
بفناء بيت قديم، جلس مطرقا رأسه بين كفيه، كالح الوجه، ضيق النفس، مفكرا في ما آل إليه حال أسرته البئيسة، إبنه المتخرج الأول في دفعته بكلية الهندسة، أفضى أمره إلى مصاب جلل ألم به، عصي عن تشخيص أو تطبيب.
يقطع حبل تفكيره، طرقات على الباب…
ـــ السلام عليك
ـــ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته
ـــ لم تأت لزيارتي
ــ لم أرد أن آتي لأراك
ــ ولم لا؟
ــ لأنك شهرت بي، أنت وبعض الجيران … وهذا أمر سيء ، لن أسامحهم على هذا، ولن يغفر الله لكم أيضا على ذلك افتراء …
إنني أكبله بسلاسل! هذا تشهير
ـــ الذين أبلغوا السلطات المختصة بذلك هوّلوا ذلك، لكن الجميع يعرف أنك تحبس ابنك ولا تأبه بعنايته.
ـــ الجميع يشهدون أنك تهمل رعايته، وتمنع خروجه من البيت.
ـــ لقد فضحتمونني، على صفحات الجرائد، وشاشة التلفاز.
ـــ أليس جيدا أن تعتني السلطات بابنك؟ إنه أمر جيد لكم جميعا، لم أكن الوحيد الذي وقع تلك العريضة.
ــــ لقد تمظهرت نواياكم في تحرير الشكاية.
الجميع يشيرون إلي (والويل لمن أشار إليه ….)
ـــ لكنك سجنته ،أليس كذلك؟
ــــ قمت بذلك لم أنكر ذلك، لأنه هو خياري الوحيد.
لقد كان من قبل طليقا ينعم بحريته، مما حدا بصحيفة محلية لنشر مقال بخط عريض: (مختل عقلي يتجول في شوارع المدينة مهددا سلامة المواطنين) على إثرها تم اقتياده لمصلحة الأمراض النفسية والعقلية، ليقضي مدة طويلة نزيلا بها إلى أن تم تسريحه.
ــ لكني لم أربطه كالدواب كما تم إشاعته.
ـــ لماذا تم إذلالي؟
ــ كونه محبوس أو مقيد، هو نفس الشيء!
ـــ يقول الناس: “لقد ظهر بالتلفاز والصحف، الأب الذي يكبل فلذة كبده “! ــــ كان محبوسا والباقي عديم الأهمية
ــ لا، إنه مهم! لقد أشعرتمونني بالمهانة، لم أقم مطلقا بتقييده.
ــ كلها إدعاءات باطلة
ــ لا فارق بين تصفيد أو احتجاز
ــــ لقد جئت قصد تقديم …
ــ لا، لن آخذ أي … لا أريد إحسان أو معروف أحد…
ـــ كتبت الجرائد أنني …
ــ لا تبك، تحل بالصبر و هون الأمر على نفسك.
ــ أمه عاجزة عن الحركة شبه مشلولة، وأنا أقوم بكل أعباء البيت ، غير متفرغ لمراقبته، لذا تحتم أن أوصد الباب عليه، خوفا أن يتأذى من الآخرين، لأنه في نوبات جنونه يتفوه ببذاءة، أو يؤذي نفسه.
لماذا فضحتني؟ أنت و …
لن أسامح أبدا …
أنا في محنة تصل إلى رقبتي…بمصاب إبني الأليم، منذ الليلة المشؤومة التي عاد فيها إلى البيت مهتابا ينظر إلينا شزرا ويهذي ويهذر، حتى غشي عليه، وأنا أتخبط في معاناتي…طفت به على الرقاة الشرعيين، أخصايين في الأمراض النفسية والعقلية، دون جدوى.
ــ أنا آسف، سامحني لم أرد أبدا…
ــ مرحبا ــ كيف حالك؟
ــ بخير أشكرك
ــ هل أنت بخير؟
ــ بخير والحمد لله
ــ أين كنت؟
ـــ كنت أتسوق
ــ لقد تعهدت ألا تحبس الولد مجددا
ــ اضطررت إلى ذلك
ــ اضطررت؟!
ــ نعم، سيدي …
يلزمني التسوق لتموين البيت بالبقالة، والسعي وراء قوت يومي، ماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟
ـــ اتركه في فناء البيت وأطلب من جارك أن يراقبه لقد تحدثنا في ذلك لقد وعدتني.
ـــ لا جار يتكلف بذلك
ــــ اتركه بالفناء …
ــــ إنه مسور بحائط قصير، والأطفال يتعمدون رمي الكرة بداخله، قصد جمع ثمار الشجر المتساقط، يدقون الجرس…ليتأكدوا من خلو المكان، يتسلقون السور لينزلوا بالفناء، وقد يحدث ما لا يحمد عقباه لو تواجد ولدي به ..لذا لا محيض من غلق الباب عليه.
ـــ ناولينا كرتنا من فضلك، نحن آسفون، سنأخذ حذرنا…
ـــ شكرا جزيلا عمي …
ــــ إذهبوا من هنا، اذهبوا بعيدا ..
ـــ أرأيت يا سيدي، ما كنت بصدد الحديث عنه… أنا مطوق بأمور مستعصية بدءا بحالة إبني.