تقديم
تعد رواية «أيام خائنة» للباحث والروائي المغربي عبد السلام شرماط، منجزا سرديا ينم عن تجربة الكاتب الإبداعية، يكشف خلالها مدى التزامه بقضايا الإنسان الوجودية والوطنية، حيث سعت روايته الصادرة عام 2019 إلى عرض تجربة إنسانية تقوم على استعادة للذاكرة المغربية (فردية وجماعية)، عبر اقتفاء أثر شخصية روائية وتتبع تطور مراحل رحلتها الحياتية في الزمان والمكان، في دائرة حيرة وقلق وجودي، ناتج عن صراع من أجل البقاء والتماس فعل يشعر الشخصية الفاعلة بالأمان والاطمئنان قصد تحقيق ذاتها في بحثها عن الكينونة والمعنى داخل مضمار تؤثر فيه حركة الزمن وصيرورة الأيام.
وعلى هذا الأساس تحاول هذه القراءة أن تبحث في فكرة الزمن وخلفياته انطلاقا مما يحضر به هذا المفهوم في رواية “أيام خائنة” كأحد المفاهيم الفلسفية والأدبية التي شغلت الفكر والوجدان الإنساني منذ الأزل.
1. مفهوم الزمن
ورد معنى الزمن والزمان في المعجم العربي على أنه اسم لقليل الوقت وكثيره ، «وجمعه أزمان وأزمنة وأزمُنٌ» . كما جاء في القرآن بمعنى الدهر، فذكر بهذا المرادف مرتين: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ» .
«هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا» .
وتعرض الآيتان تصورا للزمن من حيث أنه يشكل صراعا وجوديا للإنسان، فالآية الأخيرة تخص بداية خلق الإنسان، حيث تضعنا أمام تصور ميتافزيقي لزمن مر على الإنسان ولم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة، ولا شرف، إنما كان طينا لازبًا وحمأ مسنونا . وهي مرحلة، كان فيها شيئا لم يكن مذكورا، وذلك من حين خلْقه من طين إلى أن يُنفخ فيه الروح . أما الآية الأولى فترتبط بما قاله منكرو البعث، إذ في آية مشابهة قالوا: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» ، وهذا لكون تصورهم للحياة مرتبط ارتباطا محضا بالدنيا، انكارا منهم للآخرة، وأن الزمن في اعتقادهم ماهية تقود الإنسان نحو الهلاك والفناء فلا يبقى للإنسان ذكر إلا من خلال خلَفه وأبنائه، فهم جعلوا «حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء» لهذا قدموا الموت على الحياة (نموت ونحيا)، فالإنسان يموت ثم يحيا ذكره كأنه حي غير ميت، وفي هذا ما يعبر عن نزوع الإنسان نحو الخلود والديمومة حتى لو كان هذا الخلود رمزيا من خلال إحياء ذكره بعد فنائه عن الدنيا، وهو في حد ذاته مفهوم يمثل ذاك الصراع الوجودي بين الإنسان والزمن كـ« مظهر وهمي يُزَمْنِن الأحياء والأشياء فتتأثر بمضيه الوهمي، غير المرئي، غير المحسوس. إذ الزمن «معروف الآنية، وإن كان غير معروف الماهية» ، كما يرى عبد الرحمن بدوي، فهو في التصور كالوجود. ويقصد من الآنية ظهور الوجود دون اتضاح الماهية، لأن من يشعر بذاته يشعر بوجوده، وكذلك الزمان: يشعر به كل إنسان، أو أكثر الناس جملة، ويشعر بيومه وأمسه وغده، وبالجملة ما مضى زمانه ومستقبله، وبعيده وقريبه، وإن لم يعرف جوهر الزمان وماهيته .
