تقديـــــم :
1- عبد الكريم العامري: من مقاهي البصرة.. عبق الماضي وذبول الحاضر
2- احسان محمد علي: مقاهي البصرة القديمة
3- علي الإمارة: مقاهي البصرة .. نراجيل ونار أجيال.. المقهى حرية الزمان وديمقراطية المكان
4- جاسم داخل: مقهى البدر في البصرة.. مواقد لا تنطفئ وشاي لا يبرد
5- خليل عثمان: مقهى البدر: “موقد لا ينطفئ، وشاي لا يبرد، ونوارس لا تغادر”
6- جاسم العايف: مقهى (الدَّكة) في البصرة:..فضاء ثقافي..وزمن سبعيني (1-4)
7- وارد بدر السالم: مقاهي بغداد الأدبية.. مركز الريادة وبؤرة التحريض ووثيقة الألم العراقي
8- وارد بدر السالم: مقهى حسن عجمي.. ولادات الزمان في رماد المكان
9- حسن النواب مناجاة الي مقهي حسن عجمي..في بغداد
10- محسن الجنابي مقهى حسن عجمي في الذاكره العراقية
11- عبدالجبار العتابي مقهى حسن عجمي… ذاكرة بغدادية اصابها العمى والاندثار
12- باسم المرعبي حسن عجمي.. صورة مقهى أَمْ صورة مدينة
13- لمياء نعمان مقهى حسن عجمي.. هجره الأدباء وسكنته الوحشة
14- هنادي زرقه الثقافة في زقاق ضيق
15- محمد شعيرالقاهــرة.. المقاهــي فــي المكتبـات
16- محمد ثامر يوسفالبحث عن مقهى حسن عجمي !
17- عدنان الصايغ صعاليك حسن عجمي أيضاً
18- احمد الثائر حسن عجمي ….ذكريات آيلة للاندثار
19- احمد سميسم مقاهي الادباء..ظاهرة ابداعية لا تصنع تجربة
20- احمد زين الدين ترهّـل المقهـى البيروتـي فـي زمـن العولمـة
21- فاطمة ناعوت عزيزي مقهى إيليت
22- فاطمة المحسن «مقاهي بيروت الشعبية» لشوقي الدويهي .. دراسة في المكان العابر والمستقر
23- فريدة الأنصاري بغـــداد الســبعينات الشعر والمقاهي والحانات
24- ديمة ونوس بـارات شـارع الحمـراء اسـتراحة المدينـة قبـل أن يقلـع النهـار
25- هشام تسمارت المغاربة والمقاهِي .. هروب الساعات الطوال إلى الفرجة والتباهِي
26- د. خالد غازي مقاهي القاهرة .. كانت زمان !
27- ايوب خداج مقاهي قصر الحمراء قلب بيروت النابض بالمثقفين
تقديـــــم:
من منا لم تبتلع المقهى ساعات من بياض يومه.. ولم تشتك كراسيه من كثرة الجلوس عليها كل النهار او لبعض الوقت.. هكذا يقتلع المرء اوقاتا من فائض زمانه يمضيه بين حيطان هذا المكان الجحيمي والحميمي في آن.. ويجري صفقات ويعقد صداقات وينسج علاقات مع اشخاص معينين واحيانا تفرضهم الضرورة عنوة وبدون رغبة وسبق اصرار. يقتسم واياهم الهواء الملغوم بالدخان وثاني اوكسيد الكربون، والفضاء المحنط بالثرثرة والزيف والرياء والهواجس والنميمة والريبة، والمسكون بالاوهام والتهيؤات والهواجس..
ويشكل هذا المكان بحميميته المفرطة وجحيمه القسري علامة فارقة في حياة الكائن، ويتميز بتعدد اصناف مرتاديه ومزيج زبنائه وتنوع افكارهم وميولاتهم واهوائهم وسلوكاتهم.. خليط فسيفسائي من كل شكل ونوع، من كل جيل وطيف ومشرب وانتماء ومعتقد.. ادباء وفلاسفة وفنانون وطلبة وبصاصون ولصوص ومحتالون وسماسرة وتجار وساسة ومخبرون ووسطاء ومحتالون ومقامرون ونصابون وقوادون، بعدد هذه الامكنة التي تنبع وتتوالد وتتناسل وتنتشر في هوائنا وتظهر كالفطر مستعمرة الحيز المجالي وما إليه..
كيف يمكن لهذه الامكنة الضيقة بما رحبت الجمع بين هذا الشتات المتنوع المتنافر المستفز، وهذه المتناقضات برمتها أن تنتج وان تخرج منها الآراء والنظريات والحلول.. ولعل اكبر المذاهب الفلسفية والكتابات الادبية انبثقت من هنا، واكبر المؤامرات حيكت دسائسها ضمن اقباء هذا المحيط المزنر بالريبة والحيطة.. ولعل اكبر الادباء والشعراء تخرجوا من هذا المكان.. ولعل اشهر الساسة ولكل منهم ذكرياته الحميمية وعقد صداقات لا ينفرط عقدها على مر العصور كانت لهم مجالس هنا.. ثم لعل التهافت على فتح المقاهي أضحى موضة هذا العصر الغشيم حيث الثروات والاموال تتهافت على اربابها من حيث يعلمون ولا يعلمون ..
عن المقاهى… تلك الأمكنة المثيرة للفضول والأسئلة نحكي، ونفتتح نافذة لنستقرئ بعض ملابساتها واسرارها ومعالمها…
قراءة ممتعة
مع تحيات نقوس المهدي
———————
عبد الكريم العامري
من مقاهي البصرة عبق الماضي وذبول الحاضر
في البدء :
تبتلعني مقهى
وتلفظني أخرى
مقهى..
مقهى..
متى تنتهي دورة المقاهي؟!.
هذا مدخل من الزمن المر، ذلك الزمن الذي كنا نقضي فيه – نحن أدباء المدينة – جل أوقاتنا في المقهى الشعبي، وإن توزّعنا ما بين مقاهي المدينة فأننا اشتركنا برتابة أيامنا وتشابهها، شؤمها وآمالها.. وتشترك كل
المقاهي التي جلسنا فيها بذات المفردات، فثمة زاوية بعيدة عن أنظار العامة، نلتم فيها تحت سطوة دخان السجائر، ورائحة الشاي، نتجاذب أطراف الحديث عن أسماء لم يكن عامة الناس على علم بها، ادغار ألن بو، سارتر، فاليري، بيكت، برنادشو، آرثر رامبو.. وهذا الأخير يذكرني بحديث مع احدهم، والظاهر انه كان يستمع لمشادة بين زميلين عن (رامبو) وما كان على ذاك المتطفل الا أن صاح بنا ( يا إخوان سألوني آنا عن رامبو بس كولولي يا جزء؟) ويقصد بأجزاء الفلم الأمريكي الذي يجسد بطولته سلفستر ستالون بدور رامبو.. وما كان على هذين الزميلين الا أن يستمرا بالضحك حتى كدنا نتأكد بأنهما قد استنفدا كل ضحكهما!! هذا المشهد وضعنا أمام أنفسنا، في ذلك الزمان الصعب، حين كان الناس لاهين بقوتهم وقوت عيالهم وكانوا يسموننا نحن الحاملين كتباً وحافظات كتب بـ(البطرانين)، عرفنا حينها أن العالم الذي كان يعيش فيه الأديب هو أبعد ما يكون عن هذا العالم الصغير الذي ما كان يشكّل إلا وعاءً لاحتواء أمانينا وهمومنا..
المهم، شكّل المقهى نقطة واضحة في ذاكرتنا وذاكرة أبناء المدينة.. ولنأخذكم معنا في جولة قصيرة عبر زمن البصرة لنقلّب أوراق مقاهيها بعمّالها وروّادها.. وكل ما جاء هنا من معلومات أخذناها عن لسان ناس عاشوا تلك الفترة واحتفظوا بها في رؤوسهم التي ما تزال تشعر بالحنين اليها:
• مقهى التجار:
في منطقة العشار وفي سوق التجار شيّدت هذه المقهى في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي وأخذت اسمها من اسم السوق الذي كان ملتقى لتجار البصرة وقد كان روادها من الشخصيات المعروفة في لواء البصرة آنذاك ومنهم( عبد الكريم الخضيري وعبد النبي الشمخاني والحاج سليمان الذكير وعبد القادر باشا أعيان والحاج إبراهيم البجاري وإبراهيم الحاج عيسى والحاج عيسى محمد صالح والحاج محمود فخر الدين وهاشم النقيب وغيرهم من الشخصيات والتجار) وذكر لنا الحاج جاسم عبود عبد الكريم ابن صاحب المقهى أن مزايدات كانت تجرى في المقهى ما بين التجار على التمور خلال الموسم وتتم الصفقات بينهم ومن الأشخاص الذين عملوا في مقهى التجار نذكر (كريم العجلاج وسعد البغدادي وعبود عبد الكريم) وفي فترة التسعينيات من القرن الماضي انتقلت المقهى الى موقع آخر قرب الضريبة القديمة في منطقة الصالحية وكان يرتادها آنذاك عدد من الوجهاء نذكر منهم (الحاج سالم العبادي والشيخ لعيبي حنظل والشيخ عبود التميمي والسيد كاظم البطاط والسيد إسماعيل الجابري والشيخ غازي بن محمد العريبي) حيث كان يعمل بها (جاسم عبود عبد الكريم وهاشم عبد الكريم) وكان يرتادها أيضاً عدد من الأدباء والصحفيين.
المقهى تحولت في بداية هذا القرن الى اسم آخر وسميت (مقهى المجالس العربية) حتى بيعها وغلقها عام 2003.
• مقهى أم السباع:
أسسها المرحوم الحاج ناجي المعروف (أبو العشر) عام 1933 وتعتبر من أقدم مقاهي البصرة وتقع في منطقة البصرة القديمة، سميت المقهى بهذا الاسم كون بوابتها تحتوي على تمثالين لأسدين، وقد كان يرتادها كثير من الفنانين والأدباء نذكر منهم المرحوم المطرب الكويتي (عوض دوخي) والمرحوم الدكتور(عبد الوهاب لطفي) وكان المرحوم السيد صبري أفندي (أمين صندوق البصرة) أو كما تقول كلمات الأغنية التراثية(صندوق أمين البصرة) من المدمنين على الجلوس في هذا المقهى ولساعات طويلة وحدثنا السيد (صبيح جعفر حسن) وهو واحد من أصحاب المقهى بأنه كان منتدياً أدبياً وثقافياً ومن عمالها المرحوم (عبد الوهاب أبو الشوربة)الذي كان عضواً في حزب الاستقلال ويحرض الناس ضد الاستعمار والدفاع عن فلسطين وقد أدخلت الى المقهى لعبة البليارد لأول مرة في البصرة بعد ان كانت تقدم النارجيلة ولعبة الدومينو والمقهى معروف على نطاق عربي وعالمي وترد له الرسائل من الذين سبق وإن زاروها من جميع دول العالم كما كتب عنها في الكثير من الصحف والمجلات المحلية والعربية مثل (المتفرج والفكاهة وألف باء والعربي)وكان من روادها أيضاً المرحوم المؤرخ (حامد البازي) واللاعب الدولي توفيق حسين في لعبة كمال الأجسام واللاعب الدولي قاسم خشم في كرة القدم والمصارع محمد بهلوان وقد تعرض المقهى لقذائف المدفعية خلال حرب الثمانينيات ولمرتين وأما الذين عملوا فيها (عبد الوهاب ابو الشوربة عام 1933 وكاظم العاني عام 1946 وحسن هزاع عام 1955 وخليل سلوم عام 1958 وحسين أبو علي عام 1963 والحاج جعفر حسين عام 1967).
• مقهى الناصرية:
هذه المقهى تأسست في أواخر الثلاثينيات وموقعها في منطقة العشار (شارع المطاعم حالياً) وكانت ملتقى للوافدين من الناصرية كما يرتادها المسافرون كونها تقع قريباً من كراج سيارات الناصرية.
• مقهى الشناشيل:
كانت في بداية الثلاثينيات تسمى مقهى (هاتف) نسبة لصاحبها ومؤسسها السيد (هاتف عبد المطلب) وكان من روادها في تلك الفترة (عبد القادر باشا أعيان والشيخ صالح المناصير وعبد السلام باشااعيان)كما أن المطربين (عوض دوخي وعبد الحميد السيد) كانا من روادها والمؤرخ المرحوم حامد البازي وزين العابدين النقيب وتعتبر من أقدم المقاهي في البصرة وقد أعطى بناؤها المعماري التراثي جمالية للمكان حيث الشناشيل والأقواس وكانت تجرى فيها لعبة المحيبس المعروفة خلال أمسيات شهر رمضان المبارك وتلعب فيها أيضاً (الدومينو) والطاولي والشطرنج ومن عام 1973 أدخلت لعبة البليارد فيها.
• مقهى منكاش:
شيّدت في منطقة الجمهورية (الفيصلية سابقاً) يعود تاريخ إنشائها إلى بداية الأربعينيات أسسها المرحوم(محمد حسن مثنى) وبعدها عمل فيها الحاج (جمعة منكاش) وسميت المقهى باسم أبيه وكانت ملتقى لوجهاء المناطق وشخصياتها أمثال الحاج حاتم الجوزي والمحامي محسن الزبيدي ثم كانت ملتقى للشعراء الشعبيين (مهدي السوداني ونوري حياز وعلي الكعبي وفالح الطائي والمرحوم عطا عودة الشهد وجبار اللامي وصابر خضير وعباس جيجان) وكانت تعقد فيها أماس في شهر رمضان وتقام فيها لعبة المحيبس.
• مقهى البدر:
أسسها السيد مهدي سليم البدر عام 1945 وتقع على ضفاف شط العرب وتعتبر من أهم مقاهي البصرة الثقافية في مرحلة أواخر الخمسينيات والستينيات كون جميع روادها من الأدباء والمثقفين أمثال (بدر شاكر السياب ومحمود عبد الوهاب ومحمد جواد جلال ومحمد الحبيب ومحمود الظاهر ومحمد خضير ومحمود البريكان وزكي الجابر وجبار صبري العطية والمؤرخ حامد البازي والدكتور عبد الهادي محبوبة رئيس جامعة البصرة آنذاك والدكتور نزار الشاوي والدكتور مصطفى الخضار ومصطفى النعمة والسيد إبراهيم الخضيري ورجب بركات ومهدي العطية والدكتور شاكر البجاري وغسان المناصير وعبد الخالق الحمد) وأسماء أخرى من مثقفي المدينة.
• مقهى طارش:
أسست عام 1940 وموقعها في منطقة أم البروم وكانت ملتقى لأهالي العمارة كونها قريبة من كراج بصرة- عمارة وكان صوتا حضيري أبو عزيز وداخل حسن ينبعثان من غرامافون المقهى عبر اسطواناتهما وفي حديث سابق لنا مع صاحب المقهى (طارش سهل مطر) منذ ستة أعوام قال (في نهاية الستينيات كان يرتادها (تومان) الشخصية الطريفة في مدينة البصرة والذي يعزف الناي بأنفه ومؤسسها هو الحاج حبيب الملاك وقد عمل فيها منذ ذلك الحين مجيد مشيمش وانتقلت بنايتها عام 1974 الى جوار سينما الكرنك والتي هدمت قبل حرب 2003 في العراق.
• مقهى الصكارة:
تأسست في بداية الأربعينيات وتقع في منطقة البصرة القديمة بالقرب من السوق الحالي وتعتبر ملتقى للصكارة في المدينة ونعني بهم أولئك الذين يهتمون بتربية الطيور والدجاج الهندي والتركي وكانت تجرى فيها مسابقات (الصكارة) للتباري بين الديكة وهي من الألعاب الشعبية واصل هذه اللعبة من الهند ويعود تاريخ اللعبة كما ذكر احد رواد المقهى إلى العصر العباسي حيث أدخلت هذه اللعبة الى البصرة عن طريق الزائرين كونها ميناء للبواخر القادمة من البحر وللعبة جمهورها وحكاياتها الجميلة سنأخذكم معها في استطلاع آخر قريب.
• مقهى السيمر:
أسسها في بداية الأربعينيات السيد (زكي) في منطقة البصرة القديمة مقابل المحكمة القديمة وعمل فيها (فاضل القهوجي) ثم المرحوم ناصر أبو مؤيد وكان يرتادها آنذاك مختار المنطقة (محمد الحلفي) ومن ميزاته انه يحمل سوطاً ليضرب فيه كل من يتشاجر من أهالي المنطقة بعد جلسة تعقد ما بين المتشاجرين .. ومن روادها أيضاً (صبري أفندي) كون سكنه قريباً من المقهى .. سميت المقهى بهذا الاسم نسبة الى منطقة السيمر حيث كان يشق المنطقة نهر تدخله الزوارق (البلم العشاري) وهي محملة بالقصب والسعف.
• مقهى الجمعية:
تأسست في بداية الثلاثينيات وتقع في منطقة سوق هرج في منطقة البصرة القديمة.
• مقهى شنيف:
تأسست في بداية الثلاثينيات في منطقة سوق هرج في العشار مقابل جامع الخضيري.
• مقهى زاير علي:
شيدت في الخمسينيات من القرن الماضي بالقرب من سينما الحمراء في الجانب الثاني من نهر العشار وصاحبه الزاير علي (ابو طالب) حيث كان ملتقى لوجهاء البصرة ورؤساء عشائرها.
• مقهى سيد هاني:
عمل السيد هاني في الستينيات في عدة مقاهي حتى استقر به المقام في مقهى خاص به شيده في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في منطقة العشار وهو مقهى كان يرتاده وما يزال عدد من الأدباء والصحفيين والفنانين وهو ملتقى أدبي وثقافي في كل ايام الإسبوع.
• خاتمة:
ها نحن نصل الى نهاية جولتنا بعدما أخذناكم الى سنوات لم يعشها اغلبنا ولكنها سنوات ستبقى محفورة في ذاكرة أبناء المدينة وهناك عدد من المقاهي التي لم نستعرضها ولكن سنكتفي بذكر اسمائها منها مقهى حسون أبو التتن وشيدت قرب مقام الأمير ومقهى عبد عبد السادة قرب ساحة سورين وفيها اقدم (مقهجي) في المدينة ومقهى أبو كاظم في منطقة العشار.. وقبل ان أسدل الستار لا بد ان اشكر زميلي محمد الدخيلي الذي جمع لي بعض المعلومات عن تلك المقاهي.
——————
احسان محمد علي
مقاهي البصرة القديمة
الى الان لم يقدر احد ان يضبط تاريخ وجود اول مقهى بالبصرة ولكنها ترتقي الى القرن العاشر الهجري حيث اشير الى جودها في بعض المصادر.
نقول مقهى نعني به محل شرب القهوة مع التبديل الذي حدث حيث يشرب الشاي بدلا من القهوة ذلك منذ اواخر القرن الثامن عشر. انستاس الكرملي عند تعليقه على هذه اللفظة يقول في (ص 96) من كتاب تذكرة الشعراء ان التعبير صحيح لو قلنا ان القهوة بمعنى مشرب القهوة اي محل شربها فحذف المضاف وبقي المضاف اليه وهو كثير الورود في اللغة العربية ثم يقول: واما جمعها على قهاو فليس بمشهور عند الفصحاء لانهم
يقولون قهوات والان قد شاعت المقهى وهي احسن وتجمع على مقاه.
نحن الان في هذا البحث الموجز لسنا بصدد ذلك بل اننا باستعراض سريع نتحدث عن ذكر بعض المقاهي وفي الفترة الاخيرة من البصرة ومنها مقهى المعلقة وهو عبارة عن كازينو في بناية بطابق علوي وبدون فناء وعلى شكل مستطيل طوله 50 مترا وعرضه 30 مترا والقسم الاسفل منه عبارة عن مجمع حوانيت بين كبير وصغير كلها مملوءة بالبضائع والتحفيات. موقع المقهى في السوق المسمى بسوق الصفاة او سوق الدجاج وقد أسس في 1905 وللبناء باب كبير يوصل الى سطح البناية المكون من شناشيل مستطيلة تشرف على اربع جهات من السوق غرف هذه الكازينو او المقهى مقسمة وصالاتها مخصصة لشرب الشاي والقهوة والشربت والنامليت كما هناك قاعات للموسيقى والطرب واخرى للعب الشطرنج والورق والدومينو والطاولي والمنقلة، الارض مفروشة بالطنافس والابواب تطلى بالعطور وادوات القهوة والشاي بعضها من فضة وبعضها من المعادن الثمينة.
من جملة من غنى على مسرحها الفنانة رحلوا وذلك سنة 1909 كما غنت سنة 1917 على مسرحها المطربات بهية ولقاء وغلية والقنصل الروسي في البصرة سنة 1912 الكسندر اداموف يتحدث في
كتابه ولاية البصرة، فيقول: توجد في كثير من المواضع في السوق وفي جميع ساحات المدينة وتقاطع الشوارع المقاهي التي لاتكاد تخلو من الرواد ابدا وذلك لانها تقوم مقام النوادي حيث يجتمع الناس ليتحدثوا في السياسة ويتبادلوا فيما بينهم الاقاويل والشائعات المنتشرة في المدينة او لعقد الصفقات التجارية او بيع التمور والخيول بين فناجين القهوة المركزة المرة على الطريقة العربية..
ولقد اشتهر ايام الحرب العظمى الاولى وبعدها مقهى السيف وذلك منذ سنة 1915 وجاء ذكر هذا المقهى في كتاب تجارة العراق ليوسف غنيمة اذ جاء فيه: سافر من بغداد الى البصرة عدد غير يسير من التجار ليبتاعوا من هناك البضاعات التي كانت بغداد في حاجة اليها للاهلية وللجيش المحتل واصبحت سوق البصرة مجمع التجار اتوها من كل صقع واصبحت منتدى ارباب الاعمال وكان اجتماعهم في مقهى السيف كل يوم يضاربون ويتاجرون وكان اشبه شيء بالبورصة ومجازفة المغامرين ولكنها كانت معقد صفقات رابحة حتى شاع ذكر قهوة السيف شيوغ مربد البصرة القديم.
ومن مقاهي العشار التي دخلت التاريخ مقهى (التانكي) وكان موقعه الى جهة غرب ملهى وردية ويطل على ساحة ام البروم وكان بجانبها خزان ماء كان يسمى تانكي فنسب اليه ومن كان يرتاد هذا المقهى الشاعر عبدالرحمن البناء وزاره الرصافي عدة مرات عند زيارته للبصرة ومن رواده الشاعر عبدالهادي الدفتري والاستاذ كاظم محمود الصائب وعبدالرضا الجبيلي صاحب جريدة البصرة والاستاذ محمد صالح بحر العلوم عندما كان يقيم في البصرة والسيد عبود شبر والسيد غالي الزويد وكان لهؤلاء مقاعد خاصة ومنتحية حيث فيها تدور احاديثهم الادبية وبعض المساجلات.
وفي البصرة اشتهر مقهى ابن كراش في باب الزبير حيث كان محطة لرحال المسافرين ايضا وكذلك في المشراق المقهى البيضاء الكبير الى جانب جسر ابن مرجانة وكانت تشتهر (بالناركيلة).
وكذلك في السجر مقهى سيد هاشم وهو يكاد يكون خاصا بسواق السيارات واصحابها ومعاملات بيعها وشرائها وايجارها الى الاماكن البعيدة.
وفي العشار مقهى التجار وكان يفتح مع دوام الموظفين وكذلك هناك مقهى ابو الاسود وفي البصرة مقهى شاهينة ومقهى العبايجية ومقهى باقر الذي كان يقدم (الافيون) عندما كان مجازا من قبل السلطة البريطانية.
وهناك مقهى الحصانة من اهل الخيل ورواد السباق وكذلك هناك مقهى في محلة جسر العبيد تسمى مقهى فرج كانت لارباب الطرب والخشابة وكثير من المقاهي التي لم نذكرها.
————
علي الإمارة
البصرة ..
واسعة الصدر طيبة القلب موغلة في التفاصيل
مقاهي البصرة .. نراجيل ونار أجيال !
المقهى حرية الزمان وديمقراطية المكان
أين تستريح الشوارع؟، وأين تهدأ الساعات؟؟.. الأيام خيول تجر الأحداث والحكايات، والمدينة العريقة تلقي أسرارها على الوجوه حتى تبدو الملامح أسرارا، وتغدو النظرات حقائب سفر، وأشجار أحاديث
ورؤى.. وبما أن مدينتنا – البصرة – واسعة الصدر طيبة القلب موغلة في التفاصيل فلا بد إذًا من نقاط التقاء ولحظات عناق يومي يلوح في إغفاءة حجر أو في إشراقة شجر أو توديع قمر.. لا بد من بساط حميم
تسّاقط عليه أوراق الحنين أو الشكوى أو الندم، ولا بد من كرسي طويل من الخشب الحميم يستقطب الخطى والحكايات والآمال حيث موقد الشجون الذي يلهث فيه جمر الأيام الماضية أو الأيام المقبلة . أما الأيام الحاضرة، فلا تحتاج إلى جمر لكي تشتعل!…
خرائط أيام على الجدران
همهمات أباريق الشاي والسماور الكبير تتصاعد على الحيطان القديمة، فيكون دخانها الأسود الكثيف خرائط أيام مهملة وحياة مؤجلة.. أباريق الشاي تشي بخطى القادمين. أما الأقداح الموزعة على الموائد فتؤكد هذه الوشاية وترسخ هذا الحضور الثقيل.. في كل مقهى من مقاهي مدينتنا هناك مسرح نار هو موقد الجمر الذي تأتينا منه رغباتنا وطلباتنا في تلك اللحظات الفارطة من عجلة الزمن.. نحن رواد ذلك المقهى صيادو اللحظات الفارطة، الناصبين لها شباك الحوار المباغت على قدح شاي أو نراجيل.
إن نار جيلنا صارت نار أجيال.. وها نحن قد تعبت أفواهنا وهي تحاول أن تجمع بين الماء والجمر .. يا لهذه النراجيل، ماؤها بعيد، وجمرها قريب .
إن بينك والماء ـ يا صديقي المدخن ـ نفَسا عميقا وجمرا عنيدا لا نريده أن ينطفئ فيبرد إحساسنا باللذة، ولا نريده أن يشتعل كثيرا فتغدو صدورنا حرائق وأفواهنا صفارات إنذار.. يا لهذه المقاهي حين تحبسنا في دائرة الماء والنار ، ألا تكفي نار جيل واحد ؟!.
إن مدينتنا مدينة مقاهٍ، وحين تهرب الأزقة الصغيرة من الشوارع الكبيرة، فإنها تلتجئ إلى المقاهي وتشكو لها هموم السير في الشوارع .. نعم هنا تجلس الأزقة وهنا تشرب شايها وتدخن نار جيلها أو أجيالها .. هنا يلتقي الناس الهاربون من البيوت والشوارع واللاجئون ذواتهم.. فالمقهى ذات وصدر رحب قادر على استيعاب شجون مدينة.. والمقهى سلّّـم المدينة الذي نحاول أن نصعد به إلى عالم المدينة العالي أو نحاول أن ننزل به إلى عالم المدينة السفلي.. هنا إذًا في المقاهي تختبئ السلالم الوهمية أو اللا مرئية للمدينة .. هنا يكتمل نسيج المجتمع وتفرز ألوانه العيون المترقبة والنظرات المسافرة، هنا توضع المدينة على محك الوقت حيث تبدو حواف الدقائق حادة كالسكاكين وتلتهب المشاعر في موقد المقهى.. وجوه صلبة منحوتة بأزميل الهموم والترقب تكسر سيادة الفراغ بملامح سرية يعلنها الأمل خطابات صامتة ..
مقهى الشناشيل والخبازين
المقهى حرية الزمان وديمقراطية المكان .. فالزمان منفتح على الجهات الأربع، والمكان منتخب من الذوات المتدفقة نحو قيعانها .. ما الذي تريد أن تقول أيدينا في المقاهي؟ .. وفي أي مقهى منها وهي كثيرة ؟.
فمقهى الشناشيل في البصرة القديمة خلف الجامع الكبير القديم تحت الشناشيل القديمة ، كل شيء هنا قديم حتى الهواء .. هنا كان يجلس أدباء البصرة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهنا كانت تنحت كلمات الأغاني حيث يجلس كتاب الأغاني فيتغنون بنار جيل من الحب والألم والأمل، من هنا مرت الأجيال الأدبية من تحت قوس الدخان وقوس الزمن الناري .. توالدت المقاهي وتدفقت وساحت في شوارع المدينة وأزقتها الضيقة .. مقهى التجار ومقهى الخبازين ومقهى الشيوخ ، وغيرها، ومقهى الأدباء صار مقرا لاتحاد الأدباء مدة من الزمن وما يزال ملتقى للأدباء في البصرة، وأنه مقر لحزب من الأحزاب الوطنية في البصرة .
مقهى السيد
ومقهى النارجيل الذي هو مقهى السيد الذي يقع في زقاق ضيق يتفرع من شارع المطاعم .. هذا المقهى له حكاية طريفة معنا – نحن الأدباء والصحفيين- الذي كنا نرتاده أيام الاحتلال الأولى عام 2003 حيث لاذ كثير من الأدباء بالصحافة لأنها اقرب أرزاق الله إلى الأدب، وفي الوقت نفسه هبت موجة كبيرة من الصحف المحلية بحيث إن شيخ عشيرة أو صاحب معمل أغراه الصحفيون والبطالة آنذاك لإصدار جريدة ضمن الفوضى العامة . فكان بعض الصحفيين وبعض الأدباء طبعا يجلسون هنا في مسطر إصدار الصحف فيجيء من يريد إصدار جريدة أو مجلة ويسأل عن مصمم أو محقق أو كاتب مقالات أو شاعر أو رسام كاريكاتير أو مصور أو مصحح لغوي، ويتفق معه على نوع العمل وسعره .. فكان على من يريد إصدار جريدة أو مجلة المرور بهذا المقهى – المسطر- !.
لا تستغربوا، فهناك مقهاة قريبة من مقهانا هذا كان يجلس فيه رجال مستعدون لفـــض النزاعات العشائرية – مسطر آخر – !.
مقهى لعمال المسطر
أما وسط أم البروم مركز العشار، فهناك مقهاة لعمال المسطر الأساس الذي تفرعت منه مساطرنا .. أولئك العمال الأسطوريون الذي يخرجون إلى الرزق تحت ظلال المفخخات والأيام الملغومة كأنهم يقولون للرزق الحلال البيت الدارمي العراقي : (لو مو ترش تيزاب لو تزرع ألغام …. أي والله والعباس أعبر لك إعظام ) لنعد الآن إلى مقهانا الذي كان يستقطبنا برائحة النارجيل وقرقرة الماء المتصاعد إلى قمة الجمر، ونحن جيل محبوس بين الماء وبين الجمر.. إنها نار جيلنا .. كان الزقاق الضيق متسخا بفضلات الحروب وهمومها بحيث إن القطط كانت تألفنا، وتجلس معنا على الكنبات .. -مسطر قطط أيضا!- . على أي حال صارت حياتنا مساطر نقيس بها مسافة الهمّ العراقي لعله ينتهي يوما .. حروب تقذفنا من مقهاة إلى إخرى، ومن نار جيل إلى نار جيل آخر.. أجيال تعبر من تحت قوس الدخان .. وزمن يسير على إيقاع ملاعق الشاي حين تدور في الأقداح بإيقاع فوضوي.
منطقة العشار
منطقة العشار إحدى مناطق مدينة البصرة، التي تعد مركزها في يومنا الحالي. سميت العشار نسبة إلى نهر العشار الذي يفصلها لجزأين، وتعد منطقة العشار المركز التجاري للبصرة حاليا؛ لكثرة الأسواق التجارية فيها، واكتسبت هذه المدينة جمالة خاصة؛ لوقوعها على ضفاف شط العرب، واختراقها من نهر العشار والخندق، وكانت بداية ازدهار العشار في ولاية ناصر باشا السعدون، إذ ازدهرت التجارة وقتها فيها، وفتح الشركات مكاتبها هناك، ووقوع أغلب المباني الحكومية والإدارية فيها، وتمتد من شارع الكويت وأم البروم حتى نهر الخندق ومبنى المحافظة القديم والصالحية، ومن نهر العشار حتى محلة السعودية ومنطقة العزيزة.
اشتهرت العشار بكثرة المقاهي، ومن أبرز المقاهي القديمة في منطقة العشار مقهاة التجار(مقهاة المجالس العربية في ما بعد)، التي شيدت في ثلاثينيات القرن الماضي، ومقهاة الناصرية التي شيدت في شارع المطاعم، وكان روادها من المسافرين، وأغلبهم من مدينة الناصرية؛ لوقوعه قرب كراج الناصرية، ومقهاة الطارش التي شيدت بداية أربعينيات القرن الماضي في منطقة أم البروم، وأبرز روادها كانوا من مدينة العمارة؛ لقربها من كراج العمارة، وانتقلت في ما بعد في سبعينيات القرن الماضي إلى جوار سينما الكرنك، ومقهاة الجمعية التي شيدت في ثلاثينيات القرن الماضي في سوق هرج، ومقهاة شنيف مقابل جامع الخضيري، ومقهاة زاير علي بالقرب من سينما الحمراء، وشيدت في خمسينيات القرن الماضي، إذ كانت ملتقى لوجهاء البصرة ورؤساء عشائرها. وتعد العشار أبرز مراكز الترفيه، إذ إن هناك شارع الكورنيش على ضفاف شط العرب، الذي يحوي متنزهات كثيرة، ومدينة ألعاب، وعددا من الفنادق السياحية، والكازينوهات، والمقاهي؛ كمقهاة “البدر”، والحدائق الغناء كحديقة “الأمة”، وغيرها، وهناك معالم سياحية كثيرة في العشار؛ كشارع الوطن، وشارع الساحل، وسوق المقام، وسوق “حنا الشيخ”.
مقهاة أم السباع:
أسسه المرحوم الحاج ناجي المعروف(أبو العشر) عام 1933، وتعد أقدم مقاهي البصرة، ويقع في منطقة البصرة القديمة، سميت المقهاة بهذا الاسم؛ لأن بوابته تحتوي على تمثالين لأسدين، وقد كان يرتاده كثير من الفنانين والأدباء؛ منهم المرحوم المطرب الكويتي(عوض دوخي)، والمرحوم دكتور(عبد الوهاب لطفي)، وكان المرحوم السيد صبري أفندي(أمين صندوق البصرة)، أو كما تقول كلمات الأغنية التراثية(صندوق أمين البصرة) من المدمنين على ارتياد هذه المقهاة ولساعات طويلة، وحدثنا السيد(صبيح جعفر حسن)، وهو واحد من أصحاب المقهاة أنها كانت منتدى أدبيا وثقافيا.
