
ان ما قرأته في المجموعة القصصية “غبار الرفوف” قد نفض هو الآخر الغبار عن ذاكرتي وأعادني إلى بواكير السرديات الواقعية التي كحلت بها عيوننا ولم تغادر ذاكرتنا اشراقاتها أبدا .لم يحيد القاص العارف في هذه المجموعة عن هذا النهج من أول قصة حتى آخرها ، وحين أكملت القراءة واطلعت على مقابلة معه في آخر المجموعة اتضح لي عمق الواقع الزاخر في ذاكرة القاص من خلال فيض قراءاته وتأثيرها في بواكير استلهامه الروح السردية عالية المستوى.
المجموعة تتكون من 45 قصة قصيرة …قد يكون القاص واعيا ؛ بحكم مهنيته الأكاديمية إلى وحدة البنية السردية في المجموعة ، وتبادر إلى ذهني سؤال:
– لماذا لم تحفزه وحدة الثيمة السردية للمجموعة إلى كتابة رواية ذات المنحى الدرامي المتصاعد؟
– قول : ربما أوعز ذلك الى اختلاف وتباعد أزمنة كتابتها .
وهو دليل على ان السرد الواقعي ، ينهض في احتدام التيارات والاتجاهات والمدارس الأدبية المتجددة المتطلعة دائما بل المصابة بهوس التجديد ، ولن تخبو جذوتها وان وجهت لها انتقادات المباشرة او الاسهاب وخلوها من الشاعرية التي تنم عن دلالاتها ورموزها ووظيفتها اللغوية والايحائية.
ان قصص مصطفى العارف في هذه المجموعة يركز على عنصر السردية (القص) (الحكائية) اشبه بلوحة متكاملة الملامح ولكن لاتخلو من لمحة تحليق في خواتيم بعضها .. كما في قصة ” جعفوري المتمرد”:
” فتحت عيني بصعوبة وأنا اتامل الواقفين ينظرون إلي بشفقة , نظرت يمينا شاهدت أمي تنهمر دموعها بقوة نحوي وتحرق وجنتي , وأبي مبتسم بحزن عميق, وهو يمسح على إطراف شعري, لا أتذكر ما حدث بالضبط , عدت إلى غيبوبتي تذكرت أنني العب كرة القدم في الخامسة من عمري….”
ان اشتغاله الرئيس هو تعرية الواقع المتخبط المتشحط بالدم والفقروالخديعة . لقد التزم القاص بتراتبية الزمن ووحدة ثيمة الحدث وترابط المكان لتتشكل القصة بين يديه وحدة متجانسة ، الا ان سخطه ورفضه واقعا مؤلما قد اثر على ادواته السردية فهيمنت روح الرفض والانتقاد والتعرية لها ، فقد وجد في الواقع أسلحة الإدانة وسهام النقد واذرع التعرية. “كما في قصة الخيبة”:
” نادت المضيفة بصوت عال على جميع الركاب ربط الأحزمة وصلنا حدود العراق , وحمدا لله على سلامتكم , هزني الموقف تركت العراق لأكثر من ثلاثين عاما غربة واغتراب , وأنا اتذكر الأحداث التي جرت في العراق منذ مغادرتي له , وكيف حال والدي المريض, ووالدتي التي تعاني فراقي وتبكي علي في كل حين , نزلت في مطار بغداد اتامل وجوه الحاضرين , ومناظر الخراب التي حلت بالعراق” .
ولم يربك بنية النصوص السردية التزامه بالمنحى الحكائي المتتابع والمتزامن في دائرة الزمان والمكان المحدد . يقول في قصة ” دكتورة سوزان”: ” رن هاتفي النقال دكتورة سوزان نعم ابنك في أمان معنا عليك أن تدفعي الجزية والفدية عنه لم استطيع الرد والكلام كان بكائي وصمتي هو الرد عليهم ثم قال عليك دفع مبلغ خمس دفاتر مقابل سلامته وأغلق الهاتف ولم يكن عندي المبلغ المراد مني اضطرتني الظروف إلى بيع بيتي بثمن بخس في منطقة العامرية من اجل إنقاذ حياة ولدي احمد والتقيت بمجموعة من المجرمين واللصوص سلمت لهم المبلغ كاملا , وسلم لي ولدي احمد وأغمي عليها وهي تتحدث عن ماساتها حملتها والزملاء معي إلى القاعة المجاورة وضربتها على خدها أفاقت وأغمي عليها مرة أخرى بعدها أفاقت وهي تصرخ كان ولدي احمد مقطوع الرأس, واليدين ,والرجلين”
ان احداث القصص تتجسد في مفاصل المجتمع عامة الشارع والبيت والمدرسة والمستشفى والصحراء السيارة والطائرة الوطن والغربة …الخ . كل الأمكنة تشهد على عدمية الإنسانية وخوائها من الأمان والاستقرار. وهي تعرية حقيقية لتسلط الأنظمة الدكتاتورية.
