.. وحده يمشي كعادته على الرصيف لا يسترق نظرا إلى أحد ، يعرف القادم من ظله الممتد فيتنحى مطأطئ الرأس ، يسترجع مقولات لدوستويفسكي وكافكا ونيتشه وفوكووغيرهم ، فقد منحته قراءاته نوعا من التعالي على الآخرين ، فكان لا يحدث إلا نفسه ، متبرم ، ساخط ، يكره كل شيء من حوله ، إلا مكتبه الصغير الذي تركه مكدسا بمسودات يكتب عليها هذه القصة ، يعصر فيها كل الفكر الذي قرأه من اليونان إلى هايدجر وراسل ، لكنه كان يدرك ألا أحد يستطيع أن يفك رموز فلسفته الملونة كجناح فراشة ..
يترك الرصيف مبتعدا عن الآدميين فظلالهم تذكره بكهف أفلاطون ، فيهرب بعيدا حتى لا يتشكل فيلسوفا يفك الأغلال من الأيادي ، إنه لا يريد ان يعيد نفس الخطأ الذي ارتكبه الفيلسوف في كهفه المظلم ..، يصل إلى ساحة واسعة خالية من الأحياء ، لاشيء فيها غير دمدمة ريح تعوي في سكون المساء ، أبصر صخرة كان يريد ان يتخذها موضعا للجلوس فقال : سيزيف حتى أنت ، تختبئ داخل الصخرة ألم يتعبك الصعود والنزول؟! ، فصرف بصره عنها وأرسل الطرف بعيدا في الأفق يتأمل حركة الشمس وهي تنحدر نحو المغيب ، سار بخطوات قصيرة في المكان الخالي الذي كان كشبه دائرة صامتة إلا من أفكارتتزاحم في رأسه ودمدمة ريح تذرو حبات التراب ..، شيء ثقيل أحسه من الخلف وضع على كتفه الأيمن ، أوقف حركته البطيئة ، التفت هلعا في لمح البصر وهو يتراجع القهقرى ، تفرس بعينيه الغائرتين اللتين أنهكتهما قراءات مطولة لصفحات لا تنتهي ، نظرإلى الأعلى فإذا هو خيال بشري سابح في الهواء ، ارتعدت فرائصه وتفصد جبينه عرقا، فقال : لا تخف ، أنا سيزيف كم كنت مشوقا إلى محاورة مع أحدهم ، فمنذ أن حكمت علي الآلهة لم أحدث أحدا؟
لم يصدق الرجل ما يسمع وتهيأ نفسه بين كتبه يسافر عبر الأسطورة وخيالها وعبر الحكاية وسردها ، فابتعد الخيال قليلا وهو يرتفع أكثر في الهواء مع الريح وقال : ألم تصدق أني سيزيف ، إني لست وحدي فالعالم في كل صخوره يخفي سيزيفات لاتعد ولا تحصى .
الرجل: لكنني أعلم ان سيزيف مجرد أسطورة وليس واقعا ؟
سيزيف ( ضاحكا) : ها هنا مكمن الوهم في عالمكم ، لم يستطع إنسان هذا العصر رغم ثورة العلم أن يفصل بين الأسطورة والواقع ، أعلم أنك وغيرك من المتعلمين فهمتم أني رمز للعذاب الأبدي حين كلفت أن أحمل الصخرة إلى أعلى الجبل ثم أدحرجها وأعود من جديد لحملها ، إلا أنكم لم تشعروا أنني كنت أجد في ذلك متعة ما دام أني لا زلت على قيد الحياة .
الرجل : أتقصد أنك يا سيزيف كنت تجد سعادة في عذابك وأنت تحمل الصخرة
قاطعه سيزيف وقال: أجل ، لا سعادة في الحياة من غير معاناة أيها الكاتب .
الرجل : وكيف عرفت أنني كاتب يا سيزيف ؟
سيزيف ضاحكا بأعلى صوته : وهل يجهل أهل الكتابة يا رجل ؟
الرجل : وهل لهم من علامات يتميزون بها عن الناس ؟
سيزيف : طول تأمل ، وحوار نفس ، ومخاطبة الأشياء من حولهم كما فعلت قبل قليل حينما أذكرتك الصخرة التي تركتها إياي .
الرجل : إن في هذه الأشياء كلها معاناة تفسدها مخالطة الناس ، غير أن ما أستغرب له أكثر هو أنك يا سيزيف احتلت على إله الموت ” ثانتوس” فكبلته بالأغلال لتمنع الموت عن الناس ، ألهذه الدرجة كنت تحب الحياة ؟
سيزيف : جيد أنك سألت هذا السؤال ، كل الناس متمسكون بغريزة البقاء ، وموتهم مجلبة للأحزان لأقربائهم ، ولابد أن منع ثانتوس من إماتة الناس سيمنحهم متعة الحياة فيعيشون مطمئنين غير خائفين من كيد “ثانتوس”
الرجل: لكن الآلهة الأولمبية عاقبتك لهذا الفعل لأنه مناف للطبيعة في الوجود.
سيزيف: أرجوك لا تذكرني ، فقد كانت نيتي طيبة وعوقبت على هذه الطيبة ، لكنني استطعت أن أخلق السعادة ولو كان ظاهر ذلك مستحيلا .
الرجل : إذن أفهم من كلامك يا سيزيف أننا نستطيع أن نولد السعادة من رحم المعاناة .
سيزيف : نعم أيها الكاتب ، اخلق المعاناة من تلقاء نفسك تعش سعيدا.
انطلق الخيال البشري بعيدا في الأفق حتى حال إلى نقطة صغيرة اختفت في الشفق البعيد ، وأخذ الرجل يسترجع سطور المحاورة الغريبة التي تركته في حالة ذهول يطرح أسئلته الحائرة : أحقا خيال سيزيف عاد من مخبئه ؟ أم أنني كنت أهذي هذيان من تاهت عنه الأفكار؟
صرف عنه الأفكار وحاول تصفية ذهنه وحشر نفسه في الصفوف البشرية على الرصيف يتملى في الوجوه والأجساد ، فلم تعد هناك ظلال هذه المرة ، لقد أغطش الليل وأضاءت مصابيح الطريق ، يتلامس جسمه الممتلئ بغيره من المارة أحيانا ، وجد لذلك طعما غريبا وسط الأحياء كان بمذاق مختلف عن خيال بشري هائم في السماء ..، مضى نحو بيته الصغير ، المكتب تتراص فوقه كتب وعليه أوراق كان يكتب عليها مسرحية عن سيزيف ، توقف في الفصل ما قبل الأخير وكان لابد أن ينهيه بالحديث عن المعاناة وعبثية الحياة عند ألبير كامو ، تلك العبثية التي أحسها عند ملامسته للأجساد ورؤيته للظلال حين كان غاديا ورائحا عبر الرصيف .