ومن عماله المرحوم(عبد الوهاب أبو الشوربة)، الذي كان عضوا في حزب الاستقلال، ويحرض الناس ضد الاستعمار، والدفاع عن فلسطين. وقد أدخلت إلى المقهاة لعبة البليارد لأول مرة في البصرة، بعد أن كانت تقدم النارجيلة ولعبة الدومينو، والمقهاة معروفة على نطاق عربي وعالمي، وترد إليه الرسائل من الذين سبق أن زاروها من جميع دول العالم، وكُتب عنها في كثير من الصحف والمجلات المحلية والعربية مثل(المتفرج، والفكاهة، وألف باء، والعربي)، وكان من روادها أيضا المرحوم المؤرخ(حامد البازي)، و) اللاعب الدولي توفيق حسين في لعبة كمال الأجسام، واللاعب الدولي قاسم خشم في كرة القدم، والمصارع محمد بهلوان)، وقد تعرضت المقهاة إلى قذائف المدفعية في حرب الثمانينيات، ولمرتين. أما الذين عملوا فيها فـ(عبد الوهاب أبو الشوربة عام 1933، وكاظم العاني عام 1946 ، وحسن هزاع عام 1955 ، وخليل سلوم عام 1958 ، وحسين أبو علي عام 1963 ، والحاج جعفر حسين عام 1967.
مقهى البحـّارة والرياضيين
وليس بعيدا عن مقهانا، هناك مقهاة البحـّارة حيث تزدحما فيه قصص البحر والأحلام المرمية على ضفاف الموانئ تاريخا موزعا في الأصقاع حيث يزدحم هذه المقهاة كلما انغلق البحر، وما أكثر ما ينغلق بحرنا وتنسد آفاقنا، فتصير هذه المقهاة ملاذا مواسيا لهم على اليابسة .. فتذكرهم قرقرة ماء النارجيل بالأمواج العاتية في أعالي البحار والأمل – مسطر بحارة- .
وهناك مقهاة الميناء أو مقهاة الرياضيين حيث يجلس رياضيو المدينة القدماء والجدد، وتدور الأحاديث عن أمجاد رياضية غابرة أو حاضرة على الرغم من غبار زمن أجيال رياضية تجمعهم نار واحدة هي نار جيل مستمرة، ثم نأتي إلى مقهاة الصمت، وأقصد به مقهاة الخرسان حيث يجتمع كل خرسان البصرة في هذا المقهى .. صمت صاخب حيث تتكلم الأيدي والعيون فتسقط سلطة اللسان… لغة أخرى تبدأ من حيث ينتهي الكلام، فتغدو الإشارات نصا إشاريا يوسع فسحة التلقي والتأويل ولاسيما عندنا ـ نحن الجهلة بهذه اللغة ـ، نحن الذين لا نستطيع الاستغناء عن سلطة اللسان، لا نستطيع التنازل عن سلطة الثرثرة .. ما أجمل الحياة بلا كلام !.
امرأة عرافة في المقهى
هناك مقاهٍ كثيرة، ولكن أهمها تلك المقهاة الأم مقهاة البدر، ومن أجل أن أكون أكثر دقة اتصلت بآخر العمالقة الذين كانوا يجلسون في ذلك المقهى مع بدر شاكر السياب وسعدي يوسف ومحمود البريكان ومهدي عيسى الصقر وزكي الجابر، إنه القاص الكبير محمود عبد الوهاب الذي أكد بقوله : كنا نلتقي في مقهى البدر ومقهى عباس على ضفة شط العرب ، ومقهى هاتف والسيمر في البصرة القديمة ، ولكن الملتقى الأساس في مقهى البدر. وتحدث عن طرفة مر بها وهو جالس في المقهى قائلاً: ذات مرة مرت بالمقهى امرأة عرافة، فنادى عليها بدر السياب، وقال لها اقرئي لنا طالعنا .. فقرأت وقالت للسياب أنت تموت في الغربة، وقالت لسعدي أنت تعيش الغربة، وقالت لي – والكلام لمحمود عبد الوهاب – أنت تعيش عمرك وحيدا، وقالت لمهدي عيسى الصقر كلام من هذا القبيل، وقد ذكر شيئا من هذا الكلام الصقر في روايته المقامة البصرية العصرية .
—————–
جاسم داخل
مقهى البدر في البصرة..
مواقد لا تنطفئ وشاي لا يبرد
تتوهج على شط العرب في البصرة مقهى البدر كما هو حالها منذ افتتاحها عام 1945 يتعطر روادها بأريج الماضي ويتبادلون أطراف الحديث عن أخبار الحرب والأدب وهموم الناس الذين لا تختلف كينونة
المقهى عنهم في الترحيل والهجرة عن مكان المولد وانغراس شظايا الحروب بين الضلوع. هي مقهى خالدة تقوم بعد كل قتل متعمد لتحتضن روادها من جديد. وليست كغيرها من المقاهي التي غادرت الشاطئ عند أول اطلاقة مدفع.
لم تغير اسمها على الرغم من تغير مسميات الشارع الواقعة فيه من شارع الأمير عبد الإله الى الحرية ثم الكورنيش وبعدها شارع الشهداء ثم الكورنيش مرة أخرى. هي مقهى بدر شاكر السياب وسعدي يوسف وزكي الجابر ومحمود البريكان وفيصل لعيبي وعادل كاظم وغيرهم كثير غادروها. ويتماسى فيها محمد خضير ومحمود عبد الوهاب وغيرهم من أدباء ومثقفين وأساتذة الجامعة وفنانين وأطباء ومتقاعدين وطلبة الجامعة من المحافظات. لها تقاليد عمل وعلاقات اجتماعية وثقافية مع روادها. وهي توأم مقاهي عرب وحسن عجمي والبرازيلية والزهاوي والرصافي في بغداد، وهي من جيل مقاهي توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمود العالم ونجيب سرور في مصر.
لصاحب المقهى مهدي سليم البدر، 80 سنة، علاقات حميمة مع رواده يلتقط معهم الصور ويتبادل الذكريات ويوزع الرسائل الواصلة على عنوان المقهى بفرح طفولي ولم يصدف ان جاء الى البصرة واحد من طلاب المحافظات بعد تخرجه ولم يزر المقهى وصاحبه، وذكرها كثير من الأدباء في قصصهم. واستوحى منها الرسامون إلهاما للوحاتهم.
وللمقهى مكتبة صوتية نادرة لاغاني ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وناظم الغزالي والقبنجي ويوسف عمر وغيرهم من موروث قمم الغناء العربي. ويقضي فيها أهالي البصرة اجمل أوقاتهم وخاصة في ليالي الصيف غير مبالين بما يمزق سكون الليل الذي بات مألوفا في المدينة منذ سنوات طويلة.
بقيت المقهى شاهدا ومؤرخا لهذا الشارع الذي ظهر تدريجيا، اذ لم يكن قبل عام 1939 كورنيشا للمدينة بل بستانا عامرا بالنخيل واشجار الفاكهة المثمرة ونباتات الزينه بين نهري العشار والخورة المتفرعين من شط العرب تتقاسمها أبنية شركة النقل البحري الاجنبية والقنصليتين الأميركية والبريطانية وبعض البيوتات التي كان لكل بيت منها مرساته على الساحل وزورقة البخاري قبل ان يزدحم بالأبنية بعد افتتاح الشارع.
ويقول صاحب المقهى ان من الذكريات الجميلة ذلك اليوم الذي ازحمت به المقهي والشارع والشط بالزوارق ابتهاجا بعودة الملا مصطفى البرزاني من منفاة الى الوطن عن طريق البحر بعد ثورة (تموز) عام 1958، اذ استقبلة البصريون بالزهور والابتهاج وهو في طريقه الى بغداد، موضحا ان المقهى كانت تزدحم ايام الخميس والاعياد وخاصة اعياد نوروز وخاصة بالاشقاء من الكويت ومن بينهم رجال الاعمال محمد الثاقب خال الشاعرة الكويتية سعاد الصباح وعبد الوهاب الصكر وعبد اللطيف الحمد، كما كنت ملتقى لابرز الرياضيين منهم حمزة قاسم وشاكر اسماعيل والبطل الاولمبي عبد الواحد عزيز ومن اشهر من استقبلتهم المقهى في ذلك الوقت المرحوم كامل الجادرجي خلال زيارته للبصرة.
ولكل المقاهي المشهورة تقاليد يحترمها الجميع ومنها مقهى البدر التي تحولت من دون قصد الى منتدى أدبي وملتقى ثقافي تتداخل فيها الريادة بالحداثة ومكان لتبادل الكتب والروايات المستنسخة وصدى أخبار مبدعي المحافظة في المهجر.
* الشرق الأوسط
—————–
خليل عثمان
مقهى البدر:
“موقد لا ينطفئ، وشاي لا يبرد، ونوارس لا تغادر”
مقهى بدر: شاي لا يبرد
كانت البصرة في تاريخها الحديث تزخر بعدد كبير من المقاهي والكازينوهات، وخصوصا تلك التي كانت تصطف على شارع الكورنيش المحاذي لشط العرب.
وقد تميز مقهى البدر عن غيره من المقاهي بأنه تحول إلى ملتقى للشعراء والمثقفين والأدباء والسياسيين وغيرهم من وجهاء وأعيان البصرة.
جعبة صاحب ومؤسس المقهى، مهدي سليم كاظم البدر، أو الحجي أبو وضاح، ورغم تقدمه في السن، حيث إنه قد ناهز الثمانين من العمر، ملأى بكم كبير من الذكريات عن مقهى البدر ورواده.
مركب الذكريات
يقول الحجي أبو وضاح إن فكرة تأسيس المقهى بدأت محض صدفة في منتصف أربعينيات القرن الماضي، عندما استأجر والده مصنعا للمشروبات الغازية في منطقة شط العرب.
وسرعان ما لاحظ الوالد الحركة المستمرة للناس في المنطقة، فاقترح على ابنه “توجد كازينو هنا فما رأيك بأن نأخذها”. فقال له ابنه: “رأيك حجي”.
وهكذا بدأت قصة مقهى البدر الذي تم افتتاحه في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1945.
ويسرد الحجي أبو وضاح على مسامع محدثيه ذكرياته عن قائمة طويلة من الأسماء التي سطع نجمها في المشهد الثقافي والسياسي البصري والتي كان أصحابها من رواد المقهى.
هذه القائمة الطويلة من الرواد تحدو بالحجي أبو وضاح إلى أن يصف مقهى البدر بأنه “مدرسة” وليس مجرد مقهى.
السياب والعزلة
ومن عالم الثقافة، تضم القائمة أسماء لأدباء وكتاب وصحفيين لامعين من أمثال بدر شاكر السياب، ومحمود البريكان، وزكي الجابر، ومحمد خضيّر، ومحمد راضي جعفر، ومحمد جواد جلال، ومحمود عبد الوهاب، وجبار صبري العطية وإحسان السامرائي.
ولعل أبرز ما يتذكره الحجي أبو وضاح عن السياب هو ميله إلى العزلة.
فيقول: “المرحوم بدر السياب، رحمه الله، كان لا يخالط أحدا، يجلس وحيدا … هو طبيعته إنعزالية”.
المقهى يطل مع عدد آخر من المقاهي والكازينوهات على شط العرب
ويضيف بأن السياب كان يمتلك سيارة قديمة كان يقودها أحد أقاربه الذي يأتي به إلى المقهى.
ويمضي الحجي أبو وضاح ليصف كيف أن السياب كان ينفرد بنفسه في المقهى “ويُخرج الكتاب من جيبه والمسودات، ويشرع في الكتابة”.
ويردف قائلا: “يظل ساعة ونصف، ساعتين، يكتب. ومن ثم يرجع الكتاب إلى جيبه، وتأتي السيارة فيركبها،” ويمضي في حال سبيله.
من الثقافة إلى السياسة
ويعبر الحجي أبو وضاح في مركب الذكريات المحفورة في ذاكرته من عالم الأدب والثقافة إلى عالم السياسة.
ويورد على مسامع محدثيه أسماء العديد من السياسيين الذين كانوا من رواد المقهى.
ومن بين هؤلاء عمه جعفر البدر الذي كان من زعماء الحزب الوطني الديمقراطي، وعدنان خير الله، وزير الدفاع العراقي السابق، وسالم آغا جعفر، ومحمد أمين الرحماني، وفيصل السامر، وإدغار سركيس
وغيرهم.
ويقول الحجي أبو وضاح: “عدنان خير الله عندما كان في البصرة في زمن عبد الكريم قاسم، كان أحد الرواد الذين كانوا يتردَّدون على كازينو البدر.”
وهو يذكر أن خير الله كان آنذاك برتبة “نجمتين أو ثلاث نجوم” وكان مقره في الشعيبة، جنوب غربي البصرة.
ويتابع الحجي أبو وضاح قائلا إن مقهى البدر كان يتحول إلى ما يشبه المنتدى إبان الانتخابات بحيث “كان السياسيون يلتقون فيه … ويتداولون بأمور البلد والانتخابات”.
رابطة فكرية
يداهمك سؤال ملح وأنت تصغي إلى حديث الحجي أبو وضاح عن السبب الذي جعل مقهى البدر يتحول إلى نقطة جذب لأهل الفكر والثقافة والسياسة.
فيجيب بأن السبب يكمن في “أن الطبقة التي كانت تتردد عليه لم تكن طبقة عامة من الشارع”.
وهكذا فإن “نوعية الناس … أكسبت المقهى سمعة”.
وهذا ما يؤكده أيضا المحامي المتقاعد يعقوب نعمة، الذي ما زال يرتاد المقهى منذ منتصف الخمسينيات.
يقول النعمة: “كنا نلتقى بالمقهى. نحن أصدقاء وزملاء، يربطنا فكر واحد، ثقافة واحدة، ونقعد”.
في مثل هذا الجو المترع بأهل الشعر والأدب والثقافة، كان من الطبيعي أن تفيض قرائح الشعراء ببعض الأشعار عن مقهى البدر، ومن بينها أبيات لأحدهم يرددها الحجي أبو وضاح بنبرة يشيع فيها الحنين إلى الماضي:
لو طفتَ البصرةَ لن تلقــى
ما يشفي القلب ويسعـده
وأكيــدٌ أنـك تنـطقـهــا
وتعيــدُ القـول وتعيـــده
كازينـو البدر لــها ألـــقٌ
وأبــو الوضـاح يـجــدده
وقد وصف المرحوم جبار صبري العطية، الكاتب والمخرج المسرحي الذي وافته المنية مؤخرا، مقهى البدر بقوله: “مقهى البدر، موقد لا ينطفيء، وشاي لا يبرد، ونوارس لا تغادر”.
“تفرقنا”
ولكن صروف الزمان بدَّدَت شمل رواد المقهى القدامى ولم يبق منهم سوى عدد قليل ما زالوا يواظبون على ارتياده.
نسأل عن السبب في ذلك فيقول: “تفرقنا، تفرقنا. الأمر لم يعد كما كان سابقا.”
ثم يستشهد بالآية القرآنية “واشتعل الرأس شيبا” ليشير إلى تقدم العمر الذي يصعّب على الرواد القدامى أمر التردد على المقهى.
كما يلفت إلى ما تشهده البلاد من تدهور في الأوضاع الأمنية عموما، فيقول: “الوضع العام ما يشجع، ما يشجع”.
ومقهى البدر لم تتوقف الحركة فيه حتى في عز أيام الحرب العراقية-الإيرانية التي كانت محافظة البصرة أحد مسارح عملياتها العسكرية.
إلا أنه توقف عن العمل مؤقتا بعد تعرضه للقصف إبان الحرب الأخيرة التي أطاحت بحكم الرئيس صدام حسين.
والمقهى قد نفض حاليا ركام الحرب عنه وهو ينتصب مجددا على ضفة شط العرب.
ويقول الحجي أبو وضاح إنه قد تقدم بطلب للحصول على تعويض، ولكن “لحد الآن لم أستلم تعويضا”.
وهو لا يزال، رغم سنيه الثمانين، يرتاد المقهى صبيحة كل يوم، ليجالس لفيفا من رفاق مركب الذكريات، يستشعرون غبطة الحنين إلى زمن غابر وينتظرون رجوع النوارس إيذانا بعودة المقهى إلى سابق عزه.
—————-
جاسم العايف
مقهى (الدَّكة) في البصرة:..فضاء ثقافي..وزمن سبعيني
(1-4)
أخي الفنان هاشم تايه: “كم أبلغك صمتاً وأجملك نطقاً”
“المكان: هو الذي كلما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيده، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الإحساس بالمتعة والحماية والأمن، التي يوفرها لنا”. غالب هلسا
يقع مقهى (الدَّكة) في البصرة لصاحبه” أبو مُضَر” قبالة نهر العشار في قلب مدينة البصرة..لا يفصله عن النهر إلاّ شارع ضيّق ما أن تعبره حتى تكون على رصيف ينتهي (بدكّة) إسمنتيّة تحوّلت في السنوات التي ازدهر خلالها المقهى إلى مصطبة طويلة يتراصّ عليها يومياً عشرات المثقفين والأدباء والفنانين ما أن يحلّ المساء. أول مَنْ ارتاد ،مستوطناً، “المقهى ” ، المُولع بالسينما والمتخصص فيها بعد ذلك ، كاظم الصبر، بحكم البطالة وقرابته مع صاحِبها ، وأبو سرحان وأنا، بسبب البطالة الدائمة أيضاً،ثم لحقنا مصطفى عبد الله ، لضجره من دراسة علوم الإحياء بجامعة البصرة. وعندها بدأ الرواد على شاكلتنا واهتماماتنا الأدبية والثقافية والفنية يزدادون يومياً،حدث ذلك منتصف عام 1968. كان”مقهى أبو مُضَر” الضئيل حجماً، الخطير صيتاً أقرب إلى (ملتقى) ثقافي للحوار في شؤون الأدب والفن والسياسة بين مثقفين متنوعي المشارب والاهتمامات فيه يلتقون،بعد جولة لا بد منها ، صباحاً أو مساءً، في مكتبات المدينة ومنها:( الجميع ) لصاحبها (الياس حنا). تقع مكتبة (الجميع) قريباً من نهاية سوق المغايز، وبعد وفاة (الياس)، رحمه الله ، حلّت السيدة زوجته ، وهي بملابس الحداد، محلّه في إدارتها ،لكنها تخلت عنها بعد اقل من سنة على رحيل زوجها. فتحولت(المكتبة) إلى أكثر من محل لبيع الملابس، والأحذية، والكماليات النسائية،ورحلت كتبها الثمينة ومجلاتها النادرة -الخمسينية والستينية- إلى مصير مجهول. بعد عبور سوق حنا الشيخ الجديد ،نحو شارع الوطني، وفي بدايته تقع مكتبة (المثنى) ويديرها الراحل(حميد الساعدي – أبو نزار)، ويساعده في ذلك الصديق (سلمان نجم – أبو كفاح) وهي فرع لمكتبة(المثنى) الأم في بغداد، وتقع بالضبط مقابل سينما الوطني، التي هدمت الآن. توارت مكتبة (المثنى) ، ليحتل مكانها ،(زبلوق..للأحذية النسائية والحقائب الأنثوية المستوردة)، ولم يعد لكتبها الأثيرة والكثيرة تلك ، أي اثر إلا في الذاكرة. غير بعيد عن (المثنى) وفي منتصف شارع الوطني تماماً ، مكتبة (فرجو) ، التي اختفت معالمها كذلك ، وبات مكانها محلات لبيع الساعات ، ووجبات الطعام الخفيفة ، والنقالات،حالياً، والمستلزمات الرياضية . بعد منتصف شارع الوطني، ثمة مكتبة” ودود عبد الغني” و كُنيتها (دار الكتاب) ، وفي الغالب ، نتعامل مع صاحبها(ودود عبد الغني)، عند شرائنا ما نحتاجه من مجلات وكتب حديثة الإصدار بالآجل ، الآن لا مكان لرفوف كتب (ودود)، ولعل بعضنا ما زال في ذمته دراهم معدودة لـ(ودود) الودود حقاً وفعلاً ، الذي هاجر ، واختفت (دار الكتاب) ، مع هجرته، وتحولت إلى أسواق حديثة ، محشوة رفوفها الكثيرة بما يمضغه الفكان الشرهان وتبتلعه (البطون) المرفهة فقط. ربما لا نقتني الكتب والمجلات خلال جولتنا اليومية تلك، من كل تلك المكتبات، بل نشم روائحها العذبة والعبقة فقط ، لنتمتع بالسكينة
والاطمئنان والصفاء الروحي. وثمة مكتبات أخر بعضها في مدخل سوق( الهنود) ومنتصفه ، لكن أشهرها تلك التي ذكرتها. كل المصائر المحزنة لتلك المكتبات حدثت عند نهاية عقد السبعينيات أو بعده ، وأجهز على ما تبقى منها، زمن الحروب المتعاقبة والخاسرة ، والحصار الذي فتك بالعراقيين وأزاح قيمهم الإنسانية وثراءهم الروحي، المعروف تاريخياً، بطرائق،ووسائل،وسلوكيات،لا يمكن تصورها إلا لمن عاشها. وقسم من رواد مقهى (الدكَّة) قبل أن يغادروا منطقة (البصرة القديمة ) تجاه المقهى، يتوجهون نحو العم الحاج (فيصل حمود- أبو غازي) ، و(مكتبته الأهلية ) التي أسسها عام 1928. وأصر النظام البائد، خلال حملته، لـ(تبعيث)المجتمع العراقي- بالإكراه،والبطش،والقسوة، في حدودها القصوى،على أن تنزع جلدها القديم وتتنكر لاسمها(الأهلي) المعروف ، منذ أكثر من ثمانية عقود ، وتتحول إلى(مكتبة الفكر العربي)!!. غير أن صاحبها الحاج “فيصل حمود” وولده” غازي” ، أضافا في الإعلان عن اسمها الجديد ، المفروض عليها ، وأسفله بالضبط ،(المكتبة الأهلية سابقاً/ تأسست 1928م)، إشارة واضحة المعاني والدلالات، عن تمسكهما باسمها القديم.استعادت (الأهلية) اسمها الأثير، بعد سقوط النظام مباشرة ، ملقية بتسمية (الفكر العربي) ، نحو الماضي وجراحاته الشاخصة ، العصية على الالتئام. والمكتبة (الأهلية) هي الباقي الوحيد من زمن لن يستعاد قطعاً. ويعمل ورثة الحاج(فيصل حمود) ، خاصة ولده الأستاذ (غازي)،على بقائها شاخصة ، تواجه المستجدات والتقلبات، وعواصف وزوابع العراق الحالي، ببسالة وإصرار وتمكن. بعد هذه الجولة المعتادة ،لابد من العودة إلى (مقهى أبو مضر ودكَّتها الإسمنتية) ، ومنهما ننطلق لاستكمال الحوار في دورة الليل، يوم كان لمدينة البصرة ليل للفرح والمتعة والبهجة. وجد مثقفو البصرة في (مقهى أبو مُضَر)، الذي حصل على لقب (مقهى الدّكة) بسبب (دكّته) الشهيرة، ما يعوضهم عن غياب مبنى خاص بفرع اتحاد الأدباء في مدينتهم، هذا الفرع الذي تجاهل المعنيون الرسميّون بالشأن الثقافي آنذاك ضرورة افتتاحه ، في ظلّ ضآلة عدد الموالين لهم بين أوساط أدباء ومثقفي المدينة. مرّ وجلس في هذا المقهى ،على صغر حجمه، عشرات الأدباء والكتاب والصحافيين والمثقفين العراقيين،وبعض العرب. لا تسعفني الذاكرة على تذكرهم جميعاً،لكني اذكر منهم : أ.د.شجاع العاني،بحكم عمله أستاذاً في جامعة البصرة، والقاص عبد الستار ناصر، والشاعر عبد الرحمن طهمازي خلال سني عمله مدرساً في البصرة، والناقد الحلي الشاب ،المعدوم شنقا حتى الموت ، قاسم محمد حمزة، والشاعر الشعبي الراحل عزيز السماوي وشاكر أيضاً، والراحل الشاعر صاحب الشاهر، والناقد والصحفي محمد الجزائري ، والكاتب والصحفي جياد تركي ، عند زياراتهما المتكررة لمدينتهما ، والشاعر عواد ناصر، والباحث د. فالح الحمراني، والصحفي سلام مسافر،والكاتب حسين عجه، والقاص إبراهيم احمد، ومعه القاص فاضل الربيعي، عندما كانا يعملان في جريدة(طريق الشعب)، وحتى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الذي صحبه إليها أحد الأدباء البصريين ، المغتربين حالياً، ولم يقدمه لنا، أو يعرفه بنا، فتجاهلناه تماماً.والفنان كوكب حمزة،معلم الموسيقى في مدارس البصرة ، والقادم إليها من ناحية القاسم في الحلة، دائم
الجلوس عصراً على (دَّكَّتها) ، ومرةً احتسى الشاي فيها ، بصحبة القاص محمد خضير والتشكيلي شاكر حمد وأنا، في وقت متأخر من الليل، الفنان التشكيلي والكاتب والصحفي الراحل-لأسباب مازالت غامضة حتى الآن- إبراهيم زاير، والقاص والروائي جمعة اللامي ، عند زيارتهما الخاطفة للبصرة . كما تردد عليها الصحفي والناقد التشكيلي إسماعيل زاير ،خلال خدمته العسكرية في القاعدة الجوية بـ(الشعيبة) ، والقاص ،والروائي بعد ذلك، صديقنا، نجم والي ، عند خدمته العسكرية الإجبارية ، بصفة مترجم مع الخبراء الألمان (الشرقيين) في القوة البحرية العراقية. وتردد عليها أيضاً الفنان التشكيلي محمود حمد ، والمخرج المسرحي فاضل سوداني ، والمخرج المسرحي فاضل خليل ، عند عمله مدرساً للفنون في البصرة ، الذي نُقل سريعاً جداً إلى بغداد،وقد قادهم إليها شاكر حمد. كما كان يتردد عليها الناقد ياسين النصير بعد انتقاله إلى بغداد وزياراته الموسمية لمدينته، ويلتقينا فيها ،أحياناً، الشاعر.د حسن البياتي الأستاذ في جامعة البصرة، وزاملنا فيها لفترة محدودة الشاعر والناقد صفاء صنكور أبان عمله في البصرة. مؤخراً ذكر ليّ الشاعر طالب عبد العزيز انه ، والشعراء : عبد الزهرة زكي ، وجمال جمعة ، وجمال مصطفى ، وحيدر الكعبي ، كانوا يترددون على المقهى،لكنهم أحجموا عن التعرف علينا. دون أن يوضح (طالب) الأسباب التي كانت خلف ذلك الإحجام !؟.ومن الأدباء العرب الروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي تكفل مع الناقد محمد الجزائري ، بناء على دعوتنا في صباح احد أيام مربد عام 1972 باستضافة الشعراء محمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي ومعين بسيسو وممدوح عدوان و فايز خضور وعلي الجندي والشاعرة المغربية مليكة العاصمي وعدد آخر من الأدباء العرب ،غير قادر الآن على تذكرهم جميعاً ، لتناول الشاي والانتظار فيها صباحاً لغرض استصحابهم في سفرة نهرية عبر شط العرب، ثم نحو بساتين قضاء(أبو الخصيب) العامرة في تلك الأيام ، وتناول طعام الغداء الذي أعددناه لهم هناك، والاستمتاع بأغاني فرق (الخشابة) البصرية. عند وصولنا إلى مرسى الزوارق بالقرب من تمثال الشاعر (بدر شاكر السياب) للذهاب إلى (أبي الخصيب) صعد الجميع إلى الزورق البخاري الكبير، باستثناء الشاعر محمود درويش الذي رفض ذلك نهائياً ، و تراجع وحيداً ومسرعاً، نحو مركز المدينة، دون أن يوضح الأسباب التي حدت به لذلك التصرف، مع انه رحب جداً بالدعوة ، كما ذكر لنا ذلك الروائي إسماعيل فهد. كما تردد عليها الشاعر الفلسطيني محمد الأسعد،وشقيقه الشاعر صبحي الأسعد،والكاتب والصحفي الكويتي غازي القناعي، خلال زياراتهم المتكررة للبصرة،بصحبة بعض الأدباء والفنانين والصحفيين الكويتيين والعرب، ممن يعملون في الكويت، وغالباً ما يحدث ذلك مساء يوم الخميس. كما قُدنا إليها ،ظُهراً،القاص والروائي إبراهيم أصلان،والشاعر الفلسطيني محمد القيسي ،عند حضورهما مهرجان مربد عام1972. وصادف أن جلس فيها قبل الظهر،لاحتساء الشاي، برفقة بعض العاملين في دائرة “دور الثقافة الجماهيرية في البصرة” ، القاص والصحفي والروائي المصري جمال الغيطاني ، وهو يسعى لإكمال كتابه(حراس البوابة الشرقية)على وفق العقد الذي وقعه مع جهات حكومية، دون أن نعيره انتباهاً ،كون أن مَنْ يرافقه من الموظفين الرسميين والعاملين في تلك الدائرة، لم يكلفوا أنفسهم تقديمه إلينا،مع معرفتهم بنا ، بسبب حضورنا كل يوم ثلاثاء عصراً في حدائق دائرتهم، والتي عادةً ما تُعقد فيها جلسة ثقافية، نُسهم فيها، أو
نَشترك ، في حواراتها.
—————–
وارد بدر السالم
مقاهي بغداد الأدبية..
مركز الريادة وبؤرة التحريض ووثيقة الألم العراقي
لا يمكن الحديث عن مقاهي بغداد ما لم نستقدم ولو بشكل عابر شارع الرشيد كمرآة حية للماضي المتواري في حقبه المتلاحقة، فهو مهندس ومؤسس المقاهي البغدادية كونه حاضنة تجارية لبغداد القديمة بامتداده الطويل، ووقوعه قريباً من دجلة ووزارات العهود المتعاقبة ودوائرها ومراكزها الصحافية، إضافة الى الحياة الموّارة فيه من ملاهٍ وحارات جانبية ومحال وسينمات وأزقة وجوامع واسواق؛ وبالتالي مقاهيه الكثيرة التي تحول معظمها الى منتديات ثقافية ولقاءات سياسية ومَواطن للشعر التحريضي بشقه العمودي المؤثر آنذاك.
فهذا الشارع الحيوي، الذي اتصل بالحياة اليومية منذ تأسيسه، انضمت اليه مجموعة المقاهي البغدادية، لتشكل سلسلة واحدة من فضاء اتجه لأن يكون ثقافياً وفنياً وسياسياً لرجالات الأدب والفكر والسياسة، ممن رسموا خريطة العراق بوجهها الفكري العام، لذلك فالمسرد التاريخي لمقاهي بغداد يتوفرعلى السياسي والثقافي والاجتماعي، وهو مسرد واسع جداً لا يمكن استخلاصه بحيز محسوب، لكن سنتوفر على محطات رأسية نفتش فيها عن أقدمية التأسيس لغرض تاريخي محض.
يحيلنا التوثيق الى العهد العثماني بأقدم إشارات مما ذكره «نظمي زاده» في كتابه «كلشن خلفا»، عن اسم أقدم مقهى كان قائماً حتى مطلع القرن العشرين يعود إلى سنة 1590 شيده «جغال زاده سنان باشا» والي بغداد، وثمة إشارة لا تقل قدماً عما ذكره نظمي زاده للرحالة البرتغالي «تكسيرا» عام 1604 الذي قال واصفاً المقاهي المطلة على جانبي دجلة، إن أصحاب المقاهي كانوا يستخدمون الموسيقى لاجتذاب الزبائن.
وفي هذه اللمحة التاريخية السريعة سيكون في ماضي هذه المقاهي الشيء المثير في استقطاب الأدباء والمثقفين والسياسيين والمفكرين والشعراء والصحافيين والمسرحيين، وكل من وصل الى درجة الموهبة الأدبية، متوزعين على عدد من المقاهي المعروفة التي اندرس قسم كبير منها، في حين ظل هناك من هو شاخص حتى اليوم في بقاء تاريخي غريب طوى فيه متون الحقب السياسية المتفاوتة في تجلياتها السياسية العسيرة.
ولأن شارع الرشيد هو الجامع النصي لهذه المقاهي، إن صح التعبير النقدي، فإن نصوص المقاهي في ذاكرة الأجيال هي النصوص الشخصية الأدبية بأسماء رجالاتها الذين رفدوا الثقافة العراقية والعربية، منطلقين من بؤرة المقهى كمكان تحريضي من وجهتين، الأولى ثقافية محض في تأسيس اجتهاد نظري وانطلاق رؤى إبداعية تأسيسية كما سنرى، والثانية تلفعت بالسياسي المحرّض الذي ابتكر من المقهى منصة صوت عالية لتثوير الجماهير كما فعل «الجواهري» عام 1948 حينما انطلق صوته المدوي من مقهى حسن عجمي بقصيدة عصماء جر وراءها أفواجاً من الناس للتنديد بمعاهدة عراقية ـ بريطانية جائرة هي معاهدة بورتسموث.
وإذا ما كانت الإشارة واجبة هنا عن مقاهي لها فضل الريادة في توطين الثقافة العراقية والمساهمة الفاعلة في تأسيسها فإن منها: البلدية، المعقدين، كافيه سويس، عارف آغا، الزهاوي، حسن عجمي، البرلمان، الشابندر، البرازيلية على سبيل المثال لا الحصر، فمقهى البرازيلية يوصف بأنه العهد الذهبي للحياة الفنية والأدبية حينما انضمت اليه وجوه اثرت الحياة الثقافية بمعارفها، كفيصل السامر وابراهيم كبة وعلي الوردي وعبد المجيد الونداوي، إضافة الى روادها المعروفين عبد الوهاب البياتي وعبد الملك نوري وحسين مردان وسعدي يوسف ومحمود الخطيب وبلند الحيدري وفؤاد التكرلي ونهاد التكرلي، وفي البرازيلية ولدت فكرة تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1952، وفي العام نفسه سجن حسين مردان بسبب (قصائد عارية).
ومقهى البرلمان هو أيضا كان نقطة ارتكاز أدبية وكان من رواده بلند الحيدري وبدر شاكر السياب وعبد القادر البراك، وفي نهاية الستينيات ظهر مقهى «المعقدين» في بداية شارع السعدون وهو امتداد لشارع الرشيد وضم جيلاً تمرد على السائد من الحياة اليومية والثقافية في اتجاهاته المتطلعة الى الآداب العالمية وإنشاء مناخ جديد في العدم والوجود والتغريب وما الى ذلك، ومن أشهرهم الشاعر عبد الرحمن طهمازي وشريف الربيعي وأنور الغساني والفنان ابراهيم زاير.
