الأدب الإسلامي :نظرة عامة
لقد جاء الإسلام منهجا عاما متكاملا لخدمة الإنسان عبر توجيهه أفعاله ضمن نظرته للحياة ،وفي هذه النظرة يندرج الفن بكل أنواعه وأهدافه.
و الأدب نشاط إبداعي إنساني يستمد جدواه من انخراطه في الواقع لتشخيصه والإضافة إليه ، موجها إلى المفيد الصالح ،محذرا من الضار المهلك، وبذلك يصير وسيلة تربوية ينبغي إيلاءها أهمية قصوى ،فقد يستغل استغلالا مغرضا يفضي إلى ما لا تحمد عقباه ، خاصة حين يشحن بما يدفع إلى الانحلال والتفسخ الخلقي ، فكما يحبب إليك الجميل ، يمكن أن يحبب إليك عكسه، وقد يكون فارغا لا يحمل سوى متعة ناقصة ،فكل ما يرتبط بحياة المسلم لا ينبغي أن يكون مضيعة للوقت والجهد والقيم. وينبغي أن يبتعد عن التجريد الذي يجعل المضامين سرابا لا يمكن على قبضه والاستفادة منه.”فالأدب الإسلامي كمنهج أو تيار لا يتحدد على ضوء التفكير المجرد ،وإنما يتحدد على أرض الواقع ،من خلال التجارب الإبداعية للأدباء الإسلاميين ،الذين يصدرون عن تصور إسلامي صحيح واضح،ويعيشون تجربة الحياة الإسلامية بكل معاناتها على أرض الواقع وفي دنيا الناس” 1 . ولقد صارت الحاجة ضرورية إلى استعادة الاهتمام بالأدب الإسلامي في عالم متلاطم يعج بما يهدم القيم وينشر الرذائل بعيدا عن واقع يحتاج إلى كثير من التصحيحات الخلقية استعادة لشخصية الإنسان وفق التصور الذي رسمه الإسلام لحياة أتباعه في علاقتهم ببعضهم وبغيرهم، إذ”كيف يمكن أن نتصور إنتاجا أدبيا ما دون أن يكون هذا الإنتاج متصلا اتصالا وثيقا بالمسألة الثقافية ، ودون أن يكون له ارتباط بالمجتمع في مختلف صوره وأشكاله،أي دون أن يكون م”مؤسسا” على تصور ما للإنتاج الفني والأدبي أو على صلة بالمتجتمع في واقعه وصيرورته؟وكيف لناأن نتخيل هذا “التصور” الفني أو الأدبي بدون أن يكون له “تاريخه الذي هو جزء من تاريخ المجتمع الذي ينتمي إليه.” 2
لقد تأثرنا بالغرب في كل مناحيه ،وضمن ذلك طريقة تعبيره عن الحياة ،فصار الكثير من الفنون الأدبية فارغة مما يمكن أن يفيد القارئ .. إنتاجات أدبية جوفاء ،جميلة المبنى سلبية المضامين إن كانت تحمل مضامين ،فهناك نصوص غارقة في التجريد والغموض بعيدا عن قيم مرتجاة ،وأهداف مسطرة انطلاقا من التصور الإسلامي للحياة ، “ومن الغريب أن تجد بين أبناء المسلمين من ينادي بإبعاد دينهم عن قيادة المجتمع ، وتوجيه الحياة فيه،على حين نجد من مفكري الغرب من يترقب أو يتمنى أن يكون للإسلام دور في هداية المجتمع العالمي، والأخذ بيديه إلى الصراط المستقيم، أو المنهج المتوازن الذي هو طابع هذا الدين3. فـ “الأدب صناعة ، شأنه شأن كثير من الصناعات التي تتعلق بالنشاط البشري ولكنه أشرف الصناعات لأنه يصوغ وجدان الكون والمجتمع. والأدب من هذا المنطلق يتكامل مع الدين ويتعاونان معا، أي الأدب والدين ،في تشكيل إنسان صالح يكون خليفة الله في أرضه،ينصر الخير عن طريق الدين، ويحقق الجمال عن طريق الأدب4.