وقد أثير جدل حول مفهوم الزمن، باعتباره أحد المقولات الفلسفية التي شغلت فكر الإنسان، فتناولها بالدرس وطرح الأسئلة بحثا عن ماهيتها لما لها من دلالات عدة حسب الحقول المعرفية والعلمية. فنجد الزمن «مذكورا لدى النحاة بمعنى، ولدى الفلاسفة بمعنى، ولدى علماء النفس بمعنى، ولدى نقاد الأدب بمعنى؛ وهلم جرا..» . ولالتباس مفهوم الزمن تساءل أغوسطينوس عن ماهيته فقال: «فما الوقت إذا؟ ومن يقدر أن يشرحه بإيجازه وسهولة؟ ومن ذا يقدر أن يكون عنه فكرة واضحة يعبِّر عنها بالألفاظ؟ هل نجد في أحاديثنا فكرة ندركها إدراكا صحيحا وتكون أكثر التصاقا بنا من فكرة الوقت؟ في حديثنا عنها نفهم عفوا ما نقول وكذلك حين يتكلم آخر عنها» وهذا لأن الزمن شيء لا يمكننا رؤيته ولا لمسه، فهو «خيط وهمي مسيطر على كل التصورات والأنشطة والأفكار» وهو «وعي خفي؛ لكنه متسلط؛ ومجرد، لكنه يتمظهر في الأشياء المجسدة» حيث يتجلى في حركته التي يدل عليها التغيُّر الذي يطرأ على كل ما هو حي، وكما نرى آثاره على الأجسام حين تكبر ثم تهرم ثم تموت أو تفنى، أو تبلى الأشياءُ بأثر مروره. وما دام الزمن بهذا المفهوم شيئا غير مرئي، معروف الآنية، ومجهول الماهية (بتعبير عبد الرحمن بدوي)، فكيف هي إذا تجلياته في رواية «أيام خائنة»؟
2. الزمن في عتبتي العنوان وصورة الغلاف
استخدم الكاتب عنوانا دالا ومركزا على الزمن «أيام خائنة». والأيام جمع يوم، وقد يعني اليومُ الحاضر أو وقتا محددا؛ من طلوع الشمس إلى غروبها، أي ما يمثل دورة تدل على حركة الزمن الجاري إلى الأمام.
وإذا ما عدنا إلى “أيام” في العنوان، والتي جاءت بصيغة الجمع، نتصور ما يفيد أن الزمن أو الوقت جاء مطلقا، وبالتالي هو حقبة وفترة ماضية، إذ أن وصفها بـ(خائنة) يعد إضافة تدل على أنها أيام ماضية انطوت على تجربة أو تجارب صعبة انقضت والتصقت صورها بالذاكرة. وكل تجربة لا تنفصل عن الزمن، لأنها تعد «مرحلة تمضي لحدث سابق إلى حدث لاحق» .
والوصف الذي يقدمه العنوان لتلك “الأيام” نجد ما يبرره في نص الرواية، بحيث يكشف السياق عن علاقة متوترة بين الشخصية المحورية “زكور/بوزكري” والزمن، يقول الراوي: «تأمل في حركة الزمن التي تدور مع عقارب ساعته، فتّش في نبضاتها التي لا تكاد تنماز عن نبضات قلبه الجريح الذي نقشت على غشائه الأيام الخائنة علامات الشماتة والضياع» . إن هذا الشاهد النصي يبين لنا أن “زكور” يتصور الزمن كيانا لا يرغب له في الخير، كيانا يخون ويشمت، ويذيقه الألم بعد كل إحساس بنشوة الحياة والوجود، إذ يقول: «وإن كانت الأيام تخونني وتهزمني كلما أحسست بنشوة الوجود» . وبالتالي فهو يحمل هاجسا عدائيا للزمن، رغم أنه يسترق لحظات متعة ولهو، تجعله يظن أنه غالب لا محالة لولا الألم الذي يشحن الأيام، يقول الراوي: «عدوه الحقيقي الزمن، يصارعه كما يتمتع بلحظاته، حتى أنه لم يرد الاستسلام لجبروته، فصارعه حتى آخر لحظة من عمره» . أي أن بعد رحلة حياة طويلة من الصراع وتجارب عدة، سيدرك “زكور” أن الزمن أقوى منه وأن تحديه كسره سياج المتاعب والمشاكل وأحاطت به من كل الجهات ثم بعدها «أصبحت له دراية بخبث الأيام وخيانتها» وأنها للزمن مطيعة، ومهما أحس منها لذة فهي في صميمها مشحونة بالألم، «ولم تقه شرها؛ فكلما تلذذ حلاوتها تجرع مرارتها» ، وذلك من فعل الموت الذي «يرسم علامة قف على جبينه أو نصب عينيه» ، الموت الذي أخذ منه أقرباءه وأعزاءه، وأذاقه المرارة والحزن على مراحل، إلى درجة أنه انتفض قائلا: «لم لا تواجهني أيها الموت.. وتأخذني كما سلبت من أُعزُّهم من قبل..؟» . كما أن الأيام أذاقته الألم من جراء تدهور حالته المادية ثم الصحية بعد ذلك، فلم يسلم من شماتتها وخيانتها حين «سيجته المتاعب والمشاكل وأحاطت به من كل الجهات… فأدرك أن الزمن أقوى، وعليه الاستسلام، انغلق على نفسه، ولم يعد ذلك الرجل النشط الفطن الحاذق… لم تبق من حركته سوى سبابته التي ينقر بها على الأرض أو إبهامه الذي يعض به على سنيه، مستغربا لشماتة الزمن والناس…» . فخلاصة تجربة زكور أنه أدرك أن الزمن أقوى منه رغم صلابة تحديه، فبدت له حياته أياما خائنة بكل ما حوته من تجارب ظلت لصيقة ذاكرته.
