
نشر الكاتب أشرف أبو اليزيد نصه “أبي رسام خرائط” وقد ورد هذا المتن مثقلا بالرسائل والمعارف طارحا وباسطا عدة إشكاليات مهمة تزيد من تعميق التساؤل لدى هذه الفئة التي تتزود بالمعارف والعلوم من خلال هذه السرديات الي تساهم في صقل الشخصية وتحضيرها لليومي والمعيشي بكل تفاصيله الحياتية.
وقد حمل الكاتب نصه ما يجعل منه مادة تربوية ومعلوماتية تثقيفية هامة قل ما نجد هذا النوع من السرديات في أدب الطفل وقد وزع الكاتب متنه على فصلين هامين الرحلة تبعاتها ومستلزماتها والخريطة مادة ومضمونا .
ومابينهما ما بينهما من مسائل واشكالات تعددت فعددت ما عددت ومنها أهمية العلاقات الأسرية إذ المدرسة المعرفية الأولى هي العائلة التي تمد الطفل بالخطوط الأولى والعريضة لحاضره ومستقبله وقد زودته بالمادة الأخلاقية والتربوية والمعرفية ولعل أولها أهمية العلاقة بين الطفل ووالده أو والدته وفتح قنوات حوار متواصلة ودائمة في الزمان والمكان وهو مثال بطل القصة إذ يقول ” أحكي لأبي ما دار في المدرسة” بنية رد الخبر وتقييمه ونقاشه مع الأب وهذه هي العلاقة المطلوبة والتي تنضاف للعلاقة البيولوجية رافضين هنا العلاقة التسلطية االتي ترافقها الهيمنة وطمس التربية السليمة لطفل اليوم ورجل الغد ليتذكر بطل القصة دائما عبارات وتوصيات والده التي تتردد في أذنه كما يفتخر بوالده متقرب منه محب لعالمه الخرائطي كما مثلت مكتبة والده الورقية محرابه التي تزوده بالمعلومات والمعارف التي يتقاسمها مع أخته أولا ثم مع رفاقه في المدرسة كما مثل والده مرجعه الأول إذا وقف فهمه عن استيعاب ظاهرة أو مسألة أو استعصت أمامه إشكالية ما ليستعين به دائما وأبدا في عدة أمثلة قدمها الكاتب ومنها الرحلة التي تتطلب استعدادا ماديا وذهنيا فعن المادي منها فقد جلس مع والده ليعدا ماستحتويه حقيبة السفر والرحلة ليركز الأب على المنظار الذي يجب أن لا ينساه ليتمكن به من مشاهدة الظواهر الطبيعية .
أما عن الاستعداد الذهني فهو حصيلة قديمة فالطفل يملك كم معلوماتي ومعرفي تلقاه من عند والده في لحظة ما حول هذه الأمكنة وثرواتها الطبيعية والبيئية تبقى المشاهدة المباشرة وعلى عين المكان ليكتمل المشهد بين المرئي المسموع .
أما الاطار المكاني الثاني الذي يكتشفه الطفل ويتفاعل معه ويؤثر في شخصيته هي المدرسة بوابة المعارف والعلوم وحقل التعارف والتجاذب والتفاعل والتواصل ليتفاعل هنا الكاتب مع جزئية هامة وخطيرة وتتقاسمها هذه الأمكنة هناك حيث رشيد وهنا حيث المدارس الأخرى هي التنمر وتعدد الظواهر السلوكية الخاصة كالتوحد والانزواء والمظاهر الجسدية الغير مالوفة ومنها العاهات الخلقية ومع الألعاب في الساحات أو في غفلة من المربين يتهكم العديد من التلاميذ على زميل أو زميله وهنا قدم الكاتب مضمون آخر للتنمر إذ غالبا ما يرتبط التنمر بجسد الطفل المقابل أما هنا فكانت مهنة وعمل والد بطل الرواية” خرائطي” .