الأدب انطلاقا مما سبق رفيق الدعوات الدينية إلى الجمال في الحدود التي تجعل الجمال يخدم التربية ،و يجعل التربية تخدم الجمال الروحي الذي يضفي على الحياة التوازن والانسجام المبني على التسامح والتفاعل المثمر العادل النافع. وبهذا نجد الأدب من أبرز المعايير العاكسة لأحوال الأمم ،فهو” المقياس الحقيقي لما وصلت إليه من رقي حضاري ، وهو السجل الذي نقرأ فيه نظرتهاإلى الحياة والكون والناس، ذلك لأن الأدب يفترض أن لا يكتفي بتسجيل الحوادث والوقائع تسجيلا فتوغرافيا ساكنا وإنما يبعث فيه روح العصر ونبضه المتجدد، فيحس القارئ بحيويته و حركيته «فالأدب يمثل الحياة ويصورها ويعرض على القارئ والسامع صورا تنعكس في جميع مجالات العيش المختلفة ، ويعرض عرضا جميلا ومؤثرا لشتى جوانبها وأشكالها ، فتبدو فيه ملامح الكون والحياة وأشكالها المتنوعة”5 ،وكل فن لا يحمل مسارات المجتمع الذي ينتمي إليه صاحبه فهو فن يتيم لا جذور له ، ولا أفق له ، يولد وسرعان ما ينمحي إلى الأبد ، فالفن يتبث ويخلد بخلود القيم التي يحملها ويجسدها باثا إياها بين أفراد مجتمعه. ويقول رائد الأدب الإسلامي الدكتور نجيب الكيلاني “الأدب الذي يفرزه الفنان ،لا يمكن فصله عن حياته وهمومه وأفكاره،وعقيدته،هذا إيماني الذي لا يتزعزع ،من خلال تجاربي ووقائع حياتي،وجمهور القصة جمهور واسع ، ولا بد أن ينبض الفن القصصي بآمال الناس وأحلامهم وآلامهم، كالمسرح مثلا،والخروج عن هذا التصور يعزل القصة أو على الأقل يجعلها تقتصر على الجانب الترفيهي، وهو برغم أهميته ليس كل شيء…”6
انطلاقا مما سبق ستكون كل الأجناس الأدبية محكومة بهذا التصور الذي يجعلها هادفة وفق المنابع المسطرة في التعاليم الإسلامية المنسجمة مع فطرة الإنسان السليمة. وفي هذا السياق تندرج القصة كفن جماهيري له وزنه في دنيا القراء.
القصة في الأدب الإسلامي : السمات والغايات
القصة القصيرة كسائر الأجناس الأدبية تتتطلب مقومات فنية وجمالية علاوة على أهداف تروم إيصالها إلى القارئ. وكل تعريف للقصة يتطرق لهذه المقومات باعتبارها الركائز الفنية التي تقوم عليها ، وهي مقومات تجعلها في مقدمة الفنون الأدبية المؤثرة في الجماهير مما يدفع البعض ليعتبرها جسرا ناجعا للإرشاد والتوجيه قصد الالتزام بمبادئ وقيم الإسلام. فهي تؤثر تأثيرا على النفوس وعلى العقول وتجعلها تتبصر الممنوع والمباح في العلائق الإنسانية في مجتمع معين.فـ” من بعض سمات القصة القصيرة الاعتماد على حبكة واحدة،وأنها لا تتحمل الحبكات الفرعية، أي أنها تعتمد على موقف واحد فردي ،فهي لا تعالج قضايا جماعية، لذلك فإن عدد شخصياتها محدد جدا.كما أنها لا تشغل حيزا زمنيا كبيرا،وليس بها فرصة لنقطة التحول،أو انعطاف الحدث.أحيانا تبدأ بداية تفسيرية،ولكن عادة ما تبدأ بصورة مفاجئة غير متوقعة.
القصة القصيرة تقترب من روح الدراما أكثر منها إلى روح الرواية.وتأخذ من الملحمة بعض عناصرها، مثل :المفاجآت والإثارة، والنهاية المعلقة، والنهايات الغامضة.
والقصة القصيرة أتاحت للقارئ أن يتخيل الصورة التي في المؤلف، وتعطي نوعا من الإثارة وشد الانتباه، والقدرة على التعليق التي قد لا نحصل عليها أحيانا في الصورة الشعرية.إن هذا الأسلوب جعلنا نرتبط بالكاتب، ونتواصل معه ونزداد قربا من خياله وعالمه الخاص7.
ومن هنا ينبغي لكل أديب يريد أن يخدم الإسلام بإنتاجه القصصي أو غيره أن يتجه اتجاها يستقي مادته من الإسلام وتعاليمه المتميزة التي جعلت منه دينا عالميا يستجيب لكل ما هو إنساني وفق ضوابط محددة.
ولعل القصة الإسلامية باعتبارها الجنس الأدبي الذي صار يفرض نفسه في دنيا الأدب مطلوبة بالانخراط في إغناء الأدب الإسلامي بما ستحمله من مسيجات الثقافة الإسلامية في عصر العولمة التي تهددها الثقافات والحضارات بالمسخ والتشويه ،ومن شأن القصة وكل أنواع الأدب الإسلامي غرس المناعة وحب التعاليم الإسلامية اتقاء النزوع والسقوط في وحل الانفتاح المطلق الذي يجعلنا لا نفرق بين الصالح والطالح من القيم، ولا بد من تسليح القصة وكل الأدب بما يشحذ الهمم ويبصر العقول، يقول نجيب الكيلاني “إن من يتلقى كل شيء بقبول حسن، ويقبل كل علم ،ويؤمن بكل نظرية،دون فحص أو تمحيص، فيلغي شخصيته ويتناسى وجوده،مثله كمثل الذي فقد حاسة الذوق ،فهو يأكل الشهد،دون أن يشعر له بلذة ،ويتناول المر دون أن يدري له غصة أو مرارة…إنه يأكل فقط ليملأ معدة خاوية، ويقضي عادة متبعة،وتقليدا جاريا..ولكي يعيش !..8
إن نجاعة القصة في الأدب الإسلامي لا ينبغي أن تقتصر على مضمونها بل يجب أن تعنى بالشكل عناية تجعلها تفلح في التأثير على القارئ ، ينبغي إبراز الشخصية إبرازا يجعلها نموذجا يحتدى به، شخصية تمثل قيم الإسلام ،علاوة على فكرة تستقي مضمونها من الإسلام، ومن ذلك التسامح ، والشجاعة ، والتآزر، والبر ،والرحمة …
القصة في الأدب الإسلامي تتقاسم العناصر الفنية مع القصة العالمية لكنها تنفرد بالأفكار والمواقف التي تسند إلى الشخصية باعتبارها شخصية تتعامل مع غيرها في بيئة إسلامية أو غيرها تعاملا ذا صلة بهذا الدين الحنيف.