وإذا انتقلنا من العنوان إلى صورة الغلاف، سنلاحظ أن تعبيرها عن الزمن تجلى من خلال الشيخ الذي يظهر مرتديا جلبابا، وعلى رأسه عمامة مربوطة بشكل تقليدي، وكما تظهر على ظهر كفه عروق بارزة وخطوط تعبر عن آثار الزمن وسلطته المطلقة على الإنسان. تعرض الصورة –أيضا- كوة بيضاوية الشكل يطل من خلالها الشيخ على مرحلة زمنية من التاريخ، ويبدو أنه كان له دور فيها، ولو هامشيا، أو أنه عايش ظروفها خلال مرحلة شبابه أو كهولته، بحيث أنها تعرض لحظة تجمهر المغاربة تعبيرا منهم عن فرحتهم بعودة الملك محمد الخامس من المنفى. ولكي نربط الصورة بنص الرواية حتى ندرك ذلك الحضور الذي تشكله عتبة الصورة في سياق أحداث النص، لا بد أن نقرأ ما يلي: «زف المذياع للمستمعين بالدوار خبر عودة محمد الخامس من المنفى، حاملا معه حرية البلاد واستقلالها.. كما أطلعهم على الفرحة التي شاعت في ربوع المملكة..» . وإذا تمعنا أكثر في الصورة، سنتخيل أن نظرة الشيخ عبر الكوة فيها ما يدل على الذاكرة المستعادة، أي أنه استرجاع قد يكون ذاتيا أو جماعيا حمل معه ذكريات من الزمن العصيب بما انطوى عليه من أيام القهر والألم الذاتي أو الجماعي في ظل احتلال فرنسي غاشم، وبالتالي هي رؤية استرجاعية للحظة التي مثلت ساعة الفرحة أو لحظة انكشاف الغمة، يقول الراوي: «عم الفرح ربوع البلاد (..) انتهى زمن صويلحات وفوضاهم وعمت الدوار طمأنينة تجلت في الحس الوطني..» . فهي لحظة التحرر من زمن القهر وفوضى القوى المتسلطة (ترمز لها في الرواية صويلحات)، بما يعني أن الكوة تمثل للشيخ نافذة على ماض متغلغل في الحاضر بفعل الذاكرة. وحيث أن “زكور” ظل في كل مرحلة من حياته، رغم اندفاع الزمن به نحو المستقبل، رهين الماضي بما فاته من لحظات منذ خروجه من الدوار في رحلة البحث عن ذاته وكيانه، وما واجهه من تجارب حياتية: (زمن الحرب؛ جنديا في الجيش الفرنسي… ثم أيامه بفرنسا… ثم زواجه من زهرة التي اختطفها الموت سريعا فظل يعيش على ذكراها في يقظته وأحلامه وهذيانه)، ويقول السارد عن هذا الهذيان: «وأمسى يعد الأطياف والأرواح التي تتشارك مع المعزين، وكأن حجابا كشف أمامه بعينه المجردة روح زهرة، وهي تستقبل أمه استقبالا مميزا..» .