اشعر بحميمية دافئة في كثير من القصص التي تناولت النبض الثقافي والسيرة العظيمة لشخصياتها الثقافية التي سجلت لها مكانة مرموقة في سفر الثقافة والوعي السياسي او الادبي ..يقول في قصة ” مقتل بائع السكائر”:
” في عالمه الغريب ,و المحلق في الكون , يبدأ الجلوس بقراءة الصحف اليومية ركنت سيارتي على الجانب الأيمن من الشارع الفرعي ,واقتربت منه ,لم يحس بوجودي على الإطلاق ,
سلمت عليه :اسعد الله صباحك أستاذ
– أجابني ببط: اهلا وسهلا , من وراء نظارته الصغيرة الحجم , وهو يركز في عينيي
– سألني :هل تريد نوعا من السكائر المعروضة؟
كلا استغرب من الموقف
أذن ماذا تريد؟
-أريد التعرف عليك والاستفادة منك ابتسم حتى بانت فتحة صغيرة بين أسنانه أعطته جمالا في الضحك”.
انها الشخصية التي الفناها تنبض في قلوبنا ” احمد الباقري” .
كذلك في قصة ” الرابح ” وهو يشير الى الاديب الكبير احمد الجنديل قائلا :
” – أعلن رئيس هيأة التحكيم الفائز الأول : الروائي احمد شهاب الجنديل عن روايته ( آلهة من دخان) .
ضجت القاعة بالتصفيق من جميع الحاضرين بقوة , وسلطات الأضواء والكاميرات علي , توجهت إلى المنصة سلمني وزير الثقافة جائزة الدولة , وجاءت إحدى الفتيات الجميلات البسنتي وسام الإبداع لعام 2021 , والأخرى أهدتني باقة ورد جميلة .
وقفت أمام الأدباء ,وقف الجميع
-: قلت شكرا جزيلا على منحي هذه الجائزة الكبيرة , ووسام الإبداع ,وسقطت دمعتي التي فضحتني .
وقلت تمنيت لو كان تكريمي في بلدي ” .
كذلك وردت أسماء أخرى متعددة بارزة في الوسط الثقافي والمعرفي .
أحيانا يكون الواقع اكثر قساوة من أدوات السردية الفنية ، اعتقد ان المرارة تطفح في الحكائية كمظهر من مظاهر الأسلوب السردي التقليدي او الواقعي .. ترد في قصة غبار الرفوف والتي تتشابه احداثها مع قصة “غبار الأمكنة” :
“- عدت إلى جامعتي, وأكملت كتابة رسالة الماجستير التي طبعت كتابا فيما بعد , أهديت نسخة منه إلى المكتبة المركزية , فوجئت بأنها تحولت إلى دائرة حكومية أخرى ,وانطمست أثار المكتبة, والكتب ,والثقافة ”
وفي قصة ” ماتهمتي”: ” وقعت على ورقة بيضاء تحولت إلى حمراء بسبب الدماء التي تسيل من وجهي وجسمي , وأطلق سراحي ليلا ٠
وصلت إلى البيت منهك القوى ,دمرت نفسيتي ,وحطمت من بعض أراذل القوم , استقبلتني زوجتي, وأولادي بفرح غامر, دخلت بيتي, ونمت نوما عميقا, لم أذق الطعام ,والنوم منذ أيام , شعرت بالحرية والأمان ٠
في اليوم الثاني أحلت على التقاعد الإجباري .
– سالت نفسي ما تهمتي ؟!!! “
نحن بحاجة الى صرخة مدوية سواء كانت صرخة سردية ام شعرية ..صرخة للجميع بنفس مستوى حاجتنا الى جمالية التناول والسعي الى التجديد والحداثة وكسر أقفال اللغة والتشكل الاجناسي الذي يمنح النص مستويات ومديات ابعد من حدود المفردة …هذا ما عبرت عنه نصوص مصطفى العارف…في قصة ” الخطيئة “:
“أجلسته لارا وطلبت منه : – الحديث عن أسباب خوفه ومحاولته الهروب.
