عبد الفتاح المطلبي :
قبلَ الليلةِ الأخيرةِ في فندقِ السلطانِ محمد الخامس كانَ البحرُ يصطخبُ في رؤوسِنا جميعاً هيبةً وتعظيماً وهذا شأن كل عظيم، لوحةُ البحرِ فوقَ رأسيْ الطفلين الجالسين على الأريكة أمامي مباشرةً وفي رأسي حيث كنت مسترخياً على الكرسي المقابل وأمهم نائمة، غابَ البحرُ الذي في اللوحةِ عن قوسِ نظرهم وكان صاخباً كما رآهُ الرسامُ لكنه يبدو ذا زرقةٍ رائعةٍ في التلفازالذي اتخذ زاوية الغرفة مكاناً وراح يتدفق إلى عيني الطفلين ، أمامي على الأرض تمتد سجادة زرقاء ، الأزرق طاغٍ في المكان، مربعاتٌ من ورق الحائط المزغرف بالأسود على مساحةٍ زرقاء،باب الغرفة محاطٌ بإطارٍ من الكَرانيت الأزرق، أذعنَ البحرُ الذي فوق رؤوس الأطفال إلى جبروت الإطار الخشبي المصبوغ بلون القهوة ، فلم يتجاوز حدودَه، كلُّ شيءٍ أزرق حتى وجوه الأطفال، الأزرق يصفع العين أنى اتجهتْ ، جلودنا ازرقّتْ جرّاءَ بردٍ لم نعتدهُ، أمواجَ البحر تتلاطم تضربُ جنبات السفينة وأشرعتها البيض تنتفخ بالهواء مثل بطون الحُبالى ، تشعر برهبة البحر وجبروته حين ترى إلى السفينة وقد نشبت أظفار الموج بها من كل جانب لكنّ العين عندما تتابع الموجات وهي تتكسر على إطار اللوحة تشعر بالطمأنينة فتميل إلى فكرة أن الرسام قد بالغ في تصوير قسوة الأمواج وجبروت البحر وعندما يفعل الإطار ذلك يبدو طريق الهروب متاحا إلى العالم الآخر المترامي خلف البحر الذي دحرهُ إطارٌ من خشبٍ قاتم ، كان الأطفالُ الذين لم يروا البحر بعد فرحين بلقائه قبل أن يناموا قال الولد ذو التسعة أعوام:
– سأسبح في البحر مثل البط ، قالت البنت ذات الخمس سنين :
– أنا لا أجيد السباحة
وهكذا كان البحر،ليس أكثر من رغبة طفل في سباحةٍ على شاطئٍ رملي، رافقنا في الفندق على الجدار فوق رؤوسنا وفي عيوننا وعلى شفاهنا، البحرُ يستحوذ عليَّ مثل ساحرٍ جعل النوم يهوّم على عيني واستمر الليلُ ينتشرُ في رأسيَ النائمِ مرسلاً فيه البحرالمديد ، حضر صاحب الزورق مثل عفريت المصباح وحدد الموعد، كل شيءٍ مريب حين يتحرك في الليل، الليلُ يعرف مخلوقاته سمعتهُ يقول :
-تخففوا من الأحمال ولا تجلبوا معكم إلا أوراقكم ، حقيبة صغيرة واحدة لا غير ، إلبسوا كل ماتستطيعون من ملابس ثقيلة ، برد البحر شديد في الليل ،لازالت لوحة البحر في الفندق تتجولُ في خيالي وفي وقتٍ ما تحرك كل شيء في اللوحة ،انبثق البحر واختفى الجدارفدلفنا جميعا إلى البحر ، اهتزت الأرض التي بمحاذاة البحرفي عينيّ، ربما كنا في الزورق و من المحتمل أن تحصل هزات أرضية في هذه الأصقاع،الزورقُ بضعةُ أمتار من البلاستك المنفوخ، بحر إيجة يمتد أمام النظر كائناً أسودَ مهولاً ، لم يكذب الرسام ، البحر صاخبٌ في النهار وفي الليل هادئٌ وسيبحر زورقنا المنفوخ رهواً فوق ماء إيجة، الليلُ والنهار يتناوبان في رأسي ، كانت أمواج البحر الخضر تلتطم نهاراً فيصدها إطار اللوحة ومن بين ضجيج الأمواج أسمع الرسام ينشج ،ربما ابتلع بحرُ لوحتهِ حبيباً فأحزنه ، شعرتُ ببلل دموعه أو ربما كان ذلك صوت الفرشاة ورذاذ البحر المتطايرمنها فلربما كان يواصل رسمها وكنا فيها دون علمهِ ، في وسط البحر كان الظلام دامسا لا يحده حد وليس له إطار، الصمت أطبق على الجميع حتى سائق الزورق لا تسمع غير حشرجة المحرك القابع في مؤخرة الزورق بينما كانت سفينة اللوحة تترنح بدا الزورق المنفوخ أمامها مثل مراهق يتطاول على كهل مفتول العضل، موحشٌ هوالبحر يملأ النفوس بالريب والترقب ، كنا نتكومُ ملتصقين ببعضنا وكأننا نسلك الطريق خلسةً خوفا من شيءٍ ما، الآن فهمت لمَ يعلقون صورا للبحر في الفنادق ربما لاسترضائه فهو غاضبٌ على الدوام ربما كانت تمائمَ لتجنب غضبه ،علاقة قديمة بين الإنسان والبحر، تتواشجُ تحت تهديد متجدد، الذاهبون الذين لا يعودون كثرٌ والناجون العائدون قلةٌ ومع ذلك أولئك ينزلون إلى البر ليضمدوا جراحهم، سرعان ما ينسون صخبهُ ثم يعودون كرة أخرى وكأنهم مخدرون، هم يعرفون تماما إن الذاهب ليس كالعائد ، صورة أخرى للبحر وهو هادئ، لحظة من فضلك أيها البحر لا تتحرك لألتقط لك صورةً فلحظات هدوءك نادرة،في فندق محمد الخامس اللوحة التي على الجدار، البحرُ فيها هائجٌ ، ربما كانت فرصةً أن يرسمه الرسام هادئا ولم يفعل ،في الحقيقة ليست هناك فرصة غيرها، البحر هائجٌ على الدوام ، هيجانه تحت هدوءه كقاطع طريقٍ يُخفي سلاحه تحت جلبابه وعندما استمرت أضلاع المربع المائل إلى الدكنة بالإنزياح حتى تلاشت وغمر البحرُ الجدارَ، غادرتُ الزمان والمكان في ثقبٍ لولبي ، لستُ في مكان ما كما لو أن أحدا لا يحسن وضع مؤخرته على الكرسي ليسقط في الفراغ ، ومن قعر الثقب اللولبي شعرتُ بحزنٍ شديد هل هناك ثمة سببٍ للحزن ، ألم نسعَ إلى ما نحن فيه هروبا من؟ … والآن هل علينا أن نهرب ونهرب؟، هروبٌ يسلمنا إلى هروبٍ ، الآن إلى أين نهرب أيها البحر وأنت تحيط بنا، كنتَ وقوراً في لوحة الفندق ننظر إليك بعجب ، تمنينا أن نراك حيث لا إطار يحدك كما تخيلناك نحنُ الساكنون على ذيل الشطّ لم نر الماء إلا ضحضاحاً واهناً نخوضُ فيه بلا خوف لابدّ للدهشةِ أن تؤثثَ وجوهنا عندما نرى بحراً غاضباً، هذا هو البحر ورغم صخبه الماثل ورغم ما وضع الرسام من زبدٍ أبيض فوق رؤوس الأمواج ليمنحها بعض الوقار بيد أنها تبدو نزقةً ذات عرامةٍ واضحةٍ، العيونُ تصطدم دائما بإطار أسود أو بني داكن لم يكن هناك من فراغ ، وكنا نعرف إلى أين ترتد الأبصاروكنت أرى إلى الأطفال وأمهم والزرقةُ تغزو وجوههم وشفاههم، وهم عائمون على وجه الماء مثل أسماكٍ ميتةٍ ، الموج يأخذهم بعيدا ، أمهم فضلت أن لا ترى شيئا ، غطست بسرعة ، الماء يبدو مثل زيت غامق وثقيل ، تثقل أقدامي ، شيءٌ ما يسحبني إلى الأسفل ، ربما أمهم التي غاصت إلى العمق قبلي ، آآآآآه آآآآآه ، أنا أختنق ،
فتحتُ عيني كان الظلامُ دامساً وشيئا فشيئا رأيت اللوحةَ ما زالت معلقةً ، الأطفال نائمون وهم متقرفصون،أمهم تغرق …تغرق في النوم .
في الصباح الباكرعلى الساحل قال سائق الزورق هذا بحر إيجة سنصل بعد ثلاثة أيام إذا وفقنا الله ، كان الهلع لا زال يعشعش في أعماقي إثر كابوس الليلة البارحة و اللوحة قد انسلّت إلى رأسي وذائقة ماء البحر المالح لازالت على لساني ، الأطفال وأمهم يرتجفون من البرد تسائلتُ: إلى أين نحنُ ذاهبون؟ وكان الجواب في داخلي ذا لونٍ قاتمٍ يمتد في المجهول، أبلغت سائق الزورق أنني عدلتُ عن الهجرة لظرفٍ طارئ وعليه أن يعيد إليَ مالي، رفض ذلك بشدة بحجة أن المال صار في جيوب أخرى ، استدرنا وعدنا إلى الفندق، كان التلفاز يبث صورة لغرقى متناثرين على رمل الشاطئ وكان كل شيء أزرق ماعدا قميص طفلٍ غريقٍ أحمر يكسر زرقة البحر، قبّلتُ طفليّ بفرح أحصيت ما بقي لي من نقود وكان المبلغ يكفي للعودة .
—