( النوم في حقل الكرز) رواية للكاتب أزهر جرجيس تتميّز بعنوان يشدّ انتباه القارئ ويثير العديد من الأفكار والتساؤلات حيث تتحدث الرواية في موضوعها الرئيس عن المهاجر العراقي سعيد الذي أُجبر على مغادرة وطنه نتيجة لنكتة سياسية كادت أن تؤدّي به للاعتقال وربما للعذاب والموت وتطرح الرواية سؤال الهجرة والعودة من خلال وصف دقيق لمشاهد الهجرة والتشرد والقتل والدمار والمقابر الجماعية، ويبدأ الكاتب روايته بكلمات للشاعر الفرنسي جاك بريفير ( 1900-1977 ) ( الحياة حبة كرز نواتها الموت ) ولكنّ غاية العنوان ودوره في الحكاية تتضحُ من خلال ما يذكره المهاجر العراقي سعيد عن جاره العجوز النرويجي ياكوب يوندال والذي قام قبل وفاته بشراء حقل من الكرز وأوصى أن يدفن فيه وحين يستفسر سعيد عن السبب تأتيه إجابة العجوز والتي يقول من خلالها الروائي غايته من هذا العنوان ( … تقول أسطورة قديمة بأن الانسان يتحوّل بعد الموت إلى موجود آخر يتلاءم مع ما حوله ، فإن دُفن في الجبال تحوّل إلى صخرة ، وإن دُفن في البحر صار سمكة ، وإن دُفن في الصحراء غدا رملة ، لذا قررت أن أُدفن في حقل الكرز كي أتحول إلى شجرة كرز .. المجد لمن نام في حقل كرز .. ص 207 ) … وتأتي المفارقة المحزنة حينما يحرمُ هذا المهاجر الغريب من قبر يضم رفاته في وطنه نتيجة للصراعات الطائفية والتمزق السياسي والاعتقالات العشوائية ولكنّ ورثة العجوز ياكوب يسمحون لجثمانه أن يستقر- كما تمنى – تحت ظلال شجر الكرز .
رسم الكاتب أزهر جرجيس العلاقة العاطفية بين سعيد وأمه بطريقة مميّزة وأجاد في ربطها بذكريات الوطن والطفولة بحيث ظهر مفهوم الأمومة كعاطفة وارتباط شاعري بحالة مأمولة من الأمن والاستقرار والسلام فالطفل سعيد يلجأ لوالدته سريعا حين يسمع صوت الطائرات الحربية ( … تذكرت صوت اول طائرة حربية سمعته في حياتي ، كنت حينها في التاسعة من عمري أداعب الكرة في الزقاق مع رفاقي ، فدوّى في الأرجاء صريخ صفارات إنذار جعلنا نهرع خائفين نحو بيوتنا ، دخلت البيت مسرعا واختبأت تحن عباءة أمي بانتظار وقوع الكارثة ، حلّقت بعد لحظات طائرات حربية بارتفاع منخفض كاد صوتها يفلق راسي ، أغلقت امي بكلتا يديها اذنيّ وراحت تردد : بردا وسلاما .. بردا وسلاما … بردا وسلاما ص 28) … تظهرُ الأمّ في هذه الرواية وهي تعاني هول المفارقات السياسية نتيجة لاعتقال واختفاء الابّ المعارض للنظام ومطاردة الابن من أجل نكتة تنتقد الديكتاتور مما يجعلها تلهث وراء المستحيل كي يهرب ابنها من هول ما ينتظره من اعتقال وتعذيب وهي الأمّ التي تعاني من فقدان الزوج الذي ابتلعته سجون وزنازين التعذيب فتقوم برعاية البيت ومواجهة أصعب الظروف الحياتية (…. أغلقت ام سعيد الباب بوجه كل من جاء لخطبتها وامتهنت الخياطة كي تضع أمامي خبزا خاليا من طعم الذل، كانت حياتنا مريرة في بغداد لم يمدّ لنا أحد يد العون، بمن فيهم خالي إبراهيم الذي كان يتصرف معنا وكأننا دمامل يخاف أن تصيبه العدوى … ص 35) يرسمُ أزهر جرجيس شخصية الأمّ العراقية من خلال أم سعيد فتظهر كشخصية قوية قادرة على مواجهة الواقع القاسي حيث تواجه احتمال فقدان ابنها بقوة وصلابة فتتغلّب على عاطفتها وتحثّه على الهرب من واقع سياسي مليء بالكبت والقمع والمعاناة ( ما شغلني حال أمي أي محنة تلك التي وضعت السماء فيها أمي ،وأيّ قدر سيء