وفي الوقت الذي اندثرت فيه مقاهٍ ذاع صيتها في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإن أشقاءه ما زالوا حتى اليوم كأندية ثقافية واجتماعية وروحية وملتقيات للنخبة والهواة معاً، كما يحصل مع مقهى الشابندر الذي استقطب ادباء بغداد والوافدين اليها من المحافظات، خاصة يوم الجمعة حينما تعج بالأجيال الأدبية من كل المشارب والفئات والشرائح، ومقهى حسن عجمي الذي فترت حماسة المثقفين اليه منذ سنوات بسبب قِدمِه وجوه غير الصحي بفعل تقادم الزمن عليها وعدم ترميمها كما حصل مع مقهى الشابندر ومقهى الزهاوي.
مقاهي التاريخ وتاريخ المقاهي
ثلاثة مقاهٍ بقيت من التاريخ. وثلاث علامات اجتماعية وثقافية تُعَد هي الأبرز في مسارات الولادات الأدبية المتعاقبة في هذه الأمكنة التي رفدت الحياة الثقافية بأسماء لامعة في الشعر والرواية والقصة والتشكيل والمسرح، حينما كانت حواضنَ لأحلام وولادات ليس من اليسير التنكر لأدوارها في صياغة الحياة الثقافية والسياسية والصحافية.
مقهى الزهاوي يتصدر شارع الرشيد من جهة باب المعظم الى هذا اليوم بأناقته الزخرفية والتراثية البغدادية، ومقهى حسن عجمي الذي يذوي ببطء من دون أن يُنتشَل مما هو فيه من ركام السنوات، ومقهى الشابندر الواقع في نهاية شارع المتنبي المتفرع من شارع الرشيد، حيث التاريخ العثماني الباقي بشواخصه القديمة حتى الآن. وهو اليوم الأكثر حميمية وصلة مع الأدباء والمثقفين والصحافيين والسياسيين.
طاغور والزهاوي
ثلاثة مقاهٍ بقيت من التاريخ القديم .تواصل زمنها الجديد لتضيفه الى أزمانها الماضية؛ فسقيفة «الحاج أمين» التي اطلق عليها مقهى أمين آغا قبل عام 1917 كانت نواة مقهى «الزهاوي» ذائع الصيت الى يومنا هذا، كما كانت نواة فكرية انجذب اليها كثير من الشعراء والأدباء والنخب الثقافية المعروفة على مر تاريخه كالشعراء جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري وحسين مردان وخضر الطائي وعالم الاجتماع علي الوردي ومثقفون وصحافيون وأصحاب فكر كمحمد بهجت الأثري وعلي الشرقي ونوري ثابت وعادل عوني وتوفيق السمعاني واسماعيل الصفار وحكمت فرج البدري وأنور السامرائي، وغيرهم، وحميد المحل وناظم الغزالي ونوري ثابت، ومن رجال الدولة فاضل الجمالي، عبد المسيح وزير، عبد الرزاق عبد الوهاب، وعبد الكريم قاسم وآخرون.
وليس بعيداً عن ذاكرة الجيل الثلاثيني وما تلاه من الأجيال الحافلة بالجدل الفكري والسياسي والثقافي وهو يقرأ المعارك الأدبية التي استعرت بين الشاعر «جميل صدقي الزهاوي» وعباس محمود العقاد في خصومتهما الأدبية التي انطلقت من مقهى «الزهاوي» الذي ما يزال حاضراً في بصمتها الحديثة في مبتدأ شارع الرشيد، ولا ينسى المتابعون السجالات الحرة بين «الزهاوي» و«الرصافي»؛ وفي حين كانت الأجواء السياسية العامة صاخبة في فتراتها المتقلبة، كان الجو الثقافي ينضج في هذه المقاهي وغيرها، فتكونت الجماعات التشكيلية وظهرت بيانات الريادات الأولى للشعر الحر الذي انقسم الأدباء حول شرعيته بوجود رائديه الكبيرين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وبعض المصادر تذكر أن بدء الحياة الأدبية لبدر شاكر السياب انطلقت من هذا المقهى، عندما بدأ بنشر قصائده الأولى في جريدة الاتحاد.
وعندما زار رابندرانات طاغور العراق (1932) كان مقهى الزهاوي من بين الاماكن التي زارها، وكجزء من تكريمه اختير الشاعر الزهاوي لرئاسة الاستقبال والتكريم.. وعندما تعانق الشاعران العملاقان في
مدينة خانقين الواقعة قرب الحدود العراقية ـ الايرانية رحب احدهما بالآخر.
قال الزهاوي: أهلاً بشاعر الهند الملهم وحكيمها العظيم!.
فأجابه طاغور: وأهلاً بشاعر العرب الغرّيد وفيلسوفهم الحكيم!.
حسن عجمي
لمقهى حسن عجمي حضور كبير في الذاكرة التاريخية الثقافية لما له من عراقة مع أن أدباء العراق هجروه منذ منتصف التسعينيات بسبب وضع بنائه المتهالك، إلا أن تاريخه الطويل يشفع له بالبقاء على قيد الحياة والى إشعارٍ آخر. ولأن وقوعه مقابل جامع الحيدرخانة مباشرة، فإنه كان متأهباً أن تنطلق منه شرارات القصائد الجواهرية الفذة، ويوما ما من عام 1948 وفي يوم الانتفاضة الشهيرة ضد توقيع معاهدت بورتسموث كان محمد مهدي الجواهري يرتاده ويراقب الشارع السياسي على مضض لكن بتحفز، حتى أطلق سيل قصائده الوطنية المحرّضة فكانت الجماهير المندفعة من جامع الحيدرخانة تتكاتف تحت هدير الصوت النجفي الخارق المندفع من المقهى، وهكذا كان هذا المقهى مركز استقطاب لكثير من شعراء وصفوا بالرياديين كالسياب وبلند الحيدري وعبد الرزاق عبد الواحد وجماعة كركوك والشاعر البوهيمي عبد الأمير الحصيري الذي كان لوحده علامة فارقة من علامات هذا المقهى الخالد.
الشابندر
إذا كان مقهى «الزهاوي» احتفظ بشخصيته التراثية عمراناً متجدداً حتى اللحظة، وبعدما هجره الأدباء الى مواسم سوق الكتب في «المتنبي» فإن مقهى «حسن عجمي» يئس من عودة أدبائه بسبب وضعه الرمادي الكئيب، فظل ملاذا للمتقاعدين وكبار السن، غير أن «الشابندر» هو الأقرب الى جمع شتات الأدباء في موقعه التاريخي بعثمانية طرزه الباقية الى اليوم، وكونه منطقة التقاء معماري أدبي في سوق الوراقين العباسي، لهذا كانت الهجرة منظمة اليه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى استقر المقام به كمقهى للمثقفين والفنانين وعشاق الأدب والصحافيين والاجانب والطلبة ، لا سيما في يوم الجمعة الذي تكتظ به المقاعد حتى يصعب الحصول على مقاعد فارغة فيه.
تأسس مقهى الشابندر العام 1917 على انقاض مطبعة الشابندر التي اغلقت في حينها بعد احتلال الجيش البريطاني بغداد. ولمكانها فرادة كونها تقع في آخر شارع المتنبي المتخصص ببيع الكتب وبين عشرات المكتبات الثقافية التي يؤمها طالبو العلم من أدباء ومثقفين وطلبة وسياسيين وأجانب يستهويهم هذا المكان العباسي الضارب في القدم.
شهد هذا المقهى اكبر فاجعة شخصية في تاريخه في الخامس من مارس 2005 في فوضى السنوات الماضية حينما انفجرت سيارة مفخخة قربه مما أدى الى مقتل أكثر من 160 شخصاً بضمنهم خمسة أبناء لصاحب المقهى «محمد الخشالي» وعثر عليهم بين الركام وتحت الأنقاض؛ وأسفر الحادث عن تدمير المقهى بالكامل وإحراق أشهر مكتبات شارع المتنبي.
اختلف الشابندر عن غيره من مقاهي بغداد بالطراز المعماري البغدادي ونظراً لفخامة هذا البناء وانفراده من حيث التصميم والهندسة فإنه يعد من أهم المواقع الأثرية الشاخصة الى اليوم في بغداد، فإنشاء بنايته يعود الى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وهذه البناية كانت مخصصة سابقاً الى مطبعة الوزراء إبان الحكم العثماني في العراق.
ونظراً لسعة مرتاديه من النخبة فإنه أصبح مثل الأستوديو الحر الذي يوفر الشخصيات الأدبية والسياسية والفنية والفكرية لمختلف الفضائيات العراقية والعربية والأجنبية التي تتجول في المكان منذ الصباح الباكر من كل يوم جمعة. وهو جزء من نشاطها الاجتماعي والفني والثقافي الذي عرفت به منذ قرن تقريباً حينما كانت تعقد الندوات والاجتماعات السياسية، وحفلات الغناء لأشهر مطربي تلك الفترات كقارئ المقام رشيد القندرجي. ومن رواد الشابندر وزير العدلية في العهد الملكي حسين جليل والباحث عباس العزاوي. وبعض أعضاء مجلس النواب وشيوخ العشائر ومختارو المحلة وحسين جميل وكامل الجادرجي والشاعران معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري. أما اليوم فهي تكتظ بعشرات الأدباء من العراق كله، من غير المقيمين في بغداد؛ لا سيما من المحافظات المتاخمة للعاصمة، فالشابندر اليوم أصبحت مقراً لأدباء العراق وموعداً أسبوعياً لا فكاك من تأجيله أو تناسيه.
(بغداد)
——————
وارد بدر السالم
مقهى حسن عجمي.. كبرياؤه من كبرياء رواده.. وزمانه من زمانهم
يرتبط مقهى حسن عجمي اسما ومكانا، بعلاقة تماس معروفة مع الادباء والمثقفين لا بوصفه تأريخا مجردا او مكانا وحسب، انما بوصفه علاقة متينة الخصوصية بما هو عليه من تبدلات وانتقالات خارجية وداخلية لأنه مركز اثير يدور الكثيرون فيه وحوله من اجل اشياء منظورة وربما غير منظورة وليس اقلها الوقوف في اللقطة اليومية المتكررة كأدباء..
وهو هاجس لابد من الاقرار بسطوته وهو يشد ادباء الخطوات الاولى بخجل اول الامر ومن ثم بثقة تظل مرهونة بالزمن والتجربة والموهبة فقد تبارك هذا المقهى حصرا، دون غيره من مقاهي العاصمة تلك
الخطوات القلقة ويمنحها (اجازة) العبور الى احلام اليقظة المعلنة وغير المعلنة. هذه الروابط المعروفة، بين المقهى وادبائها صارت مع الزمن والاحداث المتتالية رابطة منسوجة بحضور مستمر، معلن بين الطرفين، وقد لاتنفصل ذات يوم الا بانفصال المكان عن مرتاديه لسبب ضاغط، وفي الارجح، ربما سيكون سببا تجاريا، وبالتالي علينا ان نتصور شكل الطلاق القسري بين المقهى والادباء والتشتت الناجم حالة واقعة ومن ثم البحث المجهد عن مكان بديل ولابد من ان يكون مقهى كأرض بكر تتقبل زراعة تأريخ آخر على انقاض تأريخ سابق، قد لايكتب له النجاح، وهذا مؤكد الى حد ما، بسبب الاغتراب، المزدوج الذي سيحل بالطرفين المقهى والادباء.. على ان هذا الافتراض سيظل متوقعا وقد لايحدث تماما لتبقى متوالية التعاقب الجيلي قائمة هي الاخرى وليبقى المكان- المقهى محورا حاسما بمركزيته في الشد والجذب والاقصاء فيما بعد.. شكل الصراع سوف يكون مستترا.. وقد كان ذلك بين المكان وشاغليه.. وهو صراع متبادل تحركه نزوات آنية فرضها ظرف طارئ، لكن سرعان ما تعود الاشياء الى سابق وضعها مصممة على أسس تبادل المنفعة، وفرة المكان / ووفرة المكين؟/ وتبادل الخطابات والشفرات حرصا على سلامة التواصل والحضور/ اعانة شاغلي المكان لديمومة اللحظات الغامضة/ وتعويق الزمن في ايقاف المكان – المقهى من قبل مستغلي المكان ورواده الذين انقذفوا من التاريخ القريب او الذين ولدوا تحت اضواء النيونات الملبدة بالغبار الى ما شاء الزمن ان تتلبد؟. هكذا هي (القيمة) القديمة بين الاثنين في لعبة الشد النفسي والتاريخي، فبعد ان أغلق مقهى (البرازيلية) لسبب ما وترك مقهى (البرلمان) وظيفته ليتحول الى مطعم للكباب! اضطر (الجميع) الى الهجرة الى مقهى حسن عجمي وهي هجرة مؤقتة نفسيا الا انها باتت اقامة دائمة لا تعتريها الشكوك ولكن تفترعها الظروف القاسية منذ عشرين سنة على وجه التحديد.
أجيال أدبية
الاتساع المقصود هو في القيمة الزمانية – المكانية للمقهى نتيجة ولادات اجيال جديدة وظهورها على مسرح المقهى بشكل يدعو الى الاعجاب والتأمل والاستفهام ايضا، مما يعزز المكان – المقهى لاحلام اليقظة المشروعة لدى الكثيرين الذين يتزودون هنا وعلى مر الايام، باحلام اكثر واقعية وصراحة، ولكن بعد زمن لايطول هذه المرة وما الانتكاسات او الانكسارات (كذا) التي تصيب بعضهم وبخاصة القادمين من المحافظات العراقية القريبة من حزام العاصمة او حتى البعيدة عنها، ماهي الا جزء صغير من الواقع او احلام الواقع سريعة الزوال امام صراحة المقهى وهي تتحول من مكان الى زمان بوصفها مركزا جاذبا واردا ايضا (المقهى عاصمة اذن)! على ان الكثيرين ايضا قادرون على التضحيات بشكل مستمر ويتآزرون بإلحاح، لكسر شوكة المقهى، متناسين شؤونا مهمة في الحياة واقفين بعناد، منشغلين بحضورهم المزدوج او الحقيقي او الهامشي لغرض توسيع قاعدة المشاركة ولو كره الاخرون؟ وبذلك انشغلت تخوت جديدة باسماء جديدة في المقهى وقد تكرر هذا الامر دائما وسيتكرر ما دام هذا المركز له خاصية الجذب المستمر ومادام هناك آخرون يتعاقبون على وفق النظام الوراثي المعروف، ولكن على طريقة الوصول الى ماهو مشاع، فالمقهى هو (ام) الجميع من حيث هي (رحم) له امكانية ضم الجميع بلا استثناء، دون ان تصبح ابا يوزع اهتماماته بين الابناء العاقين والمشاكسين والعقلاء بصورة متساوية ودون تفضيل هذا الابن على ذاك، فهذا لن يحصل ابدا، لان المقهى غير قادر على تبني نظام الابوة الصارمة فذلك من شأنه ان يخلق فوضى ليس من اليسير كبحها، بل يحولها الى مقهى دون امتيازات اخذت تسعى اليها عبر التجربة الطويلة، وانشأت لها طقسا لا واعيا في الارجح في مكوناتها السرية – المادية. اما الانغلاق المشار اليه عرضا فهو يقتضي النظر الى طبيعة الرواد المواظبين منهم او الطارئين الذين قد يكتسبون حضورا اكثر من الرواد (التاريخيين) المتوالدين عبر الظروف والحقب والاجيال فهنا ستكون الدورة معكوسة، اذا تحقق ذلك الاكتساب ولن يحقق المقهى في رواده المتعاقبين عبر المواهب واستنساخها اي اكتفاء ذاتي بل سوف يحتاج دائما الى عابري سبيل او ممتقعين وربما الى اصناف اخرى من البشر افرزهم الواقع الرازح تحت ثقل الحصار؟.
حضور عابر
ان طرفي الاتساع والانغلاق مرهونان ليس بالزمن وحده وتغير الظروف فقد يكون هذا تحصيل حاصل لكنهما مرهونان بالالتصاق القصدي في جلدة المقهى او الانسلاخ عن رحمها والاكتفاء بالحضور العابر على طريقة تزجية الوقت او احصاء الهموم البيتية، وهذا ما تستوعبه المقاهي كلها، وهذا ايضا سوف يسلب مقهانا فضيلة الزمان والمكان وفضائل اخرى لأن الهدف الكامن هو الا يتحول مقهى حسن عجمي الى مكان مجرد والا فالامكنة مرمية في كل مكان؟؟ وإن لقاءات التحية يمكن ان تتم عبر الهاتف بشكل مستمر دون انقطاع والولادات الادبية ستبحث عن (رحم آخر) وتجمل له سماته واركانه وتخلق له مزايا نادرة وتزور له تاريخا فاضلا؟.
وجد المقهى (حسن عجمي) بوجود شارع الرشيد، فهل نستطيع ان نتصور العكس؟
لا اعتقد ذلك فالمقهى ليس له علامة فارقة في شارع الرشيد وليس له علامة فارقة في ذاكرة مسافر او عابر او طالب جامعي قاده الواجب الدراسي للبحث عن مصادره في شارع المتنبي.
وجد المقهى بوجود شارع الرشيد ولايجوز افتراض العكس ..
إن ذاكرة (حسن عجمي) من ذاكرة (شارع الرشيد) وارجو الا يكون هذا فرضا متعسفا .
ان ميزة هذا المقهى هي في انفصالنا التدريجي عن شارع الرشيد الذي فقد جزءا كبيرا من ملامحه وذاكرته، وهو انفصال قررته ظروف متعاقبة، لتستقل باطارها وتجتذب اليها ذاكرة اجيال اضيفت مكتنزة بما هي حياتي وحيوي، تلك الاجيال التي قدمت مكتنفة بالمشاريع والهواجي واحلام اليقظة المستمرة، ولعلنا سنقرر ان الانفصال من ذاكرة شارع الرشيد ليس مقصودا بذاته، كما ليس مخططا له من قبيل اي طرف يعنيه هذا المكان اولا يعنيه.. على افتراض ان كل ذاكرة تؤسس علاقاتها الجدية بما هو مضاف اليه من معرفة مقرونة بالخبرة والتجربة بعيدا عن (استعمار) الماضي ومحدداته وذاكرته. تطلق تسمية (مقهى الادباء جوازا على مقهى حسن عجمي) وهي تسمية محلية اتفق عليها دون اتفاق علني، ولكنه اتفاق قائم، ولم تطلق هذه التسمية بشروط يمكن قراءتها ولن تكون ثمة شروط لمستقبل هذا المقهى على اساس هذه التسمية او غيرها مما ينتجه ظرف قادم، ويتضح من التسمية في حقيقة الحال اطراد متحصل من الرواد كان وراء ذاك العنوان العريض، فتعاقب الظروف القاسية وتخاطف السنوات وولادات اجيال قذفها الواقع المحتدم الى واجهة الحياة بشكل قيصري في بعض الاحيان، تم التركيز على التسمية المذكورة لا من قبل (المسمى) هذه المرة انما من المقيمين على شؤون المقهى، حصرا فهل هذا وعي مكتسب؟ ان تتم المسميات عن معرفة ضرورية لما هو مسمى؟.
لا اظن ذلك ولا استطيع قبول هذا الاحتمال بشكل نهائي لأن معرفتي بـ (ادارة) هذا المقهى لايصل اليها الشك في ان الوعي المستنتج من هذه التسمية هو وعي (عفوي) وليس (اميا) كما يتبادر الى الاذهان اول الامر فهو وعي متحصل لنمط من الرواد صيروا للمقهى علامة مميزة وجعلوا له دالة خصوصية عليهم وعليها، فقد يكون هذا من قبيل الاحتراس الضمني في تبادل الادوار بين المقهى ورواده من الادباء، وهي ادوار ذات لعبة مفضوحة الاسرار يلجأ اليها الطرف الاول – المقهى عادة.. تبعا لحالتي الاتساع والانغلاق المشار اليهما في توطيد او تشتيت العلاقة ذات المنفعة المشتركة.
التسمية المتفق عليها بلا شروط معلنة
(مقهى الادباء) لم يخضع لاشاعة قديمة او حديثة، بل الى حقيقة يومية ملموسة ترسخت عبر معاناة اجيال وانصراف حقب، وترسخت في اوقات مضت ثم اضمحلت في اوقات اخرى، ثم عاودت الظهور حقيقة لا مفر من اقرارها واعتدادها/ من وجهة نظر المقهى/ مكسبا قادما من ظروف متفجرة حملت معها ظواهر بشرية وادبية تناوبت في الجلوس على تخوت المقهى وما تزال متشبثة بها عنوة.. ثم ان غياب وجوه متعددة لهذا السبب او ذاك وانحسارها وظهور بدائل شرعية وغير شرعية اخذت تتسيد المكان- المقهى بوصفها وريثة للوجوه الغائبة او امتدادا لواقع الحال الادبي في مشهده الواسع..
كان هذا اعطى (ادارة) المقهى وهي ادارة لم تتبدل خلال عقد من الزمان ونصف زخما معنويا ظاهريا وباطنيا في مغازلة تلك التسمية او اخراجها الى الوجود وعدها واجهة اجتماعية منيرة تبز بها مقاهي القمار والريسز والصفات التجارية التي تتم عبر دخان الناركيلات ذات الرائحة التي لم ولن تتغير الى وقت ليس قريبا؟ لماذا هذا التحول البطيء في النظر الى الرواد المزمنين والجدد ممن وضعوا ثقتهم في القدر على امل الايغال في احلام اليقظة؟.
ما يفكر به المقهى
لا استطيع الجزم بما (يفكر) به المقهى؟ ولكن لدي تخمينات اولية معززة بالشواهد الدالة على مثل هذا التحول، ولعلها شواهد مستقاة من صميم العلاقة اليومية النافذة، وهي شواهد قام بها بعض المسرحيين اول الامر ثم اتسع الامر الى آخرين من الشعراء وكتاب القصة/ فالفسحة العارية القريبة من نافذة الشارع كانت محرمة على الجميع قطعا/ وظل الشك يراود (ادارة) المقهى في ان اية حركة يقوم بها بعضهم سوف تكون مرصودة من عيون غريبة مبثوثة هنا وهناك وهذا شك له اساس تطبيقي في واقع العلاقة بين المكان ورواده لانه من ذاكرة قديمة دهمتها الفوضى ردحا طويلا من الزمن وربما ظرف الحرب اسبغ طاقة غريبة على وعي عفوي/ شبه امي/ كبرت امامه الفجيعة فتصور ان الاعلان عن مسرحية او امسية شعرية هو بالضرورة سوف يكون احالة لا واعية الى (ملصق) ناشز قد يسبب الخراب؟؟.. لكن التمرد ظل قائما، فظهرت/ عنوة، ملصقات اخرى صغيرة اخذت تتكاثر وتنمو بعناد معلنة عن امسية شعرية او ندوة قصصية او عرض مسرحي، يسار الجالس قريبا من نافذة الشارع.. وهي موجهات انية لمشروعات حقيقية او متخيلة او مجهضة او تحمل مقدارا لا بأس به من الاماني واحلام اليقظة التي تتحفز، عبر الشاشة المجانية، آملة ان تكون حقيقة يجب الاعتراف بها لاحقا. ان (استباحة) الشاشة الامامية قصد وزوال الخطر المحتمل جعل تحولا آخر/ وان كان بطيئا/ يتردد في (رأس) المقهى؟ وهو تحول مشهود في ستراتيجيتها؟ وأظن ان لهذا اسبابه التي لا اجيد الافصاح عنها كمحايد.. وكان ذلك التحول السلحفاتي هو عبارة عن اشارات مصالحة ضمنية لتبني التسمية، للاعلان الصريح عن انتماء خجول لهذا الواقع المتوثب دائما.. فأخذت التحولات البطيئة تظهر بوصول الرسائل الواردة الى الآخرين، من داخل العراق وخارجه، وهي تجد طريقها سالكا للمرسل اليهم، بل كان تارة المقهى اكثر حرصا على ايصالها بالسرعة الممكنة، تنفيذا لا واعيا لقرار التسمية غير المعلن صراحة باقامة جسر جديد عن العلاقة (المتكافئة) بين الاثنين ظاهره ايماءة للتميز والتفرد، وباطنه مرتهن لظروف قادمة.
وما دامت التخمينات الممكنة لها طاقة لاستخلاص شيء من النتائج الدالة فمن الضروري ان نتذكر اللافتة السوداء التي وضعها المقهى بعد وفاة القاص موسى كريدي ينعى مقهى الادباء الاديب موسى كريدي، باشارة صريحة ومباشرة لهيمنة التسمية الجديدة والاعلان عن (هوية) اجتماعية ـ ادبية لاسيما ان اللافتة ظلت وقتا اكثر مما يجب ملصقة على حائط المقهى وفي مكان لا يجلس فيه الادباء عادة!!. وهذه هي اول مرة في تأريخ المقهى توضع فيه مثل هذه اللافتة باسم يحمل مقهى الادباء، منحيا اسمه القديم مؤقتا ومعلنا انتماءها الواضح الى فصائل الادباء في تحول استراتيجي سريع وحاسم وربما وجد بعض الادباء ان الاسم الجديد، على وفق اللافتة ليس مشروعا على هذا النحو المباغت برغم الممهدات الاولية التي حاول بعضهم تكريسها عبر شاشة الحائط المتسخ الى الابد برغم ان تلك التسمية ترضي غرور الكثيرين منا ساعدهم الحظ او الموهبة على الوصول الى تخوت (مقهى حسن عجمي) والجلوس الطويل بأمل قطع التذكرة الثانية في القطار الصاعد الى .. الاحلام!!. سيكون من الواضح انه يجب تخطي التسمية وعدها (حالة) ما، فأية حالة لاتوصف هي عرضة للقلق والارتكاز واي وصف كهذا هو حالة توجب الاخذ بها سلفا والارتكاز الى (مضمونه) فهذا المكان – المقهى بتحولاته الطريفة البطيئة ينبغي ان لايوصف بحالة لانه يوصف ويفلسف على اساس ارتباطاته بالتأريخ والزمان والحيوات المتناوبة عليه، كما يرجى الا يفهم ان لنا موقفا من التسمية، على بساطتها، التسميات زائفة ولكن موقفنا يتوزع في القراءة المكانية للمقهى وتكوناته وتبدلاته الظرفية وغير ذلك مما يتيح المجال للاخرين في قراءته مرات ومرات على وفق طبيعة كل قارئ وارتباطاته القسرية او العفوية بهذا المكان.
موازنة ممكنة
ان خلق موازنة بين طرفي العلاقة سيبدو امرا ممكنا على صعد شتى، فأي مكان أليف نواظب على ارتياده سوف يخلق فينا متنفسا ويطلق في دواخلنا امكانات مختلفة النيات على الفهم والافهام واستقطاب التجارب المحررة والمكبوتة وسوف نتمكن من تفسيرها والتعامل معها بحرية مثالية، لذلك فاقامة التوازن بيننا وبين المقهى- مكانا ثابتا- نحن الذين نتحرك – هو امر بديهي اذا ما توفرت خصال مشتركة في القدرة على الاستيعاب والتحليل والاستنتاج وان ترددنا الى هذا المكان هو غاية لتحقيق ما هو متخف في دواخلنا اولا او الاعلان عن اشياء بعينها، وهذا منطق متحرر قياسا الى الضغوط الهائلة التي نحملها وتحملنا، لاسيما ان عصر القراءات الصامتة- الودية التي تحمل قدرا من الالفة والطمأنينة قد ولى وحل محله عصر النظريات والشكاوى والبحث عن طرق سريعة للوصول الى اي شيء وكل شيء، ولكن ماذا يحصل لو ان المكان اخذ يتحرك ونحن نبقى في وضع الثبوت؟. إن سؤالا كهذا سيبدو مفترضا لكن هذه الفرضية قابلة للتحقيق، فعلا، لأن الاسئلة عادة لاتولد من فراغ ولابد لها ان تكون محررة من عقد واشكالات وسوء فهم اكيد وربما سوء نية ايضا؟. وعلى هذا الاساس يكون السؤال مغايرا لواقع التطابق المطلوب بين المكان وشاغليه الدائميين وهو سر لايبحث عن جواب قاطع عن مكان ينبغي ان تكون له فرادة قصوى سواء في ثبوته واقعا وفي تحركه رمزا يحتمل شتى التوصيفات.. اما بقاؤنا في وضع الثبوت فهو احتمالية مرجحة لكننا لا نحل محل المكان – المقهى ولانكون بديلا لوعاء قابل ان يحتوي احلام اليقظة. ان الثبات حالة لاتتطابق مع مكنوناتنا الداخلية، ما كان منها معلنا وما كان سريا،، واعتقد انه ليس بوسع احد تقبل هذه الاحتمالية او مجرد التفكير بالوصول اليها، والا استحال الى كائن من اثاث اي جزء من مكان، بل حالة طارئة غير اصيلة، على مكونات المكان ذات ذاكرة المعاني .
يشكل المقهى من وعي (داخلي) وآخر (خارجي) يحددها (شكل) داخلي و(شكل) خارجي، وبنتيجة رياضية سيكون ثمة (شكل داخلي) و(شكل خارجي) وهذا الاخير ينسب الى تخطيط عمراني سابق يقع في التخطيط العمراني العام لشارع الرشيد ذاته، وليس لأحد فضل تأشيره فهو واقع محالة، فيما ينسب الاول الى الرواد المتعاقبين وهم يحملون (هوية) محددة ذات ملامح واحدة تقترب وتتباعد بحسب ظرفها ، الشخصي وهي في الحالات كلها خارجة عن السياقات التقليدية لهويات الرواد التقليديين وبذلك تكون الشكل الداخلي وتمنح المكان (هيبة) جديدة وتوفره وتبعده عن سطحية الامكنة – المقاهي اي ان الحالة الثانية وعي – خارجي- شكل خارجي،، ستظل تابعة الى الحالة الاولى وعي – داخلي – شكل داخلي،، مستثمرة التغير والتبادل والولادات التي تقذفها اليقظة في التكونات الجيلية المستمرة والتي شغلت الفراغات وتركت وجوها بديلا لتكرار الوجوه الغائبة وارثة ملامحها الادبية وهويتها التي لاينقطع نسلها ذات يوم.. وكل ذلك لايجري مصادفة، كما انه لايجري بتخطيط قبلي.. انما عبر (لغة) موروثة فرضت على المقهى حقيقة مقررة،، هي في كل حالاتها قادرة على بث تقاليد مدنية مثقفة داخل هيمنة المقهى التي تحاول الموازنة بين شروطها الاستهلاكية وبين (انتمائها) الذي سيبقى معلقا الى اشعار آخر!. ان الادباء- الرواد، بوصفهم الحالة الاكثر تماسا مع (لغة المقهى) و(لغة) المجتمع سوف تكون لديهم الفرصة تلو الفرصة لان يقوموا (شكل) المقهى داخليا مبتعدين عما هو عارض وآني ومستهلك.. باحثين عن كنه (المعاني) المتوافرة بافراط وصولا الى تحقيق غرض متعدد الاضاءات سيدخل العملية الابداعية.. قصة وشعرا ورواية ومسرحا.. وهذا ليس شائكا اذا اخذ بنظر الاعتبار ان خطورة (المكان) هي في تحوله التدريجي الى (زمان) اي (لامكان).. ان هذا الانقلاب المتوقع سيحول طبيعة المقهى من حالة متحركة الى حالة من الفراغ والثرثرة واليأس.. فيتحول (الشكل الداخلي) الى حلبة من الصراعات النفسية والاشاعات وتثبيط الهمم.. اي يتحول المقهى الى (لامقهى).. ان الفرصة متوافرة حتما الى اقامة محددات جمالية صارمة في اعادة تنظيم الشكلين/ الداخلي والخارجي/ الى (معنى) اكثر شمولية وفائدة وتأثيرا على اساس ان المكان جزء لا ينفصم من الواقع المتحرك.. بل هو جزء واسع من ذاكرة (المعاني) التي قد لاتتكرر في شرائح المجتمع الكثيرة/ التي تتردد على المقاهي هاربة من اسى او ضجر او حالة او لحظة او يأس او أمل او وهم او حلم او تأمل.. اخيرا :
ان كبرياء المقهى من كبرياء رواده.. اما زمانه فهو من زمانهم
—————–
” – المقهى ..
نافورة متحجرة. ماؤها نميمة ومرعاها إشاعة . ما أكثر الأصدقاء بالمقهى حين تعدهم لكنهم خارجها …لا أحد تقريبا ”
* الحبيب الدايم ربي .
—————–
حسن النواب
مناجاة الي مقهي حسن عجمي..في بغداد
ادباء يستظلون بالأرائك العتيقة
عصف بي الحنين الي مقهي عزيزة علي جميع قلوب الأدباء.. مقهي خرجت منها أجمل النصوص ألابداعية.. لن أنسي صديقي علي السوداني الذي أرشدني عليها وهو منهمك بكتبابة روايته الرجل النازل.. مقهي كانت محطة الأحتدام لجمع الأدباء العائدين من جبهات القتال.. هنا أسترجع بعض الذكريات عنها.. والشاعر جواد الحطاب يقف في باب المقهي وهو يحمل ديوانه سلاما أيها الفقراء .. وقد سأم من الأنتظار لناقد حداثوي.. ربما هو سعيد الغانمي.. فقرر التسكع في شارع المتنبي.. تاركا لي فسحة من دخول المقهي.. وسلام سرحان يلوك لفة البيض بشكل نثري.. بينما الرسام هادي السيد يحمل تخطيطاته تحت أبطه منتظرا قدوم القاص ثامر معيوف.. وعلي مرمي شهقة..من دهشتي الأولي لرؤية هذا المكان الذي.. توافدت له حشود الأدباء من الأقاصي البعيدة.. ومن الحانات..