هذه المهنة التي جعلت منه محل سخرية تلحقها الهمهمات والضحكات المكتومة لتبدو عليه ملامح الحيرة والغضب في كل مرة يطرح فيها مهنة الاب ليأتي تفاعل الاطار التربوي بداية من الأستاذ الذي وبخ المجموعة التي سخرت من إجابة رشيد متحدثا عن عمل والده ثم إدارة المدرسة التي تعنف المتنمرين وهم قلة في فصل رشيد مع استعدادات الطفل لمقاومة هذا التنمر بوسائل نفسية ووجدانية فهو لن يكذب و هو فخور بوالده ومهنته التي أحبها مستعدا للرد عوض الصمت رفيقه قبل هذه اللحظة التي تضاعفت بعد ذلك عندما أشاد الأستاذ بأهمية هذه المهنة ليكون الأستاذ المثال الثاني والقدوة التي يجب الاقتداء بها وتقليدها والتأثر بها ذاكرا هواياته وميولاته كالقراءة واللغة والخط العربي ومهتم أيضا بالبرامج التاريخية ومنفتح على الفنون والعلوم معجب بعالم الخرائط.
ليقول الطفل هنا”سعدت جدا بكلمات الأستاذ حفني أول شخص يدافع عن مهنة أبي وأول شخص يسكت المتنمرين”
وثالث ما بينهما هوايات الأطفال المتعددة الأول عاشق الخرائط بتفاصيلها الدقيقة تصويرا ورسما وثانيهم موسيقار عازف للكمان ثالثهم مربي الحمام الزاجل.
أما الرحلة والتي مثلت سرديا الركيزة الثانية الخادمة للأولى و هي عالم الخرائط لتكون الرحلة بساطا سرديالهذا العالم فرغم أهميتها كفكرة وأحداث متسارعة إلا أنها تواصلت شكلا ومضمونا مع الفكرة الرئيسية التي أراد التحدث فيها وعنها الكاتب ألا وهي الخريطة تاريخا ورسماو تصورات وآفاقا.
فالرحلة مطلب تلمذي يصاحب التلميذ في المدارس و المعاهد والجامعات وما بعد لما تقدمه عمليا للطفل من معارف وعلوم واكتشاف وتفاعل مع الأمكنة والأزمنة والرفاق والمربين بعيدا عن الفصل والبيت.
وهنا اختارت المدرسة وادي الريان في واحة الفيوم أو وادي الحيتان كما يعرفها الناس وهو اختيار موفق لأن المكان على قائمة المحميات الطبيعية مع تفاصيل الاستعدادات المادية للرحلة كخلاص قيمه الاشتراك واستعددات المدرسة لنجاح الرحلة بتواجد المشرفين وتسجيل أرقام الهواتف وغيرها من المسائل الترتييبية وتوصيات الأستاذ بكتابة نصا تعبيريا عن الرحلة التي يجب أن نحترم فيها البيئة محافظين عليها” لأننا ضيوف هذا المكان” لكن ما حصل وأوقف هذه العملية والتقاء المسموع بالمرئي والتقاء المسموع القبلي بالمشاهد اللاحق أن اعترض الحافلة مجرمون أوقفوها واختطفوا الأصدقاء الثلاث لتبدأ رحلة أخرى لم يخطط لها الأولى مطلوبة ومحمولة على السعادة والفرحة والانطلاق والاكتشاف إلى ثانية مفروضة ومحمولة على الخوف والرعب ومفتوحة على احتمالات عديدة لكن بذكاء وفتنة الأصدقاء الذين استعانوا بالمعارف و بالحيوان وبالحواس للنجاة من المجرمين فكانت لعبة ولغة الشفرات كشفرة ثورة 19- 19 وكانت أصوات القطار والناي وزحام السوق فبعد التمتع الذي لامس منارات المآذن وأبراج الكنائس من النافذة صارت الكنيسة والجامع من العلامات الدالة في رسم مسار المجرمين للخريطة التي اشتغل عليها الطفال وكانت الخريطة حاضرة في أكثر من توقيت ومكان زمن الانتظار حدثهم عنها كنوع من التسلية في انتظار المجهول لتنجو المجموعة في الأخير ويعاد الاعتبار لعالم الخرائط الذي ساهم في هذا الانقاذ اذ قال الأستاذ ” ولكم دعوني أصارحكم ان الفضل الحقيقي في انقاذ أرواح أبناءنا يعود لفن الخرائط ولنجاح الأستاذ راشد في تعليم ابنه رشيد هذا الفن” مع تكريم والد البطل وبعث نادي لتعلم الخرائط.
