بلا شك، أن الظروف الصعبة، هي التي تنتج أدباً رصيناً، ولا أعتقد أن هناك ظروفاً صعبة كالتي مرّت على العراق، البلد الذي أعيش فيه، ويمكن تلخيص تلك الظروف بثلاث كلمات (حروب/حصار/هجرة) وأكثر ما عانيناه، نحن أدباء الجيل الضائع، جيل السبعينيات، حيث كان النقد منشغلاً بالمنجز الأدبي لأدباء فترة الخمسينيات والستينيات، فيما نحن، والجيل الذي جاء بعدنا، الثمانيني، بقينا على الهامش الا ما ندر. تلك الظروف جعلتنا أن نبحث عن طرق جديدة للتعبير عن أنفسنا، وللتواصل مع الآخر، حيث كانت المؤسسة الثقافية الحكومية الممثلة بوزارة الثقافة والاعلام آنذاك متجهة نحو أدب المعركة، وشحذ همم المقاتلين الذين خاضوا حرباً ضروساً امتدت لثماني سنوات لحقتها حرب أخرى! وهذا واضح جداً للمتتبع لنتاجات الأدباء العراقيين حيث تجد كل ما يتعلق بالحرب من قتل وبؤس في كل منجز من جنس أدبي سواء قصة أو شعر أو رواية أو نص مسرحي. ومن الطرق التي حققناها في تلك الفترة ما يمكن تسميته بأدب الاستنساخ، وهي طريقة بسيطة في طباعة كتبنا من خلال الآلة الكاتبة وأجهزة الاستنساخ (الريزو) فيما يتم طباعة الغلاف بطريقة السلك سكرين، وهي طباعة يدوية تستخدم مواداً بسيطة بلون واحد أو عدة ألوان، ويمر تجهيز الكتاب بعدة مراحل لا مجال لذكرها ثم يتم توزيعه بنسخ قليلة للأصدقاء ومحبي الأدب. وكتجربة شخصية طبعت كتابي الشعري الثاني (مخابئ) بهذه الطريقة، كذلك أصدرت مع فريق شبابي آنذاك مطبوع (بويب الثقافي) وهو مجلة أدبية ثقافية تم توزيع بعض النسخ لأصدقائنا خارج العراق حينما كانوا يشاركون في مهرجان المربد الشعري ومنهم الشاعرة الفلسطينية مريم الصيفي ومدير بيت الشعر الفلسطيني فضلا عن إرسال نسخة منها بالبريد العادي الى عناوين الأصدقاء.
في تلك المرحلة الصعبة، كنا، نحن أدباء العراق، محاصرين فعلا، ولم نستطع الحصول على إصدارات الزملاء الأدباء العرب، ولم يصلنا منهم الا ما ندر، وكنا نتداول بعض الكتب فيما بيننا ونتناقلها مثل منشور سرّي! حيث كانت الرقابة صارمة وقاسية، خاصة فيما يتعلق بكتب أدباء كانت تعتبرهم السلطة آنذاك مناوئين لها. حتى الانترنت، الذي وصل الينا متأخراً، كان من الصعوبة الوصول اليه، فكل شيء كان مراقباً.