لم أجد صعوبة تذكر بالوصول الي مقهي حسن عجمي.. ولكن الأرتباك إستحوذ علي كياني.. حين أبصرت نجوم الأدب العراقي يجلسون علي أرائك قديمة تقشر دهانها.. اليوم هو الجمعة.. والساعة تشير الي إنتصاف النهار وشمس الميدان المتوهجة تطارد بضفائرها المتجمرة رقة المشاعر وتصهرها علي شفاه الأرصفة وزجاج الفنادق والمطاعم.. ولكن المقهي فيء سمين.. هاهي الأرائك تتباهي بجلاسها الادباء.. أين نجلس والمقاعد مزدحمة بحملة الأقلام.. والحق ليس هنالك من مجلس لك في يوم الجمعة ، مادام الأدباء قد تركوا أوراقهم ونصوصهم علي مناضدهم تترقب عودتهم لأكمالها.. وجاءوا جميعا يتجاذبون الأفكار وربما يتشاجرون في الكلام لأختلاف أرائهم في موضوع ما.. وبين فوضي الزبائن وقرقرة نارجيلات الكهول يفسح لنا أحدهم مكانا.. نستريح به.. وبهدوء أجوب ببصري متأملا جلاس المقهي.. هذا هو الشاعر سامي مهدي يبتسم كاشفا عن أسنانه العريضة لنادل المقهي أبو داود.. يأخذ من كفه المحناة بدم الشاي..قدح الماء..عفوا (إستكان الشاي) فأبو داود لا يقدم لزبائنه سوي الشاي فقط.. اللهم الذي يعزهم فقط.. وآنية البرونز ترافق يده وهو يستطلع الشفاه التي لم تذق شايه بعد..بينما القاص موسي كريدي ينتظر دوره.. بماذا؟ حتي الآن شرب ثلاثة أقداح من الشاي.. وينادي هل من مزيد.. ويحتج أبو داود ويمضي عنه بعناد الأباطرة.. ويظل القاص موسي كريدي في حيرة من أمره مثلما كان في حيرة من قصصه أين ينشرها؟ ويقترح عليه الدكتور مالك المطلبي التريث بنشرها الآن.. فمعارك الجبهات علي أشدها في شرق البصرة..وفي لحظة يشتد صخب المقهي با لأحاديث.. يدخل رجل تتقدمه عكازته بينما نري قبعته الشطرنجية الصغيرة تعلن عنه.. إنه الروائي عبد الخالق الركابي.. الي جنبه شاعر شاب بشعر أشيب !! تتدلي من كتفه حقيبة سوداء (موضة الأدباء تلك الأيام).. ربما هو الشاعر رياض إبراهيم الذي إستشهد بعد سنوات بشمال العراق.. وبعفوية يتحرك الأدباء فيما بينهم فاسحين المجال كي يجلس بينهم ، ولكن أين سيجلس؟.. بالطبع بالقرب من سامي مهدي ومالك المطلبي والقاص أحمد خلف ورزاق أبراهيم حسن وزعيم الطائي.. الناقد ماجد السامرائي لم يزل مشتبكا بالحوار مع وارد بدر السالم.. والشاعر الجيزاني يطمئن خزعل علي قصيدته الأخيرة.. ومن خلل الأجساد التي تمرق أمامه يرقب المشهد ويسجل في ذاكرته الشعرية مواقف الأدباء..وما يقتنصه سمعه من أحاديثهم.. ربما يتصيد حديثا ثرا من أحد الأدباء الشباب من الذين يصغي إليهم بمحبة ليكتب موضوعا آخر يعزز به قصيدة النثر..
وبعين الشاعر الذي يمسك المشهد بجملة شعرية هاربة من منجم الكلام.. أبصر الشاعر رعد عبد القادر يهادن أحد الشعراء الشباب الذي إحتج وتذمر من الأخراج الفني لنصوص الشعراء الشباب في مجلة الطليعة الأدبية وفي عددها الأخير.. نعم هو محمد تركي النصار الذي ترك خضير عبد الأمير سكرتير تحرير المجلة وجاء يعاتب القادري الذي لا شأن له بذلك.. فلقد كان ضابطا في شرق البصرة.. وجاء يقضي ساعات الأجازة مع الأدباء من أصدقائه.. ويعلو صوت نادل المقهي قرب السماورات.. لأن نصيف الناصري الذي يقود الحملة الأنتخابية ضد البعثيين في إتحاد الأدباء.. ألح عليه بشدة كي يأتي له بقدح الشاي.. الساعة الواحدة أصبحت والشاعر نصيف الناصري لم يفطر بعد..وهو بحاجة الي دينارين كي يغادر المقهي بحثا عن كتاب منسي لحسين مردان في سوق السراي.. وفي الركن القصي تحت التلفاز مباشرة جلس الشعراء الثمانينيون وعيونهم ترقب باب المقهي خشية من مداهمة مفارز الأنضباطية لهم.. ليس كلهم فلقد كان سعدجاسم طالبا في المرحلة الأخيرة.. والأمر ينطبق علي باسم المرعبي ومحمد مظلوم ومحمد تركي النصار وحتي صلاح حسن الذي دخل الحرب وهي علي مشارفها.. هناك أيضا وسام هاشم يصهل كفرس في برية.. وحميد كاظم الصائح الذي تمكن من احتلال صفحة النقد في جريدة الجمهورية والتي كانت تشرف عليها نازك الأعرجي..
كانت مسرحية الرهن مازالت تعرض خلف سينما النصر لفرقة الفن الحديث.. ومنها برز اسم عبد الأمير شمخي الذي أعد المسرحية من مجموعة قصصية لفؤاد التكرلي بعنوان الوجه الآخر.. وكان الصائح مطمئنا لما كتبه عن المسرحية.. بيد إن زعيم نصار وحسين الصعلوك كانا يتجولان بحثا عن كتاب منسي علي الأرائك.. فلقد كان حسين الصعلوك أخطر سارق للكتب، وأذكر مرة عندما خبأ أمل دنقل تحت قميصه ولما ضبطه صاحب المكتبه أجابه غاضبا.. رأيته يرتجف من البرد فوضعته تحت قميصي ليتدفأ.. بينما نري أحمد المانعي مضطربا بعد البيان الشعري الذي ضمنه مع مجموعته الشعرية طقوس الطين.. فلقد كتب عنه أحمد هاتف نقدا لاذعا في عموده الأسبوعي بجريدة القادسية وأدرك شهريار الصباح.. وبعدها كشف البعض من الأدباء أن الهاتف هذا قد سرق أكثر من مقالة من كتب ثراثية قديمة بعد ان يعصرن الكلمات لتتماشي وروح العصر..
وهنا رأيت سلام كاظم بشعر حليق ودخان المنزل بيده ديوانه الشعري.. وكان قد قرأ قبل أيام قصيدة طويلة في إتحاد الأدباء أثارت لغطا وكان إسمها الملوك العزل.. هاهو يجلس بجوار كمال سبتي الذي نشرت له ألف باء نصا نثريا جريئا بعنوان الأقبية.. رباح نوري المصحح في جريدة القادسية والذي يمرح ويسرح بسيارة أخيه الشهيد كان ملازما للقاص ثامر معيوف رئيس القسم الثقافي لجريدة الجمهورية.. الذي صار يتحدث بصوت جهوري وهو يكور يده اليمني محركا إياها الي الأمام والخلف.. ويقول فيضان بحجم الكف.. وكانت حركة يده تشير بوضوح الي حركة جنسية.. أراد بها ذم كاتب تلك القصة التي تحمل هذا العنوان… القاص محمد مزيد دخل المقهي مرتبكا.. فلقد كتب بواحدة من قصصه ضغط علي الفرامل فأنطلقت السيارة.. لكنه كان يتباهي بقصته غرفة في الهواء.. شوقي كريم (مخبوص) بجماعة تضاد يفبرك البيانات وينشر الأعلانات ، بينما حميد المختار مازال يعتمر قبعة زرقاء وقد أرسل شعره ليلامس كتفيه.. وهو مطمئن لردود الأفعال عن رواية النزلاء التي طبعها علي حسابه الخاص.. الحميد عبد الرضا.. يحسده أترابه علي غزارة النشر.. إذ تمكن من نشر ثلاث مجاميع خلال سنة.. سيدة المياه وكنت مع العريف.. والمجموعة الثالثة ستصدر قريبا بقصص لها لباس المعركة كما تسميها السلطة.. وفجأة يسود الهدوء.. هل دخل جان دمو..كلا.. لم يزل يستحم في حمام الفندق كي يزيل عرق الليالي عن جسده المتهالك بالشعر المترجم.. وين صراع قصيدة النثر وبنيوية مالك المطلبي وواقعية كزار حنتوش الذي دخل المقهي بقميص أبيض..يحمل رماد الشعر بين عينيه.. نبصر أدباء المحافظات يحتلون أحدي زوايا المقهي بخجل ووقار.. ابصر منهم ركن الدين يونس ومحسن الخفاجي الذي جاء بقطار الناصرية ودم الشهداء يفوح من العربات وهو يتذكر القطارات الليلية لكاتب ألماني.. وفي سره يقول هناك من سرق هذه القصة ببراعة.. بينما طالب عبد العزيز مازال قلقا علي بوحه الشعري الخطير في تأريخ الأسي.. وهو يصغي لقصيدة غامضة لرعد فاضل الذي شيب الدنيا بقصائده المليئة بالطلاسم..
ولكن عند زاوية أخري من المقهي جلس جمال حافظ واعي رزينا.. باسما غير راض علي عموده الأسبوعي في جريدة القادسية.. هاهو كريم الزيدي يدخل المقهي بصحبة ستار كاووش الرسام الذي أنهي قبل ساعة لوحة غوغانية علي واحد من جدران نادي الأدباء.. والزيت مازال يسيل من أصابعه.. وهو يلعن اليوم الذي صادق به الشاعر حميد قاسم الذي تركه وفر مع معشوقته الي كافتريا الخضراء.. إزدحمت المقهي.. بكل الأدباء والشاعر زيارة مهدي ما زال يتفاوض مع عابر سبيل علي مساحة من رصيف المتنبي يبيع عليها كتبه.. وهنا دخل شخص غريب بهيئته الي زحام المقهي ورائحة السمك تتطاير من ملابسه وقد علق نياشين وصور لرؤساء غابوا عن ذاكرتنا.. ومن حزامه تتدلي السكين الطويلة.. فهتف الحشد داخل المقهي جاسوس.. وكثر الصخب واللغط وصاحب المقهي بصلعته المفزعه يصيح.. رجاء.. رجاء.. إدفعوا إجور الشاي.. وعبد اللطيف الراشد يطمئنه.. إنهم أدباء.. سيدفعون لك ثمن الشاي أضعافا.. وأبو رشا يردد وهو يحك صلعته.. لا ربحنه.. والمذياع يخرخش بأغنية لأم كلثوم.. إنما للصبر حدود..
—————-
محسن الجنابي
مقهى حسن عجمي في الذاكره العراقية·
وصلتني بعض الرسائل و قرأت بعض التعليقات التي يتسائل أصحابها عن مصير أحد مقاهي العاصمة بغداد و هو مقهى حسن عجمي الشهير , اللذي كان منبرا” لحوار الطبقة الوسطى وعامّة الناس التي تمثل صوت الشعب , ربما هي الحاجة التي ساقت ذاكرتنا لذلك المقهى أم أنه الحنين , الجواب متروك لكم .
أولا” : تاريخ المقهى
مقهى حسن عجمي يقع في بغداد على نهر شارع الرشيد من جهة الحيدر خانه تقابله في الجهة الأخرى محلة جديد حسن باشا وهو من المقاهي البغدادية الجميلة ويرتاده المعلمون والمدرسون ويمتاز بتراثه البغدادي، والى جنوب مقهى حسن العجمي مقهى البرلمان الذي كان يرتاده معظم زوار بغداد والى جنوب مقهى البرلمان وفي الجانب الشرقي من شارع الرشيد يقوم مقهى خليل.
يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقوداً طويلة، وارتبط بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، فضلاً عن موسري المجتمع ووجهائه.
لقد وجد فيه وجوه البلد في الثلاثينات مكاناً مناسباً، إذ كانت خدماته في غاية التنظيم والجمال، وكانت أرضيته مفروشة بالسجاد الكاشاني كما يروي وارد بدر السالم.
ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل القائه قصائده الوطنية المحرضة، فحين ألقى قصيدته الشهيرة “أخي جعفر:
أتعلم أم أنت لا تعلم = بأن جراح الضحايا فم
اندفعت الجماهير في سيل عارم مأخوذة بسحر القصيدة وبلاغتها وتأثيرها من جامع الحيدرخانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالاحتلال.
وفي الأربعينات والخمسينات توافد على هذا المقهى الى جانب الجواهري كمال الجبوري والسياب والبياتي وعبدالأمير الحصيري وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة.
ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينات والسبعينات والثمانينات، تلك الأجيال التي شهدت حراكاً ثقافياً أوسع وتطويراً لآفاق التجربة الإبداعية وتوليداً للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة. كما شهد المقهى ازدياد زخم حضور المثقفين من هذه الأجيال، إذ كانوا يتوافدون في المراحل الأخيرة عليه في كل جمعة، مناقشين ما ينشر في الصحف والمجلات وما يتلقفونه من إصدارات إبداعية في مصر ولبنان او ما يتخلق بينهم من تجارب ومشروعات.
لم يكن مقهى “حسن عجمي” محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى مدرارا” ومسرحاً حقيقياً لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم، قبل ان يهجروه منذ بضع سنوات في موقف جمعي احتجاجي الى مقهى “الشابندر”، إثر حدث تعرض له أحد الأدباء على يدي صاحب المقهى الفظ.
ثانيا” : المقهى الان
حين مررت به يوم الجمعة الماضي سمعته يناديني، وحين نظرت إليه… مد إلي يديه المتعبتين، كان نداؤه شجيًا، وكانت يداه عاريتين فظهرت عليهما ندوب الجرب (عافاكم الله) واضحة بشكل مقزز، وحين اقتربت منه رثيت لحاله، حاولت أن أسدَّ أنفي أو أغمض عينيَّ، لكنني لم افعل ذلك احترامًا لكبريائه، توقفت في الباب، كان المنظر غير قابل للسرد او الوصف، وقبل ان اتكلم، سمعته يقول: هل تحكي من اجلي مع من يهمه امري، هل من طبيب يداويني؟ تيبست اطرافي وجفت عروقي وهذا وجهي كما تراه قبيحًا، وعيوني اصابها الرمد وعظامي دب فيها الوهن، وصرت اسعل كأنني مصابة بالتدرن،انا الان اعيش في ارذل العمر، قل لهم ان يهدموني ويمحون وجودي بدل هذه (البهدلة) التي اعيشها، مددت خطواتي داخله، وسرعان ما توقفت.. وانا لا ادري إلامَ أنظر واي صور معتقة بالخراب اتأمل، لكنه دعاني إلى أن اجلس وألتقط صورًا له عسى ان تكون كافية لاعادة الحيوية إليه أو فنائه!!.
هذه هي حال مقهى حسن عجمي، المقهى الشهير في بغداد، مقهى الادباء والمثقفين، المقهى التراثي ذات التاريخ والنكهة والمزاج الرائق،الذي يقع على الضفة اليسرى من شمالي شارع الرشيد، بمنطقة الحيدر خانة، في منتصف الطريق بين ساحة الميدان وساحة الرصافي وعلى بعد خطوات من شارع المتنبي. وكان علي ان اعيد تصوراتي السابقة عنه وانا ارتمي على (قنفة) متهرئة تغطيها حصيرة ممزقة، وامامي ينحني ذلك (الميز) الذي تغيرت ملامحه من بقايا الشاي وضربات قطع الدومينو، كانت العتمة تغطي اجزاء كبيرة منه ما عدا المساحات التي تقع تحت (المنور) الذي اصبح زجاجه قطعة من وسخ، وانا كنت اتطلع اليه.. ارى هذه الذكريات وقد جلستْ متهالكة وسط سكون مريع، فلا فوقها سليم ولا تحتها صحيح، وكل ما يتراءى عتمة ورماد، لا اعرف كيف اصف المكان فهو مما لا يوصف، على وشك الانهيار… انك تتوقع ان البناء سيقع بين لحظة واخرى، كنت اسمعه يقول: منذ سنوات وعيوني تترصد الرائح والغادي، بحثًا عن منقذ ولكن كل يوم ازداد الأسى وانا بهيأتي البالية وشيخوختي المتعبة ورائحتي المترعة بالرطوبة والعفونة، انادي عبر الايام ولا اجد سوى الصدى منكسرًا يتردد في ارجائي الهامدة.
ربما يتساءل بعضهم عن سر الاهتمام بهذا المقهى، والجواب عند الادباء الذين يقولون انه جزء من التراث البغدادي، وقيمته من قيمته، بل انه مدينة الذكريات الجميلة المترفة بحكايات الشعر والمناظرات واسرار وبصمات ابداعات الادباء على اختلاف ازمنتهم ومماحكاتهم التي لا تقاس بمتعة.
اغمضت عينيّ للحظات فشممت من ثناياه عبق رائحة تاريخه المعتقة بأنفاس الادباء ومطارحات الشعراء وحكايات لها بداية وليس لها نهاية، تذكرت الوجوه العديدة التي كانت تتوزع مقاعدها بحيث لا يوجد شاغر فيها، وارى لمعان الحياة في كل شيء فيها، حتى عامله الاثير (ابو داود) كانت هالته تشبه هالات اهل الادب والثقافة، بجراويته البغدادية وشاربيه المعقوفين وصمته، وكل (استكان) شاي يقدمه كان يقدم معه جملة شعرية او لفظة او يسرق انتباه الادباء حين تنزل من بين كفيه (الاستكانات) في لحظات عجيبة من الاستكانة والهدوء، لكن أبا داود رحل مطلع عام 2003، إلا أنّ صورته لم ترحل.
على الطريق اليه.. يعد هنالك من الحياة سوى انفاس ضئيلة يبثها العابرون وبعض محال الريافة وبائع كتب على طرف ليس بالبعيد، وثمة مطعم شعبي، اتحدث هنا عن يوم الجمعة الذي كان يمثل للمقهى عرضًا اسبوعيًا مثيرًا بطقوسه، المشهد لا يدعو الى السرور، حيث اقفرت الارصفة وغطى الغبار سطح الشارع، الطريق اليها صار ساذجًا، لا تمتلك تلك المتعة الشاهقة بحيوية المكان، لا تسمع فيها سوى صدى خطى خافت ليس لها طعم، لانها احادية الرنين وذات هواجس مشتتة، وعلى رصيف المقهى لم تكن هنالك الا مجموعة من الجالسين على (القنفات) العتيقة، وقسم منهم نزل بالكراسي والمنضدة الى نهر الشارع، يلعب الدومينو، وهؤلاء من كبار السن او الذين يرتبطون بالمقهى، كما هي الحال داخله. كان الظلام يخيم على مساحات واسعة منه، مثلما الخراب الذي طاله، هنالك مجموعة من الاشخاص يتناثرون في الارجاء الصحيحة والسليمة منه، بعضهم يبدو عليه التعب الجسدي والنفسي، وربما وجد في حالة المقهى السيئة ملاذًا هانئًا، رأيت شابًا يؤدي دوره في اعداد الشاي وتقديمه لزبائن المقهى على قلتهم، كنت ابحث عن (ابو داود) فيه لكنني لم اجده، كانت الاشياء متراكمة على بعضها بشكل يثير الدهشة والارتياب ان المقهى ما عاد يؤدي دوره كما كان، فغياب الادباء واضح، وكما قال لي احدهم: لم يعد المقهى صالحًا للجلوس والادباء تحولوا الى مقهى الشابندر.
في وقفتي المتأملة لانحاء المقهى استرجعت صورته قبل سنوات بعيدة قائلا: (مقهى حسن عجمي.. هو متنفس الادباء وغايتهم، او هو بيتهم الذي طالما لمَهم وحوى اسرارهم وحفظها بأمانة، فلا اختلاف.. الا وكانت تبدده، ولا عداوة الا وكانت تتلاشى عند عتبتها، والجميع في احضانه احباء، اصدقاء وادباء، عند مستوى المسؤولية).
نظرة في ارجاء المقهى، نجد الكثير من اشيائها الاولى ما زالت في امكنتها وكأنها تجمدت، بيد ان يد الايام امتدت إليه وغيرته، عصرت رونقه وجففت نضارته وتركته يباسًا في يباس، ترى اصابع الزمن المتورمة مرسومة على جسده كله، ما زال المذياع (الجوزي) الكبير القديم كما هو وفي المكان نفسه، لم ترفعه يد من مكانه مذ كان لا قبله قبل ولا بعده بعد، وحتى حين زاحمه التلفزيون في مكانه لم يشغل التلفزيون رواد المقهى ولم يلتفت اليه احد، والذي اصبح فيما بعد مجرد ديكور!!، وايضا ما زالت مراياه الكبيرة منحنية من الجدران على الرغم من شيخوختها وبصمات الزمن فوق وجهها المكتئب وضعف بصرها، فالمرايا ما عادت فاعلة ولا قيمة لوجودها، وما زالت رؤوس (الغزلان) تزينها وتمنح الناظرين ابتسامات بغدادية قديمة لكن الغبار اثقلها، ومازالت جرذانها محمية بالخشب الذي تهرأت اوصاله، وبانت على الحيطان اثار الرطوبة وفقاعات الجص منها التي صارت تنثره على الارض، وغابت (السماورات) التي كانت ترتفع فوق مواقد النار الغازية، بعد ان فقدت كبرياؤها في زحمة الخراب او ربما احتجت هازئة بالاستغناء عنها، مثلما غاب ابو داود.. ولكنه ما زال يدور في الارجاء ماثلا امام العيون وقد عتقته الايام وجعلته جزءًا لا يتجزأ منها وقد بصم الزمن عليه تداعياته وجعلته ينوء حتى صار لا يقوى على حمل (استكان) الشاي، فيما ظلت (قرقرة) النارجيلات مثل موسيقى عتاب والجمر الملتهب في رؤوسها ينفث دخان الحنين.
سألت مثلما في كل مرة: لماذا لا تتم اعادة بناء واعمار المقهى بما يتلاءم مع اهميته وتاريخه كونه يمثل صورة بغدادية مهمة، فجاءني الجواب ذاته: ان المقهى يقع ضمن املاك (الوقف) ولا يمكن التصرف بها!!، وكنت احاول ان اجد اجابة ابدؤها بتساؤل: الى متى يظل الوقف حجر عثرة في طريق اعادة بناء المقهى، الا يمكن ان تنظر امانة بغداد الى الوضع السيئ وتجد حلاً لتحريره من (الوقف)، الا يستفز المنظر احدًا ام انه بنظر بعضهم هو لوحة سريالية مات رسامها؟!!.
المصادر :
الباحث الدكتور عماد عبد السلام في كتابه «الحياة العامة في العراق»
الباحث باسم حمودي تاريخ المقاهي في ذاكرة الرواية العراقية
مقاهي بغداد.. تلاحم السياسي والثقافي / د. صالح هويدي
تقرير موقع أيلاف / عبد الجبار العتابي من بغداد
——————-
عبدالجبار العتابي
مقهى حسن عجمي… ذاكرة بغدادية اصابها العمى والاندثار
مقهى يبحث عن حل “للوقف” الذي حطم تاريخه ومستقبله
حين مررت به يوم الجمعة الماضي سمعته يناديني، وحين نظرت إليه… مد إلي يديه المتعبتين، كان نداؤه شجيًا، وكانت يداه عاريتين فظهرت عليهما ندوب الجرب (عافاكم الله) واضحة بشكل مقزز، وحين اقتربت منه رثيت لحاله، حاولت أن أسدَّ أنفي أو أغمض عينيَّ، لكنني لم افعل ذلك احترامًا لكبريائه، توقفت في الباب، كان المنظر غير قابل للسرد او الوصف، وقبل ان اتكلم، سمعته يقول: هل تحكي من اجلي مع من يهمه امري، هل من طبيب يداويني؟ تيبست اطرافي وجفت عروقي وهذا وجهي كما تراه قبيحًا، وعيوني اصابها الرمد وعظامي دب فيها الوهن، وصرت اسعل كأنني مصابة بالتدرن،انا الان اعيش في ارذل العمر، قل لهم ان يهدموني ويمحون وجودي بدل هذه (البهدلة) التي اعيشها، مددت خطواتي داخله، وسرعان ما توقفت.. وانا لا ادري إلامَ أنظر واي صور معتقة بالخراب اتأمل، لكنه دعاني إلى أن اجلس وألتقط صورًا له عسى ان تكون كافية لاعادة الحيوية إليه أو فنائه!!.
هذه هي حال مقهى حسن عجمي، المقهى الشهير في بغداد، مقهى الادباء والمثقفين، المقهى التراثي ذات التاريخ والنكهة والمزاج الرائق،الذي يقع على الضفة اليسرى من شمالي شارع الرشيد، بمنطقة الحيدر خانة، في منتصف الطريق بين ساحة الميدان وساحة الرصافي وعلى بعد خطوات من شارع المتنبي. وكان علي ان اعيد تصوراتي السابقة عنه وانا ارتمي على (قنفة) متهرئة تغطيها حصيرة ممزقة، وامامي ينحني ذلك (الميز) الذي تغيرت ملامحه من بقايا الشاي وضربات قطع الدومينو، كانت العتمة تغطي اجزاء كبيرة منه ما عدا المساحات التي تقع تحت (المنور) الذي اصبح زجاجه قطعة من وسخ، وانا كنت اتطلع اليه.. ارى هذه الذكريات وقد جلستْ متهالكة وسط سكون مريع، فلا فوقها سليم ولا تحتها صحيح، وكل ما يتراءى عتمة ورماد، لا اعرف كيف اصف المكان فهو مما لا يوصف، على وشك الانهيار… انك تتوقع ان البناء سيقع بين لحظة واخرى، كنت اسمعه يقول: منذ سنوات وعيوني تترصد الرائح والغادي، بحثًا عن منقذ ولكن كل يوم ازداد الأسى وانا بهيأتي البالية وشيخوختي المتعبة ورائحتي المترعة بالرطوبة والعفونة، انادي عبر الايام ولا اجد سوى الصدى منكسرًا يتردد في ارجائي الهامدة.
ربما يتساءل بعضهم عن سر الاهتمام بهذا المقهى، والجواب عند الادباء الذين يقولون انه جزء من التراث البغدادي، وقيمته من قيمته، بل انه مدينة الذكريات الجميلة المترفة بحكايات الشعر والمناظرات واسرار وبصمات ابداعات الادباء على اختلاف ازمنتهم ومماحكاتهم التي لا تقاس بمتعة.
اغمضت عينيّ للحظات فشممت من ثناياه عبق رائحة تاريخه المعتقة بأنفاس الادباء ومطارحات الشعراء وحكايات لها بداية وليس لها نهاية، تذكرت الوجوه العديدة التي كانت تتوزع مقاعدها بحيث لا يوجد شاغر فيها، وارى لمعان الحياة في كل شيء فيها، حتى عامله الاثير (ابو داود) كانت هالته تشبه هالات اهل الادب والثقافة، بجراويته البغدادية وشاربيه المعقوفين وصمته، وكل (استكان) شاي يقدمه كان يقدم معه جملة شعرية او لفظة او يسرق انتباه الادباء حين تنزل من بين كفيه (الاستكانات) في لحظات عجيبة من الاستكانة والهدوء، لكن أبا داود رحل مطلع عام 2003، إلا أنّ صورته لم ترحل.
على الطريق اليه.. يعد هنالك من الحياة سوى انفاس ضئيلة يبثها العابرون وبعض محال الريافة وبائع كتب على طرف ليس بالبعيد، وثمة مطعم شعبي، اتحدث هنا عن يوم الجمعة الذي كان يمثل للمقهى عرضًا اسبوعيًا مثيرًا بطقوسه، المشهد لا يدعو الى السرور، حيث اقفرت الارصفة وغطى الغبار سطح الشارع، الطريق اليها صار ساذجًا، لا تمتلك تلك المتعة الشاهقة بحيوية المكان، لا تسمع فيها سوى صدى خطى خافت ليس لها طعم، لانها احادية الرنين وذات هواجس مشتتة، وعلى رصيف المقهى لم تكن هنالك الا مجموعة من الجالسين على (القنفات) العتيقة، وقسم منهم نزل بالكراسي والمنضدة الى نهر الشارع، يلعب الدومينو، وهؤلاء من كبار السن او الذين يرتبطون بالمقهى، كما هي الحال داخله. كان الظلام يخيم على مساحات واسعة منه، مثلما الخراب الذي طاله، هنالك مجموعة من الاشخاص يتناثرون في الارجاء الصحيحة والسليمة منه، بعضهم يبدو عليه التعب الجسدي والنفسي، وربما وجد في حالة المقهى السيئة ملاذًا هانئًا، رأيت شابًا يؤدي دوره في اعداد الشاي وتقديمه لزبائن المقهى على قلتهم، كنت ابحث عن (ابو داود) فيه لكنني لم اجده، كانت الاشياء متراكمة على بعضها بشكل يثير الدهشة والارتياب ان المقهى ما عاد يؤدي دوره كما كان، فغياب الادباء واضح، وكما قال لي احدهم: لم يعد المقهى صالحًا للجلوس والادباء تحولوا الى مقهى الشابندر.
في وقفتي المتأملة لانحاء المقهى استرجعت صورته قبل سنوات بعيدة قائلا: (مقهى حسن عجمي.. هو متنفس الادباء وغايتهم، او هو بيتهم الذي طالما لمَهم وحوى اسرارهم وحفظها بأمانة، فلا اختلاف.. الا وكانت تبدده، ولا عداوة الا وكانت تتلاشى عند عتبتها، والجميع في احضانه احباء، اصدقاء وادباء، عند مستوى المسؤولية).
نظرة في ارجاء المقهى، نجد الكثير من اشيائها الاولى ما زالت في امكنتها وكأنها تجمدت، بيد ان يد الايام امتدت إليه وغيرته، عصرت رونقه وجففت نضارته وتركته يباسًا في يباس، ترى اصابع الزمن المتورمة مرسومة على جسده كله، ما زال المذياع (الجوزي) الكبير القديم كما هو وفي المكان نفسه، لم ترفعه يد من مكانه مذ كان لا قبله قبل ولا بعده بعد، وحتى حين زاحمه التلفزيون في مكانه لم يشغل التلفزيون رواد المقهى ولم يلتفت اليه احد، والذي اصبح فيما بعد مجرد ديكور!!، وايضا ما زالت مراياه الكبيرة منحنية من الجدران على الرغم من شيخوختها وبصمات الزمن فوق وجهها المكتئب وضعف بصرها، فالمرايا ما عادت فاعلة ولا قيمة لوجودها، وما زالت رؤوس (الغزلان) تزينها وتمنح الناظرين ابتسامات بغدادية قديمة لكن الغبار اثقلها، ومازالت جرذانها محمية بالخشب الذي تهرأت اوصاله، وبانت على الحيطان اثار الرطوبة وفقاعات الجص منها التي صارت تنثره على الارض، وغابت (السماورات) التي كانت ترتفع فوق مواقد النار الغازية، بعد ان فقدت كبرياؤها في زحمة الخراب او ربما احتجت هازئة بالاستغناء عنها، مثلما غاب ابو داود.. ولكنه ما زال يدور في الارجاء ماثلا امام العيون وقد عتقته الايام وجعلته جزءًا لا يتجزأ منها وقد بصم الزمن عليه تداعياته وجعلته ينوء حتى صار لا يقوى على حمل (استكان) الشاي، فيما ظلت (قرقرة) النارجيلات مثل موسيقى عتاب والجمر الملتهب في رؤوسها ينفث دخان الحنين.
سألت مثلما في كل مرة: لماذا لا تتم اعادة بناء واعمار المقهى بما يتلاءم مع اهميته وتاريخه كونه يمثل صورة بغدادية مهمة، فجاءني الجواب ذاته: ان المقهى يقع ضمن املاك (الوقف) ولا يمكن التصرف بها!!، وكنت احاول ان اجد اجابة ابدؤها بتساؤل: الى متى يظل الوقف حجر عثرة في طريق اعادة بناء المقهى، الا يمكن ان تنظر امانة بغداد الى الوضع السيئ وتجد حلاً لتحريره من (الوقف)، الا يستفز المنظر احدًا ام انه بنظر بعضهم هو لوحة سريالية مات رسامها؟!!.
——————
باسم المرعبي
حسن عجمي.. صورة مقهى أَمْ صورة مدينة*
كنت أفضّل أن يكون هذا الحديث عن مقهى حسن عجمي والمسجّل هنا، شفاهياً، تناسُباً مع طبيعة موضوعة “المقهى”. ففي المقهى، عادةً، لا ندوّن بل نتكلم. وإذ لا سبيل الآن الى ذلك، فلنجعل من هذه الورقة صوتاً يسترجع المقهى مكاناً وزماناً، شخوصاً ومواقف وما يتصل بذلك.
بالنسبة لي لا مدينة من دون مقهى وإذ قيلَ قديماً، “لا تسكنْ بلدة ليس فيها نهر جارٍ أو قاض ٍعدل” فأسمحوا لي ان أضيف المقهى الجيّد الى ما تقدّم، فالمكان يُختصر في أحيان كثيرة بمقاهيه حتى لتغدو نوعاً من هوية. خذوا باريس الشهيرة بمقاهيها أو بيروت أو بوينس آيرس مثلاً. المقهى هو وجه المدينة وبارومتر يصلح لقياس كل مناحي الحياة فيها.
في شهادة نادرة لكاتب بريطاني لايحضرني اسمه نشرتها مجلة توفيق صايغ المعروفة “حوار” في احد أعدادها في الستينات يسجّل انطباعاً مندهشاً عن مقاهي بغداد في الخمسينات والستينات ويصفها بأنها كانت كثيرة ومليئة وكأنّ المدينة في عيد. عندما نستعيد هنا مقهى مثل مقهى حسن عجمي فاننا نستعيد صورة بغداد، بشكل ما، أليس في المآل الذي يحياه هذا المقهى الآن مصداقاً لقولنا فهو يشبه بغداد في تعثّر ضوئها وتشتّت روادها.
…………….
حين عدت في العام 2003 الى بغداد بعد أشهر قليلة من سقوط نظام صدام كنت شديد الحرص على زيارة أمكنة حميمة لا يمكن أن يخبو ألقها في النفس وكان هذا المقهى من بين هذه الأمكنة قطعاً. كانت زيارتي له عصراً برفقة الأصدقاء سيف الدين ﮔاطع وخزعل الماجدي وصفاء صنكور. امتدت جلستنا لنحو ثلاث ساعات قطعناها بأحاديث التغيير الساخنة ممزوجة بالدخان والشاي بكل تأكيد. أول ما لفت نظري، وأنا أخطو داخل المقهى، أرضيته التي اسودّت وسقفه الأحمر (كانوا ينشرون في الأعلى قماشاً أو ما شابه ذلك بلون أحمر) ما أضفى جوا غريبا على المقهى وبمرور الوقت أخذ الظلام الزاحف يكتسى بنوع من الحمرة بسبب القماش في السقف. كنت وقتها اقارن بين صورة المقهى هذه وصورته في بداية الثمانينات أو نهايتها، كان الهواء مختلفاً ولون المقهى والماء الذي يقدمه والوجوه التي ترتاده. في زيارتنا تلك لم يكن هناك سوى بضعة أشخاص متوزعين هنا وهناك منكفئين على أنفسهم تزيدهم عتمة المقهى عزلة وتباعداً عنا. في حين كانت مثل هذه الساعة في المقهى، قبل عشرين عاماً من جلستنا اليتيمة تلك أو نحو ثلاثين عاما من لحظة كتابة هذه الشهادة، مفعمة بالوجوه الحية والفضاء الأبيض الذي لم تكدره الحمرةُ الغَسَقية أو تصادر حيويةَ النقاشات الضاجة لرواده من الأدباء أو حتى أصوات لاعبي النرد والدومينو. في الآونة الأخيرة اتيح لي أن اطالع صورة المقهى عبر تحقيق رقمي أو تلفزيوني عابر وكان الدخان يغلب على هذه الصورة. ليس دخان الأراكيل أو السجائر فحتى هذا دليل حياة وانما كنت أرى دخاناً شبيها بالذي تخلّفه الحرائق.