ونشير إلى كون الأدب النبوي حافلا بالقصص التي يمكن اتخاذها مرجعا في الطرح عبر التشخيص والإلفات والنقد وطرح البدائل للأوضاع التي تحتاج إلى تغيير.
“ إن أهم سؤال يطرحه القارئ على نفسه بعد قراءة القصة هو: هل تركت في النفس أثرًا لا يُنسى؟ وهل هذا الأثر الذي تركتْه – إن كانت قد فعلت ذلك – ناتج عن سلسلة مِن الحوادث أو عن شخصية من الشخصيات، أو عن فِكرَة مِن الفِكَر أو عن صورة لمجتمع في فترة معينة أو لجماعة من الجماعات؟
هذا الأثر هو العنصر السائد في القصة، وهو الطاقة المُحرِّكة فيها، والتي تستطيع أن تجعل القصة تحيا أبد الدهر، وتؤثِّر كلما قرأها قارئ أو شاهد أدوارها ممثَّلَة، حتى ليمكنه أن يرصد مظاهر هذه الحياة فيميِّز بين الشجرة المُترعرِعة الناضرة، والشجرة الذابلة الجافة.
والقاصُّ خالق مُبدع، تزدحم الحوادث والشخصيات والأفكار في رأسه، ولا يسعه إلا أن ينفخ فيها الروح لتتحدَّث بنعمة الحياة”.9 .
ولا نتصور مربيا يريد إمتاع طلابه وتربيتهم على قيم معينة دون أن يلجأ في ذلك إلى القصص بين الحين والحين ،فهي ممتعة ومفيدة في ذات الوقت مما يجعلها تثير الانتباه والتركيز فيكون ذلك مناسبة لإيصال القيم والأخلاق المستهدفة في الدروس التي يتلقاها التلاميذ في المدارس بصيغة جذابة مثمرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
1 ـ محمد بريغيش ،نحو أدب إسلامي معاصر ،دراسات في القصة المعاصرة مع عرض ودراسة لعدد من قصص الدكتور نجيب الكيلاني ،مؤسسة الرسالة ،بيروت الطبعة الأولى 1414هـ ،1994م ، ص 5.
2 ـ سعيد يقطين ،الأدب والمؤسسة ،كتاب الجيب،منشورات الزمن ، مارس 2000 ص 13.
3 ـ الدكتور يوسف القرضاوي ،الدين في عصر العلم ،مكتبة وهيبة ،الطبعة الأولى1416هــ ـ 1995م ص 115. وانطلاقا من هذه الحيثيات فالأدب والفنون دون استثناء قنوات ووسائل تؤدي إلى غايات مفروضة ومرسومة تتعلق بالفضائل ومكارم الأخلاق.
4 ـ أ. د . عبد الحميد إبراهيم أدب الطفل من منظور إسلامي .السندباد والمعلم صالح ، الأدب الإسلامي العدد 22 ـ 1420هـ ص 14.
5 ـ محمد الرابع الحسني الندوي- الأدب الإسلامي وصلته بالحياة- مؤسسة الرسالة ط.ب( ) 1985.ص: 17.
6 ـ الدكتور نجيب الكيلاني ،روايات نجيب الكيلاني من روائع الأدب الإسلامي ،تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية ،الطبعة الأولى 1437هـ ـ 2015م ص 18 ،19.
7ـ إبداعات عالمية العدد 360:حامل الإكليل (قصص مختارة من الأدب العالمي ،تأليف مجموعة من القاصين ،ترجمة د,إبراهيم أبوهشهش،مراجعة وتقديم ,عطية العقاد, ،الطبعة الأولى 2006م ، ص 15.
8 ـ نجيب الكيلاني ، إقبال الشاعر الثائر ،مؤسسة الرسالة،الطبعة الرابعة 1408هـ ـ 1988م ص 22.
9 ـ الدكتور محمد يوسف نجم ، فن القصة ،دار صادر ، دار الشروق، الطبعة الأولى 1996م، ص 13.