وفي تجربة شخصية، تعرفت على الأدب المغربي من خلال صديقي القاص والناقد نقوس المهدي حيث كنا نتراسل من خلال صندوق البريد العادي، وكانت الفترة الزمنية ما بين رسالة وأخرى لا تقل عن الشهر. كانت دائرة البريد هي نافذتنا للتواصل مع أصدقائنا، ومن خلال الصديق المهدي تعرفت على الواقع الثقافي والأدبي في المغرب، ونشرت في موقعي الشخصي بعض تلك الرسائل التي كنا نتبادلها، ويمكن الاطلاع عليها كمادة تأريخية لحقبة زمنية صعبة، في تلك الفترة كان المقهى الشعبي يجمعنا حيث كنت أجلس ويجلس معي بعض الأصدقاء وأقرأ لهم ما يصلني من خارج العراق. هذه كانت علاقتي بالأدب المغربي، وبعد الحدث الكبير الذي حصل في العراق والغزو الأمريكي عام 2003 أنفتح أمامنا أفق جديد، وشرّعت الأبواب للتواصل مع العالم من خلال الانترنت، وإمكانية السفر بلا قيود، والمكتبات التي احتوت على جميع الكتب والمحظورة منها على وجه الخصوص، ووصلتنا الإصدارات الجديدة لكتّاب كنّا نقرأ لهم، وفيما يتعلق بالمغرب البلد الذي أحببته وانشغلت فيه، اطلعت على كتابات الروائي الكبير محمد شكري وروايته الشهيرة (الخبز الحافي) بطبعتها العربية، ومذكراته مع جان جنيه وبول بولز وتينسي وليامز، وما قرّبني منه هو عالمه الهامشي، وتلك الوجوه المنسيّة التي يثبّتها قلمه، واطلعت أيضاً على كتّاب مغاربة أمثال الطاهر بن جلون في روايته (تلك العتمة الباهرة) التي ترجمها بسّام حجّار في دار الساقي ببيروت عام 2002، وأطلعنا على المسرحي الكبير الطيب الصديقي والشاعر عبد الكريم الطبال والقاص محمد زفزاف ولغته الشعرية الجميلة، وأدباء آخرين، فضلا عن كتابات صديقي المقرّب نقوس المهدي والذي عرّفني فيما بعد بأخي الشاعر والفنان التشكيلي الراحل الطيبي البوعناني، كما اطلعت على كتابات الصديقة الروائية ليلى مهيدرة وتفننها في الإمساك بمحور القص ولغتها السلسة الشيّقة.
- مونودراما إدريس الخوري كاتب استثنائي
مشروع مسرحية (با إدريس كاتب استثنائي) كان بمقترح من الصديقة النشيطة الروائية ليلى مهيدرة حيث أخبرتني وبوازع شخصي منها أنها وتقديراً لمنجز القاص الكبير الراحل إدريس الخوري ستقوم بتكريمه بطريقة يستحقها وطلبت مني المشاركة في هذا التكريم بكتابة نص مسرحي عن هذه القامة الأدبية، وهذا بحدّ ذاته شرف لي في أن أحيي ذكرى الخوري الذي لم يكن بعيداً عني، فهو شخصية تشبهني الى حد بعيد في نظرتها للحياة، وفلسفتها، وهناك تفاصيل كثيرة وجدتها في حياته قريبة مني الى درجة أني أكتب عني لا عن كاتب تفصله عني آلاف الكيلومترات ما بين المشرق العربي والمغرب. أفكاره ورؤاه، طقوس الكتابة عنده، وجلساته في المقهى، وشخوص قصصه، والأماكن التي يستأنس فيها، كل ذلك جعلني أن أكون ملتصقاً به، بروحه وعلاقته مع الآخر. لهذا كانت شخصيته في المونودراما التي استدعيتها بتأنٍّ شديد، ودقّة متناهية، وتفاصيل منتقاة، كان فيها أجزاء مما عانيته، وعشته، وكأن تلك التفاصيل تذكرني بتفاصيل مضت من حياتي التي عشتها ما بين مسقط رأسي حتى الهجرة منه.