مقهى لكل الأجيال
عرفتُ مقهى حسن عجمي في البدايات المبكرة لأعوام الثمانينات، قبل ذلك كان المقهى المفضّل للأدباء مقهى البرلمان، الذي تعرفت فيه على كثير من الوجوه منذ نهاية السبعينات، لكن بعد ان أغلق البرلمان أبوابه، كان لابد من الإنتقال الى حسن عجمي. استعيد الآن الحماس الكبير في النقاشات والإصغاء والجدل. الحماس في العلاقات والآصرة القوية بين رواد المقهى من الأدباء أو حتى من قراء متحمسين كان شغفهم يقودهم الى حسن عجمي للتعرف الى شعراء وقصاصين أو عاملين في الصحافة الثقافية. وعلى الرغم من أجواء الحرب، التي كانت في بداياتها، وما يستتبع ذلك من اكسسوارات خوف وهواجس الا ان أدباء هذا المقهى استطاعوا ان يُنشئوا عالمهم الخاص المسكون بقوة الجمال والكلمة وكأنهم بذلك يردّون على عالم السلطة المليء بالفظائع والمؤامرات. كنا نفضّل مناقشة قصة جديدة لهذا الكاتب أو ذاك أو التحدث عن آخر ماوردَ الى المكتبات من مجلات أو كتب عربية أو مترجمة على أي شيء آخر. أتذكر من تلك الوجوه التي شكلت بالضرورة عالمَ المقهى في أوقاته المختلفة: يوسف عبد المسيح ثروة، رعد عبد القادر، رزاق ابراهيم حسن، أحمد حميد، سلام كاظم، غازي الفهد، موسى كريدي، مالك المطلبي، عبد الخالق الركابي، حميد قاسم، باسم حسن، عبد الزهرة زكي، كريم الزيدي، محمود العبطة، حاكم محمد حسين، منير عبد الأمير، فؤاد التكرلي (الذي تلقيت تهنئته في المقهى لمناسبة حصولي على جائزة يوسف الخال الشعرية). زعيم نصّار، كفاح الحبيب، خيري منصور، زاهر الجيزاني، وارد بدر السالم، خزعل الماجدي، سامي المطيري، زعيم الطائي، حميد المختار، محمد تركي النصار، كمال سبتي، محمد مظلوم، عبد الستار البيضاني، نصيف الناصري، أحمد عبد الحسين، أحمد المانعي، عادل الشرقي، سيف الدين ﮔاطع، حكمت الحاج، سهيل نجم، خليل الأسدي، شعلان شريف، ستار كاووش، سعد هادي، علي السوداني، عيسى العبادي، صفاء صنكور، أديب كمال الدين، ثامر معيوف، حسن النواب، جان دمو، باسم الأعسم، وسام هاشم، عادل عبد الله وصلاح حسن الذي كان معي في الصف نفسه في أكاديمية الفنون الجميلة وقد لاحظت ان صلاح يختار في بعض الأيام الجلوس لصق نافذة كبيرة في قاعة المحاضرات ويصادف ان تكون المحاضرة الأخيرة هي مادة علم النفس وما أن يتلو الأستاذ أسماء الحضور حتى يقفز صلاح من النافذة مغادراً خلسة. كنت اتصور في البداية ان شيئاً كبيراً، مستعجلاً يدفعه الى ذلك لكن ما ان أذهب الى حسن عجمي بعد نهاية الدوام حتى أرى صلاح مرابطاً هناك يلعب الطاولي.
“حسن عجمي” أكثر من دور
اتحدث عن المقهى هنا بوصفه ذاكرة ثقافية فهو حاضن لكل أجيال الأدب العراقي الحديث من خمسينيين وستينيين وسبعينيين وثمانينيين و لا أدري ان كان التسعينيون أو ما بعدهم قد واصلوا تقليد ريادة المقهى لأن صلتي ومعرفتي به تتوقف عند العام 1991. وقد عرفَ هذا المقهى احتدام الرؤى والمشاريع الإبداعية والثقافية وكم اتخذتْ اللقاءات فيه وتبادل الأفكار والخبرات بين المثقفين دورَ المحرّض على اجتراح الجديد أو على الأقل التفكير به. وربما يتخطى المقهى دوره الثقافي الى ما هو سياسي بمعنى من المعاني فهو شاهد على التحولات التي عبرت بالبلاد وبغداد بشكل خاص. فهل كان أدباء هذا المقهى بعيدين عن السياسة في كلّ الأحوال حتى وإن بمعنى الضحية!
في مطلع العام 1991 وبعد ان وضعت انتفاضة آذار أوزارها كنتُ ذات ظهيرة في المقهى بين مجموعة من الأصدقاء وكان القاص موسى كريدي معنا وصادف ان عرض التلفزيون حديثا لصدام فما كان من
موسى الا أن ينهال بالسُباب الفاحش وبصوت عال على صدام. كان موقفه هذا كفيلاً بان يجر علينا نحن الجالسين معه أشنع العقوبات فأخذنا بتهدئته وبتنبيهه الى خطورة الموقف. وكان موسى يدشّن بذلك كسر حاجز الخوف ضد النظام الذي هيّأت له الإنتفاضة وعقابيل غزو الكويت.
أبو داوود
لا يكتمل الحديث عن مقهى حسن عجمي أو تقديم مشهده دون أن يكون “أبو داوود” حاضراً في هذا المشهد، ان لم يكن في قلبه. فقد كان الجميع يستظرفه على رغم مشاكساته وعدم اقتناعه بهؤلاء المتبطلين المتفرغين للثرثرة؟ ذات جلسة كان صوت مالك المطلبي يعلو في حلقة من الاصدقاء والمريدين ينادونه بلقبه العلمي الأمر الذي دفع بأبي داوود الى الاستغراب والتذمّر من هذا الدكتور الذي يترك عيادته ليجلس هنا فقط للثرثرة! فقد كان ما يحيّره هو هذا الشغف بالكلام والنقاشات وكأنّ لا عمل لهذه الشلة سوى ذلك. في واحدة من جلساتنا الكثيرة في هذا المقهى وكان الى جانبي نصيف الناصري وبعد ان دار كلام بينه وبين “ابي داوود” وجّه الأخير كلامه اليّ وعلامات الإنزعاج بادية عليه من نصيف: يقول ـ ويعني نصيف ـ انه يشتغل في الكلية، فلماذا لا يذهب الى الكلية؟ ويبدو ان نصيف كان هاربا من الجيش وادعى هذا العذر، تلافياً لأي احراج أو شيء من هذا القبيل. رغم ان الفعل “يشتغل” غير مناسب هنا فلو قال انه يدرس أو يدرّس. لكن ماذا يمكن أن يدرّس نصيف في الكلية، أواسط الثمانينات وهو الذي يقول عن نفسه انه خريج محو الأمية نهاية السبعينات!
الختام.. أمنية
أشعر انني أطلت، لهذا سأختم حديثي بأمنيةِ أَنْ أرى هذا المقهى بكامل عافيته.. بلونه الأبيض غير المَشوب بدخان الحرائق وأن يستعيد صفاء مراياه الكبيرة ولمعان اطاراتها الذهبية وأن يستبدل تخوته المتهالكة بأخرى جديدة وأن تكون واجهته جميلة ومميّزة تليق بمكان أضحى، في حد ذاته، ذاكرة ثقافية لكل الأجيال. حين تجد هذه الأمنية صداها أوصورتها في مرآة هذا المقهى فهذا يعني ان بغداد قد استعادت، بدورها، هي الأُخرى ألقَها وعاداتِها في الجمال والتأمّل، بل والتبطّل حتى. أليس من حق بغداد أن تتبغدد؟ .
* الورقة التي قُدم جزء منها في أصبوحة بيت الشعر العراقي الأخيرة (شعراء حسن عجمي) في شارع الرشيد ببغداد.
——————-
لمياء نعمان
مقهى حسن عجمي.. هجره الأدباء وسكنته الوحشة
لم يدر بخلدي تجاوز مقهى كان ملتقى ومنيراً للمثقفين والادباء والشعراء، فقد مشيت بخطواتي بعيداً عنه ومن مصدر الابداع العراقي باشكاله ومسمياته ومشاربه..
وصادف ان ناداني احد الاصدقاء وهو جالس خارج مقهى مطل على شارع الرشيد يشرب (النركيلة) فجلست احتسي الشاي معه ليعرفني بالمكان الذي نجلس به..
وتعجبت من المقهى المشهور (حسن عجمي) الذي رايته متهاوياً هزيلاً من معان رسمت عن جدرانه وارائكة واقداح شايه بواكير قصائد وقصص وجدال ونقاشات وحماس وثرثرة الشعراء والادباء … تعجبت من مكان هجره احبته وصانعوه ورواده.. فبعضهم توافاه الاجل واخرون غادروا العراق وبعضهم يرتاد مقهى الشابندر في المتنبي… كانوا اعلامنا وشخصياتنا الادبية يحتمون ويرتاحون بجدران المقهى والارائك القديمة والنركيلات من عاديات الزمن ومن ايام وحوادث مضت لتصبح مجرد ذكريات وصفحات من الماضي .. فقد كان الجواهري… ود. علي الوردي.. وعزيز السيد جاسم وخالد الرحال ود. حسين امين من رواد المقهى الذي يئن الآن من خلوه وتركه عرضه للاهمال والنسيان والخراب…
وكما يقول حسين العطواني.. كان المقهى من الاكثر الاماكن التي يتجمع بها الشعراء والادباء والمثقفون من الصباح حتى المساء وبينهم المرحوم ابو داود يقدم لهم (استكانات الشاي) من سماورات كبيرة ولكن ما زال بعضنا يحضر للمقهى حتى لا نعتبره مجرد جزء من تاريخ وارث بغدادي .
وعن اهمال المقهى الذي يتجاوز عمره المائة عام والذي كان خاناً للمسافرين وعدم محاولة تعميره واصلاحه وتغيير ديكوره.. فقد ذكر صاحب المقهى ابو رشا زوج ابنة حسن عجمي.. بان امكانيته المادية لا تسمح له بتطوير المقهى واي تعمير قد يؤدي بالمكان وازالته فجدرانه لا تحتمل اية اضافات عمرانية.. وموارده المالية غير كافية لتسديد مبالغ الاعمار والاثاث ولا احد يعينه على اصلاحه..!! اما رواد المقهى من كبار السن فما زالوا يرتادون المكان منذ ثلاثين عاماً … ومنهم السيد ابو حسان وجعفر علي وحمد العيساوي واوضح بهاء هاشم بانه لا يستطيع ان يفوت يومه دون ان يجلس على احد هذه الارائك القديمة ويحتسي الشاي وياخذ النركيلة .. فهذه العادة اصبحت جزءاً من حياته .. فما الذي يبقى لدينا كما قال: ان لم نحفظ ذكرياتنا واماكننا وارثنا… مشهد المقهى محزن للغاية.. فقد افتقد لناسه وبهائه وطلته وحميمية ونقاشات رواده … والمفروض ان تعير جهات اعلامية وحكومية لمثل هذه الاماكن التي تعتبر ارثا للابداع العراقي .. وعلى اتحاد الادباء والشعراء ان يقيم اصبوحاته في ظل جدرانه الذي شهد اول كتاباتهم ورواياتهم وتفاهاتهم وان يعنى الاتحاد بالمكان ولو بشيء بسيط للحفاظ واحياء لمكان يعنيهم قبل غيرهم من المثقفين. ومستقبلاً ستتلاشى منا جمال عراقيتنا وحبنا لتراثنا..
جريدة الصباح
———————-
هنادي زرقه
الثقافة في زقاق ضيق
مدينةُ مقاهٍ. هذا ما يُقال عن اللاذقية، إذ تكاد تتلاصق المقاهي مقهى إثر مقهى، في شارع بعد شارع وداخل زقاق خلف زقاق.
مدينة مقاهٍ. ذلك أول ما يلفت العين في «الشيخ ضاهر»، الساحة المركزية في المدينة، وكذا في مشروع الصليبة الذي اشتُهر فيه مقهى «طابوشة» الذي شهد تظاهرات سنة 2011 نظراً إلى توضّعه
الاستراتيجي على مفارق حي الصليبة.
أمّا في الشارع الرئيس 8 آذار – على اسم اليوم الذي صعد فيه البعث إلى سدّة السلطة سنة 1963 قائداً للدولة والمجتمع، كما ظل يقول دستور البلاد ويفعل إلى أن اختفى القول من الدستور في العام 2012 في حين تحول الفعل إلى نهر من الدم لا يتوقف – فقد اشتهر مقهيان «السويس» و«البستان»، كانا معروفين بروّادهما من مثقفي اللاذقية وأدبائها أمثال الياس مرقص وحسن صقر وميشيل كيلو وثائر ديب ووفيق سليطين وغيرهم كثير، لكن مقهى «السويس» أُغلق قبل فترة طويلة من اندلاع التظاهرات، بينما لا يزال «البستان» صامداً رغم غياب كثير من الوجوه التي كانت مألوفة هناك.
في الماضي، ماضي المدينة البحرية الصغيرة قبل أن تغدو مدينة السلطة وموظفيها الفاسدين وتخرب هندستها وعمارتها ويتشوّه مشهدها أيّما تشوّه، كان شاطئ البحر مزدحماً بالمقاهي، لكن توسيع المرفأ وتبليط البحر في بداية ثمانينيات القرن العشرين التهمها جميعاً ولم ينج من الاندثار سوى مقهى «العصافيري»، ربما لاحتمائه بنادي الضباط من جهة الشمال.
بمرور الزمن وتسارع وتيرة التطور، اختلف مفهوم المقهى وغابت الصورة الكلاسيكية للمقهى المتقشّف الذي لا يقدّم سوى النارجيلة والشاي والقهوة. وظهرت المقاهي المجهزة بشاشات العرض الكبيرة والانترنت والمكتبات والوجبات السريعة، وانتشرت في الأحياء الحديثة نسبياً والقريبة من جامعة تشرين، على اسم الانتصار في حرب 1973، وهي تغص بالشباب وطلبة الجامعة.
لم أعد أذكر أين قرأت عبارة تقول إن أوروبا تنتهي حين تنهي المقاهي، في إشارة إلى استقلال المجتمع المدني الأوروبي والدور الثقافي والسياسي الكبير الذي لعبته المقاهي هناك. من الواضح أن صاحب هذه العبارة التي تكاد أن تكون استشراقية وعنصرية، لم يكن يعلم شيئاً عن الدور الذي لعبته وتلعبه المقاهي السورية، سواء كان سلباً أم إيجاباً.
اللافت في تطور مقاهي اللاذقية هو اضطلاعها بدور ثقافي في ظل تراجع وغياب دور المؤسسات الحكومية والمراكز الثقافية الضخمة التي شيدتها الدولة ولا يتردد على منابرها في الغالب سوى مثقفي السلطة ومتنفذيها. غير أنَّ السؤال يبقى: كيف لمقاهٍ صغيرة وضعيفة ومحاصرة في مدينة صغيرة وضعيفة ومحاصرة أن تؤسس ذاكرةً ومخزوناً ثقافيين جمعيين؟ وهل يمكن أن تلعب دوراً معرفياً وثقافياً في مثل هذا المكان؟
كيف للثقافة أن تحيا حيث تُفتقد الحرية والحياة السياسية؟ هل يمكن لكاتب أن يفكر ويكتب بحرية دون خوف من المؤسسات الأمنية؟ ما المسموح قراءته وما الممنوع في أمسية أو ندوة؟ كيف يعيش الكاتب هذا القلق كله ويبدع؟
هناك أسئلة ربما يحسن تركها للحياة تجيب عنها بدل تناولها في الذهن والعقل المسبق. هناك، في الحياة، يبرز شباب مغامرون يحدوهم الجنون، أو لعله الولع بتعكير الجو الثقافي الراكد، ويدفعهم وراء مشاريع ثقافية تتبدى في مقهى هنا، ودار نشر هناك، في مجموعة ثقافية في هذه المحافظة ومنتدى في تلك البلدة، وكلّها ظواهر مستجدّة في سوريا، لا تعود في شكلها الحاليّ على الأقلّ، إلى أبعد من عقد ونصف العقد، رغم ثقتهم بحتمية خسارة هذا المشروع اقتصادياً.
في زقاق ضيق من أزقّة «الشيخ ضاهر»، يقبع مقهى «قصيدة نثر»، تحيط به جدران قديمة مرتفعة، زُيَّن بعضها بعبارات أدبية خطّها أصحاب المقهى.
مقهى ضيق في زقاق ضـــيق، لكن جـــدرانه اتّسعت لصور شعراء الدنيا وروائييها ومثقفــــيها، كما لصور الأمسيات الأدبية التي أقامها المقهى، وزوّاره المواظبـــون، وضيوفه اللافتون (لعلّ أبرزهم مارســيل خليـــفة إلى الآن).
مقهى ضيق، تزيده ضيقاً تلك المكتبة في وسطه بكتبها المُعَدَّة للإعارة والسرقة، وتلك اللوحات على جدرانه بملفّاتها الشعرية التي تُبدَّل كلّ أسبوعين، لكنَّ هذا الضيق لم يَحُل دون إقامة دورات لتعليم اللغات، وأمسيات موسيقية وشعرية دورية (مرام مصري، عادل محمود، منذر مصري، هنادي زرقه، محمد مظلوم، محمد دريوس… شوقي بزيع)، وورشة لكتابة السيناريو أشرف عليها الروائي خالد خليفة، وورشة لكتابة الأطفال أشرف عليها رسام الكاريكاتور عصام حسن وصدرت حصيلتها في كتاب عنوانه «أكره اللون الأحمر» سجَّل فيه الأطفال انطباعاتهم عن العدوان الذي شُنَّ على غزّة، وورشة للعمل مع الشباب بالتعاون مع المكتبة العمومية حملت اسم «عبِّر عن نفسك بالعربي»، وورشة للترجمة أشرف عليها المترجم والكاتب ثائر ديب، وكلّ ذلك مجّاناً ومن دون أن يترتّب على المشاركين شراء أيّ شيء من المقهى إن لم يرغبوا، ومن دون أيّ دعم مهما يكن من أيّ جهة، سوى دعم المثقفين أصدقاء المقهى.
لكن المقهى توقف عن إقامة أي نشاط ثقافي منذ اندلاع الانتفاضة في سوريا، إذ يشعر أصحابه بالحرج وبأن أي نشاط ثقافي في منطقة هادئة نسبياً هو نوع من الترف قياساً إلى ما تعانيه بقية مناطق البلد.
أما مقهى «ناي»، الذي يتوضّع في زقاق من أزقة شارع 8 آذار، بمشروعه السمعي البصري، فقد أقام خلال ثلاث سنوات قبل الأحداث ومن دون توقف ما يقارب خمسين معرضاً تشكيلياً لرسامين معروفين «علي فرزات، وليد قارصلي، رامي صابور، بولس سركو…» ونحو مئة أمسية موسيقية وعمل مسرحي، وورشة عمل للقسم الثقافي في السفارة الأميركية بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، كما أقام مشروع النحت بالإسمنت، وكل ذلك تمّ بمجهود فردي لأن المراكز الثقافية الرسمية بعيدة كل البعد عن نبض المجتمع واحتياجاته الثقافية.
بدوره توقف مقهى «ناي» عن ممارسة أي دور ثقافي في المدينة احتراماً للدم السوري الذي يسيل يومياً كما يقول صاحبها: «أشعر بالخجل.. والناس تموت، أبدّل اللوحات بصمت دون ضجة إعلامية، لا يجوز إقامة أي حالة احتفالية والبلاد تغرق في دمائها».
إزاء مقهى «قصيدة نثر» و«ناي» وسواهما من الظواهر المشابهة، يبرز السؤال: هل كان لمثل هذه المقاهي أي فعل تراكمي في ثقافة المدينة؟ ولكن قبل ذلك، هل يمكن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تحت القصف وبين الطلقات والتراشق الطائفي الذي يندلق حتى من أفواه مثقفين كانوا علمانيين ويساريين حتى البارحة؟ ما سؤال الثقافة في بلد يتصدر نشرة الأخبار على كل القنوات بمعدل القتل اليومي؟ هل للثقافة أن تخفف حقّاً من أهوال الحرب والاحتقان الطائفي؟ هل تحمل الأيام المقبلة كسراً للركاكة الثقافية التي عانت منها البلاد سنوات طويلة؟ هل نشهد إبداعاً متحرراً من القيود والخوف؟ هل تزدهر المقاهي الثقافية من جديد، ويصبح لها ذلك الفعل التراكمي الثقافي أم أنها ستنكفئ على نفسها وتعود مكاناً للهروب من المنزل حيث النرجيلة الشرود.
* (كاتبة سورية)
——————-
محمد شعير
القاهــرة.. المقاهــي فــي المكتبـات
لم يكن لأمل دنقل عنوان ثابت طوال إقامته بالقاهرة، كان عنوانه الثابت الوحيد.. هو « المقهى» تحديداً مقهى «ريش» حيث يستقبل كل مراسلاته.. هو ومجموعة أخرى من المثقفين ممن انتموا إلى جيل الستينيات. في السبعينيات، مع انفتاح السادات «السداح مداح»، وبعد معاهدة كامب ديفيد ومع تغريبة المثقفين الكبرى في المنافي المختلفة، تحولت معظم مقاهي القاهرة ومكتباتها إلى محلات «أحذية».. كان ذلك إعلانا أن عقل المدينة انتقل من «الدماغ» إلى القدم. استسلم الجميع لذلك القدر، أغلقت المجلات الأدبية الرسمية، لم يعد هناك مجال لنشر الأدب سوى في بيروت وبغداد، وانتقلت المناقشات والندوات إلى «البيوت» بعيداً عن الهواء الطلق، وبالتأكيد لكل قاعدة استثناءات.
لكن سنوات التسعينيات وبعدها، وبدايات الألفية أعادت الصخب والحيوية إلى شوارع المحروسة، مرة أخرى اعيدت المقاهي المغلقة، وبل أصبح المقهى مقاهيَ، تعددت ما بين مقاه شعبية، «خُن» كما يحلو للبعض أن يسمي الأماكن الضيقة، أو أصبحت بعض المقاهي التاريخية سياحية، للفرجة فقط، واستعادت أماكن أخرى تاريخها المنسي.. وانتقلت المقاعد إلى الهواء الطلق واحتل المثقفون (رغم التباسات هذه الكلمة ومعانيها) الهواء… أدرك نظام مبارك مبكراً خطورة الأمر، كانت معظم المقاهي تحت حكم «الأمن» يمكن إغلاقها لفترة بحجج مختلفة مثل احتلال الرصيف مثلا، وسرعان ما كان يتم تسوية الأمر بدفع مبالغ متفاوتة لرجال الأمن، أو للبلدية مثلا!
بعد الثورة اختلف الأمر كثيرا، أصبحت وسط القاهرة «مقهى» كبيراً… مقهى مفتوحاً طوال الليل، مناقشات السياسة بالتأكيد تحتل المساحة الأكبر، الفرق الموسيقية التي لا تجد مكانا لإجراء بروفاتها توزعت على المقاهي، فجأة قد تستمع إلى غناء وعزف أو حتى بروفة مسرحية… مناقشات بين رسامي الكاريكاتير أو الجرافيتي، قد تولد في المكان فكرة «جرافيتي» يتم تجريبها أولا على حوائط المقهى. لم تعد المقاهي هي «استراحة» المحاربين كما كانت في الأيام الأولى للثورة بل هي مكان «لتوريد» المحاربين بالقلم والريشة والأغنية والفكرة …فضلا عن صفوف القتال الأولى مرات عديدة.
ليلة 25 يناير أغلقت كل مقاهي القاهرة بتعليمات امنية، استجاب الكثيرون خوفاً من التحرشات الأمنية.. التي ستؤدي إلى إغلاق المقهى بطبيعة الحال. ولكن مع انهيار حاجز الخوف بعد الثورة، لم تعد ثقافة السمع والطاعة هي السائدة.. لم تعد عصا الأمن و«إتاواته» تخيف أحداً، أصبح مثل وحش أسطوري بلا انياب. وبعد أيام الثورة الأولى.. أصبح شعار المجلس العسكري ومن بعده الإخوان: «قطع ألسنة المعارضة يبدأ من «البورصة والتكعيبة» وهما أشهر مقهيين، أغلب المترددين عليهما من الفنانين والكتاب ومن ينتمون للتيارات الليبرالية واليسارية، في تلك الفترة داهمت الشرطة العسكرية هذا المكان وساعدتها الشرطة المدنية في إغلاق جميع المقاهي هناك بشكل تعسفي، وكان التفسير الأكثر انتشاراً لما حدث هو أن العسكر قد قرروا الرد على الثوار الذين انتقدوا مماطلة طنطاوي وعنان في الشهادة أمام قاضي محاكمة مبارك في ذلك الوقت، ويبدو أن لهذا السبب أدرك العسكر أنه لا بد من تكميم أفواه الثوار ومداهمة أماكن تجمعهم المعروفة، معتبرين أن هذه الخطوة ستسهم واقعياً في إسكات المعارضين لحكمهم، وأنهم سيستسلمون لهذا الوضع.. لكن انتشرت التظاهرات والمسيرات وقتها ضد هذا الهجوم، واستمرت حتى عاد الوضع إلى ما كان عليه.
وعلى نفس خطى العسكر سار الإخوان، ولكن هذه المرة بالقانون، كان من أوائل قرارات الإخوان إغلاق المحلات والمقاهي في الثانية.. ولكن نسي الإخوان أن رواد المكان استطاعوا استعادته مرة أخرى من العسكر في غضون ساعات، ومارسوا معارضتهم لهم من هناك كأن شيئاً لم يحدث، لكن أحداً لم يعر القرار اهتماماً بمن فيهم أصحاب المقاهي الذين أعلنوا: من يستطيع تنفيذ القرار فليأت… ولم يأت أحد بالتأكيد، لأن مبرر السلطة بأن ينام الناس مبكراً ليصلوا الفجر لم يقنع أحداً، لم يقنع أجيالاً غاضبة كثيرة ترى أن الثورة لم تقم من أجل الاختباء في البيوت مبكراً، كما أنها تظل مستيقظة حتى موعد صلاة الفجر.. على المقاهي. يومها أصبح ميدان التحرير والأماكن المحيطة به مقهى كبيراً ولكن بلا نرجيلة، حتى المقاهي التي تغلق أبوابها مبكراً، استمرت لتحدي القرار.. واستجابة للثوار والنشطاء الذين استخدموا أيضاً السخرية من قرارات الإخوان والعسكر كنوع من المقاومة، فاقترح بعضهم الجلوس في مقهى «ستاربكس» الأميركي تحت حماية أوباما، بما يمنع السلطة من اقتحامه. وقتها أيضاً، انطلقت دعوة مليونية بعنوان «جمعة إبريق الشاي».
الهجوم على مقاهي المثقفين، أعاد الى الذاكرة مشهد الهجوم على «الندوة الثقافية» الذي تعرّض قبل أعوام لتهديد بإقفاله من جهاز أمن الدولة، في حال السماح للأديب علاء الأسواني بإقامة صالونه الأسبوعي بين جنباته. وهذه الإجراءات ذكرت المصريين بأنّ نظام مبارك ما زال يحكم مصر كما يتخوف كثيرون. وهو سبب آخر للإعلان أن «الثورة مستمرة».
ربما كان ذلك الحراك الثقافي سبباً لكي تغلق محلات الأحذية أبوابها وتتحول إلى مكتبات. ولم تعد المكتبات «كلاسيكية» مجرد مكان لبيع الكتب بل أكبر من ذلك، ورش لتصدير الحرية. أصبح في كل مكتبة مقهى صغير وعدة كراس، هكذا يمكن للزائر أن يتصفح كتاباً ويشرب قهوته، ويناقش أصدقاءه، وقد يشتري كتاباً جديداً أو لا يشتري. بعد الثورة أفتتحت ثلاث مكتبات، اعتبرت مراكز ثقافية متكاملة، دار التنوير، ومكتبة البلد، ومكتبة دا العين… وفى الثلاثة مقاه صغيرة تقدم كافة المشروبات والأفكار أيضاً.
* عن السفير
————————–
بغداد..المدينة و الناس: مقاهي بغداد القديمة – 7
محمد ثامر يوسف
البحث عن مقهى حسن عجمي !
لم يكن المرور الاسبوعي من امام مقهى حسن عجمي بأتجاه جمعة المتنبي، مريحا، اي لم يكن مرورا سهلا على النفس، كانت النظرة السريعة اليه، قابضة، كابية، وتثير كثيرا من الحزن والاسى، لكن انكشاف المرء على الكوارث الكبرى التي اطاحت بكل الامكنة سواسية، وهول الفواجع الكثيرة التي مرت.
ربما كان أحد الحلول الضمنية التي نحتاجها في جعل ذكرى المقهى ووجوده يتراجعان الى الخلف، وبالتالي الحزن عليه يبدو أقل أو مؤجلا، على اعتبار ان الواقعة عامة وشاملة، ولاتتعلق بمكان دون آخر، هكذا عزينا انفسنا دائما، نسيان حسن عجمي بهذه الطريقة نوع من الحل، مثلما عزينا نسيان شارع الرشيد نفسه وهو يتلوى قهرا وألما، ليموت امام اعيننا بقسوة قل نظيرها، مهملا، بشعا، حين جافته الايدي والنظرات، نسينا الاثنين معا، او تناسيناهما مع انهما فينا، الشارع والمقهى.
لكن هل هذه الذريعة كافية وحدها للانقطاع عن مكان مؤثر مثل حسن عجمي واهماله وتناسيه الى هذه الدرجة التي قد يغدو بسببها بعد يوم او يومين أثرا بعد عين، مع اننا قربه؟، وهل هذه الحجة تسوغ ماوصلت اليه الامكنة التي لها علاقة بالذاكرة والثقافة من حال؟
اقول مع ذلك كله لايمكن مهما كان، نسيان مكان مثل مقهى حسن عجمي بهذه الطريقة، ليس بدلالة وجوده فقط، ولكن بدلالة ذلك الوجود المكثف للمعنى فيه، لذلك التاريخ الطويل الذي احتشد على مصطباته الخشبية المهترئة وجدرانه الايلة للسقوط، لذلك التاريخ المتعدد والمتنوع الذي اختزن ذاكرة ثقافية عراقية ممتلئة بكل شيء طيلة سنين، مثلما يختزن الارشيف فرادة الوثيقة وأهميتها وندرتها وطعم استذكارها الذي لايمل كلما احتاج المرء ذلك..
طالما كانت فكرة استعادة المكان، فكرة (ثقافية)، فكرة جميلة يكثر الحديث فيها طويلا ويحلو على الورق مع ان بالامكان استعادة الكثير من تلك الامكنة في الحقيقة بالعمل (ولو بالقليل من العمل)، بصورة ملموسة، بمبادرات تضخ في انساغها دما، الامكنة هنا لاتحتاج دائما للدماغ وحده، لاتحتاج لأستدراج الحنين والبكاء حسب، انها كائنات حية تنادينا، تحتاج للمسة واقعية من يد رؤوف، ونية صادقة لانتشالها واحيائها بالفعل.
ولهذا السبب ربما اتت فكرة الرسالة التي قدمها بيت الشعر العراقي يوم الجمعة الفائت، من خلال دعوته لعدد من المثقفين العراقيين ليكونوا هنا في اصبوحة ”شعراء المقهى” ، اي في سياق يتناسب مع فكرة
العمل الحي لأعادة الدم الى المكان، اعادة الروح الثقافي للمقهى، وهي الميزة التي رسخت حسن عجمي بوصفه مكانا قابلا ليكون، مادام المثقفون انفسهم في الغالب زوادته، وسبب ديمومته، يحتاجهم مثلما يحتاجونه تماما.
———————–
عدنان الصايغ
صعاليك حسن عجمي أيضاً (*)
كولاج شعري (1):
يمضي الغروبُ سريعاً، في القطار العابر إلى ستوكهولم.. وأنا ما زلتُ أطقطقُ أصابعي وأيامي، في انتظارِ مَنْ تجلسُ جنبي، لتفتحَ حقيبتها وتريني صورةَ جان دمو، مضطجعاً على الساحلِ الأسترالي، يقرأُ “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”…
بينما مفتّشُ الحدودِ يحدّقُ في وجهي ليرى تقاسيمَ “النفط مقابل الغذاء”،
و”الأرض مقابل السلام”..
أو…
“كلُّ شيء من أجل المعركة”..
و”يا ليل، يا عين”..
وأنا أتأرجحُ؛ بينهمُ، في مطارات العالم
مشرداً، بلا وطن ولا حبوب نوم
وحدهُ كزار حنتوش بأيامه الناحلة، يقعي على بيضةِ أحلامه، وينتظرُ أن تفقّسَ عن قطارٍ ينقلهُ إلى بودابست، أو ديكٍ يبيعهُ في “سوقِ الغزل”، أو قصيدةٍ في مديحِ الخراب..
واكتفى حسن النوّاب بشرب “بُطْل عَرْق” مغشوشٍ، لوحده، احتفاءً بغيابنا المبكّرِ. ساحلاً وراءَهُ خمسَ مُعَدٍ فارغةٍ ووطناً من دبابيس..
ما الذي تأكلُ الشعوبُ المحاصرةُ – أثناءَ المجاعاتِ – غيرَ خطبِ قادتها..
تزحفُ أعمدةُ الكهرباءِ ورائي، مديرةً ظهرها
والمدينةُ تزحفُ أيضاً،
ومديريةُ الأمن،
والنصوصُ
والشتائمُ،
وأغاني وحيدة خليل:
“ماني صحت يمه أحا جاوين أهلنه
جاوين أهلنه..