الحظ هذه البلاد التي لا تشبع من قهر الأمهات! أعطتني بعدما أدخلتني وأغلقت الباب بالمزلاج لفافة دنانير كانت مربوطة بخيط صوفيّ وقالت: لا عيش لك هنا بعد الآن… خذ هذا المبلغ وهاجر قبل أن تفجعني بك ص 41 ) وتظهر عاطفة الام وهلعها على ابنها في مشهد الوداع الأخير وكأنّها تفارق قطعة من جسدها فتضمه إليها بعد أن أدركت أن هذه اللحظة المحزنة هي آخر اللقاءات ( … عصرتُ يديها وطبعتُ على رأسها قبلة فألصقت فمها في عنقي وشمتني شمة طويلة ، ثم انفجرت بالبكاء مثل سحابة ماطرة ، لقد شعرت بأن قلبها يوشك على التوقف من سرعة الخفقان ، احتضنتها مسحت على كتفيها ، رجوتها أن تهدأ لكن دون جدوى فقلبها كان يدقّ وكأنه طبل في يد قبيلة من الهنود ، في النهاية وعند باب الحافلة قال لها جلال محاولا مواساتها : لا تخافي على سعيد يا عمة ولا تحزني لفراقه سيعود ذات يوم .. اطمئني، لكنّ نظرتها وهي تلوح لي من خلف الزجاج كانت تقول بأني لن أعود ص 44) ورغم مسافات الفراق الشاسعة تستمر هذه العاطفة بالتوهج داخل حنايا الشاب المهاجر وكأنّها تُمثل الجزء الأكبر من حنين الغريب إلى وطنه فها هو يطلب منها أن تدعو له بالتوفيق من أجل الحصول على وظيفته الجديدة (في مكتب البريد ) في بلاد اللجوء ( في المساء اتصلت بأمي طلبت منها أن تصلّي لأجلي كي أحصل على الوظيفة ، أمي كثيرة الصلاة لأجلي لكنها لا تلتزم بما أطلب منها أن تدعي به ،فيما مضى رجوتها أن تدعو لي بالحصول على اللجوء فراحت تهمس في صلاتها إلهي وأنت جاهي وفق سعيد وأرجعه سالما ، كنت أقول لها : يا أم سعيد يا أمي هذا خطأ هذه الدعوة تعيدني إلى العراق أدعي لي باللجوء لا بالطرد أرجوك فترد عليّ ببرود وثقة تامتين لا عليك هو يعدلها من عنده. ماذا تفهم انت من شغل الله؟! ص 113)
رواية النوم في حقل الكرز تتناول عدة أفكار ومواضيع تتراوح ما بين الهجرة والعودة وما بين الوطن والمنفى وما بين السلام والحرب وما بين الأمان والخوف فهي رواية الأسئلة التي يلقيها الكاتب أزهر جرجيس كإضاءات هادئة أحيانا وأحيانا أخرى كقنابل متفجرة فهي في معظم مفاصلها تطرح مفارقات ومقارنات متداخلة وتترك للقارئ حريته في أن يستمتع أو يتألم أو يفكّر مع بطل الرواية سعيد والذي يحاول في وطنه البديل ( النرويج ) أن يكون إنسانا جديدا قادرا على الاندماج في مجتمعه الجديد ومواجهة أية علامات أو إشارات عنصرية بمزيد من التروّي والّتقبّل والتفكير، فبعد أن يستقر سعيد في عمله الجديد ينفجرُ سؤال العودة مُخلفا كثيرا من الآلام والذكريات الموجعة (عليك أن تعود إلى بغداد فورا ) هكذا أرسلت الصحفية عبير كاظم مراسلة محطة ال بي بي سي من أجواء بغداد الملتهبة بالأحداث للمهاجر سعيد القابع في صقيع النرويج البارد ( … لماذا تريد مني عبير أن أعود على الفور يا ترى ؟! لم الآن بالتحديد ؟! لقد بدأ موسم العودة إلى بغداد في نيسان 2003م غادر حينها آلاف العراقيين منافيهم ، عائدين إلى هناك بمحض إرادتهم منهم من كان يلهث خلف السلطة مثل كلب صيد شره ومنهم من عاد ليستثمر أمواله في مشاريع تبيض له ذهبا صافيا بلا ضرائب ومنهم من ظنّ بأنّ الوطن صار واسعا بما فيه الكفاية لحمله … ص 22 ) مرة أخرى يطرح الكاتب أزهر جرجيس سؤال الهجرة والعودة من خلال البحث عن مفهوم الوطن لدى المواطن المسحوق ولدى مُختلف شرائح المجتمع من سلطة حاكمة