كريم عبدالله هاشم :
يا صاحبي ، عد بي ، إلى سري الأثير .
فلقد تقودك خطواتك اليه في النزع الأخير .
وأكون قد ألقيت عن نفسي حمولتها
وادركني المصير …
مرشد الزبيدي
تغيب الزرقة الصافية للسماء . .
تختلط الموجودات وتتداخل ببعضها .. تشتبك ألوانها فلا يستطيع تحديد أي لون لها ..
تتصاعد الحشرجة في الصدر . . فيشتد السعال مع ضيق الصدر مع زمجرة بقايا مجرى الهواء المتخلف عقب أكداس الدخان . .
فيغيب ..
إلى ما بعد نصف نهار أو نصف ليل . . ليستعيد وعيه ويطرد غيبوبته . .
* *
بسرعة . .
كان قد وجد لنفسه مكاناً بين الوجوه والقامات المحتشدة في مؤخرة الشاحنة الكبيرة . .
لم يرغب بإعطاء نفسه وقتاً لمراجعة ومداولة تفاصيل اليوم من أوله . .
استأنس إلى القرار الذي قفز إلى رأسه سريعاً . .
احتشد بين الواقفين . .
دلفت الشاحنة بالنزول ، ثم الصعود في مسرب الشاحنات على الطريق المرسومة في منخفض ( سميل ) . . النقطة التي صارت الآن تفصل عالمين في ذهنه . .
تخلفت أطراف (دهوك) وراءه وانخفضت الشاحنة ثم انتهضت ترتفع للجانب الثاني . .
تشح النسمة الباردة في أسفل الوادي ، وتعود عند المرتفع تمس الوجوه والرقاب التي ينز منها العرق . .
بعد الارتفاع ستكون هنالك سيارات تاكسي تستجمع الراكبين بالعدد لإيصالهم إلى مركز (الموصل) . وإذ ذاك يكون قد غادر من هنا وضاع في الزحمة الكبيرة . . وليكن ما يكن .. فلن يعود إليهم مرة أخرى . .
– الزحمة الحلوة الكبيرة . .
حين ترجل كان يرى طريق سميل الذي خلفه وراءه بشكل أوضح وهو منساب من ارتفاع إلى انخفاض ، ثم ارتفاع ، وانحناءات ممتدة كأمتداد أفعى وسط الخلاء . .
سنين طويلة مضت في دهوك مستسلما للسكون والقطيعة . .
سنين طويلة لم يصل إلى هنا . . يمارس السكون والقطيعة لدنياه الأولى ،
– الدنيا العريضة . . المليئة .. دنيا فيها ناس . .
سحب المنديل الكبير من جيب جاكيته الملفوف مع باقي أغراضه في صرة الملابس التي عادت للتنقل معه مرة أخرى . .
مر بالمنديل المتكور على وجهه وعنقه الطويل ، وأسفل الرقبة حيث ابتلت لفافات الشعر الأبيض النافرة من فتحة دشداشته البنية الكالحة عند الصدر . .
هفّ بالمنديل تحت ياقة الدشداشة . . جفف العروق ، مسح الزبد الملتصق بشفتيه . . عدلَ في نفسه ومضى صوب موقف سيارات التاكسي . .
– ست سبع ساعات واكون عنده ..
ترى كيف هو الحاج نواف الآن ، قوّته وهمته ، هل لا زال شديداً كعهده به ، وهل لا زال ذويه يتحاشون زعله . .
– والله لو قضيت هالكم سنة معه لكان أفضل ..
لم يكن عنده إلاّ من العزيزين والذين يتصدرون دوما صدر ديوانه . .
عزيز دوم علينا .. متفضل .. بيوت القرية تشهد بتعبه بعد هذا العمر الذي أفناه . .
– كاكا محمد جوهر واحد منا . .
كان سائق التاكسي ينادي على راكب واحد . .
رمى بالصرة في صندوق التاكسي وقذف من يده عقب السيجارة وانحنى يدخل فيها مع باقي الركاب . .
لا أمل . .
لم يلحق به كما توقع . .
ولم تظهر في الافق السيارة الألمانية الجديدة التي يركبها اخوه ، تلحق به . .
ليُطَيّب خاطره . . ليعود به الى بيتهم في دهوك . .
* *
كان الكلام موجعاص هذه المرة . .
أكثر وجعاً من ذي قبل . .
وكانت عيون امرأة الأخ اكثر وقاحة من ذي قبل . .
معلنة العداء اكثر من ي مرة سابقة . .
– عالة . . منذ عدت وإلى اليوم وانت عالة لا شغل ولا عمل نفخ دخان ونوبات مرض ومستشفيات . . زهقنا منك . .
وكان زوجها ساعتها غائبا . .