جاوين”
أين أهلنا يا عبد الرزاق الربيعي؟
أين أهلنا؛ يا عيونَ المها،
يا فضل خلف جبر
يا حسن السوداني
يا آخر المحطات وأول الجنون، يا كريم العامري، يا لوركا، يا كريم راهي، يا ميثم التمار، يا غانم حميد، يا حميد قاسم، يا قاسم حول، يا قاسم العكاشي، يا شارع الرشيد، يا أبا نؤاس، يا باب المعظّم، يا علي عبد الأمير، يا محمد مظلوم يا الجوراني يا الحمراني، يالماغوط، يا اليوت، يا مقداد عبد الرضا، يا مقداد رحيم، يا مسجد السهلة، يا عريان السيد خلف، يا مقهى الزهاوي، يا صلاح نيازي، يا قبر الحلاج، يا طارق الكاريزي، يا شلال كلي علي بك، يا سوق المتنبي، يا عبد الستار ناصر، يا علاء جمعة، يا علي السوداني، يا علي يا وجيه يا علي بدر، يا تمثال السياب، يا بحيرة الثرثار، يا بوابة عشتار، يا فوزي كريم، يا غريب اسكندر، يا كريم كاصد، يا كلكامش، يا غادة، يا ملاك، يا ملك، يا ريم، يا ايمان، يا فيء، يا اينانا، يا نجاة، يا انخيدوانا، يا أمل يا الشلاه يا الشفيع يا البريسم يا الوالي، يا الوائلي يا الخطيب يا التلّال يا البحراني يا الطويل يا زبيبة، يا الحصيري، يا الصائغ عبد الإله يا محمد يا أحمد يا وجدان يا صبري، يا كعك السيد، يا بو بلم عشاري، يا حسين حيدر الفحام، يا بلاسم محمد يا جسّام يا حازم، يا جابر بن حيان، يا أخوان الصفا، يا معابد الوركاء، يا محمد لقمان، يا ليث الناصري، يا صندوق أمين البصرة، يا أثير محمد شهاب، يا فنادق الحيدرخانة، يا زقورات أور، يا سيروان ياملكي، يا أسد بابل، يا جعفر طاعون، يا جعفر أبو التمن، يا خان مرجان، يا حسن البياتي، يا البردوني، يا عبد الخالق الركابي، يا الكسائي، يا سان جون بيرس، يا بورخس، يا سالم يووي، يا روفائيل البرتي، يا ملوية سامراء، يا عبد الوهاب البياتي، يا شناشيل بنت الجلبي، يا نازك يا بلند، يا قلعة كركوك، يا فاضل العزاوي، يا نصير شمة، يا حامد المالكي، يا أبا حنيفة، يا نصب الحرية، يا باسم قهار، يا محمود أبو العباس، يا عباس السلامي، يا عباس كاظم مراد، يا محمد عباس الدراحي، يا حسن ناظم، يا ناظم عودة، يا ناظم الغزالي، يا سعدي يوسف، يا نقرة السلمان، يا دير العاقول، يا ساعة القشلة، يا مدني صالح، يا جسر الكوفة، يا حسب الشيخ جعفر، يا أهوار الجبايش، يا الثور المجنّح، يا مكتبة المستنصرية، يا نواعير هيت، يا ابراهيم أحمد، يا صموئيل شمعون، يا أحمد الشيخ، يا بابَ الحوائج، يا…،
يا جواد الحطاب
يا طالب عبد العزيز
يا سركون بولص
يا فليحة حسن
يا مرزاب الذهب
يا..، يا..،
يا..
وما تبقى من الأصدقاءِ في مقهى حسن عجمي، اكتفوا بشربِ الشاي
وتبادلِ نصوصِنا المسرّبةِ..
وعلى الكراسي الفارغةِ التي تركناها منذ 1993
سأجلسُ في انتظارِ شيخوختي، التي ستعودُ – ذاتَ يومٍ – على عكازين
أو دمعتين
ساخراً من كلِّ ما مضى
وما…….. سيأتي
……………..
يا وحيدة
يا وحيدة خليل
ما الذي بقيَ من هذا الوطن
بعد أن أفرغوه من العشبِ والثوراتِ والأغاني
قصائدهُ قاحلةٌ بعد أن خمدَ الجميعُ في بيوتهم، أو مقابرهم، وناموا..
شبابيكهُ صافنةٌ لا أثرَ فيها لصراخٍ أو نأمةٍ أو آهةٍ
أزهارهُ يائسةٌ في المحلاتِ
وساحاتهُ مقفرةٌ من المارةِ والعاهراتِ والصحف
يا وحيدة
وحيداً، أعلّقُ نهاري المبتلَّ على مسمارِ الحائطِ
وأجلسُ أمام المدفأةِ
أجفّفُ ثيابي وكآبتي، دونَ أنْ يطرفَ رمشي
أحتسي كوبي وأفكرُ بحياتي الأقل من زفرةِ قتيلٍ
والأطول من ليلِ أرملته
…………..
……..
“يالواشي عاد ارتاح
واضحك بالفراق
حسبالك اترجاك
ولحبك اشتاق”
يا أنوار عبد الوهاب
يا عباس سميسم
يا دنيا ميخائيل
هذه الأقدامُ لن تتركني أستريحُ على رصيفِ وطن
هذا القلمُ لن يجعلني أهدأُ يوماً على دفترٍ أو نهدٍ أو وسادةٍ
….
أتذكرهم في جنوبِ القطب:
علي الرماحي، حميد الزيدي، حسن مطلك، ضرغام هاشم، عبد الصاحب البرقعاوي، عبد الحيّ النفّاخ، حاكم محمد حسن، اسماعيل عيسى بكر، الكريمين: المرعبي والذبحاوي…
أيةُ دمعةٍ
تركوها على شفاهنا المشقّقة، لا تسقطُ أو تجفُّ
أيةُ حياةٍ مرّةٍ..!
نلوكها باشتهاءٍ أجوفٍ،
بعدَ كلِّ حَسْوَةٍ أو قصيدةٍ..
أشعلُ شموعهم في ليلِ منفاي
سائراً؛ والحنين ينبضُ بين ذراعيّ
يستطيلُ شوارعَ تأخذني إلى هناك
مختنقاً بأجراسي المبلّلةِ كجيشٍ عائدٍ من الحربِ
وعلى كتفيَّ الهزيلتين تعبرُ الأممُ والأكياسُ والطبول..
منحني الظهر بحقائبي الثقيلةِ،
أرنو إلى الأثداءِ المندلعةِ من الثيابِ الضيقةِ
أضغطُ على الأردافِ المكوّرةِ في زحامِ الباصاتِ
وعرقي يغسلُ الأرصفةَ
أدخلُ البارَ
أدفعُ كآبتي عبرَ البابِ
كما يدفعُ النادلُ سكيراً لمْ يدفعْ حسابَهُ
أحلامي بالشعرِ تخنقها الشعاراتُ
وأحلامي بالبحرِ يأكلها الصيادون
وأحلامي بالثورة تصادرها الأحزاب
“ماني صحت يمه أحا جاوين أهلنه
ولف الجهل بالدار، وابعد ضعنه”
ما منْ شظيةٍ لمْ تمرّ بأضلاعي
ما منْ حجرٍ أو كتابٍ
لمْ أمسحْ غبارَهُ بسعالي
ما منْ زنزانةٍ لمْ تدلقْ فضلاتها على ثيابي وذاكرتي
ما منْ ثورةٍ مهزومةٍ
إلاّ وعلى راياتها المنكّسةِ بعضٌ من دمي ورمادِ حروفي
….
أصغي لخرخشةِ أوراقِ القصائدِ في جيوبي
وأبتسمُ أمامَ المتسوّلِ
منذُ عقودٍ لمْ أكتبْ عن عِقْدٍ أو وردةٍ
لمْ ألعقْ نهداً بلساني
لمْ أشمّ رائحةَ نهرٍ بين ثيابي
“حمّلتوا يا أهلي بليل والولف غافي
أسهر وخلة ينام نوم العوافي”
أيُّ وطنٍ! – يا إلهي – هذا الذي يطفو على النفطِ والمجاعات..
وعلى الحضارات والانقلاباتِ!
أيُّ وطنٍ؛ لمْ نرَ منه سوى السياطِ والصفّارات!!
ومع هذا..
ما منْ مقصلةٍ، تمنعني من أن أحتضنَ نخيلَه وأنام
ما منْ مجنـزرةٍ، تمنعني من التمرّغِ على عشبه الناحل
ما منْ مخبرٍ، يمنعني من البكاءِ على صدرِ أمي المتغضّن
ما منْ رقيبٍ،
يمنعني من تدوين عويلي..
ما دام في جيبي ورقٌ
وحبرٌ
وأرصفة
2/4/2001 مالمو
____________________
(*) العنوان تنويع على مجموعة الصديق الشاعر عبد الخالق كيطان “صعاليك بغداد”.
—————–
احمد الثائر
حسن عجمي ….ذكريات آيلة للاندثار
عندما تنهال ضربات المآسي في زمن موجع يهرب الناس الى الى الذكريات الجميلة او الاقل وجعا ..يبحثون في دفائن سنينهم وما انقضى من دورة حياتهم على ابتسامة مخبأة في ركام من الآلام ، او في جعبة النسيان ..انها هزيمة غير منكرة من واقع يضرب يوميا على رأس احلامهم ..المبدعون وحدهم يستثمرون المآسي والافراح ليخلقوا منها كونا مليئا بالجمال ، حتى القبيح يصيرونه كتلة ينبض بالجمال فالنحات يجعل من ام ثكلت بأبنها ذات حرب او نزق دكتاتور تمثالا جميلة ورمزا للدفاع عن قيم الحياة بما فيها من نبل وايثار لتكون تراثا ، والشاعر الذي يكتب متنه الابداعي عن اناس طحنتهم الفاقة وانتصروا عليها بأبتساماتهم ،يسهم ايضا بصنع حياة جميلة من واقع مر حدّ اللعنة ..هكذا يتعامل المبدع مع الذكريات ، ولكل ذكريات مكان يكون بؤرة تتمحور وتتموضع فيها الحوادث واذا ما تشظت فأنها لاتغادر نقطة التموضع بل تجعل منها نقطة انطلاق وعودة في الوقت نفسه وهكذا هو مقهى حسن عجمي كان موئل الادباء وساحة النقاشات الثقافية ، وكنا مجموعة من الادباء الشباب نتفاخر بأننا نجلس في هذا المقهى الى جانب رواد الثقافة في العراق ، ونشعر بسعادة غامرة حين يتواضع احد الادباء الكبار ويجالسنا ونعقد معه صداقة ، وبمرور الزمن نصبح زملاء له اذ يمنحنا احدهم فرصة العمل في صحيفة او مجلة ، لأن هذا يعد بالنسبة لنا اعترافا لموهبتنا وجواز مرور الى عالم الكلمة .
وحسن عجمي تراث جميل يحمل الكثير من المواقف الانسانية ففي زمن فورة الحصار الرهيبة كثر الادباء الذين ضربهم الفقر بقوة ، فيقوم بعض الادباء بمنحهم معونة دائمة اذ كان الشاعر منذر عبد الحر يقتسم ما بجيبه مع الادباء الذين لايملكون ثمن الشاي ، وكان ابو داود (عامل المقهى ) شخصية بغدادية يحبها الجميع ، يحمل النراجيل بخفة فراشة رغم وزنه المتصاعد النمو ، وحزن الادباء بمرارة مرتين مرة عند اعتلال صحته واخرى بعد رحيله ، كان علامة فارقة في المقهى ، ابو رشا ( صاحب المقهى ) كان يقرضنا مبالغ من المال رغم اننا لا ندفع ثمن الشاي لعدم تمكننا في احيان كثيرة من الدفع ، لكنه لا يفعل هذا مع الجميع ـ فقط الذين يوفون ما بذمتهم ـ على حدّ قوله .
اكثر من اديب اكد ان الطابق العلوي من المقهى كان مبيتا مجانيا للشاعر حسين مردان، الذي يطل منه مثل قصيدة تنزع نحو الانعتاق من الورق نحو المنصة ، نصيف الناصري بمشاكساته الجميلة كان يؤطر المكان بأبتسامات صعلوك ( مودرن ) ثائر على القصيدة العمودية ، والشعراء الستينيون لهم مكانهم ( المحجوز ) سواء حضروا أم لم يحضروا ، اذ وضعوا بينهم وبين الشعراء الشباب سدا يخالونه منيعا .
منذ مدة وانا لم اجلس في مقهى حسن عجمي رغم مروري الدائم عليه وآخر العهد بأبي رشا كان يجلس على اريكة امام بوابة المقهى ويتقدمه ( قدر من اللبلبي ) سألته عن هذا المشهد واخبرني حينذاك بأن المقهى تضرر بسبب قدمه وعدم استتباب الامن بعد الزلزال النيساني فكسد العمل اذ لاغادر رواده الى مقاه اخرى .. تركت ابورشا الذي طلب مني ان اوصل هذه الصورة الى المسؤولين بوصفي محررا ثقافيا ، وفعلا كتبت ولكن دون ان يحصل تغيير ، وبعد مدة سألت عن ابي رشا واجابني احد رواد المقهى من غير المثقفين :لقد توفي ابو رشا منذ شهور ..
حزنت اذ احسست ان ركنا من ذكرياتي قد انهار .
في كل بلد يضم العراقيين بمحبته ـ اقصد اي منفى اومهجر اختاريا كان ام قسريا ـ تجد فيه مقهى يطلق عليه ( حسن عجمي ) لذلك لارتباط المثقف العراقي وجدانيا بحسن عجمي …ترى ما سيطلق المثقفون المغتربون على مقاهيهم في الغربة وحسن عجمي يكاد يلفظ انفاسه الاخيرة ..واللقطة الحزينة الاخيرة التي يشاهدها الجميع يوميا هي جلوس العمال القدماء فيه بوصفهم ذكريات تتنفس وتسير على قدمين ، كاظم ، وشقيقاه دائما يذكراننا من خلال جلوسهم في المقهى بأننا افضل من يحرق ذكرياته ويتنكر لبداياته ،
قرأنا عن حسن عجمي :
يقول الشاعر «حسين مردان» في مذكراته التي كتبها حينما جاء من مدينة بعقوبة عام 1947، وكان عمره عشرين عاماً: «الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت إلى «مقهى الزهاوي» حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبد الرحمن البناء. وكانت الزيارات بين أدباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الأدبية».
أما جماعة مقهى «حسن عجمي» فكانت تضم الصحفي المشهور عبد القادر البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم. ويذكر حسين مردان علاقته بهذه المجموعة، فيقول: «كنا نحن الأدباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار، وشيئاً فشيئاً بدأت أصبح نقطة لتجمع أدبي جديد».
يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقوداً طويلة، وارتبط إسمه بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل إلقائه قصائده الوطنية المحرضة إبّان انتفاضة عام 1948، فكانت الجماهير المأخوذة بسحر قصائده وبلاغتها وتأثيرها، تنطلق من جامع الحيدر خانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالمعاهدة الجائرة التي وقعتها الحكومة مع بريطانيا. وفي مقال نشره الناقد «صالح هويدي» يقول: «في الأربعينيات والخمسينيات توافد على هذا المقهى إلى جانب الجواهري، كل من، كمال الجبوري، والسياب، والبياتي، وعبد الأمير الحصيري، وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة. ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، تلك الأجيال التي شهدت حراكاً ثقافياً أوسع، وتطويراً لآفاق التجربة الإبداعية وتوليداً للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة.
لم يكن مقهى حسن عجمي محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى موّاراً ومسرحاً حقيقياً لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم، قبل أن يهجروه منذ بضع سنوات ويتخذوا من مقهى الشابندر في شارع المتنبي مقراً لهم.
مشهد اخير
في الطابق العلوي من المقهى كلب كبير يؤكد بنباحه خواء المكان
————————-
احمد سميسم
مقاهي الادباء..ظاهرة ابداعية لا تصنع تجربة
منذ الخمسينات اشتهرت بعض المقاهي في بغداد بوصفها نوادي ثقافية تلتقي فيها نخبة من الادباء والكتاب والمثقفين واصبحت مقرات لهم لعقد الندوات وقراءة الشعر واقامة الحوارات والنقاشات الى جانب كونها امكنة للراحة وتزجية الوقت وتبادل الاحاديث الا ان معظم هذه المقاهي اندثرت إثر التحولات ولعل اشهرها مقهى(حسن عجمي) و(البرلمان) و(الشاهبندر) و(الزهاوي) التي كان من بين روادها كبار الشعراء كالجواهري والرصافي والزهاوي والسياب والعديد من الادباء.. مجلة الشبكة التقت عددا من المثقفين والادباء للتعرف على وجهات نظرهم حول اهمية المقهى الثقافي ودوره في تفعيل النشاط الثقافي.
الجمعة عيد الأدباء
اول المتحدثين كان الشاعر والأديب محمد علي الخفاجي حيث قال: بالنسبة لي ادركتُ المقاهي الأدبية في الستينات حينما بدأت الكتابة والنشر في صحيفة (كل شيء) وفي مجلة (المتفرج) وصحيفة (المنار)و(الأيام) وغيرها من الصحف, وكنا نلتقي في (مقهى البرلمان) ومقهى(عارف أغا) وفي مقهى (حسن عجمي) ومقهى (البرازيلي) بل حتى مقهى (ام كلثوم) ومقهى (فريد الأطرش) حيث كانت مقاهي أدبية. وهناك مقاه عديدة زارها الأدباء وجلسوا فيها وتبادلوا أحاديثهم وحاولوا ان يتعرفوا على إصدارات بعضهم البعض, فمثلاً ( مقهى الشاهبندر) من المقاهي الأدبية التي تأسست عام1920 على أنقاض مطبعة الشاهبندر التي أغلقت لأسباب سياسية. هذه المقهى كانت ترتادها ثلاث وجبات، الوجبة الأولى كانت من الوزراء والبرلمانيين في الصباح, والوجبة الثانية عند الظهيرة كان يأتون المحامون والقضاة لأنها قريبة من المحاكم, وفي المساء كانت تعقد في مقهى (الشاهبندر) حفلات للمقام العراقي المتمثلة برائد المقام (رشيد القندرجي).
ويوم الجمعة هو يوم الأدباء والمثقفين بشكل عام وانا اعتبره يوم عيد للأدباء يتحدثون فيه عن نتاجهم الادبي والثقافي فيما بينهم وانا في تصوري عندما يجلس الأدباء في المقاهي هو تجدد للثقافة وللإرث الحضاري.
صورة الواقع الأدبي
اما الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى (الشاهبندر) فقد أوضح ان تواصل الأدباء في المقاهي ظاهرة إبداعية وظاهرة ثقافية اذ تعكس صورة الواقع الأدبي والثقافي من خلال تجمع المثقفين في المقاهي يتجاذبون أطراف الحديث, كما تعكس صورة للسواح والأجانب من خلال زياراتهم للمقاهي والتعرف على تراث المجتمع العراقي البغدادي الثقافي ونقل صورة التراث العراقي الى الغرب.
المقهـى لا يصنــع تجربـة
ويرى الناقد فاضل ثامر ان المقاهي أصبحت ظاهرة ثقافية وأدبية وإبداعية, ايضاً ومن المعروف ان العراق منذ بداية القرن الماضي لعبت فيه المقاهي دوراً في إنضاج وتطوير الكثير من الاتجاهات الشعرية
والقصصية مثل مقهى (الزهاوي) و(الشاهبندر) و(حسن عجمي) الى الكثير من المقاهي الأدبية ولا نقول ان المقهى تصنع تجربة ولا أي مـــؤسسة تصنع ذلك لكنها مكان شفاف للحوار بعيداً عن السلطة الرسمية والرقيب, وهنالك مقــــاه عديدة ظهرت في الستينات وكانت مؤثرة في وقتها مثلاً مقهى(المعقدين) ومقهى (ابو عبد) واعتقد ان السنتين اللتين سبقتا سقوط النظام السابق كانتا شاهداً كبيراً ومهماً في نضج الكثير من الاتجاهات الأدبية وانا لاأعتقد ان وجود الأدباء والشعراء في المقاهي هو لون من البطالة وإنما هو ظاهرة إبداعية وتواصلية لأن المبدع يحتاج الى التواصل مع الآخرين.
النوادي المتطورة الأكثر رواجاً
من جهته قال الشاعر الفريد سمعان: كانت المقاهي منذ أكثر من خمسين عاماً مركزاً ثقافياً حيث يلتقي الأدباء ويتحاورون ويناقشون العطاءات الأدبية عموماً والفكرية والسياسية ايضاً وهذا امر معروف استعانت به بعض الفئات بإقامة المجالس الأدبية التي شاعت في النجف الاشرف وبغداد وسواها من المدن العراقية.. وان هذه الأماكن والمقاهي استطاعت ان تؤرخ الأدب العراقي وتساهم في بناء شخصيات أدبية كبيرة مثل (الجواهري) ومن المعروف ان المقاهي حالياً أصبحت معزولة عن الأدباء بسبب المؤسسات والنوادي والأماكن الأكثر تطوراً ورواجاً من حيث اللقاءات او الإمكانيات لتقديم الوجوه الأدبية وإقامة الندوات والنشاطات الأخرى. وهذا لم يقتصر على العراق بل هناك مقاه عديدة في مصر وسوريا وهو امر متوقع ما دامت الحضارة مستمرة غير ان المرأة مازالت معزولة في البيت إلا ما ندر وهي غير مقبولة في المقاهي حيث يلتقي الرجال وتبتعد النساء بفضل التقاليد المتحجرة.
العـراق أوسـع مقهـى للأدب
أما القاص إسماعيل إبراهيم عبد فيعتقد ان الأدب بل عموم الثقافة في محاولة لتنظيم الذي ليس خاضعاً للقانون وكالمقاهي التي هي حالة مُعيشة من دون قيود كثيرة فهي مجال اجتماعي حاضن للفن والأدب في معظم بقاع العالم… لكن هذه الظاهرة شاعت كثيراً في العراق، ولعل العراق أصبح أوسع مقهى للأدب في العالم نظراً لما يزخر به من أدباء وفنانين ومثقفين، كما ان مناخ العراق السياسي جعل التكتلات هي التي تتحكم بالإعلام والإذاعة والمرئيات جميعاً، فجعل من المقهى ظاهرة أدبية تفرز الكثير من الظواهر منها اجتماعية ومنها ثقافية ومنها تخصصية، ظل هاجس الإبداع يحرك الكثيرين في تأسيس مقاه ثقافية لكنها تفشل لعدم استجابة الربح لسلوك الادباء عدا البعض منها خاصة (الشاهبندر والزهاوي) والثقافي وبعض البيوتات التي تحاول الان بعث صالونات الثقافة الى الوجود، وتظل مشكلة الثقافة مشكلة سياسية اقتصادية مجتمعية فلا حاضن للمثقف من أي نوع سوى فكرته الأصيلة بالإبداع.
حاضنات إبداعية
وقال الشاعر (حمدان طاهر المالكي) حسب تتبعي لتاريخ المقاهي في العراق وخاصة في بغداد فان هذه المقاهي شكلت حاضنات إبداعية لكثير من الأدباء وقد اقترنت بعض المقاهي بأسماء الأدباء الذين يرتادونها فالزهاوي باسمه ولقترنت باسماء أدبية أخرى وهكذا.
اما ما يقال في انها مضيعة للوقت فهو رأي غريب لأن الأدباء بصورة خاصة هم أحوج ما يكونون لحاجة الوقت الثمين والكثير من الأدباء لا يستطيعون ان يكتبوا إلا في مقاه معينة تعودوا على التأمل فيها.
تقلـص ظاهـرة الأدبـاء فـي المقاهـي
وأكد الشاعر الدكتور عبد الكريم عباس الزبيدي في رأي مختلف عن زملائه الأدباء حيث قال: كانت المقاهي في الماضي نوادي للأدباء وقد شكلت ظاهرة مميزة اتسمت بها الحياة الثقافية اذ لم يقتصر النشاط الثقافي فقط في اتحاد الأدباء بل كان لكل مجموعة أدبية مقهى خاص بهم، وقد عُرف فيها أدباء عراقيون كان لهم باع طويل في مسار الثقافة العراقية إلا ان هذه الظاهرة الثقافية قد تقلصت في الوقت الحاضر واقتصر النشاط الثقافي في اتحاد الأدباء والجمعيات الأدبية التي ترعاها شخصيات معروفة، لقد شهدت الثقافة انحسارا في المقاهي الأدبية نظراً للظروف القاسية التي مر بها البلد وهو مؤشر خطير في هذه المقاهي التي ابتعدت عن الثقافة والشعر وهذا يستلزم إنشاء مجالس أدبية وثقافية تساهم في إنعاش الثقافة في العراق.
——————–
احمد زين الدين
ترهّـل المقهـى البيروتـي فـي زمـن العولمـة
ما هي العلاقة التي تربط المقهى بالثقافة؟ والناس ما عرفوا المقهى إلا بصفته مكان عبور وانتقال أو استراحة مؤقتة. ولطالما كان موئلهم ومقصدهم للترويح عن النفس والتسلية وتزجية الوقت؟ ولماذا نحمله على المعنى الثقافي؟ أهو مكوّن من مكونات الثقافة؟ أم عامل من عوامل الانتاج الإبداعي؟ أم هو قرين الصحيفة أو المعهد أو دار النشر أو مركز الأبحاث؟
لا أحد طبعاً يمكن أن يعزو إلى المقهى كل هذه الأوصاف، وتلك الأعباء والوظائف جميعها. بيد أن الحديث عن وجود مقهى ثقافي خالص، هو عنوان افتراضي، بل هو من المجازات المرسلة التي تدل على فضاء مكاني ليس مقصوداً بحد ذاته، بقدر دلالته على من يشغله، أو يحلّ فيه من مثقفين يخالطون سواهم من رواد المقهى وزبائنه، ولكنهم يقيمون لأنفسهم نصاباً خاصاً بهم، أو يخلقون مناخاً متجانساً يجمعهم، ويتيح لهم أن يتواصلوا، وان يتبادلوا الأفكار والآراء، أو ان يتصفّحوا آخر الأخبار في الجرائد، أو يدوّنوا نصوصهم وخواطرهم، وما تفيض به قرائحهم. وهذه التسمية التي نخصّ بها هذه المقاهي، تجعل منها صنو الصالونات الأدبية، التي شاعت في حقبة ماضية في بعض أنحاء بلاد العرب، لا سيما في مصر التي اشتهرت بهذا النمط من المجالس.
والمقاهي الثقافية تقليد عرفته أوروبا منذ قرون، وخاصة باريس التي أنشأت أول مقهى ثقافي عام 1681 دُعي في ما بعد باسم le café de la Régence . وكان لاستقطاب هذه
المقاهي نخبة فلسفية وفكرية وأدبية، فضل السبق بنشر الوعي، واختمار الثورات الاجتماعية والسياسية.
إذاً يُحمل المقهى على صفته الثقافية بحضور المثقفين فيه، ومباشرتهم دورهم، ويتخذ سمتهم وعنوانهم، ويمنحهم حالذاك، فرصة للنقاش. ويُنشئ بين الكاتب والمكان علاقة أثيرة، حيث يتحول المقهى إلى رحم يساعد على مخاض الكتابة. وهذه الحميمية خلقت عند البعض إحساساً بأنه أسير المقهى، كمكان جذّاب يمارس عليه سحره وغوايته.
باتت المقاهي طقساً من طقوس الكتابة عند العديد من الأدباء والشعراء. وشكّلت جزءاً من الذاكرة الجماعية للمبدعين اللبنانيين والعرب، وأماكن للحلم والإبداع. كُتّاب يدمنون على هذه الأمكنة ويؤثرون الكتابة على طاولة المقهى. فسحة من الوقت في مكان يراوح الجالس فيه بين إشرافه، من وراء الزجاج الشفاف على الفضاء البصري الواسع الذي يمتدّ أمامه: ناصية الشارع والساحة والسوق، وممارسته متعة التلصص على المارة. وبين انكفائه في ركن معزول وشخصي، هو بمثابة سانحة للتأمل والتخيّل وتوليد الأفكار والصور. وقد رصد الشاعر اللبناني زاهي وهبي أوضاع مدينته بيروت من خلف زجاج المقهى، انطلاقاً من مثابرته اليومية على الجلوس فيه، سابراً أغوارها، ومشخّصاً أحوالها ومزاجها في كتابه «قهوة سادة في أحوال المقهى البيروتي» وذلك عبر مماهاته بين روح المقهى وروح المدينة، بما هي مدينة الاجتماع والاقتصاد والفكر والسياسة.
ومثل كل المقاهي الحديثة، أضحت المقاهي البيروتية متماثلة في فضائها المكاني، وفي خدماتها وروادها واختلاطها بمطاعم الوجبات السريعة. لم تعد تحمل علاماتها الفارقة ونبض المكان أو الحي أو المدينة. وغلبت على هندسة المقهى الحديث الواجهات الزجاجية المفتوحة على الخارج، ليصبح أكثر فأكثر انكشافاً، وجزءاً من المحيط الذي يندمج المقهى به، ويكون الجالس فيه أقرب إلى ان يكون شاهداً، ومكانه أقرب إلى ان يكون حيّزاً لا ينفصل عن الفضاء العام. وهذا ما دفع الشاعر بول شاوول لوصف المقهى البيروتي، وهو من أعرق رواده، بأنه «جريدة حائط المدينة وناسها وخلفياتها وثقافاتها». وفيما رأى البعض في المقهى قلب المدينة ونسغها الحي. نسبها الشاعر جوزف عيساوي إلى مملكته الأسطورية، والشاعر شوقي بزيع إلى حاضنة قصائده. وعدّها آخرون محطة للتسكع والصعلكة، وملاذاً للمهمّشين والمنبوذين.
عقل بيروت
تمركزت المقاهي الثقافية البيروتية بمنطقة الحمراء. الحمراء عقل بيروت ورأسها ورأسمالها. واجتاحت المقاهي منذ ستينيات القرن العشرين أرصفة المدينة، وكانت نموذجاً وشاهداً على طغيان الحياة الحداثوية وتجلياتها الاجتماعية والثقافية، وتزامن ظهورها مع ازدهار حركة النشر وصدور المجلات الثقافية، وفي طليعتها مجلة «شعر» ومجلة «مواقف». ومع رسوخ قدم الصحف اللبنانية المعروفة، لا سيما «النهار» و«السفير» و«الحياة» في المجالات السياسية والأدبية، وارتفاع النبرة التحررية في حقل الكتابة السياسية والنشاط الحزبي. وبالمحصّلة، فإن انتشار المقاهي وارتياد المثقفين لها، كان ثمرة من ثمار النهوض الثقافي والاجتماعي، والوعي السياسي بالحرية والمساواة. والحال، انه نتيجة تنامي الحريات الإعلامية والسياسية التي سادت لبنان. أضحت عاصمته واجهة ثقافية استقطبت أدباء وشعراء وقادة سياسيين عرباً، يلتمسون في مقاهيها حريات، كان المثقف العربي غائباً عنها في بلاده التي تجوس فيها عيون المخابرات والعسس، وشكّلت المقاهي البيروتية التي كان يتردد عليها هؤلاء فضاء طليقاً للاحتجاج السياسي، ومساحة تعبيرية حرة.
وعرفت بيروت أول مقهى رصيف عام 1959 هو مقهى «الهورس شو» حيث قامت الممثلة نضال الأشقر عام 1969 بأداء مسرحية «مجدليون» لهنري حاماتي على رصيفه. وظهر في شارع
الحمراء اوائل السبعينيات مقهى «الاكسبرس» و«الكافيه دي باري» والمودكا، والويمبي. أما مقهى «الجندول» فبات بسبب قربه من كليتي الآداب والتربية في الجامعة اللبنانية، مقر اجتماع لقياديي الحركة
الطلابية عهد ذاك. وازدهر مقهى آخر على شاطئ البحر، هو «الروضة» المقهى الذي احتضن، رغم طابعه الشعبي التقليدي والعائلي، عدداً جمّاً من المثقفين والكتّاب اللبنانيين الذين كانوا يقطنون بيروت الغربية وضواحيها، أثناء الحرب الأهلية.
إلى عدد آخر من المقاهي المنتشرة حول الجامعة الاميركية في بيروت، وعلى رأسها مطعم «فيصل» الذي أسبغ عليه أساتذة الجامعة والأدباء اللبنانيون والعرب طابعاً ثقافياً، وطيفاً من ألوان الفكر القومي والعلماني واليساري.
دينامية ثقافية
والمقهى اللبناني على عراقته، لم يشكّل ملمحاً أساسياً في تكوين الجسم الاجتماعي. كما هي الحال في مصر مثلاً، حيث لعب المقهى دوراً هاماً في الحياة العامة والحياة السياسية، وفي المتون الروائية والشعرية.
وتواتر ظهوره كموقع أو بؤرة حدثية في الأعمال السينمائية والدراما التلفزيونية. وصاغ نجيب محفوظ للمقهى في رواياته شخصية مكانية ذات أبعاد تشكيلية متميّزة بدلالاتها ومعانيها. وعلى حين غابت صورة المقهى اللبناني كإطار روائي غياباً ملحوظاً عن القصة اللبنانية. حضرت في القصيدة الشعرية باستحياء، رغم ان المقهى كان حاضنة لولادة قصائد عدد من الشعراء اللبنانيين.
إن المقاهي «الثقافية» البيروتية الباقية التي نجت من الإقفال أو الهدم، أو من تعديل وجهة استعمالها التجاري بتأثير حاجات السوق، إنما هي اليوم أمارة على أزمنة بيروت المنصرمة، أكثر منها دلالة على دينامية ثقافية راهنة. دينامية كانت ناشطة في حقبة من الزمن الماضي، قبل ان تترهّل وتتلاشى مفاعيلها. وكانت قد عبّرت عن تطلّعات وفعاليات ثقافية أثّرت في بعض مناحي التكوين الشخصي لجيل عايش تلك الحقبة، ونفض عنه الحزازات والولاءات المذهبية الضيقة، التي ينبعث أوارها من جديد. ولم تعد النقاشات الثقافية تشغل حيزاً من وقت روادها من الشباب، الذين يعيشون مرحلة ضمور في الحياة الثقافية بالمعنى الكلاسيكي، بعد ان حوّلت العولمة منظور الثقافة ومعناها وماهيتها، إلى ثقافة استهلاكية اجترارية، وإلى ما يشبه الثقافة المضادة بخطابها المتلعثم، وبتركيباتها اللغوية التي تنبذ الفصاحة بمعناها التقليدي. ومع تطور الحياة العصرية، وما طرأ على الاجتماع وأدواته ومفاهيمه، خضع المقهى بدوره الى جمالية هندسية منسجمة مع فضائه الحديث، ووظائفه المستجدّة التي لم تلحظ للنشاط الثقافي مكاناً في أرجائه، ولم يعد فضاء ملائماً، أو قادراً على منافسة فضاءات الثقافة المعولمة المفتوحة، ووسائلها المتعددة التي تستهوي الأجيال الشابة التي وجدت ضالتها في مواكبة العصر التكنولوجي، لما يوفر للملتقي خلف شاشات الحواسيب أو الهواتف النقالة، من دفق متواصل من المعلومات وبرامج الترفيه والتطبيقات الرقمية. شاشات تتيح له خيارات غير محدودة، وحرية في التنقل من فضاء إلى آخر، دون عوائق أو عراقيل. وإذا كان لا مناص من جلوسه في المقهى مع حاسوبه الشخصي، فإنه في هذه الحال، ينقطع عن دفء الصداقات التي كان يشيعها جو المقهى التقليدي.
