لا ريب ان الرمزية قد احدثت تطورا مهما في التعبير الادبي ، الا ان الانتقالة الجوهرية في فكرة الابداع و التلقي كانت في الحركة السريالية و ما تبعها من حركات تعبيرية . فصار تعدد مستويات البوح و الايحاء من سمات العمل الابداعي . ففي جوار البوح و التعبير الآني للعبارة و المقطع و باسلوب الكتابة ، فان لتراكم التعبيرات و طبيعة انتشارها في النص وسط علاقات تعبيرية معقدة تعطي زخما و طاقة تعبيرية عالية للغة ، تحققت انظمة عالية متعددة من التعبير على ايدي السرياليين و التعبيريين .
في قصة ( متاهة التماسيح ) السريالية للاديب و الفنان التشكيلي العراقي الدكتور غالب المسعودي ، نجد تلك التوظيفات و انظمة البوح المعقدة و مستوياته المتعددة حاضرا و بوضوح ممثلة نموذجا للغة تعبيرية تتعدد فيها مستويات البوح . و من المفيد ان نورد القصة أولا :
متاهة ألتماسيح (قصة سُريالية ) .. د.غالب المسعودي :
المتاهة الأرض التي يتوه فيها السالك ، ولايكاد يعرف فيها طريقاً, ويراد بها في ألأساطير مبنى التّيه ذو الممرات الفرعية المعقدة الذي بناه ديدالوس للملك مينوس ملك كريت ، حسب الأسطورة الإغريقية، وأراد مينوس أن يجعل منها سجنًا للوحش الذي يسمى الميناتور, إذ كان يضحَّى بسبعة من شباب أثينا، وسبع عذارى لهذا الوحش كل سنة(ملاحظة نحن نضحي أكثر).
قبل أن يوقد مصباح النوم, هو يخاف النوم في الظلمة, نسي أن التلفاز موصول بالكهرباء الوطنية (في حينها كانت لاتوجد وطنية), أضاءت الشاشة, برنامج عن الحياة البرية للتماسيح في بوتسوانا , سمع بدموع التماسيح , أسنان التماسيح ,علاقة الديناصورات بالتماسيح, لكنه لم يعرف أن التماسيح تبني تحت الماء متاهة, تصور أنها تبنيها لأجل أن تسحب فريستها وتأكلها بهدوء, دون تطفل الأخرين وخصوصاً الحيوانات ألقمامة, إلا أن الباحثين أثبتوا أنها لاتستعملها لهذا الغرض(التماسيح لاترى في الظلمة وهي تحت الماء), وضع وسادته تحت رأسه, إستغرق في نوم عميق بعد أن تبللت أطرافه وظهره بالعرق ,نصحوه أن يشرب ماء مالح ,هو شرب ماء العلقم,علامات ألأستفهام تنمو في مخيلته ,لم متاهة التماسيح ,هناك متاهات في الحياة ثمة متاهة بين الحرمين, ثمة متاهة في المدينة القديمة, بعضها يوصلك الى جنة تحت أرضية, بعضها يوفر لك الفاكهة في غير موسمها, وهناك متاهة السياسة العراقية ,وهناك متاهة النسيان, يبدو إنه إستغرق كثيراً, في حلمه تصور نفسه في الفردوس, تقف أمامه وجها لوجه جنيته التي اطاحت بحياته, ومن أجلها راح شهيداً, لكي يضمن أن تكون نهايته الجنة بلا حساب ,قال لها حبيبتي ها نحن في الفردوس تمني , فاكهة أعطانيها الرب, عصير محلى , خمر ليس فيها غول, أنهار عسل, أنهار لبن مزكى كرائحة عطرك يوم إلتقينا لأول مرة ,قالت له أمهلني لحظة لأستطلع أمنياتي,هل هناك ولدان مخلدون يحملون أباريق من فضة وكأنهم الؤلؤ المكنون………؟ ,رد الصدى نعم ها نحن, قالت لهم دلوني على الفاكهة المحرمة, كانت لنا سلوى في الدنيا ,نأكلها بغير إشتهاء,وهذا ذو رائحة الجرذ أطعمني إيها رغم أنفي ,ألا تعلموا كم أنا مشتاقة أن يسقينيها ولد أو ولدان ويكفوني شر هذا الذي يتابعني حتى الفردوس, سأختار سبعة , أنا أعرف أن خيارته إثنان وسبعون ,لكن عليكم أن تتبعوني الى متاهتي رغم أن رضوان وكل حراس الفردوس يعرفون مساحتها,إلا أن متاهتي تسكنها آلهة المغاليق, ترّجع الصدى لن ينال منها أحد, متاهتي هي رعب المكان, إنها متاهة الجسد في الأولى, وقفت على أطراف أصابعها, خلعت أهدابها ,لم يكن العري مذموما في الفردوس, في زاوية مظلمة من متاهتها استدرجت سبعة ولدان ,قالت للأول إخلع نعليك ,إنك بالوادي المقدس طوى, لم يصغي لأنه كان بلا نعل, قالت للثاني أفرد جناحيك, لم يصغي ,لم يكن طائراً ,قالت للثالث أطفيء نارك في ملعقتي, لم يصغي كله من نار, جاء دور السابع, كان يطوف حول رأس الشهيد, ناولها رسالة منه حذفتها في الماء الآسن (لايوجد في الفردوس ماء آسن) لكنها ظنت أنه موجود, قالت له أنت خياري الأخير, دع شهيدك وأغمرني بقبلة, قال لها أنزلي رأسك الى الأسفل, وجدت حوضه وما تحته ممسوح كلعبة مانيكان بلاستيكية, ضحك الشهيد, غادر جنة عدن, شغل التلفاز رأى إن أسباب بناء التماسيح لمتاهتها هو سبب نفسي ,عندما تتعرض لضغط ما تلجأ اليها لأخذ قسط من الراحة, ثم تعود لمزاولة حياتها العادية, لكن مشكلته أن متاهته هي مساحة وطن ,والتماسيح قمامة ,لم يتسع له المكان إستشهد ثانية.
————-
في هذا النص للبوح مستويات ، فهناك بوح على مستوى الفكرة ، و على مستوى السرد ، و على مستوى الصور و الايحاءات .
فاما الفكرة فمن الظاهر ان المؤلف قد عبأ نصه بافكار و هواجس و رؤى كثيرة ، نقلها النص بلغة واضحة و صريحة و احيانا ايحائية .فبين التيه العريض و على مستويات مختلفة و التي تذهب فيه الارواح و السنين ، فالحيرة و الوهم و اللامعنى ، و الوحوش البشرية و من يعتاش على دماء الناس و حياتهم ، كلها نجدها حاضرة في مراجعة و طلب مراجعة للفكرة و الفكر .
و اما البوح على مستوى السرد فمن الواضح ان سريالية النص تمثل طبقة للبوح و شكلا تعبيريا اخر عن التيه و الضباب و الوهم و حياة كالحلم في عدم منطقيتها و التباس امورها ، فينتقل السرد بشكل عشوائي لا منطقي بين المقاطع و الاحداث بشبكة ترابطات بعيدة تحقق سريالية واضحة في النص .
و اما على مستوى الصور ففي النص مقاطع و عبارات اعتراضية و جزئية تتسم بايحائية و توظيفات بوحية عالية كما في قوله :
(وأراد مينوس أن يجعل منها سجنًا للوحش الذي يسمى الميناتور, إذ كان يضحَّى بسبعة من شباب أثينا، وسبع عذارى لهذا الوحش كل سنة(ملاحظة نحن نضحي أكثر). )
فبعد مقدمة تعريف المتاهة بين سبب وجودها الاسطوري ، و يبين انها لاجل الحماية من الوحش و باسلوب ارتدادي ينقدح استفهام مبطن بانه ما السبب الحالي لهذه المتاهة ؟ و تغير عنوانها و معناها فصارت و سيلة الوحش البشري لصيد الضعفاء في عالم الغاب الجديد .
