هاجس ما جعلني اقرر السفر الى فلورنس, استيقظت صباحا وحجزت اول عرض لتذكرة سفر واقامة بفندق لمدة ثلاثة ايام، كنت مشتاقا لتلك السفرة رغم اني كنت كثير السفر بحكم عملي في بلدان او بالاحرى في قارات عدة و سألت نفسي لماذا التوق للسفر؟ ولماذا فلورنس؟ هل لانها مدينة ليوناردو دافنشي ومايك انجيلو ام لانها بدأت عصر النهضة , أم لأن غاليلو أبتدأ ثورته العلمية فيها, ام لسبب اخر غاب عن ذهني؟ فكرت بالامر ولما لم اعثر على جواب شاف, قلت كل الاشياء سيان.
كانت التذاكر وحجزوعنوان الفندق مربوطة بحزمة واحدة لم افتحها الا بالمطار, وعندما حطت طائرتنا في مطار فلورنس استخرجت اسم وعنوان الفندق وهرولت الى موقف سيارات الاجرة ,كان السائق قد غفا مسندا راسه على عجلة القيادة فلوى رقبته ومالت قبعته لتكشف عن صلعة تجاوزت الاربعين بعدة خيبات , نقرت على زجاج النافذة فجفل وصاح
– ها
فقلت له:
-هل تستطيع إيصالي الى شارع ميلتون بالانكليزية ، فنظر الي باستغراب وقال: نو انكليش
فقلت له مازحا أتعرف عربي
فانفرجت اساريره وهو يقول
-ايوة , شوية , شوية
لوحت له بالعنوان وانا افتح باب السيارة واجلس على المقعد الذي بجانبه, مستسلما بمصيري له رغم انه لازال يفرك عينبه لطرد النعاس .
نظر الى العنوان وهو يدير مفتاح التشغيل
فندق تيولب ( 71 شارع ملتون) قفزت السيارة فجاءة فادركت ان مصيري قد تأرجح على درجات يقظة السائق ومزاجه المتقلب, وكلما استمر بالسياقة وتارجحت السيارة ازداد قلقي, فبدأت اكلمه لعلي اطرد النعاس من عينيه واقوي تركيزه, قال لي انه عمل سائقا للسفير الايطالي في عمان عدة سنوات وهناك تعلم العربية. كان يسلك طريقا متعرجا ويمربازقة ضيقة وعندما سألته بمزيج من العربية والانكليزية عن السبب,لا ادري بأية لغة أفهمني انه يختصر الطريق وفجاءة قال لي :
-نحن الان في شارع ملتون , ممكن ان تبحث عن رقم 71 ,مررنا مرتين ولم ار رقم 71 كانت الارقام تقفز بين 61 و 79 فاقترحت عليه ان اترجل وابحث عنه فرحب بالفكرة.
اتجهت الى الجهةاليمنى حيث الارقام المتصاعدة واذا بي اصعق بصوت ملتون مرحبا وباسطا الي ذراعيه
-محمود , لا اكاد اصدق عيني!!
-ملتون!! وانا كذلك.
كان ملتون هو,هو بشعره الذهبي المنسدل على جبهته اليمنى ووجهه الطفولي الذي تقطر منه البراءة وابتسامته الازلية التي تبعث في التفاءل والرضا وهدوئه الدائم الذي كنت ولازلت احسده عليه ،نظرت اليه بامعان, واكتشفت انه لم يكبر قيد شعرة منذ افترقنا في مرحلة الدراسة الابتدائية. لا يزال كما افترقنا عندما كنا في الثانبة عشرة من العمر.
كان ملتون موضع اهتمام الجميع, حيث كان اسمه غرييا في مجتمع الموصل الاسلامي المحافظ , فكان قد اثار اهتمام معلمينا, حيث اثنى عليه معلم اللغة العربية لابداعه بالشعر وكان يقول له:
– لقد ابدعت , يبدو ان لديك موهبة شعرية كالشاعر ملتون.
وقال له معلم اللغة الانكليزية:
-انت موهوب باللغات كالشاعر ملتون
ويقول له معلم الجغرافية:
-لقد سافر ملتون بلاد عديدة وتنقل بينها واتقنها ويبدو انك بارع في الجغرافية مثله .
وكنت اعتبره محظوظا حيث كان هو اول من يتعرف على كل من يزور مدرستنا, حيث تجذب غرابة اسمه كل من ينظر الى قائمة صفنا وغالبا ما يسأل ملتون من اين اتيت بهذا الاسم , فيجيب ملتون بهدوئه المعتاد:
-أبي اطلقه علي .
