قرأت شیئا حول السفر، في صفحة 215 من کتاب قدیم، مغلف بجلد الماعز الجبلي؛ کتبه شخص مجهول الأسم او ربما لسبب ما ازیل اسمه علی الغلاف…بعد قرأتي للصفحة، بقت منها کلمتین راسختین في ذهني، قد خططت خط غلیظ متماوج، بنفسجي اللون تحتهما، وهما:
“الزمان و المکان”.
ما أشد انتباهي في ثنائیة الکلمتین و تتابعهما، من حیث المعنی و الدلالة هي انهما کانتا نقیضتین للأسفار التي کنت قد اظن اني قمت بها فعلا..ان اسفاري کانت مخالفة؛ من حیث عدم ارتباطهما، بواقعیة الزمان و المکان، کثنائیة لاتتجزء و لاتتواجد إلا معا کمعادلة، لجدلیة الکینونة و ترابطها الأزلي بالزمان و المکان!؟.
عندما قرأت، لأول مرة في حیاتي صفحة 215 لذلک الکتاب؛ رأیت عبارة مشابهة لـ:” ان الاسفار لاتوجد الا اذا وجد الزمان والمکان معا مجتمعین”..مع شکي و ضني وعدم یقیني بصحة ماجاء في تلک الصفحة، ولکن خالجني شعور غریب حول اسفاري السابقة، ربما لأن؛ اذا کان السفر، ذلک الذي اشیر الیه في تلک الصفحة، فماذا کانت تسمی اسفاري البعیدة کل البعد بما جاء في الکتاب حول السفر؟.
عندما کنت جالسا في ذلک الیوم الماطر کما اظن، خلف الکثیر من المایکروفونات القدیمة الشکل، او هذا ما تخیلته..في تلک اللحظة او اللحظات، وفي تلک القاعة الکبیرة الخافتة نورا، مع رؤیتي لعدد کثیر من الحاضرین و نظراتهم الملیئة بالتعجب و التساؤل او ربما السخریة، في ذلک الجو المشحون بالقلق و الخوف، ربما من المجهول او شيء آخر؟!.. بدأت تساؤلات داخلیة شتی، تزید من اضطرابي الداخلي وتحول بیني و بین طرحي لموضوع؛ لم اکن قد اعرف عنه الکثیر.. غیر انه کان بشکل عام موضوعا خاصا حول اسفاري؟!.
مع شکي في کیفیة وصولي الی داخل تلک القاعة، نظرت الی عقارب الساعة المعلقة في یسار الصورة الکبیرة لسلطان من سلاطین العثمانین القدامی حسبما اظن وکما یقال؛ عاش و مات في عصر مبهمم، لم تکتب عنه بعض الکتب، الا اخبار عدوانیته الغیر الطبیعیة، ضد قوم من البشر کان تسمی في ایام تلک السلطان “الغورید”، ولحسن حظ اسلاف ومحبي تلک السلطان، ان أولائک القوم قد انقرضوا قبل مئات السنین، وعجبا لم یذکر اسمهم، حتی في کتب التأریخیة الخاصة بالاقوام البائدة ، وهناک من یشیر: ( الی انه لم یوجد في یوم من الایام، قوما بإسم “الغورید”.. ویقال ایضا ان تواجد حکایات حول أولائک القوم، کانت من اختراع کتاب بلاط السلطان وخاصة الشعراء منهم، لتوسیع مخیلة السلطان و تسلیته بوجود عدو جبار و عنید، يخوض السلطان عشرات المعارک ضدهم و تستخدم شتی انواع الوسائل القهریة و التسلطیة لتلینهم و کسر شوکتهم.. ولکن حسب الحکایات؛ بلا جدوی!؟).
عقارب الساعة کانت تشیر الی السادسة مساءا او ربما صباحا؟!.
منذ وصولي الی داخل القاعة وبدون توقف، کنت افرز عرقا باردا ولزجا، لزوجة صمغ اشجار المشمش.
بإشارة مبهمة من الشخص الذي کان جالسا بقربي، خلف المنضدة المعدنیة الصدءة، بدأت انظر الی الأوراق المتناثرة امامي، قلت:
( أیها الأفاضل و الفاضلات…).
بکاء طفل آتي من احدی الزوایا، حالت بین اتمامي…لبرهة توقفت صامتا، شاردا الذهن و الخیال، مشتت التفکیر؛ لا أستطیع الترکیز…؟!.
