت منذ الأيام الأولى من الثورة عندما طرح القوميون وبتعليمات من ميشيل عفلق الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والقيادة المصرية، وتبنته قوى القومية العربية الأخرى، شعار الوحدة العربية الفورية. علماً أن هذا الهدف لم يكن من أهداف الثورة. فالقوميون رفعوا شعار الوحدة العربية، واليساريون (الشيوعيون والوطنيون الديمقراطيون والمستقلون) رفعوا شعار الإتحاد الفيدرالي، وهو الأقرب للواقع والتنفيذ.
الواقع هو أن البلاد كانت تمر في مرحلة ثورة وطنية لو قدر لها البقاء، لكانت ثمارها عظيمة للجميع، ولكنها كانت مهددة بالأخطار. وقد توسل قاسم بالجادرجي أن يقبل منصب نائب رئيس الوزراء خلال المرحلة الانتقالية إلى أن تجرى الانتخابات البرلمانية فرفض الجادرجي ذلك كما رفض التعاون مع قاسم. أما وجهة نظر محمد حديد وأغلب أعضاء قيادة الحزب فكانت مع دعم الثورة والوقوف مع قاسم.
وعندما أجيزت الأحزاب للعمل العلني، رفض وزير الداخلية إجازة حزبين فقط وهما حزب التحرير الإسلامي والحزب الشيوعي العراقي الذي أجيز حزب داود الصائغ بدلاً عنه، ولكن اعترض حزب التحرير الإسلامي على قرار الوزير وقدم شكوى على الحكومة إلى محكمة التمييز، فأصدرت المحكمة قراراً بإجازة الحزب، ولم يتدخل قاسم بقرار المحكمة رغم أن هذا الحزب كان يجاهر بعدائه لقاسم وحكومته وانتهى دوره مباشرة بعد إسقاط حكومة الثورة في انقلاب 8 شباط 1963. لذلك كان على الحزب الشيوعي أن يحذو حذو حزب التحرير، فيقدم شكوى إلى محكمة التمييز للنظر في قرار إجازته، إلا إنه لم يعمل ذلك.
ثقافة قاسم
لم يتعرض كاتب سياسي أو ناقد إلى ثقافة أي حاكم، سواء في العراق أو في البلاد العربية، عدا التطرق إلى ثقافة عبدالكريم قاسم. فبعد أن فشلوا في الطعن بوطنية قاسم وإخلاصه ونزاهته وحبه للشعب والوطن، حاولوا الطعن في عروبته وإخلاصه للشعوب العربية، ووصموه بالشعوبية، ولما فشلوا في إثبات هذه التهم فلم يبق أمامهم سوى اللجوء إلى الطعن بثقافته. فهل حقاً كان قاسم غير مثقف؟
يؤكد الأستاذ حسن العلوي الذي كان يسكن مجاوراً ليبت الزعيم، عندما كان تلميذاً في المدرسة، فيقول: “كثيراً ما أسررت لأم حامد (أم عبدالكريم قاسم) رغبتي باستعارة كتاب…من خزانة قاسم فصحبتني إلى غرفته لأنتقي أحد الكتب، وهي حافلة بكتب الجغرافيا والتاريخ واللغة والأدب مع مجموعة من الكتب الأجنبية. وكنت كلما فتحت كتاباً وجدت الخطوط بالقلم وقد سودت ما بين السطور، فأريها ذلك كي لا تتهمني بالعبث بالكتب، فتولول قائلة (هذه عادة عبدالكريم). وقد أثار انتباهي كثرة قراءاته النحوية. وكنت بعد أن أخذ مكانه في زعامة العراق، وصرت صحفياً ومدرساً للغة العربية أتابع باهتمام -وكأي معلم- جملة إعرابية. فأشعر بارتياح لأنه لا يلحن باللغة العربية فأعود بذاكرتي إلى تلك الخطوط مرة أخرى.”
ولكن مع ذلك يصر هؤلاء على أن عبد الكريم “غير مثقف”. فما المقصود بالثقافة في هذه الحالة. فالرجل خريج الكلية العسكرية وكلية الأركان العراقيتين وسانت هيرز البريطانية. وكان يقرأ الكتب الأدبية والتاريخية وغيرها، وقارئ للصحف البريطانية. وكان يقرأ الصحف الوطنية وخاصة صحيفة الأهالي حتى اعتبر نفسه تلميذاً لجماعة الأهالي ومؤمن بمبادئها كما هو معروف.