فيكون السؤال الثاني
-ماذا يعمل والدك؟
-ممثلا بالفرقة القومية .
وقد اثار ملتون اهتمامي بهدوئه ونضجه الذي كان يفوقنا جميعا به وغالبا ماكنت اسأله عن رأيه باشياء جماليه واعجب به.
ومرة سألته,
-ألا يضايقك اسمك؟
اجابني بهدوئه المعتاد:
-لماذا يضايقني , انه جميل ومتفرد وحالم,ألم أقل لك لماذا أطلق علي والدي هذا الاسم؟
-لا ،
فبدأ يقص علي بشوق وانا اتأمل محياه يتألق كنبوءة عراف.
– -في ليلة من ليالي الصيف كنت اضطجع قرب والدي على سطح بيتنا العتيق ، أفترش احلامي وألتحف النجوم ،وكان أبي يقص علي حكايات من غابوا فبقيت ذكراهم ترفرف علينا بمأثرهم الخالدة، وبينما انا أصغي اليه سألته،
-ماالذي أعجبك بملتون؟
نظر الي وكأنه كان ينتظر سوألي منذ زمن, وبعد ان أطرق برهة نظر إلي نظرة غمرتني بالدفئ والامان وهو يقول:
-سوف تكبر وتقرأ الكثير عن ملتون وسوف تعجب به أكثر ولكني سوف أقول لك شيئا لن تقرأه بالكتب، لقد كان ملتون جمهوريا في أوج عصر الملكيين وقد دحرهم في عقر دارهم ، اتعرف لماذا دحرهم؟ لأنه كان مدججا بالشعر.وهذه عظمته.
نظر إلي ملتون وهو يكاد يطير زهوا ، وسألني
-أعرفت الآن لماذا لايضايقني هذا الاسم؟ بل هو مصدر قوتي.
نظرت اليه بغبط ، وقلت:
-ولكنه يضعك في بقعة الضوء ويجعلك موضع استفسار وفي بعض الاحيان يعرضك لفضول المهرجين.
نظر الي بامعان وقال وهو يداعب قطة قماش كان يتأبطها
-لا يوجد شيى كامل في هذه الدنيا.
كنت اعجب له وبه حيث كان دائما مسيطرا وهادئا وواقعيا دون ان يفقد حلمه وشاعريته.
كان الطلبة من المهرجين يستفزونه و يعملون به المقالب والنوادر وغالبا ماتدور حول اسمه , فينظر اليهم ويبتسم ابتسامة فاترة ويهز رأسه مستنكرا بصمت.
كان لايعبأ بهم ولا يكترث لافعالهم التي تخرج عن اللياقة في معظم الاحيان, لقد ترجموا اسمه (الموجة الذائبة) Melt Tone واخذوا ينادونه وبدأوا يسألونه بماذا ذبت او ستذوب؟ بالماء او الدهن او العدم؟
فسألته لما لا يوقفهم عند حدهم وهل يحتاج مساعدتي, نظر الي بأسف كأنني خيبت ظنه,وقال:
-انهم حمقى, ماذا تقول للحمقى ؟أنهم لم يفلحوا حتى بترجمته ترجمة صحيحة . كان يجب عليهم ان يقولوا(النغمة الذائبة)
كان ملتون لا يبالي باحد وكل مايعنيه ان يتامل ما حوله بهدوء وصمت. وكنت اتوق للقاءه واتطلع لمعرفة أرأءه بما يشغلنا من مسائل وغالبا ما كان يخبرني بتلك الآراء الغير تقليدية ، لقد ارتاح هو لي فكان غالبا ما يأتي صباحا ليتكلم إلي اذا اعتقد ان لديه ما يثير اهتمامي.
في صباح يوم مشمس من صباحات الربيع، كان نسيما عليلا يداعب اغصان الشجر في باحة المدرسة وكان الطلاب يلعبون كرة القدم والطالبات يتحلقن ويلعبن الثعلب فات فات في ذيله سبع لفات . بحثت عن ملتون في الجمعين فلم اره وبعد جهد جهيد رأ يته يقف ساهما عند مدخل المدرسة , ناديته فلم يسمعني و عندما افاق وانتبه الي ،سالني بشوق:
-هل رأيتها؟
-من؟
فقال مستنكرا:
-ياسمين, الم ترها؟ لقد اتت منذ وهلة ودخلت بألق تمشي كأنها لا تلامس الارض. كم انا مغرم بها .