و يقول :
(لكنه لم يعرف أن التماسيح تبني تحت الماء متاهة, تصور أنها تبنيها لأجل أن تسحب فريستها وتأكلها بهدوء, دون تطفل الأخرين وخصوصاً الحيوانات ألقمامة, إلا أن الباحثين أثبتوا أنها لاتستعملها لهذا الغرض(التماسيح لاترى في الظلمة وهي تحت الماء),
هنا شعور و اشعار بامور خفية و ان الامور في عالم المتاهات ليست كما تبدو ، و ان الظاهر ليس كل شيء ، كما ان هنا يظهر سلطة العلم في عصر العولمة و عدم كفاية الافكار الموروثة و الاسطورية .
و يصل الى الثيمة الرئيسية في النص :
(وضع وسادته تحت رأسه, إستغرق في نوم عميق بعد أن تبللت أطرافه وظهره بالعرق ,نصحوه أن يشرب ماء مالح , هو شرب ماء العلقم ,علامات ألأستفهام تنمو في مخيلته ,لم متاهة التماسيح ,هناك متاهات في الحياة )
بيان شخصية البطل الرئيسي في القصة وسط هذا المزاج العام من التيه و الوهم ، نجد وصفه بالتعرق و الضغف و الحاجة للماء المالح انه يمثل الانسان التائه في هذه المتاهات ، كما انه لا يعرف مصلحته و ربما يسعى نحو المرارة بارادته و ربما بدافع و قوى خارجة عن ارادته حتى انه شرب العلقم ثم يستحضر المتاهات المحلية بالسياسة العراقية و العميقة في المعتقدات ثم في الحياة كلها كما هي خاتمة النص .
الا انه مع ذلك هو لا يزال قادرا على التساؤل ، و يستفهم ، و ايضا مدرك للوضع و الواقع ، لكن مجمل الاحداث و السرد يظهر انه عاجز و واهم .
ثم يغرق البطل و يوغل في وهمه و حلمه حتى يصل الى امنياته و تمنياته العميقة و غاية مناه ، فيرى نفسه في الفردوس و ايضا يكون لديه تصورات غير صحيحة ، حتى في هذا الجانب الذي عليه ان يتحفظ فيه على اعتقادته و افكاره ،وفق تساؤلات كبيرة بين تطلعاته و تطلعات الاشياء و الامور
بتصور خيالي :
(,قال لها حبيبتي ها نحن في الفردوس تمني , فاكهة أعطانيها الرب, عصير محلى , خمر ليس فيها غول, أنهار عسل, أنهار لبن مزكى كرائحة عطرك يوم إلتقينا لأول مرة ,قالت له أمهلني لحظة لأستطلع أمنياتي )
ثم يفيق او يتشظى اكثر فيعود الى العلم و سلطته ، فتصدمه الحقيقة بان للمتاهة سببا اخر لم يكن بباله ولا يشبهه ما في وجوده و واقعه حيث انه :
(شغل التلفاز رأى إن أسباب بناء التماسيح لمتاهتها هو سبب نفسي ,عندما تتعرض لضغط ما تلجأ اليها لأخذ قسط من الراحة, ثم تعود لمزاولة حياتها العادية, لكن مشكلته أن متاهته هي مساحة وطن ,والتماسيح قمامة ,لم يتسع له المكان إستشهد ثانية. )
هكذا يجد نفسه في متاهة كبيرة تأسر كل شيء متاهة الوطن ، و متاهة النفس و الافكار ، انه نص لا يترك صغيرة و لا كبيرة الا تخبرك و تعلمك و تدلك على التيه و المتاهاة في حياة الانسان المعاصر .
—