إن المتلقي لصورة الغلاف سيشعر أن الحاضر والمستقبل ليسا لهما أهمية بالنسبة لشيخ الصورة، فقد خلفهما وراء ظهره، وولى وجهه نحو الماضي (الكوة) التي يفر أو ينجذب زمن الحاضر نحوها. فالشيخ لم يعد معنيا بالحاضر الذي يولَد من المستقبل لأن الآتي لا يمثل بالنسبة له غير الموت، فالزمن القادم يهدد حياته، لهذا يعيش الماضي في حاضره، وهذا ما يسمى بالزمن النفسي الذي يرتبط بالشعور الشخصي وحالته النفسية. وقد جعل هذا الزمن النفسي “زكور” يلجأ إلى سرد الحكايات لأولاده بعد إصابته بالعمى وتبدل حاله، «ولم يجد أنيسا يرافقه في وحشته» ، ثم بعدما شعر أن جميع من تعلق بهم ماتوا وهلكوا أو جار عليهم الزمن: زوجتيه زهرة والكبيرة/والدته/والده المعطي/ الفقيه سي حسن، وحتى صديقه حمو لم يسلم من غدر الزمن كما وصفته الرواية. لهذا لجأ زكور إلى سرد الحكايات كشكل من أشكال الانفصال عن زمن الحاضر (الحاضر) والتلهي عن سيلان الزمن الموضوعي نحو المستقبل، لما تؤسسه الحكاية من حياة أخرى يرتبط زمنها بالماضي الذي هو وعاء لكل ما فات، وكل ما فات يعد جميلا ينْشدُّ إليه شعور الشخصية، وتحتمي به مما هو آت.
ولأن الحكاية كذلك تلتصق بوعي الكاتب، ولا وعيه، فقد اعتنى بذكرها في عتبة الإهداء، ونسب القول لشخصية النص “بوزكري بن المعطي” يقول: «إلى روح والدي: الذي عشق الحكاية وروايتها… وبقي على كبريائه يقاوم مشيدا من الذاكرة رائحة امتزجت فيها الأشياء بالأحياء» . وفي شاهد آخر يقول السارد عن زكور: «وكان يتساءل دائما لماذا الحكي مهم جدا في حياتنا..؟ فلا شيء يلغي الحكي، لأنه موجود في الحياة، منها يأتي وعنها يدور..» . ففي هذا ما يدل على أن “زكور” أعطى ظهره للمستقبل واستسلم للتداخل الذي يحدثه الماضي في حاضره، وبذاكرة مثقلة تجر الماضي لتمزجه بالحاضر: «تراءت له أشكال المستحيل مجسمات تتراقص أمامه، ثم تهوي إلى نفق مظلم لا يستطيع الدخول فيه دون أن يفكك رموز المرايا المنكسرة، وهي تنزف بذكريات خارجة عن التاريخ وقد انطفأ عنها ضوء الزمن» . هي ذكريات انطفأ عنها ضوء الزمن، بما نفهم أنها خارجة عن سلطته وسلطة التاريخ. فالذاكرة تعيد إليه صور الأحياء والأشياء العزيزة عليه للمواساة كلما واجهته الأهوال والشدائد حتى تُجدد فيه الحياة الرغبة في الامتلاء بمشاعر إيجابية تدعمه لمواصلة الحياة ومواجهتها بقلب صلد وهمة متمردة، أو يلتمس من النسيان الحل باعتباره «هبة ربانية تعيد الإنسان إلى حالته الأولى، رغم ما يواجهه من أهوال وشدائد… فتعود الأيام إلى حالها كأن شيئا لم يكن، فتتلاءم المشاعر والروح، ويحيا الهوى لينطلق الجسد في عنفوان وكأن ما حدث كان حلما متنقلا فهوى في قفص الذكريات، فيقلِّبه الشوق والحنين كلما رغبت النفس في تفريغ أو إمتاع…» . هكذا وصف الراوي حال شخصية زكور؛ فالذاكرة تؤنسه وتواسيه والنسيان يجدد همته ويريح نفسه ولو لوقت وجيز من تصور خيانة الأيام، فرغم حنينه إلى الماضي، ففي اعتقاده أن الأيام الفائتة خائنة، لأنه إن وضع المقارنة –في قرارة نفسه- بين الماضي (بما يمثله من الفتوة والشباب) والحاضر/المستقبل (بما يؤول إليه من الشيخوخة والاقبال على الموت) لن يحصل إلا على أن الأيام فعلا لم تنصفه بل هي أشد خيانة وشماتة مادام أنه لم يحقق بين الماضي والحاضر ما كان يصبو إليه.
