يحملني على كتفه، أبتلُّ بنضح عرقه، يتعبني لهاثه وتؤلمني أظافره المتشبثة بي بقوة، يقرع الجرس؛ فينفتح الباب على صالون أثاثه فاخر، شاشة تلفاز كبيرة تعرض صور الحرب، وتقارير سمعتها مرارا وتكرارا من خلال مذياع شاحنة، ومن خلف جدار مستودع بارد ألقوني به على عجل أيضاً، وأخفوني وأخواتي عن الأعين. طاولة زجاجيّة تحيط بها كراسٍ مجلّلة بغطاء ذهبي تحيط به شريطة صفراء، ومكتبة تتزيّن بمجلّدات ضخمة أغلفتها أنيقة وجديدة كأنها لم تُمسس، أوراق مبعثرة وأقلام مذهبة ملقاة على مكتب فخم خلف كرسي دوّار. السيدة المعطرة يبدو أنها خرجت للتو من حمام دافئ، تحيط شعرها بمنشفة وردية، تبدو (كنفرتيتي)، كيف أعرف (نفرتيتي؟)؛ ألم تطلّ يوما جدتي المورقة على نافذتها. كم أودّ الآن لو سألت جدتي عن أبي مخلص هل تعرفه! كانت السيّدة تطلي أظافرها بألوان زاهية وتدندن بأغنية لا أعرفها. خرجت الكلمات مشوبة بلهاث حاملي:
-سيدتي أرسل لك أبو مخلص هذه…
-زيت؟
يومئ برأسه أنْ نعم. تخاطب الخادمة التي ترمقنا ببرود:
لحظة…، غيِّري لي المحطة، تنفخ أظافرها لتجفف طلاءها وتكمل: صدّعوا رأسنا بتقاريرهم.
يتأفف حاملي من انتظاره ومن ثقلي على كتفه والسيّدة غير مكترثة بالوقت ولا بحاملي.
_أفرغيها وارمِ الكرتونة كي لا تجذب الصراصر.
كم هذه السيّدة مقيتة! أشعرتني بإهانة ومذلّة.
(أأنا أجذب الصراصر؟).
تصرخ بالخادمة:
-ماذا قلت؟
تصفّ الخادمة عبوات الزيت على طاولة المطبخ، وتحملني بعد فراغي تعبر بي إلى الشرفة… يُبهرني كريستال الثريات وهي تعكس نور الشمس. أمتلئُ بالريح وأطير، تدور الدنيا بي، أسقط على الرصيف… يتلقفني طفل بلهفة المنتصر ويركض مبتهجا… ما أن يحلّ المساء حتى أصبح مأوى مريحا للطفل… أحاول جاهدة أن أحنو عليه، أحميه ما استطعت من هواء بارد ظالم لجسده الغضّ، أستمتع بتنفسه المنتظم وأراقب أحلامه المستحيلة… بيت كبير دافئ، أبواه يهدهدانه كي ينام… يطير فوق مائدة، أطفال يرمقونه برجاء، يدعوهم لحلوى شهيّة، أسمع قرقرة لعابه وهو يتلمّظ، أقفل غطائي فوقه كي أحميه من كلب شارد. أستيقظ ممتنة لدفء الشّمس المجانيّ، أسمع وقع خطوات قادمة بغضب نحوي، حذاء أنيق ملمّع جيدا بالورنيش يركلني فينتفض الطفل من نومه العميق
_أنت… أنت، يا قرد، ابتعد عن السيارة… متى نرتاح من قرفكم، تنام بكرتونة يا وسخ،
صاحب هذا الصوت ليس بغريب عني… تذكرت، هو ذاته أبو مخلص كيف أتوه عنه، كنت قد سمعت صراخه بجمع غفير
_لا يوجد زيت… انتهت المعونات.
سمعته بعد أن أمر بتنحيتي جانبا يفاوض على بيع أخواتي…
_السعر العالمي للزيت ارتفع، فكيف تريد مني ألّا أرفع السعر؟ زيت ذرة وليس عباد الشمس… أغلى، أغلى طبعا… اتفقنا.
ما أن يثب الطفل خائفا؛ حتى يطيرني أبو مخلص بركلته الوقحة، إلى الجهة المقابلة، يستقلّ سيّارته الفارهة وهو يشتم الطّفل وأباه وأمه. يتلقفني عامل النظافة ليغرزني بقسوة بوتد حديديّ في عربته، كان قد أعدّه لي ولأمثالي يسوق عربته مبتعدا وعينا الطّفل تودعانني بحسرة حارقة. دخلت وجلا معملا للتدوير، صيروني من جديد عجينة، ثم جففوني وسحبوني وصقلوني بقسوة، ثم دبغوني باسم جديد، لأصير غلافا لماعون ورق… حظي العاثر يعيدني إلى أبي مخلص. يجلس خلف مكتبه يسحب مني ورقة يطويها طولانيّا ويسجلّ أسماء وأرقام مبالغ مالية وصلت وأخرى لم تصل، وأنواع زيوت أخرى غير الّتي عرفتها، يتنهّد منتشيًا بانتصاره، يدور بكرسيّه يمينا ويسارا، يسحب ورقة اخرى يعنونها بـ (طفل مشرَّد)، أراقبه بذهول وهو يدوّن قصائد عن الوطن…
-ومنذ متى كنت شاعرا؟
-لا استغرب أن مثلك لا تواكب تطوراتي؛ فأنت لا تتابعين التغيّرات، ولا حتى صفحتي على الفيس بوك، اهتمامك منحصر بالتوافه.
تضحك وترمقه بنظرة ساخرة، وتتابع الفيلم متمتمه:
– الله… الله، عشنا وشفنا أبو مخلص شاعر المناسبات!
ـأتسخرين…؟، أي، نعم، يا سيدتي مناسبات مهمة أنا شاعرها والقصيدة سألقيها غدا باحتفال وطني. اسمعي هذه القصيدة، تُبكي الحجر، تُثير الشجن، تتحدث عن أطفال شرّدتهم الحرب.
وبكلّ ما أوتيت من قوّة أصفعه بحنقي منتفضة: بل تثير القرف.
يصرخ في وجه زوجته مذهولا:
-ماذا قلتِ؟
كانت هذه المرة الأولى الّتي أرى فيها علامات الخوف والقلق تكتسح وجهه، فيحملني وقصائده وأوراق حساباته الماليّة على عجل إلى نار المدفأة.