إلى أختي صبحية، فلق قلبي، صنو روحي، صدقة جارية عن روحها التي اختارها الله لتكون بجانبه.
حزمة من ضياء بعزم وحزم، نهضت، تحسست بما فيها من رنو وأنفة، تلمست بفلق قلبها وفيض روحها، زوايا العتمة والوهن في جسد من صلصال، من تراب، يعتقل الروح ويزجها في المرئي والمحسوس، في العادي والمعهود، رفعت أناملها التي رتقت الضعف ورفأت الخور، دارت بها على ساق نخلة في مكة، وزيتونة في القدس، وقبر يشع في المدينة.
قالت: وكل قول لها، فيه أنفاس شمس رغم قسوتها وما يسكنها من قوة الدمار والموت، تبعث الحياة في كائن يختاره الكون، قالت: لست أنا من يتمسك بالبصر ويترك البصيرة، أو يعتمد النظر ويترك الرؤى، من يركن للعتمة والنور يحفه ويحتفل باتصاله فيه، أنا الحرية التي تنتشر وتتوزع وتنمو وتزهر بكل شعاع، بكل ذرة من ذرات التراب، وبكل نواة من نويات المجرات والأجرام.
أختي الكبيرة الصغيرة، طفلتي وفتيتي، صبحيتي، صبحي المنبلج من العتمة، أول الفجر المتنفس أنفاس الصبح، كل النور المتخفي في الغياب، الكامن في الإشراق، فلق قلبي المدفوع نحو مسام كفها الذي يتحسس وجنتي، صنو روحي القافزة نحو عينيها المنهملة المتدفقة ببريق يكللني، يطوقني، يلفني برحمة مغدقة بحبور وغبطة، وكأنها صمت يرج الصوت، وصوت يحتضن أسرار الصمت، حديقة غناء بالبسمات المنهمرة كماء يبعث الحياة في الموت، يضج بشهيق الصحراء حين تتندى فتشهق لتنشق عن خضرة تنادي النحل نحو الرحيق والشهد.
على وجهها الأبيض المصقول من عاج تتوزع الغرائب والعجائب، تنبت الأيائل والأصائل، تتجمع المسافات والأزمان، تتكوم الخمائل والجدائل، ينتصب الوطن كله دفعة واحدة طلبا للتجلي واللمعان، تسير على ألحانه قوافل الشهداء، شهيدا خلف شهيد، بين غدائر وعيون، لتحط فوق رموشها راضية مرضية.
قيل لي: ماتت اليوم أختك، أقفل باب من أبواب الرحمة بينك وبين السماء، هناك على أرض الوطن، ليس بعيدا عن حيفا، حيفا والدك ووالدتك، كانت تبحث عن الروائح التي حملت عرق الصُلب وشوق الترائب، تنقب عنهما بخبرة كفاح موصول بالصبر، تحمل شهوة اللهفة التي كانت تنبعث من حلم والدين ظلت عيونهما رغم الموت والقهر تبحث عن مرفأ تُرسي فيه كلف التوله والهيام، ظلت يمامة عصية وهي تشد الماضي والمستقبل إلى حاضرها الذي لا ينتهي ولا يغيب.
قيل لي: حبيبتك، أثيرتك، صفيتك، خليلتك، قرة عينك، ناداها الرحيل، هاتفها الغياب، شقيقتك، أختك، أمك الصغيرة، سجع لها الاستتار، هدل لها الفراغ، لكنها كما كانت، ضفرت الشروق بالإياب، نظمت السطوع بالضياء، رسمت كما شاءت الخروج من التراب والصلصال لتتواشج وتتوالج بشفافية الروح والبيان والبروز والبزوغ، خلعت بمضاء إيمان ثوب الفناء للتوحد بالبقاء والخلود، هناك حيث الرحمن، الرحيم، اللطيف، في عليين، بين الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء، بثقة معجونة بثقة بمغفرة جواد كريم.
قلت: سأحزن، وأترك للحزن كل مسافاتي وأبعادي، أعماقي وأغواري، لن أوقف التفجع والتوجع والاحترار والانصهار، سأفتح لها قلبي وكبدي تخضه وترجه، تفجر الدمع من المآقي ليلسع الخدود، يحفرها ويكويها ويصليها، ليس عيبا أن أتوحد مع الخنساء والخنساء، لأضع نفسي في عين العاصفة ونواة الإعصار، لن أحاول السيطرة على الروح وهي تتحمص وتنشف وتذبل، تصرخ وتستغيث، سأقف على شوك الأسى وجمر الغضا كفراشة مكسورة الجناحين، تذوب بتروي وتمهل.
وكيف لا أفعل ذلك؟ وقد خسرت تقبيل قدميها؟ رفعهما على ناصيتي؟ دلكهما بخدي ووجنتي؟ لثم التراب الساقط من كعب قدميها وهي تبث الروح في الحديقة الصغيرة التي ربتها كما ربتني؟ كيف لا أشعر باليتم حين حررتني منه يوم موت أمي؟ قالت وهي تلطم خدي تحببا بيدها الضاجة بالحلاوة والطراوة والليونة: ” ولك يا أزعر، ألست أنا أمك”؟ تشدني نحو حضنها، تقتحمني رائحتها بعنف وقوة، رائحة تتوزع كهالات من رحمة فوقي، كغمامة حبلى بالدفق والحياة، لتسقط حنانها فتنبت أزهار الرضا بكل جزء من أجزائي.