لا أعرف کم مضی وانا انتظر انتهاء بکاء الطفل، ولکن من البدیهي اني استئنفت الکلام بعد…،:
( لا أعرف کیف اتکلم عن متاهات اسفاري الماورائیة و الغیر المرتبطة بالزمان و المکان، او ربما ارتبط باحدهما وأنبذ الآخر و ترکه..فتحت باب سلسلة من الاسفار، اظن قد قمت بها؛ بسفري الأول، الی لامکان؛ في لازمان سرمدي.. بدأت تلک السفرة منذ ان ولجت مع اثنا عشر شخصا، الی داخل سفینة شراعیة آتیة من الضباب حسب تخیلي؟!..تعجبت في سفري الاول، بأنني لا أشکل فردا من الطاقم بالرغم من تواجدي معهم.. کم حاولت ان اضیف نفسي کعدد جدید، العدد “ثالث عشر” الی الطاقم ولکن لم افلح، کانت العدد ثابتا لایتغیر، اي اثنا عشر شخصا فقط، بي او بدوني..مع انني کنت الشخص “الثالث عشر” من حیث التعداد، ولکن لسبب ما، ربما لخطء في تعدادي للعدد، کانت ینتهي و یتوقف العد الذي اباشره في “اثنا عشر”، ومهما حاولت لم استطیع تجاوزه!؟.
نعم کانت عدد اشخاص الموجودة في السفینة الشراعیة، “اثنا عشر” شخصا، بما فیهم انا و دکتور جراح و قاتلین ذو نظرات هادئة و شخصا مسنا متدینا، کثیر المناجاة والدعاء، ربما خوفا وهلعا من هول اللحظة اللازمنیة و اللامکانیة المفترضة.. منذ ان ولجنا الی السفینة، لسبب نجهله، شرعنا جمیعا بتجسید لحظة مساء قاتم و غائم في مخیلتنا، وبعد ذلک بدأنا بتخیل تحرک السفینة الی الامام ومن ثم تلاطمها مع الامواج العاتیة والهوجاء.
لا اعرف کم مضی من الوقت، اذا کان هناک اي وقت اصلا.. حین صاح الرجل المسن المتدین:
” اطلبوا النجاة لانفسکم، قبل الهلاک”.
بعد سماعي لتلک الجملة الاخیرة او الشهیرة لذلک الشخص، لا اعرف هل نمت بعدها لوحدي، او نام معي الجمیع؟!).
اعطاني الشخص الجالس بقربي، قدح من الماء الفاتر..ثم نظرت الی عقارب الساعة المعلقة، کانت تشیر الی الساعة السادسة مساءا او ربما صباحا.
قلت:
( في احدی الایام و بدون معرفتي للزمن الذي کنت فیه، وجدت نفسي ملقا تحت شجرة مسنة؛ ربما في احدی الجزر الصغیرة..مع ان الساحل کان قریبا من الموقع الذي کنت فیه، ولکن وصولي الی الساحل، حسب ظني استغرق زمنا طویلا..وعندما حاولت في مرة من المرات، ان اتجاوز الاشجار و ان ادخل الی اعماق الغابة الکثیفة، فوجئت بوصولي الی امام البوابة القدیمة لبیتنا..ومن اجل التأکد من واقعیة و صدق ما أراه، فتحت الباب کما کنت افتحه سابقا، وولجت الی الداخل، رأیت الستائر و الافرشة و جمیع الأغراض، وحتی الصور بما فیها صورة جدي المعلقة علی الحائط ، کما هي ….).
اخذت شهیقا عمیقا ثم نظرت الی الساعة؛
الساعة السادسة…
بدأت بالحدیث:
( لم اکن انوي ترک بیتنا العتیق، لولا ارغامي من قبل رجال ملثمین وبالرغم من ارادتي، وهم الذین احضروني الی هنا).
وصلت بعض الأسئلة المکتوبة من الحاظرین، لم انتهي من قرأة بعضها، حین نهض رجل ذو بنیة عظمیة ضخمة، وقال:
( انک تعرف اننا لم نسافر یوما ولم نتجاوز حتی حدود مدینتنا المتکونة من آلاف الکیلومترات من الاسلاک الشائکة، ومن الجدیر بالذکر انک مثلنا، فکیف استطعت السفر و الترحال؟!).
نظرت الی الحاضرین و سألت عن الساعة؛ کطلاب مدارس الابتدائیة، کلهم مع بعض، اجابوا:
( الساعة السادسة…؟!).
بعد عدة مرات من العطس، قلت:
( الساعة السادسة…؟!).
بدون اي تغیر او حصول شيء، نهضت من مکاني، وبهدوء.. سرت نحو البوابة الرئیسیة للقاعة.
وبعده وبدون النظر الی الخلف، وبسرعة ابتعدت عن القاعة وعن جمیع الاشیاء التي تربطني بها.
بعیدا عن کل الاشیاء و الاوهام، استرخیت تحت احدی اشجار السندیان، وبدأت انظر الی سماء، لا تشبه السماء بشيء؟!.
وبعد القلیل من النظر الی سماء لا تشبه السماء بشيء، فقدت احساسي ، بالمکان و الزمان الذي کنت انا فیه في ذلک الحین و حتی سابقا؟!.
وقبل شروعي في نوم عمیق، سقطت الکتاب المذکور سابقا من یدي.. وللعلم فقط لم اکن قد قرأت منها الا الصفحة 215.
—