قالها وكانه يذوب شوقا, وعرفت فيما بعد انه اعتاد ان ياتي مبكرا كل يوم ويقف عند مدخل المدرسة يتلصص النظر اليها ويتأملها وهي تترجل من سيارة والدها وتدخل المدرسة . وكان يرقب حركاتها وسكناتها عن بعد.
وسوف لن انسى المرة الوحيدة التي فقد ملتون فيها صوابه وهجم على طفل مشاكس واشبعه ركلا وضربا جعلني اعجب لقوته وبأسه , وعندما نجحنا بأبعادهما عن بعضهما. سألته
-مالخطب؟
قال لي بعد ان جاهد بالاتقاط انفاسه, لقد ذكر ياسمين بسوء, وهذا ما لا استطيع السكوت عليه. هذا شجعني ان اسأله:
-وهل صارحتها بحبك؟
-كل يوم, اتهمم بمصارحتها وأقف عند مدخل المدرسة وانتظرها وعندما تاتي , يمر الوقت سريعا وتعبر قبل ان اكلمها, فاقول سوف اصارحها غدا.
استمر ملتون على هذا الحال ولم يصارح ياسمين وظل يتأملها من بعيد ولا ادري فيما اذا شعرت هي بمشاعره ام لا.
وانتهت فترة المدرسة الابتدائية وفي يوم استلام النتائج رأيت معظم اصدقائي الا ملتون, بحثت عنه فلم اجده , وعندما غادرت, كان لي رسالة عند الاستعلامات, فتحتها على عجل, لقد خطت بخط كوفي انيق:
(قد نذوب اونتلاشى كلحن حالم في زعيق هذا العالم الناشز فتبقى ذكرانا كطيف لازودي يتوهج شذا في ضمير من نعتبرهم وجوه اخرى للحقيقة)
لا توقيع ولا اسم ولا موعد ولكني حدست ممن تكون ولا اعتقد ان حدسي يخيب.
لم اكن اعرف أن ملتون كان بارعا بالخط العربي الى هذه الدرجة, سألت نفسي ما هي نشاطات ملتون التي لم اعرفها, وماهي تلك التي عرفتها؟ وظل هذا السؤال يتكرر دون اجابة.
أحتفظت بهذه العبارات كتميمة واخذتها معي حيث حللت, وكلما شعرت بضيق أو مررت بأزمة, كنت استخرجها وأتأملها فأشعر بالراحة ,وبقيت تلك العبارات تتردد في ذهني بين حين واخر و لايسألني حدسي فيما اذا سالتقي ملتون ام لا, بل متى؟
وقد صدق حدسي اليوم والتقيت ملتون عندما لم اكن اتوقعه.
مد لي ملتون يده يصافحني بحرارة ويقول معاتبا:
-لماذا تأخرت , اني انتظرك منذ زمن بعيد.
واستطرد بثقة
-انت تبحث عن رقم 71 اليس كذلك؟
-نعم.
فمشى وهو يقول:
-اتبعني
كان هناك منعطف في الشارع احتوى شارعا فرعيا مسدودا احتوى الارقام من 61-79
استخرج مفتاحا وفتح الباب ودعاني للدخول, كان الفناء حديقة مربعة غناء احتوت ورود الخزامى(تيولب) بالوانها وانواعها المتعددة , نسقت بشكل جميل حسب انواعها والوانها ويحيط بتلك الحديقة غرف النزلاء, مد يده في جيبه واستخرج مفتاحا كتب عليه 33 وقال لي:
– هذا مفتاح غرفتك . ارتح من السفر وسالتقيك الساعة الخامسة والنصف مساءا.
في الساعة الخامسة والنصف تماما طرق ملتون الباب وبيده باقة من ورد البنفسج وهو يقول جئت في يوم الجمعة وهو اليوم المناسب, تهيأ سوف تسر عندما اقول لك اننا سنذهب للقاء طالما انتظرته كل هذه السنين.