-: أجابها تذكرت عندما كانت مريضة وبحاجة إلى العلاج المستمر رميتها بحديقة عامة , أكلتها الكلاب السائبة وفارقت الحياة أمامي ولم أنقذها آه آه .
– : من هي تكلم ؟!!
– صرخ بقوة أنها أمي أمي , وأغمي عليه .
أفاق من غيبوبته.
– : قال منذ تلك اللحظة تلاحقني لعنة الخطيئة .”
الاستهلال مهم بالنسبة الى القاص لذلك فان اغلب قصصه تسرد لك حال قد لايكون مطابقا للحال الذي سعى القاص الى تعريته في النهاية ..انها مفارقة الحدث وماتتشكل فيه المواقف بفعل الفوضى اللاانسانية التي تجتاح مفاصل الحياة .
في قصة “الصدمة” يستهل القاص :
“- سألتني نورهان: بصوت دافئ معبر عن مشاعر فنانة جياشة المشاعر رقيقة الأحاسيس.
– دكتور عبد الزهرة : ما رأيك بلوحتي ؟
– تفاجأت من السؤال ؟
لكنه يختم القصة بموقف حاد أخبرتها: بأنها أفضل لوحة في المعرض”
لكنه يختم القصة برسم فجائعي يقشعر له البدن :
” – لم يكن عندي المبلغ المراد مني اضطرتني الظروف إلى بيع بيتي بثمن بخس في منطقة العامرية, من اجل إنقاذ حياة ولدي احمد.
– التقيت: بمجموعة من المجرمين ,واللصوص سلمت لهم المبلغ كاملا , وسلم لي ولدي احمد وأغمي عليها ,وهي تتحدث عن ماساتها .
حملتها والزملاء معي إلى القاعة المجاورة ,وضربتها على خدها أفاقت, وأغمي عليها مرة أخرى بعدها أفاقت, وهي تصرخ .
– كان ولدي احمد: مقطوع الرأس, واليدين ,والرجلين بأي ذنب يقتل الأطفال , وما ذنبه ؟ ذبح بعمر الورد”.
لقد وظف القاص مصطفى العارف الواقع سرديا ، لم يغير من مفاصل الزمان او المكان انما استوعبته صرخة مكبوتة والما مبرحا عاصفا بالشخوص ..في قصة ” اغتيال المديرة ” :
” اختلفت الآراء, حول الجريمة البشعة هناك من يقول أنها انتحرت لإصابتها بمرض خطير, وأخر يقول أنها أحيلت على التقاعد الإجباري فقدت حياتها, ومدرسة معها تقول أنها بلغت عن شبكة كبيرة لبيع المخدرات في المدرسة.
وأخر يقول أنها تحدثت بسوء عن الأحزاب , وبعض رجال الدين المتطرفين .
وهناك دعاية مفادها أنها لم تعلم الطالبات في الامتحان الوزاري , وأخرها أنها فصلت مجموعة من الطالبات يمارسن أفعالا لا أخلاقية , وهن من ذوات النفوذ, وبنات شخصيات كبيرة في المجتمع , كشف تقرير الطب العدلي بان الست أشواق اغتيلت وكان الفاعل زوجة ابنها رانية التي وضعت لها السم في الطعام.”
الظلم والالم والفقدان والفقر طاغ في تلك القصص على نسيج السردية الشعرية. أي ان القاص مارس أسلوب النقد الاجتماعي او النقد الواقعي منحازا الى مقولة ماثيو أرنولد ” ان الادب هو نقد الحياة ”
ان القاص في هذه المجموعة منحازا كليا الى الحياة اكثر من انحيازه الى خلق نصا حداثويا. هنا الواقع هو الذي كان يكتب نفسه بيد القاص مصطفى العارف..وما اقسى هذا الواقع الخارج عن السياقات الإنسانية . ما أقسى هذا الواقع الذي يكبل أجنحة الكاتب ويمنعه من التحليق في سماوات المحبة والأمان والامل الذي نتطلع اليه. ما أقسى هذا الواقع وهو يتبلور ويتكور في فم الكاتب صرخة من أعماقه يدعونا لمشاركته حجم الألم.