أنا على يقين أن للبيئة أثر كبير على الشخصية، فالشخصية تتأثر بما حولها، وتتقولب فيها، تأخذ من طباعها، ومواهبها، ومحظوظ ذاك الذي يستثمر كل ذلك فيما بعد ليكون شأنه كبيراً.. ما يربطني بشخصية الخوري، رحمه الله، كثير، البيئة التي ولد فيها، وأقصد البيئة الشعبية، والناس البسطاء، وان اختلفت الظروف هي قريبة الى البيئة التي ولدت فيها، وترعرعت، وقرأت فيها أول كتاب، وكتبت أول قصيدة فيها، وفي صباي كنت أتردد على المكتبات، أقرأ كل ما يسقط بين يدي، قصص وروايات وشعر وكتب سياسية التي قرّبتني من اليسار، لم أستغرب حين قرأت حواراً للخوري وهو يصف تلك المرحلة من حياته، يوم كان يرتاد المكتبات باحثاً عن كتب القصص والروايات وغيرها. وعلاقته بالمقاهي تجمعنا أيضاً، حيث كتبت في المقهى أغلب مسرحياتي ومنها مسرحية كاروك الحاصلة على الجائزة الأولى بمهرجان المسرح العراقي ببغداد عام 2001 وهي من إخراج البروفيسور حميد صابر الموسوي. كتب إدريس الخوري عن المقاهي الثقافية الأدبية: مقهى الفن السابع في الرباط ومقهى الرونيسانس بشارع الحسن الثاني المقابل لبنك المغرب ومقهى الكابيتول بمير سلطان. يقول الخوري في كتابه فم مزدوج: (اذ يجلس الكاتب في المقهى، ليقرا نصّه الأدبي ويحاور ويناقش، انما لإعطاء الكتاب شرعيّة مزدوجة، شرعية كونه كتاباً قائماً بذاته يجب أن يكون في كل بيت، وشرعيّة كاتبه أيضاً.). في مقاهي مدينة البصرة (جنوب العراق) كنّا نجلس، نحن أدباء المدينة، في مقهى سيد هاني الشعبي الواقع في زقاق من أزقّة شارع المطاعم المتفرّع من شارع الكويت بالعشّار، نقرأ كتباً مختلفة، ونتبادلها، نقرأ ما كتبناه ونناقشه، هناك كتبت مسرحياتي وقصائدي ورواية الطريق الى الملح الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة عام 2001. وفي جانب آخر، كتب الخوري عن كشك السي سعيد الصحراوي فوق الرصيف المفتوح على زنقة علال بن عبد الله وشارع الجيش الملكي في بداية الستينيات، وهذا يشبه الى حد كبير كشك ناصر أبو الجرايد الواقع في ساحة أم البروم الشهيرة بمنطقة العشار على شارع مالك بن دينار في مركز مدينة البصرة، وما بين كشك السي سعيد الصحراوي وكشك ناصر أبو الجرايد تتمثل الكتابة بأبهى صورها عن قاع المدينة، والناس المهمّشين المنسيين. مغرم أنا أيضاً بقاع المدينة، وأزقتها الشعبية، وأرى أنّ الرفاهيّة هي قناع سرعان ما يزول. لا بقاء الا للحقيقة.
أفكار القاص الكبير الراحل إدريس الخوري نابعة من إحساسه بالمكان، والتصاقه به. وارتباطه بالناس البسطاء، الهامشيين فهو يقول: (بدون معرفة الحياة لا تستقيم الكتابة أبداً) وهذه الحياة التي يقصدها، هي الصورة الحقيقية لكل الأشياء بدون استثناء، انسان ومكان وما يشغله، بدونها لا يمكن أن تكون هناك كتابة إبداعية. وفي مقال آخر يقول: (اننا نكتب بالصدفة ومن دون تخطيط مسبق) و(نكتب ونحن نفكر في الرقيب الذي يطلّ علينا من فوق رؤوسنا، نكتب ونحن نفكر في القفة وفي ايجار الشقّة، في النقّاد الشرسين الشبيهين بالمعلمين الذين يكررون نفس الدروس على التلاميذ، نكتب لا لنغيّر البنيات السائدة في المجتمع، ولكن لكي نكرسها بتبرير معطياتها).
في المسرحية، لم تكن هناك صعوبة من استقدام تلك الشخصية الاستثنائية المؤثرة ووضعها في قالب مونودرامي لتتحدث عن نفسها، صحيح أن هناك تشعبات كثيرة وانعطافات في حياة الشخصية، ومواقف مختلفة، لكني حاولت أن أتناول المهم والمثير والمؤثر فيها والذي يفصح عن دواخل الشخصية وما تفكر فيه، وما يعبر عن أحلامها وطموحاتها، هي شخصية مركّبة، معقدة، غير نمطية، في كل زاوية منها ثمّة فكرة لقصّة، وفي كل قصّة ثمة رسالة إنسانية، وجدت في هذه الشخصية مادة دسمة للتعبير عن الإنسان الحقيقي، الحامل لهموم الناس، الممتزج فيهم، والمعبّر عن أحلامهم وأفكارهم، شخصية مليئة بالأفكار، خالية من الحقد، هادئة وصاخبة في آن، ساكنة ومتحركة في وقت واحد، قد تبدو واضحة لأوّل وهلة، لكنك حين تغور في أعماقها ستجد الغموض الذي يحتاج الى مفاتيح لفكّ أحجيتها.
