لا أدري من أين جاء اسم (جامع الفنا) الذي أطلق على الساحة. سمعت الكبار في ذلك الوقت يقولون بأن هذا الفضاء كان إلى حدود القرن 19 سوقا كبيرا يمتد من باب فتوح إلى الساحة. وأضافوا أنه كانت تعلق فيه رؤوس المعارضين، أو الخارجين عن القانون آنذاك لتردع الناس، وتزرع فيهم الخوف من جبروت السلطة. البعض أطلق عليها اسم جامع الربح على اعتبار أنها سوق تجاري، وقلب المدينة النابض. رئة تتنفس منها مراكش اقتصادا وثقافة ومرحا وفكاهة.
مراكش في الستينيات من القرن الماضي مدينة صغيرة. يعيش أغلب سكانها داخل الأسوار باستثناء أحياء قليلة مثل جليز و سيدي يوسف بن علي وعين إيطي ودوار العسكر. لا يخرجون إلى بعضها إلا لزيارة الأهل في الأعياد والمناسبات. عندما كبرت اكتشفت أن بعض الناس لم يضعوا أقدامهم خارج الأسوار لمدة تفوق ثلاثين سنة أو أكثر.
جامع الفنا ساحة مفتوحة على كل الطرق المؤدية إلى أحياء المدينة. درب ضباشي، الرحبة، القنارية، رياض الزيتون، عرصة المعاش، سيدي ميمون، القصبة، شارع محمد الخامس، فحل الزفريتي، باب فتوح .
كل الطرق تؤدي إلى جامع الفنا. إذا دخلت إليها من القصابين، ستمر بصف من المطاعم التقليدية، تطهو وجبات محلية مثل (الكرعين) والشواء ورؤوس الغنم المبخر ة. وعلى يمينك دكاكين تعرض النعناع، وكل أصناف المخللات والزيتون والفلفل المصبر بطريقة تقليدية، لكن طريقة العرض تشد الأبصار. وعلى بعد أمتار خلف سوق الجديد تعرض نساء يرتدين الجلباب، ويضعن على وجههن نقابا شفافا يمر بشكل أنيق على أرنبة الأنف، وقب يغطي الشعر، ولا يظهر غير الحاجبين والعينين. يتسابقن على السياح لعرض قفف من دوم أبيض مزركش بالأزرق والأحمر والأخضر. وفي الجهة المقابلة مقهى فرنسا، وبجانبه متجر السجائر والمارشي ومقر الهلال الأحمر ثم الزقاق المؤدي إلى رياض الزيتون.
وإذا دخلت إليها من باب فتوح ستمر بأكشاك مقابلة لمقهى أركانة (السوربون سابقا) ثم سوق الجديد، وعلى يمينك أكشاك أخرى منفتحة على الساحة. متاجر صغرى تعرض منتوجات الصناعة التقليدية للسياح. وبجانبها على اليمين واليسار بعض المطاعم الشعبية المتحركة، ثم أكشاك سوق الكتب التي كانت تحتل أكثر من ربع الساحة، لكنها اختفت أمام جشع الرأسمال.
أما الممر المقابل لبنك المغرب فتنشط به عربات الكاوكاو والزريعة والليمون. وعلى اليسار يقع المركز ثم الكوميسارية بجوار سور قديم لفضاء في ملكية عائلة القايد المتوكي مقابل لعرصة البيلك كانت تبيت فيه العربات اليدوية. شُيد على أرضه فيما بعد فندق فخم حمل اسم نادي البحر الأبيض المتوسط.
