محورية البصرة على الخليج
أبحر بنا قاص الحكايات بمركبه العشّاري إلى تاريخ البصرة في العصر الحديث حينما كانت حاضرة الخليج ومركز الثقل التجاري والعسكري، عبر أنهارها العامرة وشطها الذي يحمل معه الأسرار والخيرات إلى الخليج وشعوبه المطلّة على سواحله الشرقية والغربية، مختصراً أحداثاً كبيرة مرت على المنطقة باسلوب أدبي سردي ثقافي ممتع.
في البصرة، كانت جولتي الأخيرة مختلفة عن سابقاتها، يسرح بي الخيال إلى عالم الرواية وتوصيفاتها بين أزقة نظران حيث إبداعات هندسة بناء الشناشيل ( التي لم يتبق منها إلا الأثر القليل ) ودار زمان او مزارلك وأسرار غرفة أنوش، والنسوة اللآتي يبعن الحكايات، ومأساة السبيّة النصرانية أنوش الناجية من أهوال الحرب في بلادها البعيدة وبشاعة قادة الجيش الاتراك الذين تكالبوا على الفتيات الصغيرات وقتلوا الأسرى من الرجال جميعاً.
كنت أسمع أصوات الصبية وهم يلعبون في الأزقة وعلى جرف النهر، وأرى ( قوارب التنقل وهي تروح وتجيء بين نهر العشار وشط العرب بحركة دائبة من دون توقف ولا فتور )، تصل إلى حناء الفاو ودار القرنفل عبر بساتين أبي الخصيب، وتعود إلى خانات التمور المطلّة على ضفاف الخندق ونهر الداكير.
كانت صيحات طلبة جامعة البصرة طرف التنومة عالية وهم يعبرون شط العرب مودعين جامعتهم والتنومة ( باي باي، وداعاً أيامنا الحلوة )، كأنهم يشعرون بما سيحصل خلال حرب الثمان سنوات وتحال الجامعة إلى ركام، ولعلي رأيت مركب الأمير بدر المهنا وهو يرسو عند أحد الأرصفة وقد أصابه الإهمال بعد ان هجره النواخذة وحادثة إغراق فرح وزينة بواسطة المرساة التي غنمها من المستعمرين الهولنديين؛ ومن ثم غدر به الاتراك وسلموه للسلطات العثمانية.
أعود للواقع فأشاهد آثار الدمار الذي خلفته الحروب والحصار الذي أتى على الشناشيل وجعلها قاعاً صفصفاً، وتحولت الأنهر المعطاءة إلى مجاري مياه آسنة.
فبينما تجود البصرة بنفسها وثقل الأحداث التي مرّت بها، يتنعم الجيران بالتجارة والاستقرار والأمان.
الكاتب سلّط الأضواء بطريقة ذكية على فترات مختلفة من الظلم الايديولوجي الممنهج؛ من قسوة الدولة العثمانية التي كانت تحتل المنطقة وتنشر الجهل والتخلف ومصادرة أملاك الناس تلبية لنزوات ولاتها، إلى سلطة البعث التي افتعلت الحروب واستباحت الدماء البريئة ونشرت الدمار في كل مكان فكانت البصرة ساحة الحرب الكبرى التي ما هدأت يوماً، يتخللها الاحتلال البريطاني والامريكي، حيث قام الأول بنشر ( السويكا) في شوارع البصرة وساحة أم البروم بالتحديد وما لاقته المسكينة زعفران الزنجية من إعتداء بشع، بيننا الاحتلال الثاني ساهم في نشر العنف والمخدرات والثقافة المبتذلة ولازال.
إن السرد الهادف الذي يوثق أحداثاً تاريخية مهمة، يكون أكثر أهمية وفائدة من السرديات التي تمتع القارئ بالمتخيل وإن احتوت على قصص واقعية أحياناً.
لذلك تلفت الرواية إنتباه القارئ بطريقة رائعة ومركزة أنه ليست زعفران الزنجية وحدها كانت ضحية الاحتلال، بل نسوة كثيرات تعرضن للظلم والأذى الجسدي والنفسي عبر سلسلة الاحتلال والحروب والقمع الوحشي للأنظمة الاستبدادية، والمرأة بطبيعة الحال تعبر عن حال الأسرة وما تعرضت له العوائل والأطفال وحتى الكبار والصغار لأبشع الجرائم والانتهاكات.