ومعارضة مقموعة وتجّار جشعين وأدباء منافقين ومهاجرين يائسين وعائدين بلا هدف او عنوان ( …. العراقيون يشبهون السمك إلى حد بعيد حالما يخرجون من النهر يشعرون بالاختناق لذا تراهم أينما رحلوا شقوا نهرا ومارسوا فيه حياتهم السمكية، ليس هذا فحسب، بل هم يشبهون السمك في قصر الذاكرة أيضا فكلاهما ينسى الفخ سريعا ليقع فيه من جديد ص 53) على امتداد صفحات الرواية يصوّر الكاتب معاناة الهجرة بشكل تراجيدي مع بعض الكوميديا السوداء فهو يصف عملية تجمع اللاجئين بشكل عشوائي وتحوّلهم إلى مجرد أرقام مثبتة على هويات تمنحهم إياها دائرة الهجرة مع ما يرافق ذلك من ألم نفسي وتمزق عاطفيّ وحالة انفصال عن الواقع والحياة ويساعد الحظّ سعيد بوصوله سالما الى الوطن البديل بعد رحلة مثقلة بالخوف والمعاناة والموت حيث يشخّص واقع الحال قائلا ( … كانت هويتي تحمل الرقم سبعمائة وسبعة وسبعين وسينادونني بعد ذلك سبعة سبعة سبعة ، لم أكن مكترثا لما سينادونني به واقعا اذا ما دمت سأحصل على سرير دافئ في وطن آمن فلا ضير إذا امسيت ثلاث سبعات أو تسع خمسات أو صفرا على الشمال حتى ، لقد امتلكت فيما مضى أسماء كثيرة لكنها لم تجلب لي الدفء.. منحتني أمي مثلا اسم سعيد فكنت يتيما مكسور الخاطر لم أر السعادة يوما في حياتي ص84) ومع حصول سعيد على اللجوء في النرويج يشعر بأن بابا سحريا قد فتح له وكأنّ الماضي بكل معاناته وآلامه قد اختفى حينما أتاه الخبر المنتظر (لقد حصلت على اللجوء في النرويج) فيحدث نفسه قائلا (أخيرا حصلت على وطن بديل يا الله! أخيرا صار من حقي الشعور بالأمان … ص 96) ويواصل أزهر جرجيس وصف طريقة تعامل سعيد مع مجتمعه الجديد مع ما ينتابه من ذكريات وأحزان تُجبره في أحيان كثيرة على العودة للماضي وتذكره ( … فالأوطان البديلة لا تمنحنا الراحة الكاملة ما دمنا قد قضينا ثلث حياتنا هناك حيث الأزقة الضيقة والبيوت المتراصة ورائحة الخبز الآتية من تنانير الطين ، هذا النوع من الأوطان مهما كان رؤوما بنا ومسالما يظل المرء منا يحنّ إلى أول زقاق داعب فيه الكرة مع رفاقه .. ص 137 ) ويُمثّل لقاء سعيد بمدرسة اللغة النرويجية مثالا على التقاء حضارتين مختلفتين فهي تُدرّسه لغة الوطن البديل من أجل المستقبل القادم وهو يهيم بها حبا وعشقا متأثرا بالعاشق العربي القادم من التاريخ البعيد ويبلغ اللقاء ذروته حينما توافق المدرسة الجميلة ابنة حضارة الفايكنغ على دعوة ابن الرافدين لتناول القهوة ( … أعددت هناك جلسة شرقية ستكون الخطوة الأولى في تلاقح الحضارتين ميزابوتاميا والفايكنغ في المنتصف تقف أرجيلة بغدادية مزخرفة باللازورد يعتليها فنجان فخاري معبأ بخليط العنب المخمر منذ نكسة حزيران 1967م فوق الفنجان تستريح جمرتان متوهجتان كأنهما حجر الزمرد الأحمر وقرب الأرجيلة منضدة ينتصب فوقها سماور تفوح منه رائحة الشاي المهيّل وأقداح مذهبة وأنيقة كعرائس الاناضول .. ص 105)