بيد ان هذه المواكبة لمتطلبات العصر المفقودة في المقهى اللبناني، والتي يمكن ان تغيّر نمط العلاقة مع فضائه ووظائفه، نعثر عليها في أمكنة أخرى في العالم، حيث تتجاوب المقاهي الباريسية، على سبيل المثال، مع التطور التقني، فترتبط بمواقع الكترونية خاصة بها، وتتشعّب نشاطاتها واختصاصاتها. فثمة ما يُسمى بالمقهى العلمي الذي يهتم بالمسائل والابتكارات العلمية. كما هناك المقهى الفلسفي الذي أشرف عليه المفكر marc sautet عام 1992 ليدشّن من خلاله حلقات نقاش واسعة بين المختصين والجمهور، ولينشر حصيلته على الشبكة العنكبوتية، تشجيعاً لظاهرة الفكر النقدي الحر وديموقراطية الحوار، عوض ان يبقى هذا النمط من التكوين الفلسفي مقتصراً على نخبة ضئيلة من الباحثين.
وقد أفضت تحوّلات العصر، وتبدّل الأمزجة والقيم، إلى تعدّد أمكنة اللقاء بين المثقفين اللبنانيين من أدباء وشعراء وصحافيين وفنانين، وتوسّع الفضاء الأدبي اليوم إلى أمكنة جديدة. أمكنة اختارها هؤلاء، لتكون نقيض ثقافة المنابر التقليدية، مستبدلين منتدياتهم ومقاهيهم، بالحانات والمطاعم التي تحتضنهم في الليل، وتحتضن قصائدهم ونصوصهم الإبداعية، نذكر من بينها «جدل بيزنطي» و«درابزين» و«الدينمو» و«زوايا». حانات ومطاعم يختلط فيها صوت الشعر والأغاني واللحن الموسيقي، باحتساء الشراب، وقرع الكؤوس، وتذوّق الطعام. في لحظة تعبّر عن تجدّد الأزمنة والأذواق، وتعرية الحياة من رزانتها، والأمكنة من بهائها المصطنع.
———————-
فاطمة ناعوت
عزيزي مقهى إيليت
ها هي أجمل مدن العالم: الأسكندرية، والمكان الذي أُحبّ أكثر: محطة الرمل. أقطعُ شارع “صفية زغلول”، حتى أصل إلى هذا الكوخ المشيّد على الطراز الأوروبي: دعامات خشبية رفيعة متعامدة، وراءها ألواح زجاج. أرفع رأسي فأقرأ اللافتة: “إيليت” Elite، فأطمئن أن كل شيء على ما يرام.
لكنّ بهجة المكان قد ولّت. ولوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس وجورج براك وفافياديس وسيف وانلي وأدهم وانلي وعصمت داوستاشي على جدران المقهى، قد كساها غبارُ السنوات، والترابُ الذي تخلّف مع رحيل عصر التحضر والثراء عن هذه المدينة الكوزموبوليتانية التي سكنها اليونانيون وعمّروها عقودا طوالا. أسألك أيها المقهى العزيز، الذي أحجُّ إليه كلما زرتُ الأسكندرية: أين بورتريه قسطنطين كفافيس، الشاعر اليوناني السكندري الذي كان يكتب قصائده في ركنك القصيّ، وهو يتأمل المارة والسابلة عبر زجاجك الذي غامت صفحته الآن؟ أسألك أيها المقهى العريق: أين كريستينا اليونانية الجميلة، التي اشترتك في منتصف القرن الماضي وعلّقت على جدرانك هذه اللوحات التي لا تقدر بثمن، فكنت أنتَ لها المقهى والصديق والحبيب والأب والابن والداعم ضد رعونة الزمن؟
عزيزي مقهى إيليت، هل تذكرني؟ أنا الفتاة الصغيرة التي كانت تأتيك مرة كل عام، كلما زارت الإسكندرية. أدخل يكسوني الارتباك، فأجلس على أقرب مقعد. أرسل ابتسامة خاطفةً لكريستينا جالسة إلى مكتبها، فترسل لي مثلها. وبين الحين والحين أختلس النظر إلى وجه كفافيس على الجدار. أخترقُ عينيه خلف نظارته مستديرة الإطار. ثم أثقب دماغه ببصري، لكي أصل إلى “ماكينة” ااشِّعر في هذا الرأس المُحيّر. أفيقُ من تلصصي على صوت النادل يقدم لي فنجان القهوة، فأعاود النظر سريعًا إلى كريستينا لأرى إن كانت قد “ضبطتني” وأنا أفتش في عقل كفافيس، صديقها القديم. ألمح ابتسامتها، فأطمئن.
قبل سنوات، زرت إيليت، ولم أرَ كريستينا. سألت عنها، فقالوا: ماتت منذ شهرين! يا إلهي! كيف مر موتها بهدوء دون صخب إعلامي؟ ألأنها امرأة؟ هل الموت عنصريّ؟ ركضت إلى البحر يكسوني الحزن
الغضب، وكتبت هذه القصيدة: “محطة الرمل”، وأهديتها إلى كريستينا، التي نسيتُ أن أقبِّلَها.
محطة الرمل
“سيموتُ الشيطانُ غدًا/
قبل أن يتصفّحَ الجريدةَ على البحرِ/
كعادته كلَّ صبح/
بمجرد أن يرشفَ من فنجانِ القهوة/
ويغدو العالمُ مُضجرًا من دونِه/
إذ لن أجدَ سببًا/ لأبدو أكثر طيبةً/
من أصدقائي الأشرار!/
كنَّ يكذبن علينا/
أمهاتنا/
بأن الشيطان ينامُ تحت أظافرنِا المتّسخة./
لكن كريستينا هي الأخرى ماتتْ/
أولَ أمس/
دون أن يشعرَ بها أحدٌ/
ودون أن تشيّعَها امرأةْ./
ماتتْ قبل أن توقدَ شجرةَ الميلادْ/
أمام إطارِ الأبنوس الذي يحملُ قصيدةً/
كتبَها السَّكندريُّ في عينيها/
قبل نصفِ قرنٍ/
نعم!/
نعم!/
فالنساءُ يمُتن/
بغير ضجيجْ/
ولا عصافيرَ تصكُّ الزجاج/
ولا حريم تأتي للعزاء/
رغم أن النساءَ/
أجملُ/
في ملابسِ الحداد./
علينا وحسب/
أن نجلسَ صامتيْن في مقهى Elite/
لنحسبَ طولَ الجسدِ وعرضَه/
من أجل تابوتٍ يليقُ بالرجلْ/
الذي أهلك البشرية./
فنحن أرقى من الصيادين الأجلافْ/
الذين لا يعبأون بجثامين الأسماكِ/
حين يُلقى بها في السَّلّة/
دون تقديرٍ لجلالِ الموت./
سندبّرُ جِنازًا محترمًا/
يليقُ برفيقِ البشرية المزمن/
السيّد/
الذي مهّدَ لنا مكانًا فوق الأرض:/
سيأتي أبي/
الذي أغواهُ الفقيدُ/
بالجلوسِ تحت شرفةِ أمي لعامين/
وأمي/
التي بكت للطبيبة/
كي تضعَ حرفًا على لسانِ عُمَر/
وعُمَرُ/
الذي بنى سفينةَ نوحٍ
ثم أغرقَها/
وفاوستْ/
والجبلاوي/
والإسكافيُّ/
الذي نثرَ المساميرَ في شارعِنا/
وشارعُنا/
الذي سكنَتهُ عجائزُ اليونان/
حين كانت بلادي/
أمًّا للدنيا./
أما أنا/
فأكون المرأةَ التي تستقبلُ العزاءَ/
بوصفي/
فعلتَهُ الكبرى.”
——————–
فاطمة المحسن
«مقاهي بيروت الشعبية» لشوقي الدويهي .. دراسة في المكان العابر والمستقر
هناك الكثير من المعالم التي تمنح المدن شخصياتها، ويبقى المقهى أبرزها، فهو روح المدينة المعلنة وكتابها المفتوح وملامحها السافرة. ولعل طرز بناء المقاهي ونوع خدماتها، تعلن عن ذائقة واقتصاد المدن، مثلما توحي بمزاجها، فالمدن المحافظة والمتزمتة، لا تعرف تقليد المقهى، ومثلها المدن الثلجية والصحراوية. ولكن المقهى لا يدل على ثراء المدينة قدر ما يعطي انطباعا عن شبكة علاقاتها الاجتماعية.
بيروت بين المدن العربية أكثرها اهتماما بتنوع المقاهي واختلاف طرزها، وزائرها يدرك، على نحو ما، أن هذه المدينة تبدو وكأنها مقهى كبير، او مهرجان من المقاهي التي تجمع ذوق البحر المتوسط، ودفء المدن العربية التي تقيم مقاهيها ومطاعمها في الشوارع الضيقة ووسط حركة المدينة الضاجة. ثقافة المقاهي ببيروت قديمة كما يشير كتاب صدر حديثا عن دار النهار عنوانه (مقاهي بيروت الشعبية/ 1950 – 1990) لمؤلفه شوقي الدويهي أستاذ مادة الانثربولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية – الجامعة اللبنانية. كتابه بحث في سوسيولوجيا المقاهي البيروتية، واستعراض لتاريخها منذ استقلال لبنان نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، وبعيد تشكل معالمها كعاصمة حديثة وواحدة من أهم مدن السياحة والصيرفة في الشرق الأوسط ابان الستينات.
المقهى ببيروت قديم، شأنه شأن مقاهي المدن العربية الأخرى وبينها القاهرة ودمشق وبغداد، ويعود إلى تقليد عثماني نشأ في القرن التاسع عشر وتطور شعبيا مطلع العشرين، حتى غدا لكل حي مقهاه، ومثله لكل طائفة وحرفة أو اختصاص ثقافي أو اجتماعي. وكتاب الدويهي يربط المقهى بالساحة، فالساحة كما يسميها المؤلف «عتبة المدينة» التي يتخطى عبرها الزائر المدن الأخرى إلى بيروت العاصمة، وهي القلب الذي تنتظم حوله تبدلات المدينة وايقاعها الداخلي.
يشير المؤلف إلى ما يسميه «السياسية المدينية» التي اعتمدها الانتداب الفرنسي وأثرها في نشوء المقاهي الجديدة ببيروت، فهذه السياسة هي التي جعلت الساحات معالم حضارية، فبعدما كان النسيج العمراني متداخلا على نحو حميمي إلى نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الساحة مركزا تتفرع عنه أبنية مجتمعية وأنشطة اقتصادية. على هذا تصبح ساحة البرج أول الساحات التي تمايزت بهذا النوع من النشاطات وتليها ساحة رياض الصلح والدباس.
يربط المؤلف بين التطورات في الحياة الاجتماعية وتبدل وظائف المراكز، فقد استبدل سبيل الماء الحميدي في مركز الساحة بتماثيل ونصب الشخصيات السياسية اللبنانية، ما يشير إلى تبدل في الهوية الوطنية.
ويركز المؤلف على مقاهي وسط المدينة حيث نشأت في الثلاثينات والأربعينات حركة اقتصادية أتاحت تشييد بنايات من طرز راقية، مما أتاح فرصة لتغيير نوع المقاهي وزبائنها ومستوى خدماتها، كان ذلك هو التمهيد لنشوء المقاهي الجديدة بعد أن دخلت مقومات النهوض حياة البيروتيين. ولعل الانتباهة الدقيقة للمؤلف التي لم يشبعها تفصيلا ووضوحا، كانت في تأكيده على النقلة النوعية التي أحدثها المسيحيون في طرز معيشتهم اثر تنشيط علاقتهم بالغرب، حين غدت لهم نواديهم وأماكن اجتماعهم ووسائل تبادلهم التجاري، الأمر الذي أدى بالمسلمين إلى تقليدهم على استحياء في البداية، لحين ما أدركوا قيمة الحياة المرفهة الحضرية.
تلك النشاطات الضاجة بالحيوية والحاجة إلى اكتساب مهارات وتقاليد المنافسة في التعليم وثقافة الانفتاح، دفعت المرأة إلى الخروج من حيزها المغلق والدخول في عالم المقهى، حيث نشأت المقاهي المختلطة بعد ان ارتقت أنواعها وتطورت خدماتها.
يتابع المؤلف تحول المقهى من التسليات القديمة مثل الحكواتي والأراكوز إلى لعب الورق والدومينو وتدخين النرجيلة ثم حضور فرق الرقص والغناء، لحين مااستغنى الزبون عن تلك التسليات واكتفى بمطالعة الصحف والمجلات. وبين كل تلك التحولات كانت للمقهى أزمنة ومجالات مختلفة كما يقول المؤلف. ولعل الحيز الذي تحرك فيه المقهى البيروتي، هو حيز السياحة، وهو حيز جمالي يختصر الكثير من الوظائف التي ذكرها المؤلف، فالمقهى البيروتي، تطور ضمن زمن ثقافي منذ خمسينات القرن المنصرم، وتزامن هذا التطور مع حاجات اقتصاديات السياحة، مثلما يجري اليوم في بعض الدول الخليجية التي تسابق الأزمنة الثقافية لشعوبها، بل الأزمنة الثقافية للدول العربية. وأثر السياحة ببيروت رافق تأثيرها الثقافي، فهي حاضرة النشر وصرعات الأدب العربي الحديث، وفوق هذا لبيروت فضل ترسيخ تقاليد حرية الصحافة وتطوير نوعها منذ خمسينات القرن المنصرم، ولم ينافسها عربيا سوى القاهرة التي بدأت بالانكماش في وقت صعود بيروت في الستينات. كل تلك التطورات جعلت للمقهى وظائف ثقافية، وذاع صيت مقاهي بيروت في كتب الأدباء وأشعارهم وتجمعاتهم، اضافة إلى مقاهي السياسيين العرب الذين اختاروا بيروت لنشر أفكارهم ولنقاشاتهم، فكانت أسماء مثل الهورس شو والدولشفيتا وألدواردو وغيرها قد سكنت ذاكرة القراء العرب، وجعلت من بيروت حلما من أحلامهم. يتطرق كتاب الدويهي إلى مقاهي الأدباء والفنانين وبينها الباتيسري سويس في باب أدريس حيث يلتقي الأدباء والشعراء الذين اتخذوا من الفرنسية اداة تعبير كجورج شحادة وهكتور خلاط وفؤاد غبريال نفاع. أما المقاهي الشعبية التي يفضلها بعض الأدباء حسبما يذكر المؤلف، فهي مقهى أبو عفيف والباريزيانا في ساحة البرج، ومقهى فاروق ومقهى الزجاج، فهناك يتحلقون حول طاولة الأدب، ويختبرون قصائدهم الجديدة ضمن شلة الأصدقاء، وهكذا كان يفعل الأخطل الصغير وأمين نخلة ومحمد شعيب العاملي، وأحمد الصافي النجفي، ومحمد مهدي الجواهري حين كان يمر ببيروت، ورئيف خوري وغيرهم.
كان هذا الرعيل يفضل المقاهي الشعبية، في حين تفضل جماعة مجلة شعر والموجات الجديدة في المسرح والتشكيل المقاهي الحديثة. ويروي المؤلف نقلاً عن الشاعر شوقي ابو شقرا، كيف كان صاحب «الهورس شو» يطلب من شلة الأدباء جلب الأديبات معهم كي يتخلى المقهى عن طابعه الرجولي، ولتشجيع النساء على ارتياد مقهاه، كان لا يطلب من الفتيات ثمن الشاي او القهوة. تلك حكاية من حكايات كثيرة لمقاهي بيروت الأدبية والفنية، وهي مالم يمنحه المؤلف فرصة تستحق الكثير، فبيروت المقهى، هي بيروت ثقافة الانفتاح على الفضاء الخارجي للناس، المكان والمطرح الانساني والاجتماعي الذي يتعالق مع مناخها المعتدل، وبحث اناسها عن لقاءات الصداقة وتبادل الأخبار، وهو في النهاية يتماشى مع بُعد ثقافتها الفرنسية،. فباريس مدينة المقاهي بامتياز، والمقهى بباريس ليس فقط معلما من معالمها الجمالية، بل هو تراثها الثقافي وملتقى مدارسها الأدبية والفنية، على هذا الاعتبار سميت بيروت باريس الشرق. قطعت الحرب الأهلية اللبنانية مشروع تطوير المقاهي، واستعاض الناس باللقاءات داخل الملاجئ وعلى سلم العمارات كما يرد في كتاب الدويهي، فاغلقت الكثير من المقاهي وحلت بدلها المتاريس والخرائب. وربما كانت المقاهي التي احتدمت فيها النقاشات السياسية، واحدة من أسباب تلك الحرب، مثلما اصبحت الآن دليلا على استعادة بيروت عافيتها.
ويبقى درس المقهى موضع اهتمام الكثير من الباحثين في البلاد العربية، فظهرت الكثير من الدراسات الحديثة التي تدور حول المقهى والمدينة، وتجمع السوسيولوجيا إلى التأرخة او إلى الانثربولوجيا الوصفية وقد بدأها المستشرقون في وقت مبكر وتولى أمرها في العقود المنصرمة الكُتاب العرب. ومن مقهى نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وصولاً إلى الروائيين المعاصرين، كانت القاهرة رائدة في الربط بين الأدب المكتوب والأدب المعاش على أرصفة الحياة.
———————-
فريدة الأنصاري
بغـــداد الســبعينات الشعر والمقاهي والحانات
لكل مدينة ذاكرة،…لقد حاول ويحاول طغاة كثيرون على الأرض محو ذاكرة المدن بشتى الطرق التي يتيحها لهم تاريخهم الأسود، بأيدي سلسلة من الجلاوزة واللصوص والمرتزقة وعسعس الليل والنهار، فيجهدوا بتغيير إيقاعها وشل نبضها وحركة أنفاسها لمحو يومها بصباحها وضحاها وليلها
في هذا الكتاب (بغداد السبعينات) يتذكر الشاعر هاشم شفيق بغداد في فترة السبعينات من القرن الماضي بغداد التي هجرها في نهاية السبعينات مع الشاعر فوزي كريم لأسباب سياسية وعاد اليها في سنة 2004 و 2011 ليرى ما حصل بها من تغيير مقارنا مع ما طبع في ذاكرته عن فترة السبعينات.تلك الفترة التي كان الكتاب يشكل جزءا مهما من حياتنا حيث كان عضواً فاعلاً في جسمنا يندغم ويتهيكل معنا.وبدونه كنا لا نستطيع حتى نمشي. فهو الذي يحقق لنا التوازن،ويحسن من حركة المشي والسير والذهاب هنا وهناك.
ولتسجيل ما طبع وما رآه من خراب يعود بذاكرتة الى شوراعها الجميلة والى مسارحها وسينماتها ومقاهيها التي صقلت موهبته الشعرية،ودعمته بالرؤى الجمالية.
فبغداد التي كانت في مطلع السبعينات واحدة من اجمل مدن العالم وفيها كان الكتاب يقرأ بعد ان يؤلف في القاهرة ويطبع في بيروت، فكانت مدينة شارع ومساحات واسعة وأزقة لا تحصى ,,ودور مكتبات منتشرة في معظم شوارعها..
فهي مدينة شارع الرشيد وشارع السعدون وشارع النضال وشارع ابو نواس وشارع النهر العامر بالأسواق والمحلات والدكاكين البغدادية القديمة والحديثة. شوارع تنتسب الى روح كل عراقي والى افق طفولته وصباه وفتوته. فكل شارع من هذه الشوراع له طعمه الخاص في ذاكرة المؤلف (انه طعم البدايات, طعم الحياة.في تكوينها وتجلياتها الاولى) وهنا يربط المؤلف الشعر بالشارع عندما لم يكن الشاعر جالس في البرج العالي. فالشارع والشعر مرتبطان مع بعضهما، ليس ثمة انفصال بينهما،ومنه يستمد الشاعر الاحداثيات التي تحصل حواليه.فكل شيئ بالحياة هو تعبير عن الخصائص في الحياة الانسانية.
وعن شارع الرشيد ينقلنا عبر ذاكرته الى مقاهي الميدان التي تماثل مقاهي خان الخليلي في القاهرة فينقلنا الى مقهى”البرلمان”و”ام كلثوم”و”الاعيان”و”حسن عجمي”حين كان يجلس مع اصدقائه من الشعراء والكتاب ليناقشوا قصيدة أو كتاب صدر حديثا.لينتقل بعد ذلك الى المربع المخملي الذي يحتل جزءاً مهما من شارع الرشيد ليضم سينما ريكس وروكسي ودنيا التي تحولت الآن الى خرائب ومكان لتصليح السيارات وورش لتبديل الدواليب والسمكرة،وواجهات لبيع لوازم المركبات ومخازن للبضائع الصينية.وهنا يتأسف الشاعر على هذا الزمان، ويتحسر على بغداد السبعينات”لقد ذهب ذلك الزمان الذي كان يضم دور سينما وكل ما كان موجودا منذ الثلاثينات وحتى العام الفين اندثر وتحول الى طلوع وخراب للتماشى مع الزمن المتدهور الجديد”.
وكما ارتبط الشعر بالشارع ارتبط ايضا بالمسرح فبغداد السبعينات كانت تعج بالصالات المسرحية التي نفتقدها اليوم.تلك المسرحيات التي قدمت العروض العالمية يستذكرها المؤلف ليبن كيف ساعدته وساعدت الكثير من الشعراء في تهذيب الذائقة الشعرية و معرفة المنولوج والدراما التي افادتهم في شحن طاقتهم الشعرية بأمصال فنية من فن آخر، كي يتمكنوا في الأخير من تأدية الحوار داخل القصيدة المتعددة الاصوات والطبقات. وهنا في باب الشعر والمسرح يؤكد الشاعر هاشم شفيق بأن الحركة بالقصيدة وظهور الشخوص قد تعلموه من المسرح، وعبر المسرح فهمموا المسرح النقدي والمسرح الاغترابي،وفهموا كيف توظف الشخصيات في المسرحيات الشعرية،وكيف تكتب كما كان في مسرحيات احمد شوقي وصلاح عبد الصبور.
وفي موضوع اخر يتحدث عن العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي حيث يبين كيف كان الجيل السبعيني من الشعراء والأدباء لديهم علاقات مع الجيل السبعيني في الفن التشكيلي فكلاهما كان ينحت جماله الخاص تحت افق آله الفن والجمال فينوس”وبمباركة من يدي ابولو آله الشعر وبمس من ازميل فيدياس”النحات الاغريقي القديم مشترح الجماليات صانع الوجوة والأجساد والأشكال للآلهات الميثلوجية،وبحنو من الواسطي وبشعر ابي الطيب المتنبي. وفي هذا السياق يصف الشاعر الجيل السبعيني المتعدد الثقافات والمطلع على التجارب العالمية بشكل كبير ومدروس مع اضافاتة في استخدام الموروث الرافديني القديم سواء في الفن أو الاساطير فيستذكر هادي ياسين، سعيد جبار فرحان، وعبد الله صخي بقصصه الجديدة وأساه الكظيم،ومحي الاشيقر بهمومه الثورية وفاضل الربيعي بقصصه المحلية، وماهر جيجان برسومه الكاريكاتورية وشاكر لعيبي، سلام كاظم ،مظهر المفرجي، عامر بدر حسون وغيرهم من رفاق درب النضال والفن والأدب والشعر.وليلقي الضوء على مسيرتهم النضالية يشير الى الصراع الايدولوجي الذي حدث بين الحزبين الشيوعي والبعثي حيث كانت مخابرات النظام السابق تتربص بهم لتأييدهم للأفكار اليسارية . مشيرا في الوقت ذاته الى الخلل الثقافي الذي بدء ينخر جسد الثقافة العراقية باسم شعارات كاذبة وواهية وليس لهى مصداقية على ارض الواقع.
ومن قراءة هذا الكتاب الممتع بصفحاته 256 يعد وثيقة تاريخية اجتماعية ادبية لمدينة بغداد بأحيائها وحاراتها ومقاهيها وفنونها وشخوصها تنقل الجيل الجديد الى فترة حاول النظام الدكتاتوري طمسها بهجرة علماؤها وأدبائها ببرمجة مدروسة. و يمكننا القول كما يذكر المؤلف الشاعر هاشم شفيق من الصعب تغيير آليات عمل هذه الذاكرة، في محاولة لفصلها عن سياقها التاريخي مع الروح، روح الأشياء والإنسان والزمن، لا يمكن هدم مدينة في محاولة لإتلاف تفاصيلها وشل ذاكرتها الكرونولوجية الممتدة في تراب الأساطير والضاربة في عمق البدايات الأولى للحضارة البشرية.
———————-
ديمة ونوس
بـارات شـارع الحمـراء اسـتراحة المدينـة قبـل أن يقلـع النهـار
الذي يمشي في شارع «الحمرا»، قد لا يحزر او ينسى أنه في بيروت. وربما سيتبادر إلى ذهنه، أنه في أحد الأحياء السورية. من جهة، لأن عدد الزوار السوريين يتزايد كل يوم. ومن جهة أخرى، لأن الكثير من العاملين في هذا الحي هم من السوريين.
اختلطت علي الأمور في كثير من الأحيان وشعرت بالارتباك للحظات عابرة. أرى مشهداً مألوفاً بالنسبة إلي. أرى رجلاً في الستينيات، ألتقي به عادة في احد مقاهي دمشق. يكون جالساً على كرسيه، وجهه يختفي وراء جريدة يحملها، يرتشف قهوته ببطء وتروّ.
رأيته قبل مدة، وارتبكت أمام مشهد يتكرر بتفاصيله الدقيقة، باستثناء أن المقهى صار «ليناز» في آخر شارع الحمرا. المشهد ذاته يسافر من دمشق إلى بيروت. والأزمة يبدو أنها لم تغيّر من عادات الرجل الستيني هذا، ولم تبدل من طريقة قراءته الجريدة واحتسائه للقهوة.
وفي إحدى المرات، رأيت صديقاً يجلس في مقهى رصيف نسيت اسمه. وأيضاً كان يجلس مثلما كان يجلس في مقهى في حي الشعلان وسط دمشق. يشبك يديه ويسندهما فوق بطنه، وساقاه ممدودتان أمامه على الأرض.
شارع «الحمرا» الذي خفت ألقه بعد الحرب الأهلية، يبدو أنه استعاد مكانته الآن كحي يقصده الغرباء أو اللبنانيون الذين يلامسهم الحنين إلى مكان رسم حدود لقاءاتهم ونقاشاتهم و«وجودهم». إذ لا يمكن فصل الجغرافية عن التاريخ. بل لا يمكن فهم التاريخ بمعزل عن جغرافية المكان، عن روحه، ولونه وذاكرته.
السوريون مثلاً الذين كانوا يأتون إلى بيروت لقضاء سهراتهم في الوسط التجاري، غيّروا وجهتهم لاحقاً إلى حي «مونو» في الأشرفية. ثم غادروه إلى «الجميزة». والآن، استقرّوا في «الحمرا». ربما
لا يمكن اكتساب العبرة من الشريحة السورية هذه. ببساطة، لأنها كانت تقصد بيروت لأسباب لا تتعدى التسوّق والسهر في الوقت الذي كانت فيه دمشق بعيدة تماماً من آخر صيحات الموضة وعن الماركات العالمية باهظة الثمن، وبالكاد كانت تلك الشريحة تعثر على بار أو ديسكوتيك يليق بها.
أسمع الناس يتحدثون عن أكثر من 200 بار في حي «الحمرا». ومعظمها افتتح خلال السنوات القليلة الماضية. الحي الذي كان يعجّ بصالات السينما والمسارح والمراكز الثقافية، صار مملوءاً بالبارات. ثمة
حياة تولد في الليل. الضجيج يملأ الشوارع. صخب الموسيقا وضحكات الزبائن. وكأن المدينة ترفض أن تغمض عينيها. وكأنها تريد تعويض ما فاتها أثناء الحروب والصراعات والانقسامات. تلك الحروب لاتزال ترخي ظلالها حتى على عوالم المدينة الليلية. فترى سكّان الأشرفية وروّاد مطاعمها وباراتها، يتوجسون من قضاء سهرة في أحد أماكن السهر في حي «الحمرا». والعكس صحيح. وكأن الأحياء تصنع مقاهيها وباراتها على مزاج السكان. وهو أمر لا تناقض فيه. ألم يفتتح في «الضاحية» بارٌ؟ نعم. بار بأنوار خافتة يقدّم المشروبات الخالية من الكحول. لكنهم يعتبرونه «بار» الضاحية.
أيضاً في حي «الحمرا»، تبدو البارات أقرب إلى سكان وزوار الحي من بارات الأحياء الأخرى. الحي الذي سكنه الكثير من السوريين بعد اندلاع الأحداث، وكثير من الأجانب ممن يدرسون في الجامعة
الأميركية، تلامس باراته العديدة كل الأمزجة التي يمكن تخيلها. بار «زنقة» مثلاً، افتتح بعد الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي. إلى جانبه، يقع بار «بوبو» و«مزيان». إضافة إلى
أن بارات شارع «الحمرا» لا تشبه بعضها البعض، يجمعها أمر آخر لافت. هو فكرة التجمع. أي أن معظم البارات تتجاور إلى حد كبير. حتى يخيل إلى الزبون أن ملكيتها تعود إلى شخص واحد. منتصف شارع
الحمرا، إلى جانب «مسرح المدينة» والمطعم الشهير «كبابجي» تقع عمارة «أسترال». البارات الثلاثة هذه توجد داخل مدخل العمارة. متجاورة بشكل لافت. حتى يصبح من الصعب تمييز زبائن بار عن
آخر. الكل يجلس بجوار الكل. والكل يستمع لأحاديث الكل. وإن خطر في بال أحد الزبائن أن يطلق صوته بالغناء، سيستمع إليه زبائن البارات الثلاثة. وربما يشاركونه غناءه أو ربما يصطدمون معه. وبما أن معظم زوار تلك البارات هم من الغرباء، يغلب عليهم طابع المرح والتسامح مع هفوات بعض الزبائن. ربما لأنهم يشعرون أصلاً بالغربة. أو أنهم في إجازة ولا يريدون تعكير مزاجهم. أو ربما في مرحلة انتظار، كما هو حال الكثير من السوريين. والانتظار يجعلهم منفتحين على كل الاحتمالات، بما فيها النكد الذي يسببه أحد الحاضرين. وتلك المجاوَرة موجودة أيضاً في شوارع أخرى من حي «الحمرا». حيث يقع مثلاً البار الشهير «دانيز». هناك، تتجاور البارات على حافتي زقاق ضيق. وهناك أيضاً يختلط الزبائن وتصبح أحاديثهم الخاصة، عامة لمن يرغب بالإنصات. وفي ساعات متأخرة من الليل، عندما تزدحم تلك البارات وتخلو من طاولات شاغرة، يشتري الزبائن مشروباتهم ويقفون في الشارع بمحاذاة البارات. يتحول الزقاق إلى حفل استقبال ضخم. ويصبح من الصعب المرور بينهم، للوصول إلى الحارة الخلفية. يعلو صوت الموسيقى، فتعلو اصواتهم. ثم يرقصون. فيضفي الزحام والتصاق واحدهم بالآخر، طابعاً احتفالياً. وكأنها دعوة مبطنة للتخفف من الإحساس القاتم بالغربة والوحشة. وكأن الزائرين متواطئون فيما بينهم على تقاسم تلك الهموم الصغيرة أو الكبيرة التي يخلقها السفر والهجر والفقد. وكأن النوم لا يليق بهم. يبددون مساءاتهم في التنقل بين بار ومقهى ومطعم. وكأن النوم يغمض الأعين ويوقظ الروح على ما تعيشه من فراغ.
أصحاب البارات تلك والعاملون فيها، يبدؤون عملهم في ساعة محددة، لكنهم لا يعلمون على الإطلاق متى سيودعون آخر زبون ليفلّوا إلى بيوتهم. وفي كثير من الأحيان، يثقلهم وجود زبون معين يثير المشاكل والضيق. في أحد البارات مثلاً، ثمة رجل في الأربعينيات، اعتاد المجيء بشكل يومي. بعد فترة من الزمن، نشأت صداقة بينه وبين مدير البار. إلا أن الصداقة تلك تلهي المدير عن عمله. لأن الزبون يصبح بحاجة للكلام بعد أول كاس. «يحكي لي القصة ذاتها يومياً. وفي كل مرة، يجب أن أتفاجأ وكأنني أسمعها للمرة الأولى». يقول ربيع، الشاب السوري الذي يدير أحد البارات والذي لا يطيق عمله الليلي هذا. ربيع مثلاً يحب الطبخ. ويعشق المطبخ الرقاوي (نسبة إلى الرقة في شرق سورية). لكنه يعرف أن هذا النوع من الطعام لا يمكن استهلاكه مع الكحول. «يحكي ويحكي، وإن لم أتفاجأ أو أتعاطف، يغضب ويبدأ بشتمي». والبار الذي يديره ربيع، مختص بالموسيقى اللاتينية. عندما يقلّ عدد الزبائن، يقرر ربيع من تلقاء نفسه أن يستبدل تلك الموسيقى بـ «سي دي» لأم كلثوم التي يعشقها. «أم كلثوم» ليست سوى مغامرة في شارع يقصده طلاب «الجامعة الأميركية» وجيل عصري ينبذ تلك الموسيقى «العجوز» بنظره.
استعادة العز السابق
«استعاد شارع «الحمرا» حيويته بعد حرب تموز 2005. لأنه كان مفتوحاً أمام المهجرين من الضواحي والجنوب والأماكن المعرضة للقصف». يقول أحد المسؤولين في «ميترو المدينة» الذي
افتتحته الفنانة نضال الأشقر بداية العام 2012. تحت الأرض، يمتد بار «ميترو المدينة «. الكراسي المخصصة للمسرح والتي تشبه كراسي الميترو التقليدي إلى حد كبير، تصطف إلى جانب بعضها البعض كأن الزبائن سيحضرون عرضاً مسرحياً أو فيلماً سينمائياً. وليس البار سوى بهو صالة «ميتروبوليس» سابقاً والتي حولتها مجموعة من الشباب إلى «كاباريه» يقدم عروضاً فنية متنوعة من موسيقى الجاز إلى الموسيقى الشرقية. عروض روسية وأخرى لفرق شبابية. «الكاباريه» الذي يغلب عليه اللون الأحمر الفاقع أو النبيذي حسب درجة الإضاءة، يقدم الطعام والمشروب لزبائنه أثناء حضورهم تلك العروض التي تتغير كل شهر تقريباً.