لتكون الخريطة المرتكز الأول وسبب كتابة هذ السردية الطريفة والتي توزعت تفاصيلها التاريخية والتقنية والفنية طوال المتن الذي اشتغل عليه الكاتب فعن التاريخ ذكر الكاتب باللوح الطيني البابلي والحفر على العظام والأحجار والورق والقماش وجدران الكهوف وغرف الدفن والمقابر ثم الخرائط الأولى وأقدمها ورموزها واحتياجاتنا لها في التنقل وومسارات الطرق وتداخل المعارف في هذا الفن كالأساطير القديمة والجغرافيا والمخلوقات العجيبة والأسطورية وصولا إلى الخرائط الرقمية وأدوات رسم الخرائط كالأحبار الملونة والأوراق الشفافة والرصاص والممحاة وصولا للأجهزة الحديثة .
لكن ما يستوقفك وانت تتابع مسار تطور هذا الفن والعلم استحضار الكاتب للعلماء الذين كانت لهم بصمات وأثر في هذا العلم من العرب وغيرهم وكيف استفادت الحضارات من منجزات غيرها لتطورها وتتقدم بهذا العلم ذاكرا العديد منهم كأرسطو وبيتاغورس وبطليموس والخوارزمي والبيروني وابن حوقل والادريسي وكيف تراكمت النظريات وتفاعل العلماء فيما بينهم وكيف ثبت الثاني نظرية الأ ول وفي غيرها صحح الثاني نظرية الأول كما عرج الكاتب على أهمية العلاقة القديمة بين السائس المثقف المحب للعلوم والمعارف والعالم المحتاج للدعم المادي والمال لإنجاز بحوثه ونظرياته ليقدم الكاتب هنا مثالين أولهما علاقة الملك روجر الثاني والادريسي أين دفع الملك تكاليف المساعدين للقيام بالرحلات ورسم خرائط طرقها وهذا الخليفة العباسي المأ مون كلف العديد من الجغرافيين بإعادة قياس المسافة على الأرض مارا معلقا على إشكالية هامة ضياع العديد من الانجازات العلمية و تحدث عنها العلماء لكن لا أ ثر لها وقد ذكر منها كرة كراتيس يقول الكاتب” في اليونان كان الاهتمام برسم الخرائط كثيرا وساعدت فكرة استدارة العالم على رسم أول خريطة كروية أنشأها فيلسوف يوناني آخر اسمه كراتيس لا توجد نسخ باقية لكن الكتاب اللاحقين وصفوها بأنها كروية الشكل” كما قدم مثال ثاني ينسب ليوناردو فنشي وثالث ينسب للقزويني.
وللحيوان نصيب في علاقته بالخريطة اذ يقول سامي” إن للحمام الزاجل قدرة طبيعيةعلى رسم خريطة المجال المغناطيسي الخاص بالأرض و هكذا يعرف الطرق والأماكن”.
ارتبط المتن السردي لدى الكاتب بمفاتيح تعاد ويحتاجها أدب الطفل وهي لعبة الأ رقام فكان الرقم ثلاثة السحري والأسطوري وقد عدد منه فكانت ثلاثة مجموعات وثلاثة مجرمين وثلاثة مرشدين مع لعبة الوقت في قراءة سردية نوعية يمر الوقت بسرعة مع الموسيقى وصديقهم عازف الكمان ولا يمر بسرعة في مجالسة صاحب الحمام الزاجل ليمر بطيئا زمن الاختطاف مع غيرها من الإشكاليات والمداخل التي اشتغل عليها الكاتب عرضا ومسحا
كل هذا صاحبته لغة سلسلة ساحرة تشدك تفاصيل المتن وعمق العرض والكم الهائل من المعارف والمعلومات التي صاحبتها رؤية ثاقبة ليفتح بعدها الطفل والقارئ الكتب وعالم الانترنات مواصلا تثقيف نفسه في هذا الفن الجميل.