ربما لم يأت ، وربما جاء وأخفى رأسه . . وربما . .
تضيق به هذه المرأة ، وتظهر ضيقها . . وتجن أكثر عندما يطلب تقسيم الحقل المتوارث إلى حصص ، وقد كان هذا الحقل ومنذ البدايات بحوزة الأخ على امل ان يكون قد استوفى من ريعه ما كان قد انفقه على البستان لتجديد الشجر وتعمير المحصول وترتيب كل مستلزمات جعله مثمرا . .
– لم يكن لك وجود هنا ، تنقطع وتغيب ، تعمل في مصلحتك في بغداد وغير بغداد لا ندري أحيينا الأرض زرعنا وعمّرنا . . كل هذا الشجر من كدنا . .
ولم يكن هنا في تلك السنين فعلا . .
منقطع نهائيا . .
ولم يكن يريد الدخول في حسابات الورث والتوريث ووضع الامور على السكين بينه وبين الاخ . . لذلك كان يتلاشى بعيدا ، ويضيع عنهم بأخباره . . ويضيعون عنه بحسابهم وقسمتهم ، ويترك هذا الاحتكاك ويمضي . .
ويستغرق بعيدا . .
وتكون للاستغراق لذة . .
البيوتات الطينية الحلوة التي كان يتصنع في بناءها أيام زمان في قرى بغداد شواهد لذة . .
وكانت بيوت الطين لقرية الحاج نواف بأجمعها من صنع يده . .
ــ معلم في هذه الصنعة . . الحائط الذي يدقه ويضع أساسه محمد يبقى لولد الولد . .
فكان يقضي المواسم عندهم . . وعند غيرهم من وجوه ورؤساء القرى . .
مع حضور متفرق الى المدينة بين الحين والاخر . . يحمل نفسه من القرية الى مدينة علاوي الحلة ، القضاء المركز الذي يتوافد اليه القرويون صباحا ويتوزعون منه بعد الظهر وعصرا الى قراهم . .
وفي علاوي الحلة يقضي أيامه في فندق ليالي الصالحية ، حيث مساءات الخلان والأصحاب ..
وينفق دراهم الصيف ، موسم البناء ، الحلوة . .
فيعود الى قراه التي يألفها وتألفه . . وبعد أن يكون قد أشبع نفسه من جلسات الاصدقاء وطرقعة كؤؤس الليل ، ونساء ليل المدينة . . .
ــ آخر موقف تفضلوا يا شباب
قالها سائق التاكسي ..
وكانت الموصل تملأ العين التي فارقتها للمرة الاخيرة قبل سبعة عشر عاما . . ,
لن تظهر في الافق السيارة الالمانية . . تلحق به . .
ليطيب خاطره . . ليعود به . .
* *
المرة الاخيرة التي غادر فيها قرية الحاج نواف كانت قبل سبعة عشر عاما عاد من يومها قاصداُ أن يركن ويستقر هذه المرة . .
ــ الان بعد هذا العمر …؟!!
هكذا استغربوا منه جميعا حين طلب ان يجدوا له بنت الحلال
كان العمر قد جاوز الستين والعظام قد نطت من الصدر والرقبة وتشعب العنق بين العظام والعضلات المتينة المتعرجة . .
لم يبتئس . .
يعرف ان طلبه بعد هذا التراكم من السنين غير مقبولا . .
ولا أوان لكل المواضيع . . واجراء التقاسمات ، فما سيخرج من بين أظافر الاخ وباقي الورثة لن يستحق اضرام النار الان والدخول في متاهات الفتن . .
جداول الدفوعات والتبرعات والادعاءات لن تنتهي . .
فليست الوجبة الدسمة الهانئة التي ستستحق كل هذه المشقة . .
فالسكوت أولى . . بعد طول السنين . .
* *
لم يعد هنالك طين . .
وغادر القرويون بيوتهم الطينية الى بيوت الضوء والزجاج . .
عندها استكان . .
وتعفن كالخميرة القديمة في بيت أخيه . . . في دهوك . .
ألغُيت هذه المهنة .
وانقطاعه عن الحاج نواف لم يكن أبدا لأسباب المهنة التي خوت من قبل وانما بسبب الحياء الذي أصابه لسنين مرت عما حصل في دار الحاج نواف بسبب أحد العمال الذين اصطحبهم محمد معه من المدينة لمعاونته ، فقد استيقظ ذلك العامل صباح اليوم الثالث لحضوره الى القرية صارخا ان مبلغ قد سرق من حقيبته المتروكة في ديوان الحاج نواف . . افزعهم ادعاء هذا الشخص . . زعزع حلاوة الصحبة . . غرز رمحا في الظهر المستقيم .. ناوله الحاج نواف مبلغ ما . . وانصرف . .