شارع «الحمرا» الذي انطلقت منه في الستينيات والسبعينيات الحركة الثقافية، والذي تأسست فيه أهم الصحف اللبنانية، تغيّر إلى حد بعيد. والمقاهي التي كانت ملتقى للأدباء والسياسيين والمثقفين اليساريين، تبدلت أسماؤها. وواكبت الإيقاع السريع الذي يهيمن على المدينة. تحول الـ «هورس شو» إلى «كوستا». وذلك التحول يعني الكثير بالنسبة إلى جيل الستينيات والسبعينيات. فبدل أن تكون الجلسة حميمية، مرتاحة، متمهلة، بطيئة الإيقاع، صارت الخدمة ذاتية. والقهوة التركية مثلاً نادراً ما نعثر عليها في المقاهي بعد أن استبدلت بالقهوة الأميركية السريعة. من جهة، تصبح الجلسة في هذه المقاهي مستعجلة، ومن جهة أخرى، تمنع إقامة علاقة إنسانية وتراكمية مع الشباب العاملين في المقهى. كونهم يلتزمون «الكونتوار» المخصص لهم، ولا يجولون بين الطاولات. إلا أن الحنين إلى الماضي، إلى الشباب الضائع، أجبر بعض المثقفين والكتّاب والصحافيين الكبار، على ارتياد هذه المقاهي والخضوع لإيقاع الحياة الجديد. أحد المقاهي في شارع الحمرا، يبيع البن المطحون ويبيع «ركوات» القهوة النحاسية والعتيقة، لكنه لا يقدم إلا القهوة الأميركية. وعندما سألت أحد العاملين عن السبب، قال لي بتذمر: القهوة العربية أو التركية، تحتاج إلى موظف خاص، يقف وراء «البوتوغاز» ليغلي القهوة. وهي عملية غير إنسانية!
تلك المقاهي المتجاورة على رصيفي شارع «الحمرا» الرئيسي، تقدم إضافة إلى القهوة الأميركية والوجبات السريعة، خدمة الأنترنت المجانية. نرى كل «زبون» أمام كومبيوتره المحمول. يقرأ الأخبار أو
يتصفح الصحف اليومية، في حين لا يزال بائعو الجرائد مواظبين على فتح «كيوسك» الصحف الخاص بهم على الرصيف بجانب المقاهي.
«شارع «الحمرا» صار عيني بيروت وبين أزقته تختبئ حصة من روح المدينة. المدينة التي تؤجل نومها قدر المستطاع، تصحو باكراً. لا يتعبها السهر ولا يستهلك طاقتها». تقول سارة التي تعمل في
أحد المقاهي. «لا أعرف كيف كان شارع «الحمرا» في السابق. لكنني أجده الآن كمطار يدخله أشخاص بجنسيات عديدة، وقد تتأخر رحلتهم فينامون على أحد الكراسي، يمررون الوقت في الأكل والشرب ريثما يحين موعد الإقلاع..».
———————-
هشام تسمارت
المغاربة والمقاهِي .. هروب الساعات الطوال إلى الفرجة والتباهِي
صباحُ السبتِ يبطئُ عجلةَ الحيَاة فِي سلا، وَالزمن تخطَّى ساعته العاشرة، قُبالة شارع محمدٍ الخامس، بتابْرِيكتْ، كانَ أيُّوب فِي انتظَار مجموعة من أصدقائهِ، اتخذُوا منذُ مدة لا بأس بها، مقهى “الذهيبات” قربَ محطة الترام، ملتقًى للخوضِ فِي كلِّ شيءٍ، من بداية الأسبُوع حتَّى متمه، بإثارة كافة الأجندة، بدءً من الشخصِّي، وُصُولًا إلى مشاوراتِ الحكومة ومخاضها، الذِي تكللَ بمَوْلُودٍ ثانٍ، قبل أسبوعٍ.
مقهىَ وساعاتٌ وأجندة
يلتئمُ مجلس الأصدقاء، بخمستهم، يلازمُ أحدهم المكان، فيما يقوم الآخرون إلى المخبزة المقابلة للمقهَى، لإحضار حَلوى للفطور، المكان يغصُّ شيئًا فشيئًا باقتراب الزوَال، إلى أنْ يصبحُ القادمُ إليه بعد ساعات، فِي حاجةٍ إيجاد كرسيِّ كما لوْ أنهُ مسؤول ضاعَ منهُ منصبه. تمضِي الساعة الأولَى، فتنتهي الثانيَة، المجمُوعة لا تزَالُ فِي مكانها، والنادلُ الذِي أضحَى زبناؤهُ الشباب بمثابة أصدقاء له، يدللُ الزبناء بإحضارَ قنينة ماء إضافية كلما نفذتِ الأولى.
محمد، الذِي يُلقبه أصدقائه بالسيمُو، يقولُ فِي حديثٍ لهسبريس، إنهُ من أتى بأصدقائه، أولَ مرةٍ إلى الفضاء، الذِي دأب على ارتياده منذُ سنوات، لوقوعه على مقربة من العمارة التِي يسكنها، مضيفًا أنَّ المقهَى أضحتْ شيئاً حميميًّا بالنسبة إليه، ولَمْ يعُدْ قادرًا على أنْ يبرحهُ صوبَ فضَاءٍ آخر، وإنْ بدَا أكثر ترفًا.
ابن مدينة الخنيفرة، الذِي يعملُ بالرباط، حريصٌ على الاتصال بأصدقائه متى ما تأخرُوا عن المجيء، فضْلًا عن كونه مهندسًا للمواقع التي ينبغِي اختيارها للجلوس، يتحاشَى الحديث فِي السياسة، لعمله في مجال المعلوميات، حين يشرعُ صديقاه الطالبان، بماستر القانون، فِي إثارة أزمات الحكومة.
المقاهِي..اكتساح النسوة
المشهدُ المنقُول من الذهيبات فِي تابرِيكتْ، ينسحبُ فِي سلا كما فِي مدن أخرى، على شرائح واسعةٍ من المغاربة، لا يمكنُ أنْ ينقضيَ نهارهَا، دونَ جلسة فِي المقهَى، سواءً على انفراد لتصفح جريدة، أوْ رفقة “تجمع” لتبادلِ الأحادِيث.
مع تحولٍ بدأَ يكتسحُ مدنًا كثيرة في المغرب، بعدما كانَ يسببُ الحرجَ فيما مضَى، وهُو اقتحامُ الفتيات للمقاهِي، سواء كنَادلاتٍ يحضرنَ طلبات الزبائن، أوْ يدخلنه زبوناتٍ، ليحتسين القهوة، ويدخنَ بعض السجائر إنْ كنَّ من المدخنات.
“كفتاة، لا مشكل لدَيَّ مع الجلوس فِي المقهَى، رفقة أصدقائِي في وقتِ الفراغ، حيثُ نبحثُ عن مقهًى هادئ، ومحترم، بعيدا عن المقاهِي الشعبيَّة.. فلمقهَى بالنسبة إليَّ فضاءٌ محترمٌ، لتبادل الحديث والآراء مع الأصدقاء، حيثُه إنهُ يخلقُ رفقة الأصدقاء جوًّا ممتعًا”، تقولُ إكرام، هيَ طالبةٌ تتابعُ دراستها بكليَّة العلوم القانونية والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة أكدال.
إكرام تضيفُ فِي حديثٍ لهسبريس “فِي المدن الداخليَّة كالرباط والدَّار البيضاء، باتَ ارتيادُ الفتياتِ للمقاهِي أمرًا عاديًا، لكنَ فِي مدينة، كالناظور، التِي أنحدرُ منها، لا يزال دخوليَ المقهى معَ أصدقائِي من الفتية، شيئاً صعبًا، أوْ أنَّ هذَا ما ألاحُظُهُ أنا. إكرام تستطردُ بالقول إنَّ ارتيادَ المقاهِي أضحى عادةً سيئة لقتل الوقت لدى المتقاعِدين، وفئة كبيرة من الشباب العاطل، الذِي يجدها وسيلة لتزجية الوقت والهروب من المسؤوليات الواقعة على عاتقهم.
“جدلية البيت والمقهَى”
من زاوية العلوم الإنسانيَّة، يرَى الأستاذُ الباحث في علم النفس، مصطفى شكدالِي، أنَّهُ لا يمكن فهم المكانة التي تحتلها المقهى في الحياة اليومية إلا بالرجوع إلى فضاء آخر، هو البيت العائلي، الذِي هاجرت مجموعة من أدواره باتجاه فضاء المقهى، وفي مقدمتها “وظيفة” الأكل مع باقي أفراد العائلة. فمن ثمة يمكن أن نفترض أن المقهى بهذا الخصوص، نتيجة للتحول الذي يعرفه فضاء البيت العائلي، والذي يخضع بدوره لمتغيرات أخرى في مقدمتها تلك المرتبطة بالعمل (عمل المرأة خارج البيت) والعلاقة مع ديناميكية الوقت (الوقت المستمر).
شكدَالِي: المقهى شكلٌ من أشكال اللجوء
يذهب الباحث في سياق رصد ما يعرفه المجتمع المغربي من تحولات على مستوى نمط الحياة والقيم الاجتماعية والفردية المرافقة لها؛ إلىأ نَّ هناك مجموعة من ” الظواهر” ولتي قد تبدو دون أهمية، للعين غير متفحصة، لفهم وتفسير بعض من جوانب هذه التحولات. من ضمنها؛ ظاهرة ارتياد المقاهي إلى درجة أنها أصبحت لدى الكثيرين من روادها، الفضاء المفضل الذي يقضون فيه معظم أوقاتهم. فالمقهى التي كانت أدوارها في الماضي محدودة في احتساء المشروبات و لقاءات عابرة أصبحت اليوم تأخذ مكانة ” مركزية” كنمط في الحياة من خلال الخدمات المتنوعة التي تقدمها. يقول شكدالِي
“هويَّة المقهَى”
أمَّا على مستوى الدلالة السيكولوجية، فيما يخص تعويض البيت بالمقهى، فيرى شكدالِي، في حديث لهسبريس، أنَّ الأخيرة أضحت تحمل دلالة “هوياتية”، ففي الوقت الذي كنا نقدم أنفسنا بعناوين بيوتنا، يقول المتحدث، أصبحنا نقدمها بأسماء المقاهي التي نتردد عليها. وفي ذلك إشارة قوية بخصوص التحول على مستوى الانتماء.
تروِيح وفرجَة وسياسة
الأكاديميُّ المغربيُّ يردفُ أنَّ للمقهى دورًا ترويحيا، وفي ذلك قراءة مكملة لسابقتها؛ متسائلاً؛ هل نلجأ إليها بطريقة مدمنة لأن بيوتنا لا توفر لنا إمكانية الترويح عن النفس ؟ أمْ أننا نقصدُ المقهى لاجئين من “التوتُّر” الذي تعرفه بيوتنا بحثًا عن لحظات شاردة؟
شكدالِي يرَى فِي أسئلته، إشارة قوية إلى وضع فرضية تفسيرية بخصوص الترويح بين فضائي البيت والمقهى أو بكيفيَّة تفسير “جاذبية” الأخيرة قياسًا بِفضاء البيت الأسري؟
في سياقٍ ذِي صلة، يرصدُ الباحثُ كونَ المقهى فضاء للفرجة الجماعية، عن طريق التيلفيزون، خاصة كرة القدم، التي تحظى بشعبية كبيرة إلى درجة تتحول معها أغلب المقاهي لملاعب مصغرة تدفع بمرتاديها لمعانقة هوية “مستوردة” من خلال تشجيع فرق بعيدة عن المكان والزمان. بحيث إن الطقوس الفرجوية وما يرافقها من تعاليق منفلتة للمراقبة داخل العائلة لا يمكن ممارستها إلا داخل المقهى. يقول شكدالِي، وعليه فإنها تضحِي بمثابة فضاء للتفريغ والتنفيس عن المكبوتات مادامت في ذهن مرتديها “فضاء لا أحد”.
وزيادةً على الفرجة، يزيد شكدالِي أن المقهى تتحول أيضًا إلى فضاء “للمنتديات” السياسية ومتابعة الأحداث الوطنية والدولية، وهي بذلك مكان ينزاح فيه الفعل عن فضاء ممارسته ليصبح انفعالا.
مقهى الهامش ومقهَى الواجهة
بيدَ أنهُ لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نتحدث عن السلوكات المرافقة لارتياد المقاهي بصيغة المفرد، يقول الباحث، مادامت تختزل وتقدم عينات مختلفة من المرتادين تصلح للبحث والتقصي بخصوص التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي .فالمقاهي، خاصة تلك المنتشرة بكثافة في الأحياء الهامشية بمختلف المدن والقرى المغربية، يمكن النظر إليها باعتبارها قاعات للانتظار هروبا من البطالة وتعويضا للفضاءات الثقافية والترفيهية المفقودة . بحيث إن انتشارها بقوة كأنما يعبر عن حاجة ضرورية ” لتوازن” المجتمع إلى درجة تحولت معه مدننا إلى مجموعة مقاهي.
وبما أنه لا يمكن تقديم المقهى بصيغة المفرد، حسب المتحدث، من حيث أدوارها فهناك كذلك تراتبية على مستوى التباهي الاجتماعي. فالمقهى التي توجد في واجهة المدينة والأسماء التي تحمل، غالبا ما تكون مستوردة، علاوة على كون الأثمنة المعتمدة تعطي علامة ” التميز ” لزبنائها.
بحيث إنَّ مقاربة المقاهي انطلاقا من موقعها الذي تحتله، بين مركز المدينة ومحيطها، ومن خلال الأسماء التي تحمل، كفيلة بأن تظهر الدلالات الرمزية لمختلف السلوكات المرافقة لارتيادها، يقول شكدَالِي. مضيفاً إنه إذا كانت مقاهِي الأحياء الهامشية تضطلعُ بدور قاعات الانتظار وحياة الوقت الفضفاض، فإن مقاهِي الواجهة، تلعبُ على العكس، دورا في التباهي الاجتماعي حتى ولو كان زائفا؛ إنه المكان “الأنسب” لعرض الأزياء والتفاخر بما نملك. في هذه الحالة، لا نرتاد المقهى لرؤية الآخرين بقدر ما نطمح لأن تتم رؤيتنا من طرفهم” يخلص أستاذ علم النفس.
“مدخلُ إلى البحث فِي المقاهِي”
في غضون ذلك، يختمُ الباحث كلامه بالقول إنَّ ما ذكر حول ارتياد المقاهي لا يعدو كونهُ مداخل ممكنة لقراءة الظاهرة على ضوء التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي، وهو ما يعني أنه لا مناص من البحث الميداني السوسيولوجي لاستنطاق الظاهرة في كل أبعادها؛ الظاهر والخفي”، يستنهضُ شكدَالِي همة البحث لدى زملائه
———————–
د. خالد غازي
مقاهي القاهرة .. كانت زمان !
هناك فرق شاسع، بين مقاهي زمان ومقاهي هذا الزمان.. الأولى كانت منارات للفكر التنويري، في الأدب والسياسة والإبداع، واكتسبت شهرتها من روادها.. أما مقاهي هذا الزمان، ليست أكثر من أماكن لاستهلاك الوقت، وتدخين الشيشة، وقلما تجد واحدة من هذه المقاهي، تؤدي نفس الدور، الذي كان لمقاهي زمان، اللهم إلا بعضها المتناثر في القاهرة ، والتي مازالت تستمد وجودها من شهرة زمان.
(1)
وقد عرفت مصر المقاهي في القرن التاسع عشر، أثناء فترة الحكم العثماني، وقد أحصى علي باشا مبارك في خططه 1027 قهوة في القاهرة في عام 1880، من بينها 232 قهوة في قسم الأزبكية،
و160 في بولاق وعابدين، فيما يتجاوز عددها الآن، أكثر من 17 ألف قهوة مرخصة، بخلاف مادون ترخيص ؛ وكان من بين هذه المقاهي، التي خرج منها رواد الفكر والابداع ، مقهى “البوستة” التي كان يرتادها جمال الدين الأفغاني، ومقهى “اللواء” المكان المفضل لشاعر النيل حافظ إبراهيم، “ومتاتيا” قبلة الفن المصري، وفي مقدمتهم نجيب الريحاني، والأديب العالمي نجيب محفوظ.. والآن قهوة “الفيشاوي” التي يرتادها بعض السياح والمقاهي أو “القهاوي” – كما يطلق عليها بالعامية المصرية – هي أماكن شرب القهوة، أطلق عليها في اللغة اللاتينية كلمة “كافيه” لتدل على المكان الذي تشرب فيه المشروبات، مثل الزنجبيل والقرفة والينسون، وكان الشاي – في القرن التاسع عشر- لا يقدم إلا في منازل رجال الطبقة العليا في المجتمع، والذي كانوا يتفننون في اختيار أنواعه، التي يستوردونها من إنجلترا.
إن المقاهي عالم كبير وواسع؛ وقهاوي القاهرة كانت ومازالت تنقسم إلى قسمين: أحدهما القهوة البلدية، والأخرى القهاوي الافرنجية، وهي التي أنشئت على نظام المقاهي الأوروبية، كما توجد القهاوي النوبية ، وتمثل وكالات أنباء للنوبيين في القاهرة، ويتداولون فيها أخبارهم وأخبار عائلاتهم، ولم يكن مباحاً جلوس النساء في القهاوي، حتى بعد ظهور الحركة النسائية في مصر.
(2)
وقد شاهدت القهاوي أشكالاً كثيرة من الفنون، خاصة قهاوي منطقة الأزبكية، ثم مقاهي روض الفرج وشارع عماد الدين فعرفت القهوة فن الأرغول، وهو من الفنون الشعبية القديمة، وكان له منشدون يجيدون الترنيم بالكلمات المعبرة عن هذه الأنغام، ومن ” الفنون القولية ” عرفت القهاوي فن ” القافية ” وهو عبارة عن مباراة كلامية بين شخصين، يطلب أحدهما من صاحبه أن يدخل معه في قافية، وعندها يقول الأول كلاماً لاذعاً يقول له الشخص الآخر “إشمعنى” وهي اختصار لكلمة “إيش معنى” فيرد عليه الشخص الأول رداً لاذعاً أيضاً، ومن شروط المباراة ألا يغضب أحد الطرفين مما يقال في المباراة، وقد اشتهرت قهوة بجوار جامع السيدة نفسية بهذا الفن القولي وكانت أقوالهم تنتشر في القاهرة، بالرغم من شخصياتهم غير المعروفة لأنهم كانوا من الهواة .. كما عرفت القهاوي فناً مهماً من الفنون التي اندثرت من حياتنا، وهو فن ” خيال الظل ” ورقصات النحل التي كانت تؤديها الغوازي، ورقصة النحلة هي رقصة من نوع ” الإستربتيز” الذي عرفته أوروبا في السنوات الأخيرة، وكانت الغوازي تؤدين هذه الرقصة على أنغام الموسيقى الصاخبة، وتمثل الغازية كأن “النحل” يلسعها، ثم تخلع ثيابها قطعة بعد قطعة تألماً من لسعات النحل الموهوم، وعندئذ يلقى عليها ملاءة كبيرة تغطي جسدها، بينما تقرع الطبول إيذاناً بانتهاء الرقصة، وقد أمر محمد علي والي مصر -وقتذاك- بمنع هذه الرقصة من قهاوي القاهرة، وكان فرمان المنع هذا أول قرار رقابي يصدر على الفنون في مصر في العصر الحديث.
(3)
أما قهوة “شعبان” وكانت موجودة بالحسين في مواجهة باب المسجد، فكان أشهر نجومها المطرب “محمد الكحلاوي” الذي ألق عليه مداح الرسول، وكان يجلس بالقرب من الجامع على الرصيف، ويحضر المعلم شعبان الكراسي والمناضد الصغيرة له ولمستمعيه ، أما فن السيرة الشعبية فكانت هناك قهاوي لها شاعر يروي قصص شعبية، مثل عنترة والظاهر بيبرس وأبو زيد الهلالي، ومن هذه القهاوي قهوة بشارع المجربحي بالقلعة، وقهوة في عابدين وأخرى في حي معروف، لها شاعر ينشد سيرة أبو زيد الهلالي بالعربية واليونانية، وكان الشاعر لا يتقاضى أجراً من صاحب القهوة، ولكنه يحصل على مكافأة من الزبائن، ويشرب المشروبات أو يدخن النرجيلة على حسابهم، كما أن صاحب القهوة لم يتقاضى أجراً للسماع، بل يكتفيي برواج القهوة وكثرة زبائنها.. وكانت هناك فنون أخرى، مثل فن صراع الديوك الهندية، فيحضر كل واحد من الزبائن ديكه، ويتصارع في الحلبة ديكان، ويتراهن الزبائن على فوز أحدهما، ولقد منعت الحكومة هذا الرهان، لقيام المشاجرات بين المتراهنين من جمهور القهوة .. أما قهوة “الفن” في شارع عماد الدين، أمام مسرح الريحاني، فكان يجلس فيها سيد درويش ونجيب الريحاني وزكي طليمات والسيدة رزواليوسف، وغيرهم الكثير.
(4)
وقد لعبت المقهى دوراً هاماً في عالم الصحافة والأدب، من أشهر هذه القهاوي قهوة “أفندية” في حي الأزهر، وكان روادها من الأفندية أصحاب الطرابيش، ولا مانع من جلوس المشايخ فيها ، ومن أشهر أدبائها الشاعر الثائر البليغ عبدالله باشا فكري، وكان نجم قهوة “الفيشاوي” الشاعر البائس عبدالحميد أديب، الذي كان ينام على دكة خشبية في القهوة، وإذا تكسرت ضلوعه من قسوة النوم على الشخب لجأ إلى جامع الحسين ونام على السجاد في أحد أركانه، كما ارتاد الشاعر الظريف كامل الشناوي هذه القهوة، وكان له فيها مواقف طريفة، وتوالت أجيال الأدب على القهوة، ومنهم نجيب محفوظ ومصطفى أمين وأخوه علي أمين، وجمال الغيطاني، أما مقهى “اللواء” فمن أشهر رواده، شاعر النيل حافظ ابراهيم والشيخ عبدالعزيز البشري، الذي كان دائماً يقف على الباب يترقب قدوم صاحبه حافظ إبراهيم، ومنهم عبدالقادر المازني ود. محمد حسين هيكل باشا.. أما رجال الصحافة فكانت قهوة “اللواء” مكان التقائهم، حتى أن كبار محرري الأهرام، الذي كان مبناها القديم مواجهاً للمقهى، كانوا يتركون مكاتبهم ويحررون الجريدة على الموائد، حيث تسمع وتصنع الأخبار، وكتب محمود أبو الوفا أشهر قصيدة هجاء في الغرابلي باشا وزير الأوقاف، وقبض ثمناً لها عشرة جنيهات بالتمام والكمال- وهو جالس في المقهي – والأكثر من ذلك أن رواد المقهى اتفقوا مع “فليكس سدارس” صحاب سكة حديد حلوان، على استئجار قطار ينقلهم من باب اللوق إلى حلوان، بعد قضاء سهرتهم التي كانت تستمر في القطار نفسه حتى الصباح، ومن ألمع شخصيات مقهى “اللواء” الدكتور محمود عزمي الصحفي الشهير، الذي أنشأ قسم الصحافة في كلية الآداب، وكان يجلس على القهوة مع زوجته الروسية.
(5)
أما مقهى “الكتبخانة” المواجهة لمبنى دار الكتب، فكانت المكتب الرئيسي لحافظ إبراهيم وكيل دار الكتب، لأن سلالم دار الكتب عالية صعبة الارتقاء، وكانوا يحضرون له الأوراق الرسمية، التي يجب أن يوقع عليها في المقهى ؛ وفي شارع محمد علي كانت قهوة ” العالية”، ولها سلالم تصعد إليها وكان روادها من أبناء حي الحلمية والمغربلين والقلعة وعابدين، وكان القهوجي يعرفهم واحداً واحداً، ويطرد أي غريب من القهوة بلياقة، ومن أشهر روادها الشاعر محمد الهراوي، والشاعر الشيخ محمد الأسمر، والأستاذ محمد الخشاب، والد د. يحيى الخشاب؛ أما الدكتور زكي مبارك فكان يجلس على ميدان التوفيقية، وألف فيها أشهر قصائده، وكان مقهى “أبو شنب فضة” وهو يوناني الأصل مكان التقاء مندوبي الصحف، بسبب قربها من رئاسة مجلس الوزارة في ميدان لاظوغلي ومن مبنى الداخلية مكتب الأفغاني ولم تشتهر قهوة في تاريخ الفكر المصري الحديث مثل قهوة “البوستة” بميدان العتبة الخضراء، وترجع شهرتها إلى الشيخ جمال الدين الأفغاني، الذي اتخذها مكاناً للقاء تلاميذه ومريديه، وكان سبب تسميتها بهذا الأسم، هو قربها من ” مصلحة البريد” وكان الأفغاني يجلس في صدر المقهى، وتتألف حوله نصف دائرة من مريديه، ويسألونه أدق المسائل، وكان يمضي الليل في القهوة حتى يبزغ النهار، وكان من عادته أن يدفع لصاحب المقهى كل حساب جلسائه، الذين أصبحوا فيما بعد أعلاماً للنهضة الحديثة، مثل محمد عبده، سعد زغلول، محمود سامي البارودي، إبراهيم المويلحي وغيرهم الكثير، وفي ليلة من ليالي جمال الدين الأفغاني خرج من القهوة من ليلاً، وقبض عليه هو وخادمه “أبو تراب” واقتادتهما الشرطة إلى السويس، حيث نفى الشيخ إلى الهند في عهد الخديوي توفيق، ولقد تحول اسم هذه القهوة إلي اسم “متانيا”، وقال فيها بييرم التونسي زجلاً جميلاً.
(6)
وكان مقهى “الأنجلو” ويشغل مكانها حالياً البنك المركزي المصري في شارع شريف مقرا رجال السياسة، وعلى موائده تتشكل الوزارات، وتسقط وتحاك الخطط والمؤامرات السياسية ، وكان باشوات مصر يلتقون في هذا المقهى، على غير موعد، لأنهم كانوا من أحزاب مختلفة، يجمعهم السهر والمناقشة متحابين في المساء، ومتحاربين في الصباح، ولم يكن الطلبة يرتادون هذه المقاهي، لأن موائده كانت محجوزة، وكل باشا له مزاجه الخاص، وله “شلته” التي تتجمع حوله، وفي كل صباح كان حسن فهمي رفعت باشا وكيل الداخلية، يذهب إلى مقهى “الأنجلو” ليشرب فنجان القهوة، ويلتقي برجل مهم اسمه الشيخ رويتر، ينقل الأخبار ثم يذهب إلى مكتبه بالوزارة مشياً على قدميه، من شارع شريف إلى شارع الشيخ ريحان، ثم يضع الباشا خططه طبقاً لتقرير الشيخ صالح رويتر؛ وإلى جانب القهاوي العامة، هناك قهاوي للطوائف المختلفة من الحرفيين، فهناك قهاوي لعمال المعمار وللمنجدين وللجزارين وللكومبارس، وغيرهم من أرباب الصناعات أو الحرف، ولقد اندثر منها الكثير.
* جريدة ( صوت البلد )
———————–
ايوب خداج
مقاهي قصر الحمراء قلب بيروت النابض بالمثقفين
يرى المثقفون ان المقاهي هي رئة المدينة ومرآتها فمن خلالها يمكن مشاهدة أحوال الناس والاطلاع على افكارهم ونشاطهم فضلا عن انها تعكس حيوية المدينة ونمط الحياة فيها.
وتتميز المقاهي في لبنان عموما بانها اصبحت ملتقى المفكرين والسياسيين على السواء ومساحة التقاء الناس من مختلف المشارب والفئات والاهتمامات .
الا ان المقاهي بروادها المثقفين وغيرهم اخذت منذ العام 2003 تغيب عن شارع الحمراء في العاصمة بيروت وتتراجع امام زحف المحال التجارية مهددة رمزية الشارع الذي اختزن ذكريات بيروت ومعها
لبنان.
وكان اقفال احد اشهر المقاهي في الحمراء تسبب حينها بـ”تظاهرة حضارية” نفذها رواده المثقفون وطلاب الجامعات وغيرهم مستنكرين الحال التي آلت اليها العاصمة الا ان اشتياق الشارع الى المقاهي وروادها الذين شكلوا جزءا من ذاكرته اعادها اليه فعادت له الحياة.
وتختصر منطقة الحمراء لبنان بتلاوينه وتعدد اوجهه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فهو الذي كان مزدحما بدور السينما والمكتبات ودور النشر ومحلات الموضة والازياء والمحاط بالجامعات وابرزها الجامعة
الأميركية في بيروت واللبنانية الاميركية الحارستان للعلم.
ونشأت منذ خمسينيات القرن الماضي علاقة وطيدة بين المثقفين وشارع الحمراء وارتبطت اسماء معروفة في عالم الثقافة والادب بمقاهيه امثال انسي الحاج وادونيس ومحمد الماغوط وسواهم.
وعن العلاقة بين المثقفين والمقاهي قال الشاعر والاديب بول شاوول الذي يرتاد مقاهي الحمراء منذ 40 عاما ان المثقفين يشكلون 10 بالمئة من رواد المقاهي و15 الى 20 بالمئة من الرواد الثابتين فيها.
واضاف “المثقف منح المقهى نكهة ثقافية منذ اربعينات القرن الماضي وصار المقهى مكانا متميزا بالوجود الثقافي وكأنه جزء من الحداثة الثقافية لان تردد المثقفين اليه ترافق مع نمو بيروت وضواحيها الاقتصادي المرتبط بالطبقة الوسطى والنمو الثقافي والديمقراطي”.
وقال ان المقهى يعتبر المكان الديمقراطي بامتياز ولهذا السبب “تغلق المقاهي في الحروب لأنها تسيس” موضحا انه مع اندلاع الحرب في لبنان قسمت المناطق وانعكس ذلك على المقاهي الا ان شارع الحمراء بمقاهيه ظل بعيدا عن هذه الانقسامات من خلال جمعه مختلف المشارب والانتماءات.
واعتبر شاوول ان هذه العلاقة بين المقهى والحداثة اعطت المثقف الذي هو صوت الحداثة هذه الهالة باعتباره في صدارة المقهى.
وعن تأثير المقهى في تحفيز مخيلة المثقفين قال شاوول الذي كان يجلس في احد مقاهي الحمراء والى جانبه جريدة وعدد من الكتب “ليس كل المثقفين الذين يرتادون المقهى يتكلمون بالثقافة وشؤونها فمنهم من يقصدها للقاء اصدقائه والتسامر معهم وهناك نوع اخر انا منهم يقصدونه للقراءة والكتابة وهي عادة فرنسية منذ زمن سارتر وهوغو”.
وحول الفرق بين المقاهي القديمة والجديدة قال شاوول “لقد تغيرت مفاهيم المقاهي اليوم واصبحت مفاهيم استهلاكية لم تعد تتسع كثيرا للمثقفين بسبب طابعها الذي يركز بشكل كبير على تقديم الاطباق والوجبات والاجواء المرافقة لذلك والديكور”.
وتابع “انه على الرغم من تغير طابع المقاهي فان هناك مثقفين لديهم امكنتهم وانا اعتبر ان المقهى بيتي الاول اذ ارتاده مرتين يوميا في اوقات لا تزدحم فيها الناس”.
ولفت الى انه عندما يقصد اي بلد فان اول ما يبحث عنه هو المقهى ولديه في كل من مصر وتونس وفرنسا مقاه محددة يرتادها باستمرار قائلا ان “المقاهي رئة المدينة”.
ورأى شاوول ان ما يميز المقاهي في شارع الحمراء عن سواها من المناطق اللبنانية انها لا تزال تمتلك لمسة ثقافية على الرغم من انتشار الطابع التجاري لافتا الى انه مع تكاثر المقاهي والمطاعم تنحسر المسارح والمكتبات.
من جانبه قال الشاعر والاعلامي زاهي وهبي “ان المقهى هو اكثر من مكان للتسلية وتمضية الوقت بل هو فسحة ابداعية للانتاج وما يميزها عن البيت والمكتب ان المثقف يشعر وكأنه متفرج على مجرى الحياة ولاعب فيها في الوقت نفسه”.
واعتبر ان المقهى مكان للحوار مع الاخر وهو من اكثر الاماكن ديمقراطية في لبنان لانه “لا يتعطل بفعل المقايضات والتسويات السياسية وجلساته مفتوحة تجمع مختلف المستويات والطبقات والانتماءات”.
وكشف وهبي الذي يرتاد مقاهي الحمراء منذ 25 عاما عن كتاب سيصدره قريبا يحمل عنوان “قهوة سادة في احوال المقهى البيروتي” وهو قراءة في احوال المدينة من خلال المقهى لانه امتداد للمدينة وتحولاتها.
وقال ان المقهى يشكل وجها من وجوه المدينة واحد الامكنة التي تعكس التحولات التي تطرأ على لبنان اذ بمجرد القيام بجولة عليها يمكن اكتشاف ما يحمله الجيل الجديد من افكار مختلفة ومتنوعة.
وعن تبدل طابع المقاهي وانتشار نمط حديث منها قال وهبي “المقاهي تشبه زمنها وكما لكل زمان دولة ورجال فلكل زمان مقاهيه وامكنته وهي تشبه كل مرحلة تمر بها البلاد” مشيرا الى التغير الذي طرأ على مفهوم المقهى في زمن العولمة فأصبح مذاق القهوة فيها مختلفا”.
واضاف ان المقاهي في بيروت لها ميزة خاصة لان العولمة وان بلغتها غير انها وبسبب صغرها ما تزال تحافظ على نوع من الحميمية التي تتمتع بها الارياف الى حد ما.
اما تميز مقاهي الحمراء على وجه الخصوص فان وهبي يعيده الى تصديها لمهام ثقافية حيث نشهد فيها نقاشا لكتب شعرية وامسيات شعرية وامسيات موسيقية غير استهلاكية.
واعتبر ان شارع الحمراء هو الشريان الرئيسي لبيروت وهو يتميز بالتنوع الاجتماعي والطائفي ومعظم من يرتاده هم من الطبقة المتوسطة الذين يقصدون الجامعات سواء طلاب واساتذة فضلا عن وجود مؤسسات صحافية مثل (السفير) و(النهار) ومؤسسات كبرى مثل (مصرف لبنان) ومستشفى الجامعة الاميركية ما يجعل الروح المدنية عالية ويجعل من هذا التنوع مصدرا لخلق الحياة.
وشدد وهبي على ان التنوع المدني الذي تكتنزه منطقة الحمراء والارث التاريخي لها جعل مقاهيها تستعيد رونقها وتشهد الاقبال الكبير عليها بعد غياب لسنوات. (كونا)
لا اعرف كيف اثمن هذا البحث الرائع انة يثير الشجون العمر يجري وتبقى الذكريات والاصدقاء الف شكر لكم