3. الزمن والبحث عن الذات
يعد الزمن سيلا متدفقا مستمرا من الماضي إلى الحاضر نحو المستقبل. هذا السيلان هو حركة تحمل الصيرورة والتحول والتغير، مما يجعل آثار الزمن تتجلى في الأشياء والأمكنة والإنسان، وحركته تقود حياة الكائن إلى الموت، وذلك ما يقلق الإنسان ويحيره في رحلة بحثه عن المعنى وعن تحقيق وجوده عبر هذا الزمن الذي يدرك أنيته ويجهل ماهيته بشكل أو بصورة صريحة. لكن تجلياته يتم إدراكها في الأحياء والأشياء، ولكي يحقق الإنسان وجوده كان لا بد له من زمن يصنعه بنفسه ويخضع لإرادته، ليكون ذاكرة وتاريخا، شاهدا على صمود الإنسان أمام قوة الزمن، وهذا هو ما دفع بطل رواية «أيام خائنة» ينتابه في بداية حياته إحساس بضرورة الانطلاق والانفلات من البؤس والفقر والألم والشماتة «للتمرد على فعل الزمن بغية الانتشاء بالانتصار عليه» . وقد اعتبر هذا الانطلاق بحثا عن نفسه التي ضاعت (كما يقول) بين الأكواخ، وأراد استرجاعها . وهو بحث عن نور يفتح له بوابة الدنيا التي لم ير منها إلا «الشماتة والقهر والحرمان» . يقول: «إنني أسيح في بطون الأرض أقلب في وديانها وجبالها وحتى مدنها عن كيان جديد ألملم فيه نجومي المتناثرة عبر الأيام» . ويمثل هذا الطموح الذاتي، رغبة “زكور” في تحقيق وجوده وكيانه وكرامته، لأجل ذلك خاض تجارب مختلفة في أمكنة عدة ومع أناس مختلفين، فمضى «يفتش بين ثنايا الأيام عن حقيقة الوجه الآخر لها، وهو ينثر حكما كانت وليدة التجربة التي استقاها من أماكن وأزمنة ارتادها غضا، فارتادته وقد بلغ العمر عتيا..!» ، فحياته عامرة بالتجارب وكلما فشلت تجربة دخل في غيرها، «ينتهج فلسفة تعلمها من تجارب الحياة» ، لهذا قال وهو يحاور غرابا (يرمز لديه وفي الثقافة الشعبية إلى التشاؤم): «دعني أجرب حظي، ولا تحم حولي اذهب بعيدا عساك تجد جسدا ميتا تحل فيه… أما أنا فما زلت أطارد الزمن، عله يمنحني ما أبحث عنه» . وتتجلى في هذا الخطاب حالة الهروب التي عليها “زكور”؛ هروب من الشماتة التي يعتبرها حليفا للزمن الذي يدخل معه في صراع غير متكافئ لأنه يعلم «أن الزمن غدَّار، وأن التجدد والتحول لا يعنيان أي شيء أمام النهاية» . كما أن زكور يعتبر أن اليائس/القانط ما هو إلا جسد ميت، فقال للغراب اذهب بعيدا عساك تجد جسدا ميتا تحل فيه. فهو خطاب فيه إصرار على التحدي وفيه رجاء في تحقيق كيانه. وبهذا يتجلى صراع الشخصية مع الزمن وما يجري فيه من الظلم والقهر، والجري من أجل البحث عن حلول لحاضر الشخصية ومستقبلها وما يطرأ في نفسه من مشاعر متضاربة تتناسب حالته الانفعالية التي توافقُ كلَّ وقت، فالدقائق تمر وكل واحدة منها تحرك في نفسه وترا معينا، وفق نسق متحرك للزمن الذي يبتلع أوقات “زكور” ولحظات فرحه كما يبتلع أحباءه، ويعوض فرحه ألما، مما خلق ذلك في نفسه قلقا وجوديا، إذ كلما شعر أنه ملَك الحياة انقلبت عليه، فهو بين اللذة والألم، يرغب في اللذة ويميل إليها ويخشى الألم فيسعى إلى مواجهته والحد منه، إلا أنه يقع ضحية العجز في تحقيق الرغبة والتخلص من الألم، فكانت تجاربه في الحياة تدور في محور يصبح فيه الزمن مشكلة حقيقية، خاصة حين تبوء بالفشل كل تجاربه ومحاولاته في أن يكون أقوى من الزمن. فإن كانت حدة إصراره في بداية حياته قوية، فهو في مرحلة لاحقة جعلته الحياة يوقن في النهاية أنه لا قدرة له على الصمود أمام قوة الزمن الذي يعجل بالموت والفناء.