ويصور الكاتب عملية البحث عن رفات والد سعيد كعملية انتحارية مع ما رافقها من مشاهد المعاناة اثناء العودة من اجل البحث في المقابر الجماعية التي تم اكتشافها حيث يتلقى سعيد المكالمة المفاجئة من الصحفية عبير والتي توضح له ( .. لقد تم العثور على أبيك وعليك العودة لاستلام رفاته ص 125 ) ان العثور على جثة الوالد المفقود يشكل للبطل سعيد سببا للعودة ومغادرة النرويج والانطلاق نحو الوطن حيث يعود في طريقه نحو مكانه الأول وفي مقابل مشهد العودة المفاجئة والقسرية يكون هناك مشهد الرحيل المستمر حيث ما زال هناك من يترك وطنه ويغادر نحو مجاهيل المنافي كل هذه المشاهد المؤلمة يصورها الكاتب أزهر جرجيس من خلال المشاعر المتناقضة التي تنتاب سعيد وهو يرى بني وطنه وهم يرحلون ( راح نهار السابع من تموز ينتصف ، الشمس تذيب الإسفلت والطريق الدولي موحش وشبه مهجور لم أر على مدى ساعات طويلة سوى بضعة سيارات لعوائل مغادرة باتجاه الأردن سألت وائل سائق الجيمسي المهذار عن السرّ وراء ترك هؤلاء الناس للبلد والنزوح نحو الأردن فقال علمها عند ربي … ص 139 ) ويحاول الكاتب ان يستغل عودة البطل في تصوير مشاهد الدمار وآثار الحروب والمجازر والموت ( ..لقد بدت بغداد منهكة من الأعلى ، المحال التجارية أغلقت قبل ان تسدل ستارة الليل والكلاب السائبة تنتشر في الازقة لتشارك اللصوص الغنيمة أكداس من النقابات تسفّ وجه المدينة ،وحواجز كونكريتية كئيبة تنام على صدرها وتقطّع أوصالها بمشرط الدواعي الأمنية ، كان زعيق سارات الشرطة ومواكب المسؤولين لا يهدأ وكنت بين الحين والآخر اسمع صوت لعلعة الرصاص في السماء ص 170 ) ثم يصف الروائي أزهر جرجيس التحوّلات التي سيطرت على العاصمة بغداد بفعل الحروب والمجازر والصراع الطائفي الذي يصبغ كثيرا من جوانب الحياة البائسة مما يضطر سعيد لاستخدام هوية مزيفة كي يستطيع اجتياز الحواجز الطائفية ( … علي وعمر اسمان لا يشبهانني منحني إياهما احد مزوري بغداد مقابل ثلاثين دولارا بعد البقشيش فعصابات الموت بدأت تنتشر كالقمل في رأس المدينة وأنت لا تدري متى يظهر امامك حفنة من الملثمين ليقطعوا عليك الطريق مطالبين بما يثبت انتماءك إلى علي دون عمر أو العكس … ص 181 ) هي رحلة الحصول على كومة من العظام وجمجمة متوسطة الحجم في كيس بلاستيكي اسود ، لقد قام سعيد بالتقاط صورة لهذه البقايا رغم انه غير متيقن أنها رفات الفقيد، وتبدو المفارقة كبيرة حينما تتناثر هذه البقايا البشرية وتتحطم بعد تعرض سعيد للخطف من قبل جماعة طائفية ( ..في الطريق سلبني أحد الخاطفين الهاتف المحمول وحقيبة الكتف ثم تناول الكيس الأسود كي يعرف ما فيه لكنّ البيك أب ارتفعت إلى الأعلى وهبطت بسبب مطبّ لم ينتبه إليه السائق ، فطار الكيس من يد الخاطف وتناقر ما فيه على الطريق ، مرت في الأثناء شاحنة نقل مسرعة دهست الجمجمة وسحقت العظام المتناثرة ص 195 ) …. هكذا تنتهي بقايا الاب ولا يتبقى لدي سعيد سوى صورة لجمجة ومجموعة من العظام البالية يحدثها سعيد قائلا ( آه يا أبي إنّ الظلام الذي كنت بصحبة رفاقك تحاولون إيقاد شمعة لتبديده ما زال يغلف البلاد ويحيط بأكتارها ما زال ذاك الظلام حاكما وما زال الأوغاد يضحكون على أذقاننا ويمصّون مثل البعوض دماءنا تحت يافطات جديدة لا تقلّ سخفا عما قبلها ، لا أريد أن أثقل عليك فما فيك يكفيك لكنّي أودّ أن أصارحك بأنك قد فشلت مرتين مرة في حياتك ومرة في مماتك فلا حياتك حياة ولا مماتك ممات !وأنّي عذرا يا ابي لا أريد أن أكون فاشلا مثلك لذا قررت الرحيل ص 209 )
