النرويج: 27-09-2006
– حدّثْني عن البطولة، عن الرجولة، عن الرجال، أخبرْني كيف يخرج الآحاد من بين الملايين، ليكونوا غُرَّةَ الكون وتاجَ التاريخ؟ عن عقولهم، وأفكارهم، عن نفوسهم وتطلعاتهم، عن قسماتهم وملامح الأرض التي تسكن خطوط وجوههم وقلوبهم، عن كل شيء فيهم؟
– وهل تحتاج البطولة إلى حديث؟ هل تحتاج البطولة إلى تعريف؟
– قيل لي إن البطولة أنواع، أشكال، تختلف باختلاف الزمن، وتتغاير بتغاير الحدث.
– هذا صحيح، هل يغير الشكل أو المظهر من حقيقة الجوهر؟ البطولة شيء معنوي، يسكن العقل والقلب، يكتسح المشاعر، يغزوها، ينتشر في خلايا الدم، في ذرات الدماغ ونسيجه، في لولبياته الملتفة على بعضها بطريقة خلابة، تدهش المألوف والمعهود، في نواة التكوين وسويداء الإبداع، ليتلاحم مع الجسد، مع إشارات الوجه وتنبيهات الجلد، البطولة تتسرب في الذات كالماء المتسرب بالتواءات الأرض، ليمنحها الحياة، البهاء، النماء، الروعة.
– وكيف يمكننا اكتساب البطولة؟
– البطولة لا تكتسب، بل تتفجر منابعها حين تستدعيها الحاجة، حاجة الحق لاكتساح الظلم، تتفجر كبركان يخرج من تحت قاع المحيط، أو من قاع الأرض، مذيبا ما في طريقه من صخور وعقبات، ليفتح صدر الأرض للهواء، للنسيم، للحرية، ولكي تعرف البطولة جيدا، تراها رؤية العين، تلمسها بالأصابع، وتحسها كإحساسك بلسعات البرد والحر، ما عليك سوى أن تجمع صور الأبطال، وتحدق في عيونهم، تتفرس في ملامحهم وجبهاتهم، تسبر مساماتهم، تتعلق بأهدابهم ورموشهم، ترفع صورهم عاليا، وتنخفض، لأن هؤلاء الأبطال عاشوا وماتوا، وجباههم مرفوعة، تلامس سقف الزمن، تلامس هامات الشموخ والسمو والإباء، عالية أرواحهم، عالية فوق العلو، سامية فوق السمو، تلك الأرواح، تلك الجباه، تستحق منا -بكل إيمان- التواضع والعرفان، أن نعرف حقا مقام علوها وسموها، وتستحق منا – إن كنا إنسانا، إنسانا حقيقيا- أن ننحني لها، كانحناء التاريخ لها حين كانت تسطر بكل ما تملك حروف الكون والزمن، حروف التاريخ، بماء عزيمتها وحبر بطولتها.
– أنا أشعر بالضَّآلَةِ الآن، أشعر بالتقزُّم، أَصْغُرُ وأصغُرُ، حتى كأني أُلامِسُ الأرضَ، عالَمُ هؤلاء الأبطال يبدو سحريا، إلى حد أنه لا يمكن تفكيك طلاسِمِه ورموزه، تفكيكا يمنحنا فهم حقيقته.
– البطولة ليست طلاسم، ولا رموز، بل حياة، حياة لا تنتهي، يمكنك استشعارها في كل شيء، ملامسة حقيقتها بالفطرة، بالنقاء، بالصفاء، بالشروق المتدفق كمحيط ممتد بلا نهاية، متصلا بالمطلق.
ولكي تفهم الأبطال، عليك أولا أن تكون -كما قلت سابقا- تحمل صفات الإنسان، ملامحه النفسية والشعورية، عليك أن تغوص داخل فطرتك غوصا عميقا، لترى إن كانت مسكونة ببراءة البحر بكل ما فيه من تناقض، أم مسكونة بترهات الذين يتشدقون عن الحياة دون أن يكونوا قد أخذوا من الإنسان اسمه، اسمه فقط. أما ما تراه في هيأتهم، ليس سوى تنكر، تنكر في ملامح الإنسان.