تقدمني ملتون وهو يشرح لي بحماس, كيف يتهيأ ويحضر ورود البنفسج كل جمعة ويجتاز ازقة فلورنس المؤدية الى سوق الحقائب والتجف الجلدية القريب من كنيسة الباسلكة فيمر خلاله ويصل الى الباحة التي تحيطها الكنائس ويتجه شمالا حيث الزقاق المؤدي الى منازل متراصة طرزت ابوابها بنقوش زخرفية من عصر النهضة ويكون الباب الثالث على اليمن هو ما نرنو اليه حيث يتوسطه طائر العنقاء المنقوش بلونه الازرق الفاتح الذي يكسو صدره ويزداد عمقا كلما اتجه الى اطرافه و قد فرش جناحيه وهويستعد للطيران.
كنا نمشي وهو يسرد لي تفاصيل برنامجنا, كانت الساعة قد قاربت السادسة والنصف عندما وصلنا الباب الذي كان يصفه لي , قال بحماس:
-في السادسة والنصف من كل جمعة, يفتح البأب بهدوء ويبدو وكأن العنقاء تبدأ بالطيران مع انفتاح الباب وتظهر ياسمين عند الباب لدقيقة او دقيقتين فأتأملها مليا واقدم لها زهور البنفسج فتوما برأسها شاكرة ويشرق وجهها بأبتسامة ملائكية وتدخل ثانية ليغلق خلفها الباب. اتعرف انها لم تكبر وكأنها لازالت الطفلة التي زاملتنا بالايتدائية, هل تصدق هذا؟
كنت اختلس النظر الى ساعتي بينما كان ملتون يتحدث الي, وصلنا مقابل الباب فتسمر ملتون امامه وهو يمسك زهور البنفسج بكلتا يديه ويطرق بخشوع.
استمر الوضع نصف ساعة ولم يفتح الباب ولم يظهر احد , فسألت ملتون:
-ماذا يجري؟
فاجاب بارتباك
– لا ادري ، لابد ان هناك خطأ او حالة اضطرارية. دعنا ننتظر لابد انها ستظهر.
وبقينا ننتظر وبدأ الظلام بالزحف على المدينة وبدأت المحلات تقفل ابوابها و الازقة تقفر من المارة والزوار, وكان ملتون متمسكا بالبنفسج متشبثا بخيوط امل تعلقت بمغاليق الباب. الذي اعتقد انه سيفتح في اية لحظة, ولكن الباب لم يفتح واقفر الشارع ولم يبق احدا الا انا وملتون, عندها نظر الي نظرة منكسرة وهو يقول:
-لابد ان حدثا جللا قد حدث, اذ اني كنت اضبط ساعتي على موعد ظهور ياسمين.
وبدأ يقترب من الباب وعندما وصله انحنى ليضع باقة الورود على العتبة وهو يقول:
-حتى لا تعتقد اني لم أأتي عندما تفتح الباب.
قالها بصوت ارتجف كسعفة وهو يجول نظره بالارض كأنه يبحث عن شيى اضاعه.
كانت الازقة خاوية فمشينا وحيدين ,كان ملتون يمشي معي ساهما, حاولت ان أسأله عن مشاريعه لتلك الليله ولليوم الذي بعدها ولكن أسئلتي غاصت في جب عميق, وعند مفترق طريق, صافحني وهو يتمتم شيئا لم افهمه وعندما استفسرت منه , كان قد اختفى بمنعطف على يساري, فسرت الى الفندق وكنت متعبا فخلدت الى النوم .
استيقضت صباحا ولم ار ملتون على الفطور فظللت بالفندق وجلست على مصطبة في الحديقة اتأمل الورود واسترق النظر الى المارة لعلي ارى ملتون ولما قاربت الساعة الخامسة والنصف سألت موظف الاستعلامات عن ملتون , فقال لي انه لا يعرف شخصا يدعى ملتون يعمل في هذا الفندق , وعندما قلت له انه سلمني مفتاح غرفتي في اليوم السابق , دقق السجلات فتبين انه كان نزيلا بالفندق.
عند السادسة ذهبت واشتريت باقة ورود البنفسج وانطلقت الى باحة كنيسة الباسلكا والى الباب المزخرف ووقفت انتظر ,لم انتظر ياسمين فقط بل انتظرت ياسمين وملتون. كنت اعرف انها تظهر في يوم الجمعة فقط , قلت ربما تظهر اليوم لتعوض عن البارحة وطالما كنت موجودا هنا فلا ضير من الذهاب للتأكد , وقفت انتظر وانتظر وعندما لم يظهر ملتون ولم تظهر ياسمين تقدمت ووضعت الورود على العتبة وانصرفت.