ويقول وزير خارجيته هاشم جواد أنه كان يقرأ الكتب عندما يذهب لبيته أيام الجمعة. نعم لم يكن قاسم متأدلجاً في ثقافته. وفي رأيي هذه من الصفات الحميدة في السياسي في بلد متعدد الاتجاهات الفكرية والقومية والدينية والمذهبية كالعراق. فالآيديولوجية السياسية هي قوالب فكرية جامدة عصية على التغير، تفرض على المؤدلج تطبيقها بغض النظر عن ملاءمتها للواقع، إي فرضها على الواقع بالقوة في حياة متحركة أبداً وظروف متغيرة باستمرار. وقد أثبت الزمن صحة مواقف قاسم. ومن سوء الحظ أن قاسم جاء في وقت كان فيه التنافس والتصارع الآيديولوجي على أشده إلى حد الصراع الدموي، ولم يكن فيه مكان لخط الوسطية والاعتدال والعقلانية. فأراد قاسم أن يكون للجميع حسب شعاره الذي رفعه منذ البداية: “فوق الميول والاتجاهات”. وقد أدركنا الآن أن فكرة قاسم كانت صحيحة وبذلك فكان قاسم الرجل المناسب لوقت غير مناسب، لم يعرفوا قدره إلا بعد فوات الأوان.
أما إذا كان المقصود بالمثقف بأن نقارن ثقافة قاسم ببرتراند راسل أو جان بول سارتر أو روجيه غارودي وغيرهم من محترفي الثقافة، نعم فثقافة عبد الكريم قاسم دون ثقافة هؤلاء بكثير لأنه لم يكن فيلسوفاً وربما هذه الصفة في صالح الشعب. إذ كما يقول علي الوردي، وأنقل من الذاكرة، (ليس من صالح الشعب أن يصير الفيلسوف حاكماً، كما طالب إفلاطون، لأن الحاكم الفيلسوف يحمِّل شعبه فوق طاقته.) ولكن لو قارنا ثقافة قاسم بمن حكم العراق من قبله ومن بعده لتبيَّن لنا أنه كان أثقفهم.
فكما يقول الدكتور علاء الدين الظاهر: “فتقافة الملك فيصل الأول عثمانية، وثقافة ابنه غازي شبه معدومة، وعبدالإله لم ينه الدراسة الثانوية. وثقافة نوري السعيد، كمعظم السياسيين الملكيين، عسكرية عثمانية. والرجل عاش ومات من دون أن نعرف هل نجح أو فشل في دورة الأركان العثمانية. وثقافة عبد السلام عارف لا تستحق الذكر وثقافة أخيه عبدالرحمن أقل منها كما هي ثقافة أحمد حسن البكر وطاهر يحيى. وثقافة عبدالناصر عسكرية مصرية. قارن هذا بذاك .. وإذا أخرجنا الهذر العفلقي من رأس علي صالح السعدي لما بقي لديه غير السكر والعربدة.”
هل كان لقاسم برنامج سياسي؟
يتهم عبدالكريم قاسم بأنه كان يفتقر إلى منهج سياسي واضح لحكم البلاد. والسؤال هو: ما المقصود بالمنهج السياسي؟ إذا كان المقصود أنه كان يفتقر إلى آيديولوجيا بالمعنى المتعارف عليه، نعم لم تكن لقاسم آيديولوجية معينة، ولكني أعتبر هذه الصفة من إيجابياته وتصب في صالحه وصالح الشعب، ونتمنى أن يكون جميع قادة العراق أن يكونوا بلا آيديولوجيا كذلك، لأننا نريد من القائد السياسي أن يكون عملياً، متفتح الذهن على الأفكار الجديدة والنيرة، يعيد النظر في حساباته ومواقفه بين حين وآخر ويغيرها حسب ما تقتضيه المستجدات، دون أن يكون مقيداً بسلاسل آيديولوجية جامدة.
نعم لم يكن لقاسم آيديولوجيا معينة، ولكن هذا لا يعني أنه كان بلا برنامج سياسي. كان لقاسم برنامجان سياسيان وليس برنامج سياسي واحد، وكان كل منهما مكمل للآخر. الأول، كان البرنامج الذي وضعته اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، والثاني هو برنامج الحزب الوطني الديمقراطي.