استطاع الروائي أزهر جرجيس أن يوظف العنوان والأسماء لخدمة فكرته الأساسية والتي حاول طرحها من خلال عقد المقارنات وإبراز المفارقات في عدة مفاصل أساسية في الرواية حيث سيطرت على الأحداث فكرة المقارنة بين الوطن والوطن البديل والتي جاءت لصالح الوطن البديل والذي استطاع أن يوفّر للمهاجر ما افتقده في وطنه الأصلي من أمن وسلام وموت هادئ ومرقد مميز وجميل بينما لم يحصل والد سعيد من الوطن الذي ناضل من اجل مستقبله على قبر مناسب يؤوي بقايا عظامه المتهالكة ، ان عقد المقارنات المتلاحقة بين وطن تثخنه الجراح ووطن بديل مليء بالحرية والهدوء استمر على طول صفحات الرواية بحيث استطاع القارئ أن يعقد هذه المقارنات المباشرة في الشوارع وفي أماكن العمل وفي البيوت وحتى في المقابر، لقد ظهر الوصف المعبر الذي استخدمه المؤلف لتصوير عملية التفجير في الكرادة التي اودت بالصحفية عبير وصفا دالا على حجم الاستنكار والحزن على الوضع الحالي لهذه المدينة فالكاتب يريد أن يصوّر من خلال كلماته الملتهبة عاطفة تشتعل بالغضب و النقمة فهو يصف بحرقة حالة الجثث المتناثرة فالأجساد المحترقة تملأ المكان وبعض الضحايا لم يبق منهم سوى اطراف ممزقة فهناك اذرع واقدام واحذية متناثرة هنا وهناك( حفل شواء رهيب لا يمحى من الذاكرة ) ويحاول الروائي ازهر رسم المشهد من زاوية إنسانية معبرة من خلال صورة الدماء المختلطة بعصائر الباعة المتجولين ومن خلال وصف المرأة التي تجري وتلطم باحثة عن ابنها الذي كان يبيع الأحزمة الجلدية بجانب محل العصائر ولكنها أينما نظرت لا ترى سوى جثث متفحمة وأجزاء بشرية متناثرة ، لم يكن بين سعيد وبين الموت سوى لحظات زمنية قصيرة ومسافة اقصر من ذلك أما عبير فقد تحولت لجثة متفحمة تماما ..انه الألم الذي يخرج من بين حروف كلمات الكاتب ممزوجا بالحسرة والمعاناة والأحزان
وفي صورة مقابلة لهذا الواقع المؤلم يحتفي الكاتب أزهر جرجيس في هذه الرواية بصفحات مضيئة من التاريخ العراقي القديم من خلال عودة سعيد بالذكريات لدروس الأستاذ عبد الباري مدرس التاريخ ( ..هتف الأستاذ عبد الباري وهو يشير نحو حدائق بابل المعلقة : الحقوني كي تشمّوا عبق التاريخ ، لحقناه إلى هناك متلهفين لزيارة واحدة من عجائب الدنيا السبع … ص 189 ) ولكنّ هذه الشواهد والآثار العظيمة تتعرضُ للدمار والتخريب بفعل الحرب والإرهاب وصراع الجماعات المتطرفة فيما يشبه عملية محو وانتقام من ماض عابق بالحضارة والرقي والخلود ( دخلت أمريكا أرض الإله من بعد ذلك لتكمل مسلسل التخريب ، فسارت المجنزرات ودبابات البرامز فوق شارع الموكب الذي سارت عليه ملوك بابل العظيمة وشعبها وكهنتها ،هُشمت القطع الأثرية وامتلأت المتارس الترابية التي بناها الجنود بقطع الفخار والرُقم الطينية المسمارية ، لقد تعرض بفضل أمريكا خمسة عشر موقعا أثريا للنبش والسرقة ، وتمت استباحة المتحف العراقي أمام أنظار جيشها وهُربت آلاف القطع الاثرية الثمينة إلى ما خلف الحدود ….. ص 190)
رواية النوم في حقل الكرز رواية تتحدث عن الهجرة القسرية وعن رحلة العودة المفاجئة والهجرة الاختيارية وهي رواية لوعة الأم الصابرة ذات القوة الجبارة والتي تتقن فنّ التضحية من أجل حياة ابنها سعيد وهي رواية الأب الذي يناضل من أجل وطن ينعم بالحرية والجمال ولكنّه ينتهي مجموعة من العظام المحشورة في كيس صغير في مقبرة جماعية دون اسم أو عنوان أو تاريخ ولكن هذه الرواية قبل كل شيء هي رواية الحلم الأسطوري رواية ساعي البريد المهاجر من بغداد إلى أوسلو وهو يحلمُ بقبر هادئ وسط حقل من الكرز الجميل.