البطولة سهلة الفهم، سهلة الإدراك، سهلة الاستيعاب، لكنها عَصِيَّةٌ، أَعْصَى مِن المستحيل على أولئك الملوَّثين بِسَخام الغرور والضياع بين تيارات الحياة المقززة إلى حد الجنون.
– تحدثني عن البطولة، عن الأبطال، تكافح وتنافح عن معاييرهم، عن بيضتهم، عن حماهم، وكأنك واحد منهم، فهل هذا نوع من البطولة؟
– لا، لست مدعيا إلى هذا الحد، ولكن يحق لي الفخر والانتساب لسيرة هؤلاء الأبطال، لمعانيهم، لمضامينهم، مع علمي الشديد، بأني أشَدُّ جُبْنًا من أن أكون قادرا حتى بالانتساب إليهم، فهل أَقَلَّ من أن أحاول قتل جُبْنِي ووأده حين أتحدث عنهم؟ أرسم ملامحهم بقلم جاف لا حياة فيه، كي يستمد حياته من مفردات خصصتها اللغة لهم، لهم وحدهم، دون غيرهم من البشر؟ قلمي يستمد منهم، من مفرداتهم، حياة قد تغسل عار جبنه وخوفه، فهل هذا كثير؟ هل هذا أكثر مما يمكن أن يطلب؟ أليس حريا بنا كلنا، الذين نتحدث عن البطولة، دون أن نمارسها، دون أن نحولها لنهج حياة، ومسيرة أيام، أليس حريا بنا أن نقف أمام المرايا عراة، عراة كما ولدتنا أمهاتنا، وكما سنبعث يوم القيامة من قبورنا، كي نحدق بتفاصيلنا جيدا، كي نستطيع التأكد والتيقن بأننا ضمن الإنسان؟ ولسنا متنكرين بشكله فقط؟
– أنت تقتلني، أنا لا أشعر بالضآلة فقط، بل أشعر بأن خللا ما طرأ على تكويني، على ماهيتي، أشعر وكأن جلدي يريد التنازل عن حقه في التحاف العظم والقلب والكبد، أشعر وكأنه يريد الخلاص من مأزق خطير، وكذلك أحشائي، قلبي، عقلي، أشعر وكأن كل شيء بداخلي، أو خارجي، في تكويني، يختلف عما كان سابقا.
أحاسيسي، مشاعري، كل شيء أحسه الآن يستعد للهجرة، للتحول، للانقلاب، أصبحت عصيا على ذاتي، وذاتي أصبحت عصية علي، هل هي حالة ولادة؟ أم حالة موت؟ بعث أَمْ فناء؟ تحول من شكل إلى آخر؟ من ذات إلى ذات أخرى؟ لا أعلم. رأسي ثقيل، ثقيل، مضغوط، الضغط في رأسي، في صدري يتعاظم، يتفاقم، يشتد، هو الانفجار، نعم هو الانفجار.
– الفرق بينك وبينهم، أنك تحتاج إلى تعريف، أن تُعَرِّف نفسَك إلى نفسك، وأن تُعَرِّف نفسك للآخرين، أنت تبحث عن شيء يمكن أن تشرحه للناس، تشرحه لذاتك، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل لم يفكروا بذلك، فهم يعرفون أنفسهم، وتعرفهم أنفسهم، هم يعرفون الزمن، ويعرفهم الزمن أيضا، تماما كمعرفة الأرض للمطر، ومعرفة الأرض للبركان والزلزال، ومعرفة البحر للعاصفة، هم نوع من الوجود المنصهر بكُنْهِ الأشياء وأصلها، بمكونات الوجود، وطبائع الكون.
لكنهم لم يشعروا بالتميز، بالخصوصية، بل امتلأوا بالحس الرافض لنهج الطبيعة، المغاير لتفاصيل الفطرة، كانوا يَرَوْنَ الأشياء من خلال دموعهم المسكوبة حسرة على طفل يجوب الطرقات بأسماله من أجل رغيف خبز، وكانت عزتهم تمنعهم من إسداء المعونة للطفل ذاته خوفا من كسر شموخه وأَنَفَتِه، كانت عيونهم تدور داخل الصدور، دورة حياة خضراء تبحث عن بعث للجدب المتكلّب بمساحات النفوس والعقول، دون القدرة على الشعور بالفرح أو الراحة، كان الهَمُّ شُغْلَهم وشاغِلَهم، وكان العدل دِينَهم ودَيْدَنَهُم.