4. الزمن الصاعد نحو الموت
إذا كان الإنسان يصارع الفناء، يكافح من أجل البقاء، يغالب الجوع ويتقي البرد يبحث عن الأمان والطمأنينة، ويحتال على اللحظات كي يبدع الفرح ما استطاع إليه سبيلا، ويبتعد بما يملك من طرق عن الألم ويخشاه، فإن كل ما ينجزه أو يتصور أنه حقق من خلاله الانتصار، لا يعدو أن يكون إلا انتصارا مؤقتا، حيث تعبث به تقلبات الأيام، أو يدحره الزمن، لهذا قال الراوي عن زكور: «تداولته الأيام التي كان يعدها فتجاذبها بالكفاح والشد والصد، وهو يزهو بعنفوانه ليعيش اللحظة ومتعتها» ، ثم يقول: «تقلبات الأيام، تتحكم في مصير الإنسان وتتلاعب به، تتأرجح أحلامه بين الوهم والحلم» . «ولم يظن أن يوما ستعبث به الأيام وتحيله على الهامش» ، فبعدما استطاع أن يكون تاجرا ناجحا صار بعد ذلك «يقاوم متاعب الزمن بقوة ويواجه صعوبة الأيام بالتحمل والصبر.. كان همه هو توفير مادة الدقيق وبعض السكر والشاي لأولاده.. لكن قهر الزمان كان أقوى، فحال دون ضمان لقمة عيش كاملة للأولاد» . وتجدر الإشارة إلى أن وسم الزمان بالغدر، كان ومازال دائم الحضور في ثقافة الإنسان العربي والمغربي فنجدها في مقولات تجري على لسانه تترجم هذه الرؤية كقوله “الزمان غدار”، أو ما يعرب عن الصراع الدائم بين الإنسان والزمن كقوله بالعامية «مضاربين/مقاتلين مع الوقت»، وإذا عدنا إلى رباعيات الصوفي عبد الرحمن المجذوب نجد عنده هذا المعنى في تصور الصراع مع الزمن وشدة غدره حيث يقول:
« يا الزمان يا الغدَّارْ * يا كسرْني من ذْراعي
طَيَّحْتِ من كُلّ سُلْطانْ * ورَكَّبْتِ من كانْ راعي»
إن هذا الصراع، وإن كان لا يخلو من محطات توهم البطل بالانتصار والنجاح في تحقيق الذات، يظل الزمن فيه جبارا وماكرا، لأنه إذا تباطأ برح بالإنسان الشقاء، وتأرجح فوق هاوية العدم، وإذا تسارع غمرته السعادة وغرق في قلب الوجود ، حيث سرعان ما تنقلب الموازين وتتغير الأحوال.