البرنامج الأول، وكما دونه اللواء محسن حسين الحبيب، أحد أعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، وسكرتيرها، وهو قومي عروبي التوجه، والذي ناصب قاسم ألد العداء منذ الأسابيع الأولى للثورة، يذكر في كتاب له عن الثورة وقد حدد البرنامج بعشرين هدفاً.
وقد أجرى حسن العلوي شبه اختبار مدرسي لعبد الكريم قاسم في كتابه (عبدالكريم قاسم رؤية بعد العشرين) توصل إلى أن قاسم قد نفذ 17 من 20 هدفاً من البرنامج الذي ذكره اللواء محسن حسين الحبيب، وبذلك يكون قاسم قد نفذ 85% من برنامج الضباط الأحرار، وهذه درجة امتياز.
أما البرنامج الثاني الذي تبناه عبدالكريم قاسم فهو برنامج الحزب الوطني الديمقراطي، وحسب شهادة الباحث حنا بطاطو الذي يؤكد أن قاسم كان متأثراً بأفكار الحزب المذكور وقد أناط مسئولية كتابة أغلب القوانين التي أصدرتها حكومة الثورة بأعضاء قيادة الحزب بما فيه الدستور المؤقت. ونتيجة لهذا التعاون، كما يشهد بطاطو، حصل إزدهار في الاقتصاد والصناعة لم يشهد العراق له مثلاً في تاريخه.
كما اختار قاسم خيرة الرجالات العراقية خبرة وإخلاصاً من زعماء الحركة الوطنية في الوزارة الأولى لحكومة الثورة لتنفيذ مشاريعها التنموية.
شعبية قاسم
المعروف عن عبد الكريم قاسم أنه نال أوسع شعبية أكثر من أي زعيم سياسي في تاريخ العراق الحديث. والسر في ذلك هو بساطته ونزاهته وإخلاصه وحبه للشعب، وخاصة للطبقات الفقيرة، فقد بنى لهم عشرات الألوف من الدور السكنية وعمل على رفع مستواهم المعيشي وكان يلتقي بهم بتكرار. وهو أول عراقي من عامة الشعب يصل إلى رئاسة الحكومة، فهو الذي كان يعتز بكونه ابن نجار. ونتيجة لذلك فقد كسب قلوب وعقول الناس، فهو بالنسبة لجماهير الشعب يعد بحق بطلهم الأسطوري. وفي مثل هذه الحالات، وفي مرحلة تاريخية معينة كالتي كان يعيشها العراق آنذاك، لا يكتفي الإنسان بالصفات البشرية المعروفة على البطل، بل لا بد وأن تتدخل الأسطورة في الواقع، لإضفاء صفات أسطورية عليه فوق مستوى البشر. والتاريخ مليء بالأمثلة.
ولم تخذله الجماهير المحبة له، فقد خرجت بمئات الألوف في بغداد والمحافظات الجنوبية لنصرته يوم إنقلاب 8 شباط 1963، إلى حد أنه عندما سمع قاسم بالانقلاب وهو في بيته، وأراد الذهاب إلى وزارة الدفاع عن طريق شارع الجمهورية لم يستطع لأن الشارع كان مكتظاً بالجماهير التي تهتف (ماكو زعيم إلا كريم). وقد شاهدت بعيني ذلك اليوم وأنا قادم من البصرة إلى بغداد بالقطار في طريقي إلى الموصل للالتحاق بكلية الطب بعد انتهاء عطلة نصف السنة، حيث كنت في السنة الأولى من دراستي فيها، وبعد أن غادرت القطار توجهت إلى ساحة التحرير، فوجدتها، وكذلك شارع الرشيد، عبارة عن بحر بشري متلاطم، والجماهير حاملة صور الزعيم وهي تردد نفس الهتاف (ماكو زعيم إلا كريم). ويقال أن طاهر يحيى أراد أن يشق طريقه ليلتحق برفاقه الإنقلابيين قرب وزارة الدفاع، فشق طريقه بصعوبة وسط الجماهير وهو يردد معهم (ماكو زعيم إلا كريم).