لو نظرت إلى وجوههم، إلى تقاطيع الزمن فيها، لو تأملت بِنْيَتَهم، وتفاصيلَ مِشْيَتَهُم وخطواتهم، لعرفت بأنهم يحملون صفات وملامح تتفق وتختلف مع صفات من سواهم.
تتفق بأنها من لحم ودم، يكسوها الشعر، ويقطر منها العَرَق، تتأثر بالحرارة والبرودة، تماما كباقي الناس.
لكنها تختلف بما يستتر خلف الجلد، وما يجري داخل الأوردة، وما يخفق في القلب، ويعتمل بالروح، ولو دققت أكثر، لأيقنت بأن ما بداخلهم يمنحهم تميزا خاصا حتى في الشكل، شكل الجلد، وشكل العين، ولعرفت، يقينا، بأن وَقْعَ خطواتهم فوق الأرض له خصوصية لا يفهمها إلا التراب المحمل بالشوق المُعَذب لبقاء خطواتهم فوق شكله وسره.
هم الأبطال، الأبطال الذين يصنعون التاريخ المغاير لتاريخ الجبناء، وهم من يكتبون بمداد دمهم المُضَمّخِ بالوفاء للإنسان، حروف الأزمان القادمة، وهم، هم وحدهم من يرى نور الشمس المستتر خلف أزمان لا زالت قابعة في غيبٍ مُدْلَهِمِّ الظُّلْمَة.
– هؤلاء ليسوا بشرا مثلنا، تتحدث عنهم، فأشعر بانبعاث المجهول والغامض، يسري بكياني شيء خفي، تماما كسريان الغابة في العقل والمشاعر حين تراها من بعيد وأنت مقدم على دخولها، تداهمك رهبة، ويداهمك خوف، ولكنك لا تستطيع تحديد الرهبة أو الخوف برهبة أو خوف مماثل.
– أنت مخطئ ومصيب: مخطئ لأنك تبحث عن عذر لا يضطرك للانحناء إليهم، ومصيب لأنني أجهل كيف أشرح لك حقيقتهم العَصِيَّة على اللغة والمفردات، المرتفعة فوق الوصف والتحديد، لا لشيء، سوى أنها أكبر من اللغة وأوسع من المفردات.
لكنها تُحَسُّ، تُلْمَسُ، بِكَمٍّ هائل من المشاعر والأحاسيس، حين تصطدم بسيرتهم، بتضحياتهم، بقدرتهم على تمزيق سُدُفِ الظلام واستلال النور من مُزَقِها، وحين تصطدم فجأة بهم وهم يعبرون زمن الأرض إلى زمن السماء، إلى زمن يرونه بصورة لا تتمكن عيوننا المريضة من رؤيته وهو يتقدم نحوهم بشغف مُعَتَق، ورغبة جامحة ليسحبهم إلى نواة الخلود وبؤرة السرمدية.
– يبدو من حديثك أنك تعرفهم، تفهمهم، وكأنك عشت معهم، أو كأنك واحد منهم، كيف يمكنني الوصول إلى ما وصلت إليه عنهم؟
– عليك أن تعترف، اعترافا واضحا وصريحا، بأنهم ليسوا مثلك أو مثلي، بل هم نوع آخر، نوع يتميز عنا بأنه يملك أسباب البطولة، كما نملك نحن أسباب العجز والتبرير، أنا أعرفهم بقدرتي على التألم القاتل بأني لست واحدا منهم، بل ولست ممن يمكن أن يكون مثل ذرة من ذرات أيامهم وساعاتهم.
أعرفهم من خلال أحلام اليقظة التي أعيشها وأنا أبحث عن طاقِيَّةِ الخفاء من أجل ممارسة البطولة والتضحية، أعرفهم من خلال دموعي على الأطفال الذين يُسْلَخون على الأرض دون رحمة، دموع الألم، المغادرة فور انتقالي للتلذذ بطعم قصيدة كتبها جبان يبارك بطولة الأبطال وهو يشعل الدخائن ويحتسي القهوة، أو التصفيق لرواية تضج بالوصف المكثف لموت يحصد الناس والحيوان والشجر، دون أن يتقدم كاتبها نحو الموت من أجل أن يكتب الرواية الأخيرة بمداد دمه.