وحتى صديقه “حمو” جار عليه الزمن وغلبه «بعد أن بقي وحيدا لا أنيس له سوى آلته الوترية» . ويمكن هنا أن أشير إلى أن ارتباط حمو بآلته الوترية، وهيامه بها، واختياره لمساره الفني إلى حد انغماسه في عالم أنساه الزواج؛ يكشف لنا فكرة أن «الفن وسيلة للتغلب على الزمن، ولبلوغ لحظة الأبدية» ، ولعل هذا ما حذا بحمو أن لا يفارق آلته لأن الموسيقى تسبب له متعة الفرح الذي ليس له من مبرر سوى التحرر من ربقة الزمان ، والشعور بلحظة الحاضر، من دون أن يتمكن أبدا من أن يجعل الآن الحاضر حقيقيا، أي ثابتا ، فـ”حمو” يمثل صوت الجمال والفن كعنصرين يوقفان زمن الإنسان لافتعال لحظة متعة وفرح، لهذا قال زكور لصديقه “شرجان”: «كم أطربنا هذا الرجل، وخفف عنا الألم والمأساة بصوته الشجي، ونغماته الوترية التي كانت تدب في دواخلنا، كلما هزنا الشوق إلى البلاد» . إلا أن حمو بدوره لم ينتصر بآلته على الزمن «فقد دارت به الدوائر وهو ينتقل من مكان إلى آخر» ، وقد صرح لزكور لمَّا لقيه ذات مرة صدفة بعد أن باعدت الحياة بينهما، قائلا: «أعيش بين من يعشقون نغمات الوتار وبعض المحسنين، فقد خانتني الأيام يا صديقي، وها أنذا أتحول من فنان إلى وهاب ينتظر الرحمة والشفقة…!» . هكذا يدرك زكور من خلال كلام صديقه، بعد عمر طويل «أن الأيام خانتهما، وتلاعبت بصداقتهما، ففرقتهما، وتركتهما هائمين يواجهان شماتتها وجبروتها. ثم تكالبت عليه مشاق الأيام» ، واختفى «العز والمال والتجارة» ، فتكالبت عليه النائبات، وحاصره الموت بقسوة من خلال موت أقربائه وأصدقائه تبعا، فكانت الفواجع تتربص به. ثم إن الرواية تتبعت حياته في مسار دائري ابتدأته بموقف النهاية، وهو مشرف على الموت، لينطلق السرد بعدها في استعادة محطات حياته من الصبا إلى الشباب ثم الشيخوخة، ليعود السرد إلى لحظة الوفاة، حيث تجلى يقين زكور أن الزمن غلبه و«أدرك حقيقة العبارة التي كان يرددها: الله- الموت» . على اعتبار أن البقاء والدوام لله وحده، أما الموت فهو رفيق الإنسان في الحياة وهو المنتهى «وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ» كما أنه يعد «من صميم الحياة، لا مجرد حدث يحصل بعدها ويضع حدا لها. أنا موجود إذن أنا أفنى. إذن أنا أعاني الموت الذي لا وجود له إلا بالنسبة للأحياء» فالموت مثل دودة الفناء تنخر في جسد الإنسان، و«تيار الزوال يجرفه نحو حتفه، وعمره احتضار طويل، يعيشه خائفا أن ينقضي» كلما راقب أو شعر بحركة الزمن الصاعد نحو الموت والفناء.
على سبيل الختم
هكذا تمظهر صراع الشخصية المحورية مع الزمن في رواية «أيام خائنة». إذ نجد ذلك النزوع نحو التحرر من سلطة الزمن التماسا للحظات متعة وفرح، أو لحظة امتلاء إيجابية تسند همة الشخصية لتحقيق وجودها الذاتي في الحياة ومنطلقة من الرغبة في الانتصار على قوى الزمان والانفلات من سلطته ومن غدر الأيام وخيانتها. لأجل ذلك سخرت رواية «أيام خائنة» مكونات خطابها السردي وفلسفتها لتعكس في مساحة نصية خلفيات انبثاق هاجس الزمن لدى الإنسان (وقلنا أنه هاجس وُجد مع وجوده)، وكيف يتمثل لدى الإنسان المغربي بالخصوص، من خلال تقديم مسار حياة شخصية بسيطة، تتحرك في مسرح وحقبة زمنية لها أهمية في تاريخ المغرب الحديث (قبل الاستقلال وبعده). شخصية هامشية إلا أنها مثلت صوتا خافتا لجيل خيبت الأيام والزمن والظروف ظنونه وآماله رغم ما قدمه من تضحيات فتداخل زمن الماضي في حاضره بسيطرة الذاكرة على كل نسيج حياته.
وإذا كنت قدمت في هذه الورقة مفهوم الزمن فلسفيا وتصور الشخصية المحورية له ورؤيتها للحياة، فإن أحداث هذه الرواية، وما يجمعها من علاقات تربط أجزاءها، تقوم على بنية فنية للزمن، لهذا يحتاج هذا العنصر مزيدا من الدراسة كي يتعرف القارئ على كيفية اشتغال الزمن وأنواعه وكيف وظف عبد السلام شرماط بنيته في هذا العمل الأدبي الجاد.