وتحت عنوان (الرعب في خدمة الثورة -إنقلاب 8 شباط-) يذكر طالب شبيب في مذكراته: “وفي المدخل الرئيسي للمعسكر (الرشيد) قام أنور عبد القادر الحديثي بعمل مرعب، لا أعرف ماذا ستكون نتائجه علينا، لكنه أثر كثيراً على معنويات الجنود والضباط داخل المعسكر. فقد تجمهر أمام بوابة معسكر الرشيد الرئيسية حشد من الجنود وضباط الصف وبعض الضباط والمدنيين يهتفون “ماكو زعيم إلا كريم” و”عاشت الجمهورية العراقية الخالدة”، وآنذاك نادى أنور الحديثي على أحد الهاتفين وطلب منه إعادة هتافه، ولما أعاده، أطلق عليه أنور من مسدسه الذي صوبه نحو رأس الجندي مباشرة فسقط على الفور ميثاً. وفرغت الساحة من كل المتظاهرين، بسبب ما سببته العملية من رعب وذعر.”
وفيما يتعلق بالسخرية من شعبية قاسم، يقول قاسم الجنابي (مرافق الزعيم) وهو شاهد عيان خلال حوار الإذاعة، فيقول أن وجه عبد الستار عبد اللطيف كلامه إلى عبد الكريم قاسم قائلاً: “إنك مسيطر والشعب معك، ولكن دبابة واحدة أسقطتك”. ويعلق الدكتور علي كريم سعيد بحق قائلاً : “كان ذلك بمثابة رسالة رعب لشعب أدَّعوا أنهم ثاروا من أجله. فجاءت تلك، رسالة استفزاز همجية لا تنتمي إلى حضارة إنسانية عمرها ستة آلاف عام. وكأنها رسالة تقول: إن الحكومة الجديدة قاسية. كما إنها تعني بأن الثوار أذعنوا لفكرة: إن لهم الدبابة ولخصومهم التعاطف الشعبي. كذلك كان المشهد التلفزيوني في إهانة جثة الزعيم. كان ذلك المشهد التلفزيوني أسوأ اللقطات المسجلة في تاريخ العراق المعاصر، فلم يكن العراقيون حتى يُمَيَّزوا بهذه المعاملة عن غيره. بل ربما كان صراعاَ لعب فيه قاسم دور أكثر المتصارعين وداعة وتسامحاً وأقلهم همجية وأدلجة وتشريعاَ للقتل، فقد سن عملياً قاعدة: “عفا الله عما سلف”. وكان فيها أقرب إلى عقلية العراقيين البسطاء قبل عصبية الأيديولوجيا الواردة…”
هل كان قاسم دكتاتوراً ؟
الدكتاتورية ظاهرة لها صفات معينة. وهذه الصفات تمتد من الحاكم الدكتاتور في قمة السلطة إلى أوطأ الطبقات في الدولة، فتجدها في الشارع وفي الدائرة وفي المعمل وفي الصحافة والإعلام وفي كل مكان. في النظام الدكتاتوري هناك جواسيس ورجال الأمن منتشرين في كل زاوية من زوايا المجتمع يحصون على الناس أنفاسهم. والناس في حالة هلع خوفا أن تبدر منهم بادرة يحاسبون عليها. هذه الصفات لم تكن موجودة في عهد قاسم حسب اعتراف خصومه قبل محبيه. فالصحافة كانت تتمتع بالتعددية ولم تكن مؤممة. يقول حسن العلوي: “أقيمت مناقب نبوية على أرواح الطبقجلي ورفاقه، ساهم فيها قارئ المقام يوسف عمر، وقارئ القرآن عبدالستار الطيار، وكان كل منهما يقرأ قصائد معادية للوضع القائم آنذاك، وتنصب المايكروفونات في الأماكن العالية، دون أن يتعرض لها أحد من أفراد الشرطة والأمن والإنضباط العسكري، لكونها أماكن دينية ولم يتعرض لها عبد الكريم قاسم طبلة فترة حكمه مع إنها كانت مراكز نشاط معارض لحكمه.. وبرز إسم يوسف عمر ليس مطرباً بل محرضاً من أهم المحرضين ضد ذلك الحكم. وكانت حفلاته الغنائية العادية تنقل بالإذاعة والتلفزيون بشكل مستمر.”
