كثيرون هم الذين كتبوا قصيدة النثر ، لكنّ القليل منهم قد أبدع في كتابتها وفق شروطها وثوابتها ، مؤسسا صرحه الشعري بجهد قريحته وعرق نبضه .. ومن هذه القلة القليلة الشاعر المائز كريم جخيور . فهو وإنْ بقي يغني ضمن السرب الكبير ، إلآ أنه يُغني بحنجرته وصوته الخاص ، في وقتٍ أضحى فيه تشابه الأصوات شبه ظاهرة في المشهد الشعري العربي بشكل عام ، والعراقي بشكل خاص .
*
لعلّ أهم سمات قصيدة الشاعر كريم جخيور : البخل في الكلمات ، ولكن : مع الكرم والجود في الصور والمعاني ، وفي ما تسميه سوزان برنار بـ ” اللازمنية والتوهج ” ، محققا المعادلة الصعبة المتمثلة بخياطته ثوب اللغة على مقاس جسد المعنى ، فلا فضفضة كلامية يترهّل ويضيع فيها غزال المعنى ، ولاتزويق لفظي لكأس الأبجدية على حساب رحيق الشعر .. كما في وصفه بجملة مركبة واحدة ، التراجيديا العراقية التي قد لا تتسع لها صفحات :
نكتب عن العيد
وكأننا نعرفه من قبل !
أو نصه المذهل عن تماهي العاشق بالمعشوق :
إذا ما اكتشف الأطباء المهرة ُ،
ذات يوم،
في أعلى نافذة الصدر اليمنى
قلباً آخر لي
فتأكدي أنه كشقيقه
دائم الترتيل لكِ
أو هذه الياقوتة الشعرية :
الصباح هناك أكثر دفئاً
لا لأنّ الشمس لم تشرق هنا
ولكن لأنك أنت هناك
*
في مجموعته ” ربما يحدق الجميع ” يُعنى الشاعر كريم جخيور بما يجوز تسميته بـ ” الحقيقة الفنية ” وليس التاريخية ـ وحسناً فعل ـ فالحقيقة الفنية عابرة للأزمنة والأمكنة لأنها تتعلق بالإنسان لمجرد كونه إنسانا أيّا كان مذهبه ووطنه وقوميته كما في قصيدته ” خيانات كونية ” التي عبّرت عن إنسانية الشاعر وذوده عن الإنسان والجمال الكوني :
الخيانة
لا تبدأ دائماً للوطن
فحين تكسر بفأسك قلب الشجرة
فهذه خيانة للهديل
وحين تستيقظ
والشمس لم تكن قد أكملت إفطارها
فهذه خيانة للصباح
وحين تنام
والنجوم لم تختمر، بعد، بعينيك
فهذه خيانة للقمر
وحين لا ينتفض قلبك أمام الجمال
مثل مدية بدوي
خبأ ثأره أربعين عاماً
فهذه خيانة للعدل والجمال
وحين تلبس قفازاً سميكاً
حتى تتصيد الحروف
فهذه خيانة للجمر
وحين لا تذهب مع المطر
إلى مساقط النور
فهذه خيانة للشعر
وحين لا تغمض عينيك
قبل النوم
على آخر ضحكة فاضت مع الدمع
من قلب أمك
وحين لا تحفظ عن ظهر قلب
آخر حكمة نسجتها عيون أبيك
فهذه وتلك
خيانة للربّ
وحين تمرّ الغيوم
ولا تفتح فمها بالكركرات
فهذه خيانة للعشب
وحين ينام الغبار على أراجيحك
ولا تستغيث بمكائد اللبن
فهذه خيانة للطفولة
وحين تنام على سريرك
بلا حلم
ودونما رغبة للتأمل
فهذه خيانة للحياة
وحين يأخذك الوطن
إلى ساحات القتل
ولا يمنحك حفرة
لتنام فيها
فهذه خيانة الوطن لك
*
حفلت المجموعة بأكثر من تناصّ حاذق وجميل في أكثر من قصيدة عبّر فيها عن قلقه / قلقنا الوجودي ، كاستخدامه المقلوب لقول الله تعالى ” إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ” في قصيدته ” البلاشفة ” :
لقد اتفق الرواة
وعلى اختلاف مشاربهم
ومدى قربهم من مقعد بيت المال
أن البلاشفة إذا دخلوا قرية
زادوها جمالاً
وعلموا أطفالها مفاتن الورد
وكانوا على زهدهم
كبيرة لاءاتهم
وبيارقهم عالية وقاسية
وكلما أخذتهم المنافي
وضاقت بأحلامهم أقبية الولادة
حبّروا أوراقهم
بأسئلة الحياة
وأقاموا للشمس
منازل في قلوبهم
ويحدثنا الرواة أيضاً
أنهم انتشروا كالعشب
وكلما أسقطت الريح لهم نجمة
تفرقدوا كواكب لا تنطفئ
وفاضوا على أديم الأرض
طفولة ً
لا يشربها الظلام
أو تناصّه العميق الدلالة مع قول الله تعالى في عصا موسى ( قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى . فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) في قوله :
ولكل هذه الأفاعي
عصا واحدة لا تكفي
أو في إشارته الذكية لقول أبي ذر الغفاري : (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، ألآ يخرج على الناس شاهرًا سيفه ) فيقول كريم :
لكل هذا الجوع
سيف واحد لا يكفي
*