صبحية لم تمت بالمعنى الذي يذهب نحو الفناء، بل خلعت إهاب الدنيا لتنتقل لمرحلة من مراحل الحياة، تقف هناك وهي ترسل بكل يقينها توسلات ورجاءات العبد للمعبود، المخلوق للخالق، كي يغسلها برأفته وعظمته وقدرته، لتكون في روضة تقربها وتدنيها من رياض لا حدود لها ولا مسافات.
سأبكيها البارحة وغدا واليوم، بكاء مكلوم غزاه الأسى والجزع والكرب، وأحملها في عيني، لهيبا يمنعني من النسيان والغفلة، سأزرعها بقلبي خليطا من حنين وحرمان يتوقدان بالبراءة والتقصير، هنا وهناك سأواصل الوفاء، هنا كانت قدمها تجس الأرض، تبحث فيها عن مكان ستكون فيه يوما، وهناك رفعت قدمها لتضعه بتأن ورحمة حتى لا تدوس كائنا أو بقايا فتات زهرة، هنا بسمتها التي تتسع للكون، تغطيه وتلمه على شفتين تلاصقت فوق وجنتي ووجنات أولادي، مع أنفاس معبأة بالحنان والرحمة، محشوة ببراءة تكاد تكون روحا تسري في عروق الفناء والزوال، بعثا يحشد الحياة من التلاشي.
هنا كانت عينها تدور، تلهث بتعب عن مكمن ألمنا، ترسل بريقا من تكوينها، من جبلتها، من قلبها، من روحها، من عطفها، يخترق الألم ويستله، يحوله لحبور يوزع على بتلات الياسمين والجوري، على القبرات والدوري والبلابل، وهناك خطواتها وهي تثغو، وهنا وهناك خطواتها وهي تدفع الدنيا بكاملها بقوة النشوة كي تصل لعنق والدي، صدر أمي، في كل زوايا الحارة، المدينة، حبات عرقها وهي تصطدم بالشمس وتهز القيظ، فتفوح الروائح المتدفقة من مسامها، لتغطي الآفاق، تعطر الآماد، تتحدى كل الحرارة المتدلية من شمس تحاول الهبوط من مكانها كي تحصل على قليل القليل من رائحتها، علها تتمكن من تخفيف عذابها مما فيها من انفجارات تكاد تعصف بتكوينها، وهنا كانت النجوم والأقمار تتسلل من مدارتها، من أفلاكها، بحثا عن نقاء يزيدها نقاء، وعن صفاء يمنحها الجمال والخفة، وعن لمعان يمنحها البريق، التوهج، الضياء والنور، وهناك كانت السماء تتدلى، تتحدب، تصل قمم الجبال والشواطئ، تهرب من مساحاتها كي تلامس أهدابها ورموشها، فتعود محملة بالدفق والهناء والتهلل، ترفع ما حملت للسماء التي فوقها، فترفعها الأخرى لما فوقها، وهي تهمس وتوشوش، تصرخ وتصيح، تصمت صمتا معبأ بالضجيج، هذه اللمسات، هذه الروائح، هذا المعلوم، وذاك المجهول، كله بقضه وقضيضه، بسره وغامضه، بذهوله وشغفه، أقل القليل من صبحية، لم نستطع الغوص أكثر في عوالمها المرصعة بالحدب والرقة والشفافية، خفنا من اختناقنا، فما فيها يفوق ما فينا من قدرات ومسافات ومساحات، همست لنا صبحية دون صوت، قالت: بأنها تشفق علينا من حمل ما لا نستطيع حمله من روائحها، من جمع ما لا نستطيع جمعه من قواها وخفاياها، قالت: لنكن أنا وأنتم، قطعة موحدة من شيء يتداخل في الشيء، كي نظل فوق المعرف والمعروف، فوق العادي والمعهود.
حبيبتي صبحية، سامحيني، فأنا أعترف بعجز كامل يشل مفرداتي وأناملي، خيالي الذي يبحث عن خصوبة تتواءم مع خصوبة شعرة واحدة في رأسك، كي أندي الكلمات والحروف بندى يصل لنداك الذي يرشح الغرابة والدهشة، فأفشل، والفشل في وصف فقط كعب قدمك، هو انتصار لا يشبه أو يتشابه مع أي انتصار، انتصار الحرف على المعنى، والمعنى على الخيال، والخيال على الواقع، انتصار الاستعارات والتشبيه حين تعلن عجزها عن وصول مبتغى ومنتهى للتلاقي مع معجزة تعترف هي الأخرى بأنها لا تملك جرأة الوصول لوصف أو تشبيه يتساوى مع ما فيك من مبهم لا يفك.
سأبقى يا كل الدنيا، وكل كون وكون، يا أختي، أمي، حبيبتي، روحي، قلبي، كبدي، صديقتي، زميلتي، مؤنستي، خافضا ناصيتي لقدميك المباركتين، وكيف يعقل ألا يكونا كذلك، وأنت أمي الصغيرة، التي ظلت تحمل قداسة متصلة بقداسة الخالق في الكتاب الذي رفعك لمكانة لا يمكن أن يرفع إليها غيرك أنت يا أمي.
ستبقين أنتِ أناي، وليس لدي بعد سكناك مع الرحمن في دار الحق، سوى البقاء على ذكراك، بالدعاء والصدقة، بالتقرب إلى الله من خلال كتابه، وسؤالي الملح عليه سبحانه أن يرفعك لمقام هو به أعلم وعليه قادر بما له من أسماء وصفات.
الحمد لله يوم قدمت للحياة، والحمد لله يوم غادرتها، والحمد لله على القبر وما فيه من رحمته، والحمد لله على البعث والصراط والسؤال، وإنا لله وإنا إليه راجعون.