وعندما كانت تخرج مظاهرات معادية له تهتف (يا بغداد ثوري ثوري، خلي قاسم يلحك نوري) وكان قاسم يبعث بالجنود بعد تجريدهم من السلاح، لا لضرب المتظاهرين ضده، بل لحمايتهم من مظاهرة أخرى يقوم بها اليساريون ولمنع التصادم بينهما. كان خصومه يقدمون نكات لاذعة ضده وضد المهداوي علناً وعلى المسارح دون أن يتعرضوا إلى أية مساءلة. واعترف سجناء سياسيون من البعثيين أن السجن كان أشبه بالفندق، تتوفر لهم الفرص لنشر أفكار حزبهم وتنظيم الآخرين. وبهذا الخصوص يشهد الأستاذ معاذ عبدالرحيم، وكان عضواً في حزب البعث وأحد المعتقلين فيقول: “إن الإعتقال أيام عبدالكريم قاسم كان بالنسبة لنا.. أشبه بالفندق، لا تعذيب ولا تنكيل فالعناية جيدة، ومواجهة الأهل مستمرة، وما يصلنا من الأهل من طعام وملابس متيسر، بل أن الموسرين من المعتقلين يطلب من أهله أن يزودونه بأكلة (الباجة) وبالدولمة وغيرها من الأكلات العراقية المشهورة، وكنت من أعضاء الحزب الذين لم يمنعهم الإعتقال من العمل لسكب الأنصار والمؤيدين للحزب..”
كان بيت عبدالكريم قاسم بدون حراسة مما أمكن حزب البعث دس المناشير في غرفة نومه بواسطة طفل من الجيران. ولما اكتشف ذلك لم يحاسب أحداً وهو يعرفهم، بل تحول إلى بيت آخر كما يشهد بذلك حسن العلوي. فيا ترى هل هذا الشخص دكتاتور.؟
لا تنطبق صفات الدكتاتور على قاسم، بل كان من أقرب السياسيين إلى الديمقراطية. فعندما أقدم حسين جميل وزير الإرشاد (الإعلام) على غلق صحيفة الحزب الشيوعي (إتحاد الشعب)، رفض ذلك القرار وأعاد نشرها، وعندها استقال الوزير احتجاجاً على ذلك. ومن الغريب أن يقدم رجل قانون وديمقراطي مثل حسين جميل بغلق صحيفة بسبب خلاف سياسي. فمن كان أقرب للديمقراطية، عبدالكريم قاسم العسكري، أم حسين جميل السياسي المدني وهو الشخص الثاني في الحزب الوطني الديمقراطي بعد زعيمه الجادرجي؟
كما وقال محمد حديد عن قاسم أنه كان أقرب أقرانه العسكريين إلى روح التسامح وفكرة الديمقراطية، فقد ظلت مناصب الدولة في عهده موزعة على الجميع وليس على تيار سياسي واحد.
وقاسم معروف عنه بالرحمة. فهو أول حاكم عراقي بشر بروح التسامح وشعاره المعروف (عفا الله عما سلف) وأبناء ذلك الجيل يتذكرون تصريحاته بعد خروجه من المستشفى الذي عولج به من إصاباته البالغة إثر إطلاق الرصاص عليه في شارع الرشيد من قبل الطغمة العفلقية من ضمنها صدام حسين، حيث عفا عنهم بعد أن حكمت عليهم المحكمة بالإعدام. هذا الموقف المتسامح يؤاخذه عليه اليساريون فيقول الشاعر كاظم السماوي في مذكراته بهذا الخصوص: “نهض عبد الكريم قاسم بعد محاولة اغتياله، وكان المؤمل أن يضرب بيد من حديد، ولكنها كانت من خشب” (كذا). نعم أراد قاسم أن يضرب مثلاً في روح التسامح في بلد تشبع شعبه بقيم الثأر والانتقام والعنف.