وبين مدخل شارع مبروكة ( البرانس حاليا ) والهلال الأحمر المغربي محطة طرقية مفتوحة على الساحة بها مقاهي ومطاعم شعبية وجراجات ومواقف للحافلات التي تقل المسافرين من مدن المغرب إلى مراكش أو العكس. وعلى يمين صيدلية الساحة يجلس الفوتوغراف الشهير قرب كاميرته التقليدية. يطلب منك أن تقف على بعد حوالي متر ونصف إذا كنت طفلا، وأن تركز نظرك على عدسة تظهر في رأس صندوق مغطى بثوب أسود يدخل فيه رأسه، وبعد لحظة يخرج دخان يحدث صوتا مثل صوت انفجار البارود داخل كيس صغير، يجعلك تقفز من مكانك إذا لم يسبق لك المرور من هذه التجربة، فيكون قد التقط لك صورة بالأبيض والأسود، ويطلب منك أن تعود إليها بعد حوالي ساعة أو ساعتين فتجدها جاهزة.
من أشهر المقاهي السياحية بالساحة في تلك الفترة مقهى جلاسييه ومقهى فرنسا .
قطعت ساحة جامع الفنا لأول مرة وأنا طفل صغير رفقة والدي رحمه الله في بداية الستينيات من القرن الماضي، وهو متجه إلى عرصة المعاش قرب مقر حزب الاستقلال للاستماع إلى خطاب ألقاه الزعيم علال الفاسي. لا أتذكر الشيء الكثير عن ذلك اليوم. لصغر سني احتفظت بصورة قديمة باهتة تمر في الذاكرة مثل البرق تتلخص في الحشود البشرية التي كانت تؤثث الساحة أو تمر منها. أمسكت ذلك اليوم بقوة بيد والدي. خفت من الضياع وسط هذا الزحام غير المألوف .
الذهاب إلى جامع الفنا مغامرة غير محمودة العواقب، قد تنتهي بعقاب بدني شديد. لم يكن مسموحا للأطفال بالذهاب إلى الساحة. في بيئة تقليدية لا بد من التدرج. في العطل كان يُزج بنا في الكتاتيب القرآنية. كل الدروب والأحياء يُدرس بكتاتيبها فقهاء لا يتسامحون مع الأطفال في حالة الغياب خاصة يوم الأربعاء، اليوم الذي يتقاضون فيه جزءا من أجورهم (4 ريالات). بعض الأسر تفضل إرسال أبناءها لتعلم صنعة يدوية كاحتياط في حالة التخلي عن الدراسة .
الأطفال لا يأتون إلى جامع الفنا بشكل فردي أو جماعي إلا بعد أن يتجاوزوا عشر سنوات تقريبا. يبدؤون بسرقة بعض اللحظات بالتلصص على الحلقات. الكبار في الأحياء الشعبية داخل الأسر التقليدية رسموا لأبنائهم صورا سوداء ومخيفة عن ساحة جامع الفنا. بل إنها كانت سُبّة. عندما ينعتك أحدهم بولد جامع الفنا، فكأنه يصف أمك بأنها زانية ولدتك مع شخص مجهول. ربما كانوا بحكم تجربتهم آنذاك يخافون على أبنائهم من عدوى سحرها التي قد تشغلهم عن الدراسة ..
عندما زرت الساحة متلصصا على بعض الحلقات ولأوقات وجيزة حتى لا أتعرض للمساءلة، مستني عدوى الساحة. عدوى تشبه السحر. عندما تذهب إلى جامع الفنا وأنت طفل في بداية الستينيات تحس بجاذبية تشدك إلى عالم غرائبي وعجائبي.
تستمع لجزء من قصة شعبية، تشبه حلقة في مسلسل تلفزيوني. يسرح بك الخيال بعيدا. طريقة الحكي التي يستعملها الراوي تنقلك وأنت طفل إلى عالم الأساطير. عالم يتصارع فيه الأبطال مع قوى من الجان. ترحل بك بعيدا عن الواقع. أحيانا تنسى نفسك. تتأخر عن موعد العودة. تودع الساحة رغما عنك. ترجع إلى الحي وصور الأبطال تملأ خيالك حتى تكاد تسمع صيحاتها تختلط بصليل السيوف. تحكي لأقرانك ما شاهدته وسمعته في الساحة. تحاول تقليد الحكواتي .
تنشر العدوى من حيت لا تشعر.
مراكش في 25 أبريل 2019