الآن ترقى اجتماعيا . قطعت الإحصائيات دابر الشك باليقين بأنه أصبح يملك في جيبه عشرين درهما . رغم تجاوزه لعتبة الفقر ، فإنه فقد ذاكرته . لا يملك بيتا ، أو لا يتذكر أين كان يسكن . تزوج في الخيال حورية تفِيضْ جمالا . اعتاد النوم مع خيالها في العراء . لا يؤدي ثمن الكهرباء . كل مصابيح الأزقة والطرقات ملك له . عندما ينهض من تحت الجدار عليه أن يحمل متاعه . متاعه خفيف إلى درجة أنه لا يحتاج إلى حقيبة . مشكلته مع المرحاض . زوجته في الخيال منحها الله قدرة جعلتها مثل الملائكة ، لا تأكل ولا تلبس ولا تشرب ولا تلد ولا تذهب إلى مرحاض . تظهر بالقرب من نهر عارية كما ولدتها أمها ، تأكل من شجرة تفاح ، وتستر عورتها بورقة توت ، ويفوح منها عطر نفيس ، يكاد يطرد عنه الرائحة الكريهة المنبعثة من جسمه . يتمنى كل يوم لو اختطفته مع العشرين درهما إلى عالمها الدافئ . لكن هيهات ! بينه وبينها جسور دونها سبعة نجوم . عليه القتال في سوريا وليبيا والعراق ، أو التَزَنُّر بحزام ناسف . كل هذا الفضاء الممتد أمامه مرحاض . بالأمس كان الناس يُسقَوْن الماءَ بالمجان . اختفت هذه المآثر . بحث عن الماء بشكل مضن . لن يستحم ، ولن يغسل وجهه إلا إذا دفع ثمنا لذلك .
تحسس القروش في جيبه ، وفرك يديه من شدة البرد . درجات الحرارة انخفضت بشدة هذه الأيام . تحسس وجهه . هذه اللحية اللعينة لم يحلقها منذ مدة . يحك بشدة ذقنه . غبار يغطي شعر الرأس الذي نما هو الآخر بسرعة . إذا أراد حلقهما ، لا بد أن يتنازل عن العشرين درهما للحلاق ، وليفعل ذلك عليه أن يصوم يوما كاملا بليله ونهاره . سعل بقوة . بصق يمينا . دم أسود امتزج بلعابه . بصق يسارا . لا يذكر أنه دخل إلى مستشفى ، أو زار طبيبا ، أو اقتنى دواء من صيدلية .
فرك يديه من شدة البرد ، ووقف بجانب مطعم شعبي في الهواء الطلق بمحاذاة السور . ثلاثة كراسي خشبية مستطيلة فقدت لونها الأصلي أمام طاولة أعلى في الوسط ، تكاد تخفي صاحب المطعم بقامته القصيرة وجسمه البدين . بجانبه إبريق كبير من الشاي ، وقدر يغلي فوق النار ، وزجاجة من زيت الزيتون ، وبعض التوابل . وجبة من (البيصارة)* في صحن صغير مع قليل من زيت الزيتون ، وخبز من حجم صغير ، وكأس شاي بستة دراهم . في الشمال أضفوا عليها نكهة خاصة ، فنطقوها بلكنة اسبانية (لا بِّيصارْ) . تحسس جيبه . لم يغامر، ويجلس إلى جانب الزبائن . سيتناول فطوره في الخيال إلى جانب حوريته . اتجه إلى ساحة كبيرة . تخيل أنه اقتنى ثلاثة سجائر بثلاثة دراهم . انتصب واقفا إلى جانب حشد كبير من عمال الموقف ، يدخن وينتظر مثلهم قدوم شاحنات ، تُقلهم للعمل في الحقول المجاورة . انتظر حتى منتصف النهار . استهلك السجائر الثلاث . لن يذهب إلى المقهى . فهو بعد قليل سيضطر لشراء وجبة غذاء ، وعليه أن يوفر ثمنها .عاد إلى جانب المطعم . صحن صغير من العدس أو (اللوبية)* ، وقطعة خبز بعشرة دراهم . تحسس القروش في جيبه ، وتناول غذاءه في الخيال . ضحكت الحورية ، ولم تشاركه أكلة العدس . أحس بثقل في رأسه . لن يدخن . الميزانية المتبقية لا تسمح بشراء سجائر إضافية . أين سيقضي بقية الوقت ؟ إذا تحرك سيحرق المزيد من السعرات ، وسيحتاج في المساء إلى طعام أكثر ، ولم يتبق معه إلا درهم واحد ، ولن يستطع النوم مع الحورية ، وستسخر منه ، وتطعنه في رجولته .
في المساء شعر بالدوار . اختفت الحورية . أحس بالغثيان . تقيأ على رجلي سرواله حتى كادت أمعاؤه تخرج من حلقه . لم يستطع إنهاء الدور . اتجه صوب المُخرج . أعاد إليه دراهمه العشرين ، وطلب منه أن ينزل إلى الشارع ، ويجتاز عتبة الفقر بنفسه .
—-
المعجم :
ـ (البيصارة) : وجبة شعبية تُصنع من الفول الجاف ، يطبخ في الماء على النار ، ويضاف إليه الثوم والملح والكامون ، يُطحن بعد أن يذوب في الماء ، ويُعرض في إناء صغير مع زيت الزيتون والكامون والفلفل الحار والخبز .
ـ (اللوبيا) : الفاصوليا البيضاء.
مراكش في 01 فبراير 2018