مصرع قاسم
كثير من الناس وخاصة من محبيه ومن قوى اليسار، يلومون قاسماً لرفضه تسليح الجماهير من أنصاره يوم 8 شباط 1963 لسحق الانقلاب. لقد رفض تسليح أنصاره لسبب معروف وهو منعاً لوقوع حرب أهلية، إذ كان يفضل استشهاده على إغراق البلاد في هذه الحرب. وكان مصمماً على القتال إلى الاستشهاد، ولكن عندما اتصل بعبدالسلام عارف يوم 9 شباط،، وكان يونس الطائي هو الذي يتفاوض بين الجانبين، مؤكداً له أنهم سيضمنون سلامته ومن معه من رفاقه الضباط الآخرين، وأن (بينهم خبز وملح-على حد تعبير عارف)، مصدقاً بوعود عارف حيث أن قاسم نفسه عفا عنه عندما حكمت عليه محكمة الشعب بالإعدام. لذلك صدق بوعودهم فأنهى القتال واستسلم حقناً للدماء. فلماذا نلوم قاسماً على ذلك، فاللوم على أولئك الذين نكثوا بعهودهم.
أما حول ما يسمى بالمحاكمة فيقول طالب شبيب: دار بيننا حديث غير منظم سادته حالة من التوتر، ولم يكن هناك أي شيء يمكن تسميته بمحاكمة. وكل كلام قيل أو يقال عن إنشاء هيئة حاكمتهم إنما هو نوع من “التسفيط” والتخيل (الخيال)!! ومن الممكن أن يكون قد تدخل علينا رجال يحثون على موقف معين مثل خالد مكي الهاشمي، وكلهم يحثون على الإعدام أو الإسراع به”.
وشاهد عيان آخر من الإنقلابيين وهو (عبدالستار الدوري) كان حاضراً، قال في برنامج (بين زمنين) أنه عندما دخل عبد الكريم قاسم القاعة راح ينظر في وجوه الإنقلابيين واحداً واحداً يتأملهم باندهاش وكأنه غير مصدق أن هؤلاء ينقلبون عليه، ولما حان وقت إعدامه اعتدل في مكانه ووضع سدارته على رأسه وكأنه يتهيأ لأخذ صورة له والبنادق المصوبة نحوه كأنها كاميرات. هكذا كانت شجاعة قاسم وهو يواجه الموت. ثم نفذ حكم الإعدام به وبرفاقه الشهداء فاضل عباس المهداوي، وطه الشيخ أحمد وخليل كنعان. “ومع إنهمار ذخيرة الموت انطلق صوت قاسم هاتفاً بحياة الشعب” .
قوة قاسم في موته:
من المعروف أن الشهداء الأبرار هم أقوى في موتهم مما هم عليه في حياتهم. هكذا كان المسيح والحسين وغاندي وجيفارا وغيرهم. وبكل تأكيد كان قاسم المعروف بتسامحه، واستشهاد بهذه القسوة والوحشية من قبل رفاق الأمس قد جعله أقوى في موته مما كان عليه في حياته. هذه الحقيقة أدركها الشباطيون وأرعبتهم كثيراً منذ اللحظات الأولى من انقلابهم، وهذا هو السبب الذي جعلهم يلقون جثته الممزقة بالرصاص في النهر خوفاً من أن يتخذ الشعب من القبر مزاراً أو رمزاً بعد أن يعود الوعي الغائب أوالمغيب قسراً. وفعلاً صار قاسم أسطورة في مخيال الجماهير الشعبية الفقيرة التي لم تصدق مصرعه وراحوا يتصورونه حتى في القمر.
وختاماً، من هو عبدالكريم قاسم؟
كان عبدالكريم قاسم يجسد في شخصه وبصورة مكثفة، الجوانب الإيجابية والمشرقة من القيم والأعراف والتقاليد العراقية الجميلة المحببة إلى العراقيين في الوطنية والقومية والإنسانية والنبل والشهامة والشجاعة والكرم والمروءة والتسامح والبساطة والعفو عند المقدرة، وحب الناس، وبالأخص الفقراء منهم، والثقة العالية بالنفس وبالشعب وبالناس المحيطين به والاعتماد عليهم. هذه الصفات النبيلة والقيم المثالية العالية التي آمن بها هي التي أحالت بينه وبين استخدام المكر الذي قد يلجأ إليه السياسي الداهية أحياناً لإيهام الخصوم والإيقاع بهم وإبقاء الموالين له متماسكين من حوله، والحفاظ على التوازنات ووحدة القوى الوطنية.
