كل أيام الأسبوع عادية إلا يوم الأحد، لأنه يوم عطلة، وينقضي بسرعة.
في الصباح قبل الساعة العاشرة بقليل، تتصاعد أصوات قادمة من الدرب إلى الصالة عبر كُوّة مُطلّة على الزقاق. رأسي ما زال فوق الوسادة.
أنام في صالة كبيرة تقع في الطابق الأول، تمتد على طول المنزل، مفروشة ومخصصة للضيوف. يُطلُّ بابها ونوافذها على شُرفة توازيها من حيث المساحة، وتنفتح على السماء إلى داخل المنزل.
في وسط جدارها الأيمن فتحة على شكل كُوّة بعرض خمسة سنتمترات، مفتوحة على الخارج، وتتوسع إلى الداخل لتتجاوز ثلاثين سنتمترا بطول نصف متر تقريبا. يمكن أن تطل منها على ثلثي الزقاق من غير أن يراك من في الخارج.
ـ ها الجريدات !
صوت امرأة سمراء نحيفة وطويلة القامة، يصعد إلى السماء مثل الطيور المهاجرة. ترتدي (تشطاطت)*، وتضع على رأسها شالا أزرق يميل إلى السواد. سحنتها توحي بأنها من أصول جنوبية. تحمل فوق رأسها كومة من سعف النخيل (الجريد). لصوتها نغمة خاصة، لا تُقلّدها أي امرأة أخرى، وكأنها المرأة الوحيدة في المدينة التي تمتلك هذا الصوت القادم من أعماق الجنوب، وتختص بتوزيع هذا النوع من المكنسات على المنازل .
ـ ها الجريدات !
تُشذّب سعف النخيل، وتُحوّل خشونته إلى نعومة، تصنع منه مكنسة للعالم القديم. تستخدمها النساء لتنظيف الفضاءات المتربة في المنزل أو أمام بابه. وبقيت تقاوم المعاصرة حتى بعد دخول الفسيفساء والزليج إلى البيوت، والزفت إلى الأزقة والدروب.
يختفي صوت صاحبة الجريد، ويصعد صوت البدوي بائع أواني البلاستيك :
ـ نواني* للبيع ! نواني للبيع !
رجل بدوي قوي البنية، يحمل على كتفه أو دراجته العادية أغلب أنواع المواد البلاستيكية، ويطوف بها في الأزقة والدروب. يُمدّد حرف الياء في اللفظ الأخير وكأنه يهبط إلى منحدر طويل. إذا دخل إلى الزقاق قبل العاشرة، قد يتعرض أحيانا للطرد. أبناء بعض الأسر موظفون، يسهرون ليلة السبت خارج البيت، وينامون يوم الأحد إلى وقت متأخر، ولا يحبون أن يزعجهم أحد. الأطفال الصغار بدل اللعب أمام البيوت، يفرض عليهم ذووهم الذهاب يوم الأحد إلى (المسيد) حتى لا يزعجوا السادة الموظفين. من يعمل في إدارة الدولة لا بد أن تخاف منه وتحترمه. الولاء للدولة أقوى من الولاء للدم أو لحق الجوار. ورغم ذلك يحتاج الناس إليهم في الأيام الصعبة، لإنجاز وثيقة، أو قضاء مصلحة إدارية. لا يطلبون منهم ذلك مباشرة. لا بد من توسط آبائهم أو أمهاتهم وأخواتهم.
امرأة من صنف آخر تُردّد بنفس إيقاع صاحبة الجريدات:
ـ ضربوا شي فال!
النساء يمتن في قراءة الطالع عندما يخرج الرجال إلى أعمالهم. البنات كبُرن والخُطّاب لم يأتوا بعد. تُذيب العرّافة قطعة (ألدون)* فوق النار، ثم تصُبُّها على الأرض، فترسم شكلا معينا. تجعل يديها ترتعدان، وتُخرج عينيها، فترى أشياء بعيدة وغريبة وقادمة، لا يراها باقي الناس. تتحدث بصوت خافت عن اقتراب قُدوم عريس يشبه ملاكا إلى البيت. يصعب تحديد الوقت بالذات. (ألدون) يقول هذا الأسبوع، أو هذا الشهر، أو هذه السنة . مال كثير سيعرف طريقه إلى المنزل. يظهر عائق يحاول منع تحقّق الرؤيا، فترفع صوتها قليلا، وتُرقّص أصابع يديها. يجب وضع مجمر صغير كل يوم خميس، بعد غروب الشمس وسط البيت، ورمي بعض البخور في النار، ثم تأتي صاحبة الشأن التي تنتظر فارسا على صهوة جواد، وترفع القميص فوق ركبتيها، وتقول باسم الله، وتُغمض عينيها، وتتخطى المجمر بحذر وبطء عشر مرات، بعدد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، بلا زيادة ولا نقصان.
وتُقدم لها أم العروس (البياض)* أو (الفتوح)*، قطع من السكر والشاي أو قليلا من النقود . وتعدها بالمزيد إذا تحققت الرؤيا في القريب العاجل.