نسوة يبعن حكايات الحزن
من الواضح أن الدلالة النسقية لرواية نور خضر خان اتخذت من المرأة عنصراً رئيسياً لنقل الأحداث التي مرّت على العراق طوال مائتي عام مضت، سواء عن طريق سرد الحكايات التي كانت تجمعها أنوش من نسوة نظران، أو الحكايات التي كانت تبيعها سهيلة، حيث جمعتها فيما بعد السيدة ( نور خضر خان) وسميت الرواية بإسمها بنسق ثقافي لتسليط الأضواء على الظلم الذي تعرّض له الشعب العراقي من قبل السلطات التي جثمت على صدره لعقود منذ سيطرة الدولة العثمانية وحتى نهاية عقد السلطة البعثية، واتخذت الرواية من البصرة إنموذجاً وشاهداً حيّاً كونها تمثل المنطقة الأكثر تعرضاً لظلم تلك السلطات التي كانت تحكم بالحديد والنار.
فقد وظّف الكاتب جابر خليفة جابر العاطفة الجياشة للمرأة في سرد الحكايات، لأنها أكثر الناجين من الحروب والأحداث الأمنية كما حصل مع النساء في ما بعد معركة الطف ودور السيدة زينب ” عليها السلام ” في نقل الحدث وإيصال الحقيقة إلى أسماع الناس.
استثمر الراوي البصري العاطفة التي تمتاز بها المرأة لعرض صورٍ تراجيديةٍ معبرة عن الحزن في مشهد دراماتيكي انتقل من ارمينيا عبر نهر الفرات مروراً بكربلاء ( بما تحمل من رمزية ) إلى البصرة حينما خيّم الحزن على ربوعها لعقود، مستمداً من وجع يسوع وصبر الحسين ” عليهما السلام ” ذلك الحزن الأسطوري الكبير.
السيدة النصرانية العفيفة أنوش كانت الشاهد الأبرز على أحداث الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الأرمن على أيدي ضباط الجيش الاتراك، ونقلوها إلى البصرة مع السبايا ليكتمل المشهد مع الفتاتين الغريقتين المغدورتين زينة وفرح في مقبرة مزارلك أو دار زمان في إشارة لالتقاء المظلومين بهذه البقعة الأثرية الرمزية وسط شناشيل البصرة.
يستمر مشهد الحزن إلى ما بعد موت أنوش وبالتحديد مع حفيدتها سهيلة التي ورثت غرفة الأسرار في دار زمان؛ تلك السيدة المؤمنة الطاهرة أم الشهيد شكران وابنتها أشرقت، حكت الشق الثاني من الرواية وبيان الظلم الرهيب الذي تعرض له ابناء البصرة والعراق منذ انتفاضة صفر وأحداث خان النص عام 1977 إلى الاعتقالات في صفوف شباب الحركة الإسلامية وتغييبهم، إلى حرب الثمان سنوات، وحرب الكويت وما تلا الانتفاضة الشعبانية من أحداث وحصار رهيب، وخُتمت بانتفاضة 17/3 وأحداث ساعة الصفر التي قادها الشباب بأرواحهم الحرة الطاهرة لتحدي جبروت الطاغية.
لكن شكران أعدمَ بالسيف نفسه الذي استخدمه العثمانيون لقطع الرؤوس في نظران ليحتضنه نهر العشار ويعيده إلى أمه الثكلى.
ولم تغفل الرواية أحداث ما بعد سقوط بغداد عام 2003 بإشارة إلى الشاب عمار بن سهيل ، الذي لم يسرّه رؤية الانكليز وهم يُدنسون شوارع البصرة مرةً أخرى، ولكنه لم يدفن في دار زمان كما هو المعتاد في سياق الرواية، وإنما شُيّع إلى وادي السلام، فهو خارج قصة الحزن تلك بل كان ضحية إرباك المشهد والصراع السياسي بعد أن تنفس العراق الصعداء بسقوط النظام المجرم وبزوغ فجر جديد.
ختاماً فإننا نحتاج لمثل هذه الروايات الهادفة التي تركز على تاريخنا وبيان مكامن الخلل والظلم الموجه في فترتي الحكم العثماني والعهد البعثي وبيان قسوته وبشاعة سلطته لكي لا تتكرر المأساة ونطوي صفحة الحزن بالأمل في حياة كريمة.