لم يظهر ملتون في اليوم التالي في الفندق ولكني فعلت ما فعلته في اليوم السابق, ولم ار احدا.,
في اليوم التالي كان علي ان اعود ورغم اني اقلق كثيرا عند السفر وكان علي شراء بعض الهدايا وجدت نفسي اسير كالنائم حتى وقفت امام الباب وانتظرت وانتظرت دون ان ارى احدا,فمشيت دون هدى وانا أسأل نفسي
-هل سالتقي ياسمين او ملتون يوما؟ واطرقت مليا فلم اجد جوابا.
كان لقائي بملتون شجيا, اذكى مشاعركانت قد انزوت في دهاليز سحيقة وغابت عن وعيي, لقد استطاع ملتون ان يلتقطها وينفخ فيها نبض الحياة , فبدأت تدغدغ وجداني وتجعلني احس اني فقدت جزءا من ذاتي فأتوق اليها واسأل نفسي متى التقي ملتون أو ياسمين؟ واخذ هذا الهاجس يسيطر علي اكثر فاكثر الى ان اصبج هوسا. فركبت الاهوال والبحار أبحث عن ماضاع من ذاتي فتهت في هذا العالم واستوقفتني محطات مثل روما,باريس, امستردام, بودابست وكنت في كل محطة اجد بابا مزركشا ,اذهب بالبنفسج وانتظر وانتظر لعل الباب يفتح ولا يفتح فاضع البنفسج على العتبة املا ان يلتقطه من يعنيني امره او امرها, فتهت في زحام هذا العالم المحموم بهوسه ولهاثه واشتعلت مواقد ذاكرتي واحرقت ماتبقى من ذاتي فصرت ابحث عن وطني وتأريخي وذاتي. وكنت أشعر في كل مرة انتظر ولا أجد احدا انني اتكفن بأغلفة الحزن وأغرق بأسى ذنب عتيق يطبق على انفاسي ويخنقني.
وفي مرة وانا انحني لاضع زهور البنفسج , سمعت صرير الباب وهو يفتح ببطء , وظهر عند الباب, شيخ مثقلا بأهات سر اكتوى من باحتضانه وطرزت وجهه صولات وجولات باحت بها قامته المهيبة ,هزتني نبرات صوته التي خرجت من الصميم:
-ما أجمل ورود البنفسج ولكنها سوف تذبل لأنها قطعت من جذورها.
كان لكلماته وقع السحر,أخذتني على حين غرة , واكشفت لي ما كان غائبا عني, وجعلتني أتامله لبرهة , وعندماهممت بشكره, كان قد اختفى و أغلق الباب خلفه .
-الجذور , اصل كل الاشياء؟
فشددت الرحال هذه المرة الى الموصل والى مدرستنا الابتدائية.
كان الفجر قد بدأ يمزق اوصال الظلام وبدأت خصلات الشمس الذهبية تطارد اشباح السخام فتنكفأ في دهاليز العفن المنسية. وكانت الشمس تتثاءب بعد ليل طويل.
كان مدخل مدرستنا كما هو مهيبا شامخا زاخرا بعنفوان التحدي كاحلام طفولتنا , أما مدرستنا فقد تكورت الى انقاض امتزجت بأشلاء ذكرى التهمتها حرائق تضورت من جوع عتيق , كان قد اوقدها حقد دفبن . أشجان شتى اعتملت بخاطري وغاصت في اخاديد غربتي,
لم اقف هذه المرة لانتظر ملتون او ياسمين , بل جاهدت كي اتسلق الركام فانعكست أشعة الشمس بعيني فشعرت بحرقة فيهما و ماجت سوائل كست حدقتي فترجرجت في عيني وتوهجت كهالات لقوس قزح , كنت قد وصلت قمة الركام فانحنيت لأاضع باقة البنفسج هناك.وانا موقن بان العنقاء لابد لها ان تنهض من هذا الركام وتنشر جناحيها ليغطيا كل المكان .ويبشرا بولادة فجر جديد .
وانا انزل من على الركام شعرت بان ي اتحرر من قيد كان يكبلني , وثقل كان قد جثم على صدري . كانت الشمس قد ارتفعت بالافق وغمر ت بدفئها كل المكان فشعرت اني أغتسل من ادران احزاني واعتق من براثن ذنبي العتيق. وبدأت اسمع صوتا رخيما يملأ المكان فيطغي على كل شيئ (فاما الزبد فيذهب جفاءا واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) صدق الله العظيم