
متى بدأ هذا الدوار اللّعين في رأسه. ربما هي المرة الأولى وربما أكثر، لم يعرف. لكنّه رغم ذلك تأخذه الحيرة ويزداد إحساسه بالغربة. كلّما حاول التركيز يزداد الألم في رأسه ويفقد القدرة على الوقوف. يرى نفسه غارقاً في بحر هائج، أمواجه المتلاطمة تأخذه الى أعماق مظلمة تزرع الرّعب في قلبه. ضائعاً في متاهة مظلمة، يبحث عن جدار صلب يستند إليه كي لا يسقط في بئر لا قرار له ويفقد وعيه. لكنّه في كلّ مرةٍ يجد نفسه مرمياً على الأرض ولا يعرف كم مضى عليه من الوقت غائباً عن الوعي. تلك اليد الحنونة في كل مرة تساعده على النهوض، تعطيه عكازه كي يتوكأ عليها، يحاول أن يصل الى سريره قبل أن يسقط مرة أخرى. يستند على كتفها محاولاً الجلوس لكنّه لا يستطيع. ينظر إليها، نظراته التائهة تعكس الكثير من الأسئلة، وكلّما أراد أن يسألها يختنق صوته ويتلاشى مع الرياح. في تلك اللّحظات يجد نفسه ضعيفاً، هشاً، يتمنى الموت بعيداً عن هذا الإحساس الذي لا يستطيع التخلص منه ويترك غصة في القلب. شبكة عنكبوتية من الأوهام تجعل ذهنه في دوار مستمر. (أين انا؟). خائفاً سألها دون أن يحدد ملامح وجهها ودون أن يعرف كيف أتت لرؤيته بعد كل هذا الوقت الطويل من فقدانها. (لا تخف انت معي) إجابتها كانت بلسماً يمسح الجراح عن قلبه المتعب. مسحت دموعه والعرق الذي ينز من وجهه وفروة رأسه.
أجهش بالبكاء عندما ظهرت له وجوهٌ كثيرة، وجوه بَدتْ غريبة عنه لكنّها تترك اثراً عميقاً في نفسه، تدور حوله كزوبعة رمال متحركة، تبتعد عنه ثم تقترب أكثر حتى شعر أنّها بدأت تخترق وجوده المتهالك في هذا المكان الذي يشبه القبور المنبوذة. تمنّى أن يتعرف على واحد منهم، رفع يديه ثم ضغط على رأسه بكل ما يملك من قوة، أراد أن يتذكر الأحداث الماضية التي جمعته معهم، ربما هناك في الخنادق التي لا تجلب الّا الموت والدمار. وربما عندما كانوا يفرّون كالجرذان في تلك الصحراء الممتدة بلا نهاية تحت قصف الطائرات الحربية النفاثة. وربما كانوا يلتقون أيّام الأعياد، عندما كانوا صغاراً يذهبون الى الدواليب الخشبية الدوارة والمراجيح المثبتة على جذوع النخل. وعندما صاروا كباراً أصبحت دور السينما مقراً لتجمعاتهم. يزداد الألم كلّما حاول أن يتعرف على أحد هذه الوجوه التي تبدو له مألوفة للحظة ثم يفقدها قبل أن تتركه يتخبط في العدم. (لا تخف أنت معي ولن أتركك تواجه الألم وحدك). قالت له، وعندما أغمض عينيه سمع خطواتها البطيئة يرتفع عالياً تاركاً بصيص أمل كان قد فقده منذ مدة أحسّها طويلة جداّ. اقتربت ببطء حتى لامست جسمه المنهار. صوتها الدافئ وحنان أصابعها الذي أحسّه على وجهه أثار شجونه، ورغم هذا النسيان الذي يعيشه الآن الّا انّه تذكّرها أخيراً، تذكرها رغم الاختناق الذي أحسّه في صدره. (امّاه) ارتفع صوته باكياً (لا تتركيني وحدي، امسحي على قلبي، ابقي معي. أين ذهب أبي؟ اشتقت اليه كثيراً والى اخوتي وأخواتي. لماذا ذهبتم وتركتموني تحت أنقاض المنزل وحيداً أتلمس جثثكم الممزقة. أصرخ وأبكي خائفاً من صوت الطائرات والقنابل).