الحوار الذي استخدمته في المونودراما استقيت بعضه من حوارات ومقالات سابقة للخوري، لكنّي تصرّفت بها بما يلائم الفكرة ويوصلها للقارئ/المتلقي. النص المسرحي بُني على متبينات عرفها القريبون من الشخصية الرئيسة، وامتد النص بمستويين، افقي وعمودي، صراع الشخصية مع الذات (الداخلي)، وصراعها وعلاقتها مع الآخر (الخارجي)، حتى وإن كان هذا الآخر شخصية من شخوص قصصه. مثل: (كانت جميلة البيضاوية تلك تريد أن أصنع لها مستقبلا غير الذي دوّنته لها. تقول لي بنبرة خشنة: أريد مستقبلا جميلاً! (يضحك) الكاتب يا سيدتي لا ينحاز لشخوصه، النص يفرض عليه مصائر مختلفة حتى ان لم تسعده. هذا ما كررته على البيضاوية تلك، وأعيده على كل الشخوص التي توقظني من قيلولتي. الجميع يذهبون مقتنعين الا جميلة. هي لا تعرف معنى الفرح أو معنى القيلولة أو معنى الحب. تقف أمامي بجلابيتها الزرقاء الفضفاضة، تلك الجلابية التي ألبستها إيّاها، تمدّ أصبعها نحوي قائلة:
- لماذا أوقعتني في مصيدة صاحب المعمل القصير الاكرش…؟
هو نفس السؤال الذي راودني أنا أيضا.. لماذا أوقعتها في شرك ذاك الدنيء؟ تغادرني وصدى صوتها يصم أذنيّ:
- مالي يا ربّي مالي!).
الحياة التي كان يعيشها بكل تفاصيلها بين الأصدقاء الندماء، وتلك التي عاشها وحيداً، منفرداً، متعباً، يعاني من الوحدة والمرض، لا أحد يسأل عنه مبرراً ذلك بانشغال القريبين من أصدقائه بجمع النقود! في النص يرد (تلك المدينة التي تسكّعت في دروبها، وحاناتها، ومقاهيها، لم تعد سوى ورقة نقدية.. الكل فيها يلهث خلف النقود.).
الرجل والمرأة حضرا في النص، وتعمّدت أن تكون بعض الحوارات ساخرة مثل طريقته في التعبير عن كثير من الأمور، فهو القائل: (تعجبني السخرية وأعجبها، نتفاهم مع بعضنا البعض) وفي حديث آخر له يقول: (أنا كائن أميل الى السخرية) فالمرأة كما يصفها كائن حي دوني في مجتمع ذكوري، بينما الرجل داخل البيت ليس كالرجل في خارجه! في النص يقول: (فأنا لست الزوج المثالي الذي يدخل البيت في الوقت الذي تفرضه الزوجة، ما زلت أشرب القهوة خارج البيت، وأسهر الليل خارجه، وما زلت أعود متعبا مثل حصان. أنا داخل البيت ليس كخارجه، هنا رجل، وهناك رجل آخر!).
وهذا هو الحال ينطبق على حنين الشخصية للعودة للجذور، حيث الحي الذي شهد بداياته، فدرب غلف لم يكن حيّاً بسيطاً، انما كان مرجلاً لإنتاج الابداع، والوطنيين، هذا الحيّ تجده ماثلاً في النص المسرحي، وبصراحة، لا أخفي سرّاً اذ أقول إنه نفس الحنين الذي ينتابني لجذوري، للحي الذي قرات فيه أول حرف، لهذا كُتِبَ النصّ بدراية كاملة عمّا يدور بدواخل الشخصية.
مختصر القول، أن الكاتب الكبير إدريس الخوري، كاتب استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة، وقلم حر استطاع أن يضع الإنسان في محور كتابته الإبداعية، وهذا النص شرف كبير لي، وتتويجاً لكتاباتي، وأخص بالشكر والتقدير والاحترام لزميلتي الروائية المغربية ليلى مهيدرة التي كانت المحفّزة الأولى لكتابة نص مسرحي مونودراما يحكي سيرة حياة الكاتب الكبير الراحل إدريس الخوري رحمه الله تعالى.
العراق/البصرة
27-6-2022