وقد تقرأ الكف، فتأخذ يد الفتاة المعنية بقراءة الطالع وتتأمل خطوط كفها بإمعان وصمت. وتقول بصوت خافت، كأنه قادم من بعيد، بأن الطريق طويل وسالك، يضيئه القمر، لكن ستظهر بعض المتاعب. يجب الحذر من ذئب يتخفّى وراء عتمة ضباب الفجر. حصان بري يرعى بالجوار، سيمتطيه فارس ولا كل الفرسان، يرتدي برنوسا أبيض، ويحمل سيفا في يده اليمنى. يقتل الذئب، ويأخذ الأميرة إلى بيت فسيح، تظلله الأشجار، وتزينه الفاكهة من كل نوع. تغسل بماء الورد، وتلبس الحرير والديباج، ويهدي لها اللؤلؤ والمرجان، ويقيمان عرسا شبيه بأعراس ألف ليلة وليلة. عرس يحضره الناس من كل الأمصار. ما تبوح به الخطوط كله فأل خير، خير إنشاء الله.
ويكون الدرب محظوظا إذا دخلته المرأة ذات الصوت العذب الذي يتسرب بدفء إلى قلب كل من تمر بالقرب منه:
ـ لالة طْويبة سكر، علْ النبي مولاي محمد .
لهذه المرأة مزاج خاص. لا تَطرَقُ بابا، ولا تمدّ يدا. ترتدي لحافا أبيض. تشبه المرأة التي تغزل بها الشعراء في القديم. دمها مسحور. فارعة الطول، عينان واسعتان يُحيط برموشهما كُحل أسود خفيف. يُغطّي شعرها منديل بلون السماء. ألِفَت أن تمر من وسط الشارع أمام عرصة (البيلك)، قادمة من طريق عرصة المعاش، مخترقة موقف حافلات النقل الحضري، وتردد بصوتها الحزين لازمتها المشهورة:
ـ لالة طْويبة سكر علْ النبي مولاي محمد.
يلتفت إليها الناس من كل جانب، حتى المقاهي يلفها صمت عميق، ينتبه إليها كل مجلس، ويستمتع بجمال صوتها للحظات، وهي ماضية في طريقها إلى شارع محمد الخامس. لا تتوقف عن الإنشاد، والنظر إلى الأفق البعيد.
عندما أتناول وجبة الفطور، وأغادر البيت ، تكون الحركة قد عادت إلى الدرب، بعد خروج الأطفال الصغار من المسيد، لممارسة ألعابهم المفضلة حسب الفصول، واختلاط ضجيجهم بضجيج الباعة المتجولين.
يتسابق أصحاب النُّخال وجافيل والخبز يابس وبالي للبيع. من يسبق الأخر يفوز بأكبر قدر من الزبائن .
بعض باعة النُّخال بَدوٌ، من أولاد الحرام، يستبدلون لفظ نُخّال، أثناء صياحهم، بلفظ ندخل، ويضيفون مدا طويلا للخاء مع مضغ الأصوات. وإذا سمعهم رجل بالبيت، خرج لشتمهم وطردهم.
أخرج من البيت، أمر من الزقاق أرى وصلة خبز أمام باب منزل أحد الجيران، وخلفه سيدة البيت، أمد يدي للوصلة دون إن يطلب مني أحد ذلك، وآخذها معي إلى الفرن عند باب الدرب.
في منتصف النهار يأتي المعلم الذي يصلح أدوات الطبخ المثقوبة. يلحم المقراج والبراد والطست و(الكاسرولة)، ويُقدّم له شيء من طعام الغذاء.
أستمع إلى المذياع بعد الثالثة زوالا. الواصفون الرياضيون يُبالغون في وصف المباريات. من يستمع إلى مباراة في المذياع، ويشاهدها في الملعب ، لا يُصدّق ما يجري أمام عينيه. حتى الجمهور يتواطأ مع الصحفي، ويُشارك في لعبة المبالغة، فيهتزّ على جنبات الملعب عندما يتم ربط الاتصال بهذا الأخير.
أذهب في المساء إلى الحمّام رغم ما يُشكّله ذلك من ضيق على جهازي التنفسي. عندما أعود إلى البيت علي انجاز التمارين والفروض. ينقضي يوم الأحد بسرعة.
لما اشتدّ عودي، وأصبحت رجلا، كلما لاحت واحات النخيل من بعيد، وأنا قادم من الدار البيضاء في الحافلة أو القطار، بعد غياب شهر أو شهرين، لا أعرف كيف تسقط في ذاكرتي بسرعة أغنية إسماعيل احمد (مراكش يا وريدة بين النخيل)، وأُردّدها مع نفسي بصوت مكتوم.
اليوم دُفعت إلى الرحيل بعيدا عن المدينة القديمة. لا أكره ولا أحب يوم الأحد. لم أعد أذهب إلى المدرسة أو العمل فيما بعد. لا أستمع إلى المباريات في المذياع. حتى الحمّام منعه عني الطبيب منذ سنوات.
مرّ زمن طويل، اختفت كل تلك الأصوات الجميلة، وحلت محلها أصوات أخرى لباعة العسل والبصل والسردين وزيت الزيتون .
النخيل شاخ وذبل، ومات واقفا، ولم يعد يلوح من بعيد. ومراكش ما عادت وريدة بين النخيل!
المعجم :
ـ تشطاطت : زي أمازيغي أزرق يميل إلى السواد تلتحف به المرأة وترتديه فوق الملابس وتخرج ذراعها وكتفها منه، وتشده من الجانب الآخر إلى جسدها.
ـ نواني : أواني ينطقها بلكنته البدوية.
ـ (ألدون) : نوع من الرصاص يذوب بسرعة، ويتحول إلى سائل، ويفرغ على الأرض، وينشف بسرعة، ويعود إلى صلابته.
ـ (البياض) أو (الفتوح) مثل العربون ، مقدم الأجر ، وقارئة الفأل مجرد وسيط بين الزبونة، وبين كائنات غير مرئية ، هي صاحبة (البياض).
مراكش 23 غشت 2018