حين اكمل محمد جوهر العمل الذي بيده غادر كعادته من القرية . . وامتد غيابه . .
وعرف لاحقا أن ذلك الرفيق كان يريد الانفلات من هذا العمل الشاق فلم يكن امامه الا تلك الحجة الواهية . .
ــ يا ترى .. كيف صرت وكيف صارت القرية يا حاج نواف؟ .. السنين تركض ركض . .
* *
كان الوصول الى مركز بغداد في اول الغروب . .
وعلاوي الحلة مرة اخرى بعد سبعة عشر عاما . .
مرة اخرى . .
بشارعها الوحيد العريض الذي ينشق الى فرعين عند مقهى (جزيرة العرب) حيث تتوسط المنطقة محلات الخياطين والمطاعم وباعة الاقمشة والتبغ والصابون . .
وفندق ليالي الصالحية على زواية احد الفروع الصغيرة المقابلة للمتحف . . كما هو . .
الباب العالية التي تضيق حين تفتح بفردة واحدة . . والاريكة الطويلة ومجموعة الكراسي التي تتوسط باحة الفندق الصغير المحاطة بغرف النزلاء كما هي ، لم يتغير الا وجه القماش عليها . . وطاولة جعفر الخشبية في مكانها . .
تراءى له جعفر بحجمه الصغير وعوده المتيبس ، صوته الفاضح وهو يتقافز بين الغرف والمطاعم المجاورة وبار الفوانيس المقابل للفندق . .
– فضحتنا بلغَوك يا جعفر ..
ولا يتوقف جعفر ..
وصبيح النزيل الدائم ، الرفيق الدائم لليالي السهر والاسرار الخاصة .. وحسن ، وناصر ، جلساء الفوانيس ..
تناثروا . . واين؟ . . الله يعلم . . ربما مثله ، وبما أحسن ، ربما . .
كما قذف به النثار الى الاختباء والتعفن في البيت العتيق في دهوك . .
هنا كانوا . . هذا مجمعهم قبل ان يغيب وينقطع . .
وقبل ان تضيع حلاوة المكان ، وتختبئ الوجوه الودودة التي تطوف هنا ليل نهار . .
ــ الان افضل قبل الليل . . الطرق جارية . ممكن العودة على مهل لمعرفة اخبارهم . .
همس مع نفسه ، ونهض يحمل صرة الملابس الصغيرة متجهاً الى السيارات الذاهبة للقرية . . حيث الحاج نواف . .
* *
كانت القرية على غير ما ترك للمرة الاخيرة . . تغيرات يا حاج . .
وكان بيت الحاج نواف في موقعه . . والمضيف ، الديوانية . . ليس باحة الارض الواسعة المفروشة بحصير ارضي على اركان الحائط الطيني ، بل غرفة ضيوف أنيقة مفروشة بالسجاد وأطقم القنفات الحديثة . .
عرفوه الكبار . .
رحبوا به . .
احتووه وضموه . .
جالسوه ،
وتسامروا حتى الصباح بتقليب مواضيعه واخباره وذكريات العمر القديم ، وسنوات غيابه . .
احتواهم . .
جالسهم ،
وسامرهم حتى الصباح بتقليب مواضيعهم واخبارهم وذكريات العمر القديم ، وسنواتهم الجديدة ..
لم يكن الحاج نواف موجودا . . رحل مع السنوات الراحلة . .
ــ ذهب الى دار حقه قبل ست سنوات . . كلنا يا كاكا محمد الحاج نواف . . وكانوا كلهم الحاج نواف . .
نسي ولم يعد يهمه . .
ان تظهر في الأفق السيارة الألمانية . . تلحق به . .
أو أن يطيب خاطره . . أو يعود به . .
ولم تغب في تلك الليالي الزرقة الصافية للسماء ، أو تختلط الموجودات وتشتبك ألوانها . . طردت الغيبوبة .. عاد الى قراه التي تألفه ويألفها . .
* *
خلال إقامته الجديدة في قرية الحاج نواف ذهب الى المدينة ليتقصى اوضاع واخبار رفاقه القدامى . .
وأقام لأجل ذلك عدة أيام في فندق ليالي الصالحية . .
ذكر عامل الفندق . .
انه وجد في صباح احد الأيام الرجل الشيخ المسمى كاكا محمد متوفيا في السرير . .
استدعيت الشرطة لأجل ذلك ..
فطلبت من اهل وذوي المدعو محمد جوهر سردار محمد لاستلام جثمانه في المستشفى . .
في الصباح التالي ،
كان رجال الحاج نواف محتشدين امام باب المستشفى لاستلام الجثمان واجراء مراسيم الدفن والتشييع . . .
—-