
عبر الجسر في الهزيع الأخير من الليل. تأمل المدينة، وهي غارقة في سباتها، عجوز يلطخ وجهها المساحيق، طلاء أحمر يصبغ شفتيها اليابستين..
تفل.. تأفف..
ثم واصل السعي.
عصف البرد، حبك المعطف حول جسده. تمخضت الذكرى داخله كولادة متعثرة. امتطى الطوار كدودة بشرية، لاتلوي على شىيء.
الليل يحيك مكائده؛ تنقلب العجوز عاهرة، تعرض مفاتنها للعابرين، تغوي المتأطرين فتارين المحال ونواصي المقاهي المتعبة، كحلوى مكشوفة يحفها الذباب!.
حدجه الشرطي الجالس في عربته الرمادية بارتياب، فابتعد متوجساً.
لمحه النيل من بعيد.. تتعثر خطواته، فناداه:
– اقترب، لاتخف.
– نعم..
– مالك يابني؟.
تأتأ:
– أنا.. أنا..
– انزع عنك غطاءك فبصرك اليوم…
في حذر، مزق هواياته، وألقاها في صفحته المتلألئة. انتفض الشرطي، كأن ثعبان لدغه، وتحسس سلاحه!.
زامت المياه، دوّمت.. نهضت عرائس النيل من منفاها الأبدي، وثبن نحوه.. سألنه عن طقوس دفنهم، عمن وأدهن؟.
أفاضن في ذكر أخبار الراحلين منذ عصور غابرة، أشهدوه وشوم الغزاة الجدد. تعجب!.
قفز بغتة حوت ضخم. تنبجس نوافير أعلى جسده. همّ بابتلاعهم؛ استنجدن، تراجع الحوت، ثم استدار مُفرغاً الماء من حوله، مُحدثاً ضجة هائلة، حملق في وجهه، وهمس له بالسر.
زعق بلا صوت:
– أنا عابر، مجرد عابر، بلا حول بلا قوة..
انشق النهر، بزغت بقرات سمان يترجرجن، يعافرن ليبلغن منابت العشب والكلأ..
عجز أن يرشدهم للبر. سرعان ما التهمتهن بقرات عجاف- خرجن من أضلعه، شققن قلبه- فبانت الشوارع والبيوت مغمورة بضوء الصبح..
لمحة خاطفة.. بهرته..ثم مالبثت أن ذوت!.
صرخ:
– يوسف أيها الصديق، امنحني رؤى لاتبور.. اطلعني على كتاب الغيب.. أرسم خطوط كفي الممدودة..
مازلت يطوف بلا هدى، يبتعد المنزل، ينسحق الطريق تحت قدمه، تُطوى الأزقة وتختفي البيوت.
فيشعر وكأنه ولد تو لحظة فارقة، تشبث بها كتعويذة سحر… بارقة أمل!.
– هل ستأكل الطيور رأسي؟..
أم تراني سأعصر الخمر للسلطان في قنان من عاج؟.
تلا الوالي عريضة الاتهام في صرامة:
-“فضضت بكارة الوقت وانتهكت حرمة الأزمنة”..
أشار نحو الجند، فساقوه في حراسة مشددة، وسط صيحات واستهجان العامة والدهماء..
– لايوجد مكان للشنق في باب زويلة إلا للأمراء..
هكذا صرح مبعوت الملك.
– الجميع يبغون رأسك أيها الغبي المتحذلق.
نبهه السياف وهو يجلو نصله.
لن تبلغ باب الريح، ولا أسوار الفريضة الغائبة في دهاليز الساسة وعتمة الزنازين..
فالمدينة بلا أبواب، وشواهد القبور بلا أسماء، والحمقى يدوسون منابت الحلم، ويصغون لهوس التلفاز وبرامج التوك شو!.
أوووووه.. توك.. شو…
أتعرفها؟.
صحيح، صحيح جدا.
فتاة الإعلان الشقراء، تتهادى بتضاريس شبقة فوق بغلة..
تعظ!.
تهدي الغافلين سبل النجاة، طرق الولوج إلى الجنة.
نفقت أغنام الراعي، وتحطم مزماره، فر الحادي.. قبل بلوغ مشارف المدينة الجديدة.
عرت ساقيها، بلع ريقه، ظهر مهندم على اليتيوب، أفرغ مثانته على الهواء.. فتتدفق اللايكات.. نسبة المشاهدة تجتاز المليون، تختار من يتوج بالإمارة..
ومن يعبث بحاويات القمامة!.
عاد للمنزل منهكاً قرب الفجر. أغلق النوافذ، وارتمى على الفراش.
(تظهر كلمة النهاية).
اختمر السيناريو في عقلي واكتمل.. تداعت المشاهد مرتبة. “ذروة النشوة”.
كتبتها بخط أسود عريض،
ثم هاتفت المخرج لنحدد موعداً، للبدء في التصوير.