أعرفهم حين تَدْلَهِمُّ الخطوبُ وتتأزم اللحظات، وهم يغادرون الأرض بخطوات واثقة هادئة من أجل خوض لُجَجِ المُدْلَهِمِّ ونواةِ التأزّم، في حين ننحشر نحن في زاوية مخضبة باللهو والتسلي، نحمل أقلامنا بين أناملنا، لنبدأ صياغة المفردات الخارجة من مركز العجز والقهر والكبت، لتبدو في نظر القارئ الذي لا يختلف عنا في شيء، ملاحم بطولة، ومعلقات شجاعة.
لكنها في الحقيقة، حقيقة الفطرة، وحقيقة الروح والأشياء والأزمان والأماكن، ليست سوى زفرات تأوّه وحسرة، على ما نحن فيه من انهيار وهبوط إلى درك تأنف صفة الهبوط ذاتها من الانحدار إليه.
حَدِّقْ، أو بتعبير أكثر دقة، تَفَرَّسْ، وتفحّصْ وجوهَ المثقفين ذوي الكروش المنتفخة، حين يتوسطون الطاولات على قناة من القنوات، حاول الدخول بملامحهم، في عيونهم، في نبرات أصواتهم، في بسمتهم وهم يرتبون المفردات والأفكار، ببرجوازية العقل، وثراء المنطق، وحين يتقيأون “الحقائق” من أفواه غارقة بطعم الشهد واللحم والطير، وحاول أن تجمع هذه التفاصيل المكررة، لتضعها بإطار مقابل لإطار مفردات الأبطال، ستجد أن مفردات الأبطال محدودة ومعدودة، لكن أفعالهم، وَقْعَ أصواتهم، له مذاق آخر، ونكهة أخرى، لا تلتقي ولا تتفق مع الكروش المعبأة بمائدة القول وماء القلم، ولا تنتمي إلى ربطات العنق المزركشة والملونة بعرق الناس الذين يتمرغون بالعذاب والألم، حتى طعم دموعهم فيه من حَبَقِ الأرض وشهيق التراب كثير الكثير.
للبرتقال بأيديهم لون آخر، متوهج وبراق، ولليمون المغروس فوق قبورهم رائحة الجنة، وطعم الكوثر، هم يا سيدي، شيء مختلف تماما عنا، وعن عوالمنا الغاصة بالترهات والمماحكات، عالمنا المغرق بالبحث عن سبل مفتوحة معبدة دون أن يراها، بل ويدعي أنها غير موجودة، من أجل التمادي بالرحيل من عالم الحقيقة إلى عالم الوهم، من عالم محدد الأطراف والزوايا، إلى عالم يغرق بالتَّفَلُّت والتملُّص من بين أيدينا الملوثة بالنعومة، وعقولنا الملوثة بالبحث المتواصل عن اللاشيء، تحت شعارات البحث عن نهج الخلاص والتحرر.
– ولماذا -مع فهمك العميق لهم ولسرهم- لستَ واحدا منهم؟
– لأنني بكل بساطة، حمَلتُ القلمَ بين أناملي، وقلت: إن القلم والسيف يتفقان.
– وهل هذا عيب وخطأ؟
– بل عار.
– لكن الأمة تحتاج القلم مثلما تحتاج السيف.
– هذا ما ندّعيه نحن، لكن الحقيقة، حقيقة البطولة تقول غير ذلك.
– ماذا تقول؟
– تقول: إن محمدا عليه الصلاة والسلام، حمل الحق المطلق إلى جانب السيف المسلط، وإن صحابته رضوان الله عليهم، الذين حملوا القرآن في صدورهم، كانوا السباقين نحو دوائر البطولة ومربعات الشهادة.
لذلك دخلوا التاريخ من أعلى قِمَمِه، من أعلى أنواره، ولذلك بَقَوْا -هم ومن اقتدى بهم حتى يومنا هذا- مادة أقلامنا، وشخصيات أفكارنا، نقتات من سيرتهم، ونتغنى بأرواحهم، دون أن نصل إلى موطئ أقدامهم التي كانت تضرب الأرض بقوة البطولة، لتظل العلامة الفارقة بين ما هم، وما نحن؟
النرويج: 27-09-2006