وقد وضعته الأقدار في قمة القيادة، وسلمته أعلى مسئولية لقيادة البلاد وهي تمر في مرحلة من أشد مراحل تاريخ العراق غلياناً وعربدة وهياجاً وانفجاراً. في تلك الانعطافة التاريخية الكبرى التي لا بد من حصول الانشقاقات العميقة والصراعات العنيفة بين مكونات الشعب وقواه السياسية التي لم يسلم منها أعظم رجالات التاريخ ومهما أوتوا من قدرة وكفاءة ودهاء. والظروف التي مر بها قاسم ومعاناته كانت فوق طاقة أي قائد آخر مهما كان حكيماً وداهية، أشبه بتلك التي مر بها الإمام على بن أبي طالب (ع) عند تسلمه الخلافة.
ويمكن القول أن عبدالكريم قاسم كان يمتلك في شخصه مواهب وطاقات كامنة وإمكانيات كبيرة كعسكري وسياسي ورجل دولة، لم تسمح له الظروف العاصفة بعد الثورة لإبرازها كاملة في السياسة والإدارة، لأنه رغم تلك الظروف العاصفة، استطاع الرجل أن يحقق الكثير للعراق ودون أن يكون عنده حزب أو مؤسسات استخباراتية نشطة لتحميه. وعليه أعتقد أن نهاية قاسم بتلك الطريقة اللئيمة لا تدل على ضعفه في شيء، بل كانت حتمية فرضتها ظروف المرحلة التاريخية التي جاءت بالثورة والقوى السياسية التي ساهمت بها، ولأن تلك القوى كانت وما تزال في مرحلة المراهقة السياسية، لم تدرك المخاطر المحيقة بها. ولذلك كان قاسم وكأي شهيد ملتزم بالأخلاق المثالية وصاحب مبادئ ورسالة إنسانية في التاريخ، برز وهو أقوى بعد مصرعه مما كان عليه في حياته. وسيبقى عبدالكريم قاسم، ابن الشعب العراقي البار رمزاً للوطنية العراقية والعدالة الاجتماعية، حياً في وجدان الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 – من رواية العميد الركن (ملازم آنذاك) سالم عبدالقار العباسي إلى أحمد فوزي، أين الحقيقة في مصرع عبدالكريم قاسم؟!!، ط1،سنة 1990، الدار العربية-بغداد، ص 39.
2 – إسماعيل العارف، المصدر السابق، ص 368
3 – خطب الزعيم، ص224، ج2، 1959
4-علي كريم سعيد، عراق 8 شباط 1963، درا الكنوز الأدبية-بيروت، ط1، سنة 1999، ص90.
5- مجلة أصوات ، مصدر سابق .ص. 43
6- عراق 14 تموز، مطبعة النجاح، بغداد، 1959، ص14-15.
7- د.عقيل الناصري، المصدر السابق.
8- محمد أمين، طريق الشعب، حزيران 1998.
9- مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية.
10- عبد الكريم قاسم في خطابه في كلية الاحتياط في الثاني من آذار/ مارس 1959.
11-حسن العلوي، عبدالكريم قاسم رؤية بعد العشرين، ص 12.
12 – د. علاء الدين الظاهر، تفكيك التجني، صحيفة الزمان-اللندنية، العدد 575، الصادر يوم 20/3/2000.
13 – محسن حسين الحبيب، حقائق عن ثورة 14 تموز، ط1، دار الأندلس للطباعة والنشر، سنة 1981، ص 58-61.
14 – د. علي كريم سعيد، عراق 8 شباط في ذاكرة طالب شبيب، من مفاهيم الحوار إلى مفاهيم الدم، ص82.
15 -د. علي كريم سعيد،نفس المصدر، ص 103 .
16 -حسن العلوي، المصدر السابق، ص 88.
17 -معاذ عبدالرحيم، صحيفة الزمان-لندن، العدد 985، يوم 3 آب (أغسطس) 2001.
18 – د.علي كريم سعيد، المصدر السابق ص 103.
19 -د.علي كريم سعيد، المصدر السابق ص102.
20 -برنامج (بين زمنين) عن حياة الزعيم عبدالكريم قاسم، بثته فضائية أبو ظبي على حلقات في أوائل عام 2002.
21 -هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة.
————————
المجد لثورة 14 تموز: لوحات وصور مهمة عن مرحلة 14 تموز مع نشيد وطني جميل
http://www.youtube.com/watch?v=Yt6i1I13VrI